
بَينَ نَصيحةِ المَعرّي وَشفقتِه
كَانتِ البدايةُ في وصفِ سُلُوكِ المُتكبّرينَ، الّذِي يندُرُ أنْ يَتَنَبَّهَ إليهِ المُتغَطرِسُ وإنْ كَانَ يَتلبَّسُ بهِ؛ إذْ يُمارسُه كلَّ حِينٍ وَفِي كلّ مَكَان!
يُريدُ المتكبرُ أن يُحدثَ جلبةً ودوياً وما يترك إلا قعقعةً بلَا طِحْنٍ ضمنَ بحثِهِ عنِ الشُّهرةِ الفَارِغَةِ وضمنَ هُيامِه المُفرطِ بنفسِهِ، تَراهُ يَمشِي بِتَبخْتُرٍ وَتَغطْرُسٍ، وَيضرِبُ الأَرضَ بِأقدامِهِ، وَكَأنَّهُ يَسيرُ فِي عَرضِ مارشالٍ عَسْكَرِي، لِذلكَ تَلَطَّفَ المَعَرّي بِنَصِيحَتِهِ الشَّفِيفَةِ فَقَالَ:
صَاحِِ هَـذِي قُبُـورُنَا تَمْلَأُ الـرُّحْـبَ
فَــأَيْـنَ القُـبُـورُ مِـنْ عَـهْـدِ عَـادِ
يَبدأُ أبُو العلاء بيتَه بنداءٍ مُرخَّمٍ تّحَبُّباً وَتَلَطُّفاً وَحُنُوّاً معَ المُتغطْرسِ، فيقولُ لَهُ: صَاحِ وَهُوَ تَرْخِيمُ صَاحِبي، فَوَصَفَ المتكبّرَ بِصَاحبِه، وهذَا فيهِ دلالةٌ علَى أنَّ منهجَ النَّصيحةِ الأَمثلَ إنَّمَا يكونُ بالمَحبَّةِ وَاللطفِ واللينِ، لأنَّ النَّاصحَ الحَقيقيَّ مُشفقٌ علَى المَنصُوحِ، والمُشفقُ مُحِبٌ غايتُهُ أنْ يفتحَ اللهُ علَى المَنصوحِ فَيَرِقّ للنَّصيحةِ ويَقتنِع بِهَا وَيَمتثل لَهَا، وليسَ هدفُ النَّاصحِ أنْ ينفخَ ذاتَه ويُطرِبَ داخلَه بصوتِه المُخمَلِيِّ وَهوَ يقولُ لنفسِه بشكلٍ غيرِ مُباشرٍ، أنَا خيرٌ مِنْ هذَا الّذِي لَمْ يَتَوصَّلْ إلَى مَعنَى النَّصيحَةِ، فأنَا أُحَدّثُ المَنصُوحَ مِنْ عُلُوٍّ، حيثُ مَرتبةُ العَالمِ الفَاهِمِ مِثلِي، وأنَا أتَفضَّلُ عَليهِ بِنُصْحِي، وَوَقتِي وَجهدِي وَعِلمِي!
هَذَا النَّوعُ منَ النَّصَائحِ مرَّ علَى مُحرّرِ صِيَاغَةٍ فِي جُمهوريَّة إبليسَ، فَحَبَّرَ النَّصَّ للنَّاصِحِ، وَدَبَّجَهُ بِكلّ تَوَاضُعٍ شَيْطَانِيّ يَكفِي للدّلالةِ عَليهِ مَرَّاتُ اسْتخدَامِ (أنَا) فِي حَديثِ النَّاصِحِ، حَتَّى أوْشَكَتْ أنْ تَتحوَّلَ إلَى (نحنُ) مِنْ كَثْرَتِهَا!
