منذ 6 أيام
صُبَابَةُ القَول(الميتودولوجيا) والتأسيس المنهجي
تشتق لفظة (ميتودولوجيا Methodology) من أصل يوناني مكوّن من ثلاث كلمات: (Meta) التي تعني التوجه نحو البحث، أو الطلب المتتبع. و(Hodos)، وتعني: التوجه، أو التوالي، أو السير في طريق مستقيم. و(Logia) وتعني: العلم، أو الدرس، أو النمط التأليفي، أو طريقة من طرائق القول. ولهذا فإن (الميتودولوجيا) هي النظر الفاحص والمتأمل الذي يصنع إطاراً منهجياً، أو يؤسس لطريقة علمية تقوم على البناء، والتدرّج، والتقدم، والتطلع إلى الأمام، واستشراف القادم، والاهتداء إلى الدلائل الواضحة، والطرائق البيّنة التي بمقدورها وضع أساس علمي، أو معرفي.
لقد عُرّفت (الميتودولوجيا) تعريفاتٍ كثيرةً، وقد أحصى (الدكتور حمّو النقاري) في كتابه (روح المنهج) جملة من تلك التعاريف، فمن ذلك أنها: «مبحث يتوسل بمراقبة وملاحظة الممارسة العلمية من أجل الدراسة المنسقة للمبادئ المؤصلة لهذه الممارسة، ولمناهج البحث المسلوكة فيها»، ومن تعريفاتها أنها: «مبحثٌ يبيّنُ مجموعة القواعد والخطوات المعتمدة في إنجاز بحث من الأبحاث»، ومن ذلك أيضاً أنها: «مبحث يختص بالنظر في ميدان معرفي محدد، طلباً لبيان مناهجه وتقنياته».
إن (الميتودولوجيا) مصطلح يعبر عن علم المناهج، أو دراسة المناهج المستخدمة في البحث، والتحليل، والاستقراء، والاستقصاء، سواء أكان ذلك في العلوم الطبيعية، أم في العلوم الإنسانية، أم في غيرها. فهو طريقة في التناول والتداول ترسم لنا مجموعة من المعايير، والطرق، والأساليب، والأدوات المستخدمة، بغية الوصول إلى نتائج علمية محددة، في مجال معرفي عام، أو في ميدان فكري واسع، ولعلنا لا نغالي إذا قلنا: إنها نهج المنهج، أو منهج المناهج، أو باختصار: المنهج الذي يرسم منهجاً. فهي جانب من التمنهج أطلق عليه بعضهم (محكمة التمنهج الميتودولوجي).
إننا حين نطبّق هذا النهج (الميتودولوجي) مثلاً على بعض النظريات، أو القضايا، أو الظواهر، أو الاتجاهات، أو المناهج في ميدان الأدب والنقد نستطيع الحصول على قيمة صافية، وإطارات دقيقة، ومقاييس مركزة، وأدوات واضحة، ومن ثم يخولنا ذلك النهج استعمال تلك المظاهر استعمالاً سليماً وناجعاً، ولو لم يكن من هذا النهج (الميتودولوجي) إلا التأسيس للفكرة، والترويج لها، وبنائها، ووضع أسسها، وتأثيثها، لكان ذلك كافياً. نستطيع أن نرى ذلك مثلاً في موضوعات من قبيل: نظرية الأدب، والأدب النسوي، والنقد الثقافي، والأدب الرقمي، واللغة العربية والذكاء الاصطناعي، واللسانيات الحاسوبية، والمنهج الأسلوبي الإحصائي، واللسانيات الجنائية، وغيرها.
على أن من أهم ما يمكن أن تقدّمه لنا (الميتودولوجيا) إسهامها في التأسيس المنهجي، وأعني بذلك التأسيس أننا قد نضطر أحياناً إلى اختراع منهج نقدي جديد، وابتكاره، وبنائه، ووضع أصوله الأولى، وأركانه الرئيسة، وعندئذ نكون بحاجة ماسة إلى منهج يبني منهجاً، كما لو كانت طائرة تحمل مروحيّة، أو سفينة تحمل قارباً، أو قطاراً يجرّ مقطورةً، أو شاحنة تنقل سيارة، وهكذا، فالمنهج الجديد لا بد له من إطار يستوعبه، أو منهج يتبناه ويقولبه، فينظّر له، ويهيّئ له أرضاً خصبة تكون قابلة للنماء، وإلا فكيف نخرج بمنهج نقدي جديد، وفقاً لضوابط علمية ومعرفية ومنهجية؟!
ونحن مثلاً حين نتأمل في الدراسات البينية التي نلمسها اليوم بشكل أكثر تطوراً نكون أمام خيار ضروري بتأسيس منهج علمي دقيق، ولا سيما أن البينية تتجاذبها علوم كثيرة، وتتنازعها اتجاهات متباينة – علمياً وتطبيقيًا – لذا كان من المهم التأسيس لمنهج (بيني) تفيد منه علوم العربية، والعلوم الإنسانية، وينسحب ذلك الأمر على كل اتجاه جديد في العلم والمعرفة.