logo
لا تخبر أحدا

لا تخبر أحدا

جريدة الرؤيةمنذ 5 أيام
سلطان بن ناصر القاسمي
كنت أتصفح أحد برامج التواصل الاجتماعي، وحين وقعت عيني على عبارة مأثورة استوقفتني كثيرا وهي: (لا تخبر أحدا حتى تنتهي).
قد تبدو كلمات بسيطة، لكن وراءها وعي عميق، وفلسفة إنسانية نابعة من تجارب متكررة، تؤكد أن بعض الأهداف لا تكتمل إلا في الظل، وأن بعض النجاحات لا تنضج إلا في صمت، والنجاح يبدأ بفكرة، ويكبر بخطة، ويولد فعليا حين يتحول إلى عمل. لكن كثيرا ما يسبق الحماس العمل، فنندفع لإخبار الآخرين بما نحلم به ونخطط له، نشاركهم طموحاتنا وأهدافنا، لا رغبة في المباهاة، بل بدافع الحب، أو بحثا عن التشجيع، أو لأن الفرح الداخلي يصعب علينا كتمانه.
لكن هذه المشاركة -رغم نوايانا الطيبة- قد تكون الثغرة التي تتسلل منها طاقات الآخرين إلينا، سواء كانت نظرات أو تعليقات أو حتى مشاعر غير معلنة، فتربك مسارنا وتضعف حماسنا وتخفت جذوة السعي قبل أن تكتمل الخطوة الأولى.
ولهذا، فإن فكرة المقال تتمحور حول وصية واحدة: احفظ سرك حتى يتحقق، ولا تتعجل بإخبار الناس بأحلامك قبل أن تنضج، ولا تطلق نداءات الفرح قبل أن تصل خط النهاية، فالصمت في البدايات حكمة، والنجاح حين يكتمل سيتحدث عنك بوضوح. حيث إن كثيرا من مشاريعنا تبدأ بفكرة، ثم تتشكل هدفًا، ثم نبدأ في السعي، لكن كي تظل هذه الفكرة حية، لا بد أن نحوطها بالصبر، ونحميها من العيون، ونبقيها تحت الغطاء حتى تكتمل.
ولا يعني هذا الانغلاق أو الانعزال، بل هو احتفاظ بما هو ثمين حتى يحين وقته، فكثير من المشكلات تبدأ حين نظن أن من نخبرهم بسعينا سيساندوننا، ثم نفاجأ بأن بعضهم يخذلنا أو يقلل منا أو ينقل سرنا.
والنوايا ليست كلها شريرة وليست كل العيون حاسدة، لكن في الحياة تجارب تُعلّمنا أن بعض الأحاديث مكانها الدعاء لا المجالس، وأن أول من يفشي أسرارك قد يكون هو من ائتمنته عليها، لا عن قصد دائما بل أحيانا بحديث عابر أو نكتة خفيفة تتحول إلى حديث عام.
وقد قالوا: (لا تخبر أحدا عن يدك التي تؤلمك، فقد يأتي يوم ويضغط عليها)، و(لا تكشف عن سر دمعتك، فقد تجد من يجيد إعادتها إلى عينيك)، و(لا تتحدث عن نقاط ضعفك إلا مع ربك).
وقد روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود).
وفي هذا الحديث توجيه رفيع: لا تفصح عن خطواتك قبل أن تكتمل، ولا تنشر نورك وهو لا يزال في طور التكوين.