ثمَّ قالَ الشَّاعرُ فِي تَأكيدٍ عَلَى مَنْهَجِهِ المُشْفِقِ فِي النَّصِيحَة:
صَاحِ هَـذِي قُبُـورُنَا تَمْلَأُ الـرُّحْـبَ
فاستخدمَ (قبورنا)، جَامعاً نفسَه معَ المَنصوح، وجعلَهَا قضيةً لا تختصُّ بِالمنصُوحِ وحدَه، حتَّى لَا يتركُه في العَراء وحيداً، بل اعتبرَ الأمرَ مُتَعَلّقاً بِالجَميعِ، ومَا هيَ بِمشكلةٍ ينفردُ بهَا المَنصُوحُ المُتغطرِسُ!
وَقولُهُ (الرُّحب): يريدُ الأرضَ الرَّحبةَ الواسعةَ الشاسعةَ الممتدة، وَهيَ رغمَ امتدادِهَا بلَا حَدٍّ، فإنَّ قبورَنَا تَملأُهَا، منْ كَثْرةِ القُبُورِ.
وَقَصدَ بِالجَمعِ فِي قُبورِنَا: البَشرَ كُلَّهُمْ فِي مُختلفِ العُصُور.
ثم انتقل ليطرحَ تساؤلاً في عجزِ البيتِ، بقوله: فأينَ القبورُ من عهدِ عادِ؟
أيْ هذهِ الأعدادُ المَهولةُ منَ الخَلقِ، أين هيَ قبورُهم؟ إذا كانتِ الأرضُ تملؤها قبورُنَا نحنُ وأسلافنا المعاصرين فأينَ قبورُ الأوائل؟!
يُلمح الشَّاعرُ إلى أن القبورَ تضيع ملامحُها بالتقادم، وتبقى قبورُ المتأخرين ظاهرةً شاخصةً، لكنَّها إلى زوالٍ سائرة، شأنُها شأنُ قبور المتقدمين.
وتحدَّثَ عن عهدِ عاد بالذات، لأنَّ العربَ كانوا إذا أرادوا أن يتحدثوا عن عصرٍ قديم، ذكرُوا قومَ عادٍ.
وَفِي التَّنزيل: (وإلى عادٍ أخاهم هوداً)، أي وأرسلنَا إلى عادٍ أخاهم هودَا.
ثمَّ ينشدُ المعرّي، بيتاً رائعاً، يخاطبُ به المتكبر:
خَــفِّــفِ الـوَطْءَ مَـا أَظُـنُّ أَدِيـمَ الْأَرْضِ
إِلَّا مِــنْ هَــذِهِ الأَجْـــسَـــادِ
يقول: يا أيُّها المتغطرسُ في مشيتِه، إذ يضرب الأرضَ بقدميه بقوة، خفف وطأك بأقدامك، فأديم الأرض: أي ظاهرها، وهي الطبقة العلوية من الأرض أحسبُها تشكَّلت من أجسادِ الموتى؛ إذ أصبحتْ أجسادُهم جزءاً من التربة. والأرض التي بعضها فتات أجساد البشر الأوائل لا تستحق أن تضربَها بخطوات قدميك القوية، فخفّفْ وطأتَك وخفّف وطأَكَ.
ويبرر نصيحته بتخفيف الوطء، بقوله:
وَقَـبِــيـحٌ بِــنَـا وَإِنْ قَــدُمَ الــعَـهْــدُ
هَــــوَانُ الآبَــــاءِ وَالأَجْــــدَادِ
أي أنَّ إهانةَ الآباءِ والأجدادِ الذين صارَ رفاتُهم على هذه الأرضِ يكون بضربِ الأرضِ بالأقدامِ بقوةٍ، وَهوَ فعلٌ قبيحٌ.