قال بعضهم أيضا: (اكتم عن الناس ذهبك وذهابك ومذهبك)، وتلك الحكمة القديمة تتكرر بصور مختلفة، لكنها تلتقي عند معنى واحد: احم ما تحب بالصمت، واصنع ما تريد دون ضجيج.
نعم، حين نخطط لأهدافنا، نشعر بشغف داخلي يدفعنا لإعلانها، وكأننا حققنا نصفها، ولكن الحقيقة أن الحديث عن الحلم يمنح الدماغ شعورا مؤقتا بالإنجاز، فيتراجع الحافز الفعلي للسعي.
وهنا تظهر خطورة الإفصاح المبكر، فحين نتكلم كثيرا، نصبح أقل فاعلية، وتضيع ملامح الهدف بين التوقعات والردود. وقد نصطدم بردود فعل سلبية من أشخاص لم نتوقعهم، وتصبح كلماتهم عبئا على القلب بدلا من أن تكون دعما.
مع ذلك، لا يعني هذا أن نصمت دائما. فهناك مواقف يكون فيها الحديث ضرورة، كطلب استشارة من مختص، أو طلب دعم محدد من شخص موثوق.
وكما قال يعقوب عليه السلام لابنه: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) (يوسف: 5). هذه آية تنير طريق الكتمان، خاصة حين نخاف من حسد أو سوء فهم، وتعلمنا أن نختار من نفصح له ومتى ولماذا.
وقد مررت، كما مر غيري، بمواقف كثيرة، كانت تنطلق من فرح صادق، أو حسن نية، ولكن ما إن نعلن ما نحمل، حتى يتبدل الجو. نظرات، همسات، أحاديث خلف الأبواب، أو طعنات مغطاة بالابتسامة.
وقد يحدث ذلك حتى في العمل، فتأتي بفكرة، وتشاركها مع من حولك، وإذا بها تنسب إلى غيرك، ويحتفى بها على ألسنة أخرى، وترفع بيد لم تتعب بها.
لذلك، الأفضل أن تنضج فكرتك في داخلك، وتعمل عليها بصمت، ثم تقدمها حين تكتمل، واضحة المعالم، تحمل توقيعك بجهدك، لا بحديثك. ولا شيء يشعل الحماس مثل التحفيز الذاتي. نعم، هناك من يدعمونك بصدق، ويشعرون أن نجاحك من نجاحهم، لكن في أغلب الأحيان، لا أحد يحمي طموحك مثل صمتك.
والصمت يبقي الجهد داخليا، ويجعل السعي نابعا من رغبتك في التقدم، لا من انتظار تصفيق الآخرين. وهنا يكمن جوهر الإنجاز: أن يكون لك، ومنك، ولذاتك أولا.
إن النجاح لا يحتاج ضجيجا، بل يحتاج اتزانا. والأصوات العالية لا تبني، ولكن الخطوات الصامتة تترك الأثر الأعمق. والكتمان ليس خوفا، بل نضج.
خاصة في أمور الأسرة، والعمل، والمشروعات التي لا تزال في بداياتها.
دع أهدافك تنمو بهدوء، مثل بذرة لا تخرج للضوء إلا وقد تشبعت من الأرض، وتشبثت بجذورها. وحين يحين الوقت، لن تحتاج للكلام، فنتائجك ستتكلم عنك.
وكما يقال: (اعمل في صمت، ودع نجاحك يصنع الضجيج).
فمن هنا، لا تخبر أحدا بما تفعله، حتى تنتهي منه.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

غير نظرتك.. تتغير حياتك
غير نظرتك.. تتغير حياتك

جريدة الرؤية

timeمنذ 13 ساعات

  • جريدة الرؤية

غير نظرتك.. تتغير حياتك

د. قاسم بن محمد الصالحي أريد أن أغير طباعي، أريد أن تتغير حياتي، أتمنى أن يتغير مسؤولي في العمل.. كل منا يريد ويتمنى أن يصبح كل شخص وكل شيء في الدنيا موافقًا لهواه ورغباته، إذا أردت أن تغير من شخص ستصاب في الغالب بخيبة أمل، لأنه لا أحد يتغير إلا بإرادته هو، والأهم من ذلك أنه لا شيء يحتاج التغيير سوى نظرتنا نحن للأشياء والأحداث من حولنا، يقول غاندي: إن الشيء الوحيد الذي يميز بين شخص وآخر هو النظرة السليمة تجاه الاشياء.. قل لي كيف تفكر في المستقبل؟، هل تفكر فيه على أنه استمرار وتفاقم للمشاكل، أم أنه يحمل الفرص التي يجب أن تستعد لها لتستغلها وتحقق لنفسك حياة أفضل، هل تفكر في نفسك فقط؟ أم تفكر في الطريقة التي ستترك بها بصماتك التي سيشكرك عليها الناس ويتذكرونك بالخير بعد أن تفارق هذه الحياة، التي وإن طالت بك فهي قصيرة جدًا في عمر الزمن. أعطني لحظات من وقتك أيها القارئ الكريم، وتأمل معي هذه المقارنات، لكي أثبت لك أن ما يحدد مشاعرنا وسعادتنا ليس الواقع الذي نعيشه، بل طريقتنا في النظر إلى هذا الواقع.. هل هناك فرق بين من ينظر إلى المستقبل على أنه "الفرصة القادمة"، التي لا بد أن نستعد لاستغلالها، وبين من ينظر إليه على أنه تراكم للمزيد من المشكلات التي لن يكون لها حل!!، هل هناك فرق بين من ينظر إلى أطفاله على أنهم نتيجة طبيعية للزواج، وواجب يفرضه المجتمع و"المباهاة"، وبين من ينظر إليهم على أنهم "المفاجأة التي يخبئها للعالم!".. أكرر "المفاجأة التي يخبئها للعالم بأسره!!، هل تعتقد أن كلا الأبوين سيشعران وسيتصرفان بشكل متشابه. جميل! فلنبدأ بحديث بسيط يحفزنا على تغيير نظرتنا للأشياء، بأسلوب مشجع وقريب للقلب.. في زحمة الأيام وتقلّبات الحياة، قد نجد أنفسنا محاطين بمواقف محبطة، وأحيانًا نشعر أن كل شيء ضدنا، وهذا الشعور طبيعي، لكن الخطير هو الاستسلام له.. فالتشاؤم لا يغيّر الواقع، بل يزيده ثقلًا، ويغلق أمامنا أبواب الأمل، إذا ما رأينا فقط العقبات أمامنا، دون أن نرى الفرص.. نحن وسط تلك العقبات سيكون الفرق ليس في الظروف، بل في النظرة، فكم من شخص خرج من ضيقٍ إلى فرج لأنه آمن بأن بعد العسر يسرًا، وكم من شخص بقي حبيس