لاحظْ أنَّ المعريَّ يكرّرُ الانضمامَ إلى المنصوحِ بقولِه: قبيحٌ بنَا، ولم يقلْ قبيحٌ بكَ أيُّهَا المُتَغطْرِسُ، مع أنَّ الشَّاعرَ لم يمشِ مِشيةَ التَّكبُّرِ تلك، لكنَّها شَفقةُ المُحِبِّ النَّاصِحِ.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرياض
منذ 5 ساعات
- الرياض
وصول الطائرة الإغاثية السعودية الثانية إلى اللاذقية
وصلت إلى مطار حلب الدولي بالجمهورية العربية السورية الطائرة الإغاثية السعودية الثانية، تحمل على متنها مساعدات إغاثية عاجلة تشتمل على مواد إيوائية؛ لتقديمها للمتضررين من الحرائق في محافظة اللاذقية بالجمهورية العربية السورية، التي يسيّرها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، بالتعاون مع وزارة الدفاع، وتعد الطائرة الثامنة عشرة ضمن الجسر الجوي السعودي لمساعدة الأشقاء في سوريا. وتأتي هذه المساعدات ضمن الجهود الإغاثية والإنسانية المقدمة من المملكة للشعب السوري الشقيق للتخفيف من معاناته، وتجسد الدور الإنساني الكبير الذي تقوم به المملكة عبر ذراعها الإنساني مركز الملك سلمان للإغاثة تجاه المحتاجين والمتضررين حول العالم.


الرياض
منذ 5 ساعات
- الرياض
القوة.. جوهر الإنسان في مواجهة الحياة
القوة ليست مظاهر خارجية، ولا تُقاس بحدة الصوت أو صرامة الملامح، بل هي حالة داخلية، تنبع من إيمان الإنسان بذاته، وقدرته على تجاوز الصعاب دون أن يفقد توازنه أو كرامته. الإنسان القوي ليس من لم يتعرض للسقوط، بل من سقط ثم نهض دون أن يشعر به أحد، هو من واجه الألم بصبر، وتجاوز المحن بإرادة، واحتفظ بكرامته رغم كل ما خسره، هو من آمن بأن الحياة لا ترحم الضعفاء، فاختار أن يكون ثابتًا، لا تهزّه العواصف، ولا تشتته العثرات. القوة أن تتعامل مع جراحك بوعي، وأن لا تبوح بكل ما يؤلمك، أن تسامح دون أن تُذل، وأن تصمت حين لا يُجدي الكلام نفعًا، أن ترفض ما لا يُناسبك، ولو كان الثمن رضا من حولك، القوة أن تُربّي نفسك على الرضا، على الثبات، على النهوض كل مرة وكأنها الأولى، أن لا تنتظر من ينتشلك، بل تنتشل نفسك بنفسك، وتواسي قلبك بيدك. القوة أن تحاسب ذاتك دون قسوة، وأن تربيها على الاتزان، فلا تكون لينة أكثر من اللازم، ولا قاسية تُجافي الرحمة، أن تختار نفسك حين يكون الخيار صعبًا، وأن تدرك أن احترامك لذاتك أول أشكال القوة، القوة أن تكون وحدك، لكن لا تشعر بالنقص، أن تُحب نفسك رغم العيوب، وتؤمن أن قيمتك لا يحددها الآخرون، أن تعرف متى تمضي، ومتى تبقى، ومتى تختار نفسك دون أن تشعر بالذنب. ختامًا، القوة لا تُمنح، بل تُكتسب من التجربة، وتُبنى من الألم، وتُصقل مع الزمن، القوي حقًا هو من جعل من ضعفه سلاحًا، ومن وحدته سندًا، ومن صمته كرامة.