مشاعره السلبية لأنه لم يُصدّق أن الضوء موجود في آخر النفق. نعم.. لنكن صادقين مع أنفسنا، بأن التفكير الإيجابي لا يحل كل المشاكل، لكنه يعطينا القوة لمواجهتها، والصبر لتحمّلها، والعقل للبحث عن حلول لها.. التغيير يبدأ من داخلنا، من فكرة صغيرة تقول لنفسك: "ربما هناك جانب آخر لهذه القصة، لم أرَه بعد". أيها القارئ الكريم، جرب أن تعطي نفسك فرصة، لا تطفئ النور بيدك، ولا تسجن نفسك داخل دائرة السواد، هناك أشياء جميلة حولك، تنتظر فقط أن تفتح لها نافذتك.. الحياة قصيرة، فلا تضيعها في التوقعات السوداوية، عشها ببساطة، بحسن ظن، وبقلب يُجيد رؤية النور حتى في أصعب اللحظات. قد تكون اللحظة مناسبة لتقديم دعوة من القلب إلى كل شاب أثقلته الحياة.. كن إيجابيًا، ولو أظلمت الدنيا، يا من ضاق صدرك من الدنيا، وشعرت أن الأبواب كلها موصده، وأن الحظ لا يعرف طريقك.. تمهّل، لا تظن أن ما تمر به دائم، ولا تحكم على مستقبلك من يومٍ سيئ عشته.. أيها الشاب، أيتها الشابة.. كثيرٌ من العظماء مرّوا بلحظات ضعف وانكسار، لكنهم لم يسمحوا لليأس أن يعشش في قلوبهم، لأنهم آمنوا بأن الله لا يُضيع من أحسن الظن به، وأن النور يأتي بعد الظلمة، والفرج بعد الضيق.. ربك الذي قال: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"، لم يقل ذلك ليروي قصة، بل ليُطمئن قلبك.. فمهما اشتدت عليك الحياة، هناك يسْر قادم، فقط تمسك بالأمل، وابدأ بالنظر إلى نعم الله عليك، ولو كانت بسيطة.. أنت في بداية العشرينيات، تخرّجت بشهادة جامعية، وظننت أن الوظيفة تنتظرك عند الباب، طرقت كل الأبواب، أرسلت عشرات السير الذاتية، وانتظرت، وانتظرت.. حتى بدأت ثقتك بنفسك تضعف، وبدأت الأسئلة تنهشك: "هل فشلت؟ هل أنا أقل من غيري؟ هل تعبي ضاع؟".. لا تستسلم ابدأ من الصفر، اعمل بأي وظيفة حتى وإن كانت بسيطة بأجر زهيد، طوِّر من مهارتك، وواصل التقدم، ولكن بإيمان أن الله يرى ويسمع، مع الأيام ستلهم غيرك بقصة نجاح حققتها، فقط اختار ألا تسمح للتشاؤم أن يسرق مستقبلك.. الشيطان يفرح حين يُقنعك أن لا جدوى، أن كل شيء لا معنى له، لكن المؤمن، القوي، العاقل، يعلم أن مع كل تحدٍ فرصة، ومع كل سقوط درس، ومع كل تأخير حكمة، فلا تيأس، ولا تقارن نفسك بأحد، توكل على الله، واعمل، وارضَ، وابتسم، ولا تنسَ أن الله لا يُخيب من أحسن الظن به.

عودة "دفتر الوفاة" على شكل كرتون!!
عودة "دفتر الوفاة" على شكل كرتون!!

جريدة الرؤية

timeمنذ 13 ساعات

  • جريدة الرؤية

عودة "دفتر الوفاة" على شكل كرتون!!

خالد بن سعد الشنفري "بعد خمسة عقود من الزمن، وفي عصرنا الحالي الحديث، ومنذ انطلاقة نهضتنا المباركة، ترك المجتمع في محافظة ظفار عادة دفتر مناسبات الوفاة، والذي كان يُتبع فيه نفس نمط دفتر مناسبات الزواج." غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك أو ترنم شاد فشبيه صوت النعي بصوت البشير.. إذا قيس في كل ناد {المعري} " الذي لا يزال عادةً حميدةً وعرفًا متبعًا يحافظ عليه هذا المجتمع الأصيل (مجتمع الهبات) إلى اليوم، ويُمسِكون عليه بالنواجذ والأقدام لما فيه من صلاح وسداد ." بدأ يظهر مؤخرًا شبيهٌ لفكرة هذه العادة المتروكة، والمسمّاة بدفتر أو معونة الوفاة، ولكن بشكلٍ آخر مختلف، ولغرض نبيل آخر مختلف أيضًا. فلم يعد الغرض منها إعانة صاحب حالة الوفاة لمقابلة تكاليف الذبح والولائم التي كانت تُقام في أيام العزاء، عادةً لمدة ثلاثة أيام بعد يوم الدفن. وكان لها في ذلك الزمن مبرّراتها الحقيقية، المتمثّلة في عدم وجود وسائل مواصلات غير الدواب، وأن المعزّين يفدون إلى صاحب العزاء من أماكن بعيدة لتعزيته، ولا يوجد نظام المطاعم حينها، حيث كانت الناس في ذلك الوقت تستضيف بعيد الديار والغريب من المساجد التي يأتون إليها لأداء فرائض الصلاة الخمس، وبالتالي يستضيف جيران المسجد أي غريب إلى بيوتهم (غريبًا أو بعيدًا) ولو لم يعرفوه. فوجب بالتالي على صاحب العزاء استضافة معزّيه انطلاقًا من العادة العربية الأصيلة في الكرم، فيُطعم كل الوافدين إليه للتعزية خلال أيام العزاء الثلاثة، وما كان يتبعها من ولائم إضافية، وما كان يُسمى منها (سراج القبر) أو (ليلة الأربعين) قديمًا بعد أربعين يومًا من الوفاة. ويتكلف بذلك الكثير من المال، فابتدع هذا المجتمع الأصيل عادة دفتر الوفاة لإعانة من لديه حالة وفاة على ذلك. وقد ذهبت كل هذه الأمور والأسباب جميعها إلى غير رجعة، ولم يعد هناك داعٍ بالتالي لمثل هذه العادة التي كانت محمودة في حينها، ولا لهذا الدفتر، والحمد لله . بدأ يظهر في الآونة الأخيرة وجود كرتون على مدخل خيمة العزاء، يضع فيه من شاء ما تيسر من مبلغ. وكانت حالة الوفاة التي ظهر فيها هذا الكرتون ابتداءً، هي وفاة شخصٍ مسرّح من العمل ويُعيل أطفالًا قُصّرًا، وعليه التزامات لم يستطع الإيفاء بها قبل وفاته نظرًا لظروفه، وتُوفي على هذه الحالة. في الحقيقة، لا يُعرف من هو هذا الشهم الذي ابتدَع هذا المسلك، وأحضر كرتونًا إلى خيمة العزاء حينها ووضع فيه مبلغًا من المال، وتبعه آخرون. ولكن لأن معظم المعزّين يعلمون حالة المتوفى، بادروا بالمساهمة، وحتى من لم يكن لديه في جيبه مبلغٌ من المال حينها، ذهب إلى أقرب صراف آلي ليسحب . مسلك جميل بالفعل، تكرر بعد ذلك في عدة حالات وفاة تشابه أوضاعها مثل هذه الحالة. لا شك أن مثل هذه الحالات تستحق فعلًا العون والمساعدة، وعودة دفتر الوفاة على شكل كرتون مع إدخال تعديلات عليه، مثل استبدال الكرتون بصندوق في مكان بارز ومحدد في مقر خيمة العزاء، ويمكن تطبيقه أيضًا اليوم في مساجد العزاء، مع الاتجاه حاليًا لاتخاذها للعزاء. وطبعًا أن يتم ذلك بموافقة أقارب المتوفى. ونحسب أن فيها منتهى النخوة والجود، والأجر والثواب الكبير بإذن الله . من الطرائف التي سمعتها في بدايات هذا المسلك الجديد أن أحد الأشخاص، وهو خارج من بوابة خيمة العزاء، رمى مخلفات منديل (كلينكس) في ذلك الكرتون الموضوع هناك، ظنًّا منه أنه مخصّص لرمي المخلفات، لكنه فوجئ بأن فيه أنواط ريالات، فسحب مناديله بسرعة ووضع مبلغًا في الصندوق. ما أحوجنا لمثل هذا المسلك الجميل في هذا الوقت العصيب، للتعاون وتشتيت المخاطر بيننا . ديننا الإسلامي فيه شيوع في بعض الأمور، وضواغي صيد الساردين (العولمة) قديمًا وحتى اليوم فيها شيوع، ومشاديد زراعة الدُّجر (1) برِّيّة من رذاذ الخريف أيضًا فيها شيوع، وأمور أخرى كثيرة. فالشيوع ليس حكرًا على أحد كما يظن البعض . 1- المشديدة أو المشاديد كانت عبارة عن حيز من الأرض المستوية في الجبال يشترك أهل منطقة معينة في استصلاحها وزراعتها بالدجر (نوع من الفاصوليا) ويقتسمون جميعا المنتج بالتساوي.