الرياض
منذ 5 ساعات
- الرياض
الوقوف طويلاً أمام طاولة
تمثل جملة "أنت تملك خيارك" دليلاً على حرية ظاهرية، وتسيطر عليك نشوة التحكم المؤقتة، وعندما يعود الأمر إليك ستجد السبب لاختيارك وسبباً لترك الخيارات الأخرى، هذه الحرية محمولة في جملةٍ تخبّئ داخلها كرة صغيرة من القلق، تكبر كلما أمعنت النظر في خياراتك ومدى حريتك في الانتقاء بينها، إن عمدًا أو حتى اعتباطًا. يحدث أن تغير مكان دخولك اليومي لعملك، حدث بسيط ودون ضغط مسبق، أن تغير عادتك بغير حسابات تتجاوز الاتجاهات التي ستغيرها، لكن الانعكاس لمثل هذا الخيار السهل سيأتي تباعًا، بغيابك عن جهة ما، وعن الأشخاص فيها، وظهورك المفاجئ في جهة أخرى وأمام آخرين.. قد يتساءلون فيما بينهم: لماذا جاء؟ ومنذ متى؟ قرارك هذا انتقل من قدرتك على اتخاذه إلى ملكية الآخرين والتعاطي معه، دون أن تقصد أو تريد. الأمر ليس مجرد انعكاس لقرارك الذاتي والمنفرد، بل سيمتد مثل تغيير مجرى نهر بمرور الوقت، والأثر الذي سيكون محصوراً عليك هو فقدان القدرة على التراجع، مثلما يقول د. مصطفى محمود: "حريتي تعذبني.. لأني حينما اختار أتقيد باختياري.. تتحول حريتي الي عبودية ومسؤولية لا ينفع فيها اعفاء لأنها مسؤولية أمام نفسي". وهذا القيد النفسي محدد بالاختيار والرجوع عنه، في حين أن تملّك الخيارات وتعددها، هو أداة خادعة للحرية، وصورة ضبابية لقدرتك المنفردة على الاختيار. فالاختيار في بدايته يكوّن حيلة بما يشبه الحرية، تعطيك انطباعاً مؤقتاً بسيادتك المطلقة على نفسك، وترسل إليك إشارات تأتي متأخرة على هيئة سؤال: هل كل ما أفعله هو اختياري أم أنني مدفوع لذلك بسياق طويل من الأحداث؟ إن اللحظة التي تتهيأ فيها لتجسيد حريتك وإرادتك، تحمل هي أيضًا ضمنها انعكاسات محتملة، للمجتمع أو القانون أو الدين، وتبدأ في التفكير جديّاً بالتنازل عن الخيارات، واحداً تلو الآخر، وستجد نفسك أمام عدد قليل منها، وتتساءل بأيّهم سأتمسك وأتخلى عن البقية؟ وربما هذا هو المطلوب منك بالضبط ودون أن تشعر! المزيد من الخيارات أبعد ما تكون عن الحرية، أو كي لا أبالغ.. هي لا تعبر عن الحرية بدقة، فهي تعني المزيد من الارتباك والتردد، والعبء النفسي، وهمٌ يكون أحياناً تسويقياً، يدير ذهنك الحرّ إلى غايات مقصودة، بمزيد من الخيارات المزينة بإغراء التعدد، وهذا ما يجعل الخيار دائماً محدوداً ومنتظراً في كل الأحوال. والطريق إليه معبدٌ بالخلاص من القلق والتردد، والتفكير المفرط في انعكاساته الداخلية والخارجية، "كلما زادت البدائل، زاد التردد وقل الرضا عن القرار النهائي". تقدم المؤرخة الأميركية صوفيا روزنفيلد تلخيصًا لما قد تكون عليه حرية الاختيار، فبعد أن تستعرض تاريخه منذ القرن الثامن عشر إلى العصر الحالي في كتابها "عصر الاختيار The age Of Choice"، تقودنا إلى نتيجة أن الاختيار ليس دائماً حرية، بل قد يكون وهماً، وأن الحرية الحقيقية ليست في كثرة البدائل، بل في القدرة على اتخاذ قرار واعٍ دون ضغط. وهذا الذي تقترب استحالته في هذا العصر الموجّه في كل مناحيه. والذي خياراته "غالبًا ما تكون محددة مسبقاً من قبل السوق أو السلطة" وهو ما تصفه روزنفيلد بوهم الحرية! ومما يفاقم قضايا القلق الوجودي والاكتئاب المرتبط بالهوية الفردية والمقارنة. أنت تملك خيارك، وعليك أن تبذل جهداً لتملكه بالفعل، وربما سيغيب عنك أن قرارك بوضع الكوب منتصف الطاولة أو على طرفها، لا يُعدّ تفضيلاً عابراً لإرادتك، هو ومضة في تيار لا يُرى، وسيكون بداية لتأثير فراشة بعيد، سينعكس بعد مدة، قد لا تتصورها وأنت تتأمل طاولة فارغة!