صعود السطحية وسقوط القيمة
صعود السطحية وسقوط القيمة

جريدة الرؤية

timeمنذ 3 أيام

  • جريدة الرؤية

صعود السطحية وسقوط القيمة

أحمد الفقيه العجيلي في عصر يُقاس فيه التأثير بعدد المشاهدات لا جودة الفكرة، تتصدر التفاهة المشهد، ويُهمّش العقلاء، ويتراجع التعليم، وتنهار المعايير، لم تعد مؤشرات التأثير في عصرنا تُقاس بالعلم، ولا مكانة الأشخاص تُبنى على الحكمة أو عمق الفكرة. بل بات المعيار هو من يُثير الضجيج، ويجيد صناعة "الترند"، ويُتقن فن الحضور الخفيف، حتى لو كان بلا مضمون. إذن نحن أمام تحول جذري، لا في أدوات التواصل فقط، بل في البنية القيمية التي تحكم مجتمعاتنا. فمنذ سنوات قليلة، كان المثقف هو من يُستشار، والعالم هو من يُقدَّم، وصاحب الخلق هو من يُصغى إليه، أما اليوم، فقد اختلطت الأصوات، وغاب الرشد، وتقدّم من لا دراية له، وتوارى أصحاب الفضل في الزوايا. وكما يقول آلان دونو في كتاب نظام التفاهة: "لقد تبوأ التافهون المناصب، أما أصحاب الكفاءة فقد انزَوَوا جانبًا." وحينما أصحبت التفاهة نظاماً لا استثناء أصبح العالم يعيش لحظة فارقة، تتحكم فيها أدوات تكنولوجية فائقة التأثير، تتصدرها وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُعيد تشكيل الذائقة العامة والمعايير الثقافية وأصبحت الخوارزميات هي التي تُقرر من يظهر، ومن يُنسى. ومن ثم، لا يُطلب من المحتوى أن يكون نافعًا أو رصينًا، بل أن يكون لافتًا، سريعًا، قابلاً للمشاركة... ولو كان أجوف. وتُشير الإحصائيات إلى أن 63٪ من الشباب اليوم يستقون أخبارهم من هذه المنصات، مما يجعل عقولهم مُعرضة للتوجيه الممنهج، لا من أصحاب الاختصاص، بل ممن يملكون أدوات التأثير الرقمي. وكأننا نعيش زمن الرويبضة الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أصبح الرجل التافه - الذي لا يفقه شيئًا - هو من يُستشار في قضايا العامة عبر مقاطع مصوّرة قصيرة، وسلاسل ترندات "ساخرة" تُغيّب الوعي، وتختزل القضايا، وتُقصي العقلاء، يُهمَّش العلماء، ويُسخر من المفكرين، وتُطفأ منابر الحكمة لحساب شهرة آنية لا تدوم. وهذا تمامًا ما وصفه آلان دونو بقوله: "التافه هو الذي يتقن لعبة الصعود في النظام، ويخضع لقواعده، ويترقّى لا لأنه الأفضل، بل لأنه لا يُهدد أحدًا." وهنا نتساءل: من الذي سمح بصعود التافهين؟ التفاهة لا تصعد وحدها، بل تُهيأ لها الأرض، وتُفرش لها المنابر، ويُمنح أصحابها التصفيق والترويج. ومن أبرز العوامل التي مهّدت لها: صمت العقلاء وانسحاب أصحاب الرأي فحين آثر أهل الحكمة السلامة، وترددوا في الدخول إلى فضاءات التأثير الحديثة، فُتح المجال لغيرهم. فكثير من المثقفين والمختصين نأوا بأنفسهم عن منصات التواصل، معتبرين أنها "سوق ضجيج"، فخلا الميدان، واحتله من لا خُلق ولا علم له. وقديما قيل: "إذا غاب العاقل، تكلم الأحمق." والصمت الطويل للعقلاء ليس حكمة دائمًا، بل قد يكون تفريطًا في وقت الحاجة. فالمتلقي نفسه - في كثير من الأحيان - أصبح شريكًا في صعود التفاهة، حين صار يبحث عما يُسليه لا ما يُنميه. فصاحب المحتوى السطحي يحصد الإعجابات، والمفكر يُعد "ثقيلًا" أو "مُعقدًا". وهذا الانحراف في الذائقة شجع صناع المحتوى على إنتاج المزيد من "السهل الممتنع"… الذي لا يمتنع. كما أن تساهل المؤسسات الإعلامية والثقافية في المعايير قد فتح المجال لهؤلاء، فحين تتراجع معايير الجدارة والكفاءة، ويُستضاف "المثير" لا "المؤثر"، وتُمنح الجوائز والمناصب وفق الشعبية لا المعرفة، تصبح التفاهة مُؤسّسة، لا مجرد ظاهرة عابرة، وتتحول البرامج إلى ترفيه صرف، والحوارات إلى جدل بلا مضمون، وتغيب البرامج العميقة لصالح ما "يصنع مشاهدات". وقد عبّر الإمام علي بن أبي طالب عن هذه الظاهرة حين قال: "إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه." حين تصعد التفاهة وتتراجع الكفاءة، فإن أول القطاعات التي تدفع الثمن هو التعليم، الذي يُفترض أن يُخرّج العقول لا يُخرّج المتابعين. ومع تعاظم رموز السطحية، يصبح القدوة عند الطالب ليس المعلم أو الباحث، بل صاحب المقاطع الطريفة والعبارات المثيرة. وهذا ينعكس على القطاع العام، إذ تضعف الكفاءة ويُستبدل الأداء بالواجهة، وتُدار المؤسسات بعقلية العلاقات لا بالخطط، فينهار الأداء وتتدنى الإنتاجية. وفي لحظات التحول الحضاري، لا تسقط الأمم فجأة، بل تتآكل من الداخل بصمت؛ حين تتقدّم الواجهة على الجوهر، وتُستبدل الكفاءة بالاستعراض، ويُرفع الجهل على أنه وعي، وتُقدَّم التفاهة في هيئة حكمة. ولعلّ سقوط بغداد عام 656هـ مثال حي على هذا المسار، حين أُهملت الكفاءات، وسُرّحت العقول، وأُغدقت الأموال على الجهلة والمنافقين. لم تعد الدولة تُدار بالعقل والحنكة، بل تحولت إلى قصر من ترف واستعراض، فكانت النتيجة انهيارًا مروعًا على يد هولاكو، وسقوط مدينة كانت رمزًا لحضارة كاملة. هذا المشهد لا يخصّ الماضي وحده، بل هو واقع يتكرر بصيغ جديدة. نحن نعيش اليوم حالة صعود غير مسبوق لما أسماه المفكر الكندي آلان دونو "نظام التفاهة"، وهو نظام لا يفسد الأفراد فقط، بل يُنتج بيئة كاملة تُكافئ الامتثال وتُعاقب التميز، وتستبدل العمق بالسطحية، والمعنى بالضجيج، والكفاءة بالشهرة. عندما يتصدر المشهد من لا علم له ولا تجربة، تتحول الساحة العامة إلى صدى للانفعالات، لا ميدانًا للفكر. تغيب القضايا الجوهرية، وتتوارى الموضوعات الكبرى، لتُستبدل بنقاشات هامشية تصنع الإثارة لا الفهم، ويضيع الرأي العام وسط طوفان من التوجّه لا التعبير، والتلقين لا التفكير. وتتشوّه المعايير حين يرى الجيل الناشئ أن النجاح لا يرتبط بالاجتهاد أو الخلق أو العلم، بل يرتبط بالقدرة على لفت الانتباه ولو بالسخرية أو الجدل الفارغ. تُستبدل القدوة بالواجهة، والمربّي بالمؤثر، والمحتوى بالصوت العالي، فتنشأ أجيال تعيش في فقاعة شهرة زائفة، بعيدة عن واقع البناء الحقيقي. ولا يسلم التعليم من هذا التيار الجارف، إذ يُستهزأ بالمعلم، ويُستبدل احترام المعرفة بالبحث عن الملخصات السريعة، وتُهمل مهارات التفكير والتمييز. فتتراجع الكفاءة، وتضعف الإنتاجية، ويختل الأداء في مؤسسات الدولة والمجتمع، نتيجة لتراكم مخرجات تعليمية تفتقر إلى العمق والمنهج. أما التفاهة حين تسيطر على المنصات العامة، فإنها لا تجمع، بل تفرّق. لا تبني، بل تهدم. لأن غايتها ليست الفكرة ولا المصلحة العامة، بل البروز والإثارة. تُزرع ثقافة الاستهزاء، ويغيب أدب الاختلاف، وتتفكك القيم المشتركة التي تُمسك نسيج المجتمعات، فنجد أنفسنا أمام حالة من التشظي والانقسام. وحين يُقدَّم غير المؤهلين إلى المواقع الحساسة، فإن الخطر لا يكون إداريًا أو معرفيًا فقط، بل وجوديًا. وقد نبه النبي ﷺ إلى هذا المعنى العميق حين قال: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة" (رواه البخاري). الحديث لا يخص المناصب العليا فحسب، بل يشمل كل موقع يُدار بغير أهله: في التعليم، في الإعلام، في القضاء، في الرأي العام، وفي كل ساحة يؤثر فيها القرار أو الكلمة. وإذا كنّا نُدرك حجم الانحراف في المعايير، فلا بد أن نعي أن الصمت لم يعد خيارًا، ولا الترفع عن الدخول في "سوق الكلام" مبررًا للغياب. يجب أن يعود أهل الرأي والخبرة إلى المشهد العام، لا لمجاراة التافهين، بل لحضور رصين وهادئ وثابت، يزرع الثقة والفهم في ساحة اختلط فيها كل شيء. فمن يغيب عن الميدان، لا يلوم من يحتله. ولا بد من إعادة تشكيل الذائقة الجمعية، عبر التربية والتعليم والإعلام، لتستعيد الكلمة قيمتها، وتُفهم الشهرة في سياقها الحقيقي، ويُفرّق بين من يفكر ومن يثير، بين من ينفع ومن يُشغل الفراغ. فليس كل من كثر متابعوه يستحق أن يُسمع، ولا كل من تصدّر يستحق أن يُقتدى به. علينا أيضًا أن نعيد إحياء السنة النبوية في اختيار القادة والمستشارين، فالنبي ﷺ كان لا يُسند أمرًا إلا لمن يجمع بين الكفاءة والأمانة، لا لمن يطلبه، ولا لمن يثير الإعجاب السطحي. هذه القاعدة يجب أن تحكم اختيار المسؤول، والمربي، والموجّه، وكل من له أثر في التشكيل العام للعقول والقرارات. ولا يمكن إنقاذ الذوق العام ما لم تراجع المؤسسات الإعلامية خطها التحريري، وتتوقف عن صناعة التافهين لمجرد أنهم "يربحون المشاهدات". كما أن المؤسسات التعليمية مطالبة بإعادة بناء القيم والمناهج، بحيث تُنتج جيلًا قادرًا على التمييز، لا فقط على الحفظ، وعلى المشاركة، لا فقط على التلقي. غير أن كل هذا لن يُثمر ما لم يبدأ الفرد بمراجعة ذاته. قبل أن نطالب بتغيير المجتمع أو إصلاح الإعلام، علينا أن نتساءل: هل نُسهم، دون أن نشعر، في ترسيخ التفاهة؟ هل نتابعها؟ نُعيد نشرها؟ نُقلد رموزها؟ إن أولى خطوات الإصلاح تبدأ من هذا الوعي الفردي، من إدراك أثر المتابعة، واختيار من نصغي له، ومن نرفع صوته. نحن لا نخوض معركة محتوى فحسب، بل معركة وعي. لسنا ضد الترفيه، بل ضد تسويقه كمعيار للجدارة. ولسنا ضد الشهرة، بل ضد أن تتحول إلى بطاقة عبور لكل منصة وموقع تأثير. فبقاء التفاهة في الصدارة ليس قدرًا، بل نتيجة غياب من يُنهض بالفكرة، ويُعيد ترتيب الذوق العام. الحكمة لا تموت، لكنها تحتاج منبرًا يصونها، وعقلًا يصغي لها بإرادة حرة ونضج صادق. والتافه لا يعلو إلا حين يصمت العاقل. وإن كنا لا نملك السيطرة على الخوارزميات، فإننا نملك الاختيار: من نتابع، من نُشارك، من نُصغي له، ومن نصنع له جمهورًا.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store