logo
زياد الرحباني... انتفاضتان وإبادة

زياد الرحباني... انتفاضتان وإبادة

النهارمنذ 2 أيام
لم يكن زياد الرحباني فناناً عادياً؛ كان مختلفاً بفنه، وبكونه ابن فيروز وعاصي. كان متمرداً على كل القوانين والأنظمة الدينية والاجتماعية، وعلى كل ما يمكن أن يكون "عادياً" في هذه الحياة. لم يكن يوماً من القطيع، لا كإنسان ولا كفنان. كان متميزاً، له فلسفته الخاصة، وكان مزيجاً من تشي غيفارا وكارل ماركس. كان ذلك الطيف الخفيّ الذي يخترق الوجدان سريعاً.
كم كنّا بحاجة إلى زياد لنكسر حواجز الوعي بين الاحتلال والحرية، بين الممنوع والمرغوب، والمسموح و"التابو". كان مزيجاً من الكوميديا السوداء والسخرية من واقع مرير، ومن الاصطفاف مع المظلومين والمضطهدين في مواجهة كل السلطات الشمولية والأنظمة الديكتاتورية. كان صادقاً، حقيقياً، لا ينافق أحداً، وله رؤيته الخاصة في الحياة، والحرب، والطائفية المقيتة، والعنصرية. نقل مشاعره بصدق، وتأثّرنا به وعشنا تفاصيله في فصل جميل من حياتنا. أحببناه لأنه زياد... "أبو الزوز" كما ناداه محبّوه، بحكم العِشرة، واستحق هذا اللقب المحبّب لأنه القريب البعيد.
بدأت معرفتي بزياد في عمر مبكر، لأسباب كثيرة، من أهمها أن المذياع الذي كان رفيق العائلة لا يُغلق أبداً. في منتصف ثمانينيات القرن الماضي – كم يبدو ذلك بعيداً! لكنه الأمس القريب – لم تكن هناك شبكة عنكبوتية تقرّب المسافات وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة.
كنّا نستمع لإذاعة "مونت كارلو" من باريس، فدغدغت أغنيات زياد الحواس وألهبت المشاعر الثورية. ومع بداية الانتفاضة الأولى واشتداد حدتها أواخر عام 1987، بدأ وعيي السياسي يتشكّل سريعاً؛ ووسط حركة العصيان المدني التي عمّت الضفة الغربية والقدس وإغلاق المدارس، كان لا بد من إيجاد روتين مختلف لحياتي.
كنت أحمل كتبي وملفاتي، التي كنت أستلمها سراً من المدرسة، وأشقّ طريقي إلى مكتبة رام الله العامة، حيث أقضي يومي أدرس وأقرأ وأبحث بين الكتب.
في الطريق، كنت أمرّ مباشرة بـ"ساوند أوف ميوزك"، أحد أشهر محال بيع الأسطوانات والكاسيتات الموسيقية في رام الله، وكان يملكه الراحل توفيق البومباشي، صاحب الذوق الرفيع. كنت أسأله عن آخر الإصدارات، فكثير من الألبومات آنذاك كانت ممنوعة، نشتريها خلسة، بلا غلاف أو طابع يدل على محتواها، ومنها ألبومات زياد الرحباني، ومارسيل خليفة، وأحمد قعبور، والشيخ إمام. وبعد الشراء، كنت أضع الكاسيت في "الوكمان" الذي أهدتني إياه جدتي من الولايات المتحدة. كانت ثنائية جوزيف صقر وزياد رفيقتي اليومية.
حتى في أيام الإضرابات أو منع التجوال، كنت أتسلّق الشجرة خلف البيت، وأجلس بالساعات مع كتبي، وكان زياد رفيقي هناك أيضاً. أستمع لكل ما يمكن الحصول عليه من أغنياته ومسرحياته.
في الانتفاضة الثانية عام 2000، وفي مرحلة النضوج، لم يغب زياد عن وجداني. كنت أبحث عنه أكثر، أغنيات، مسرحيات، مقابلات. أذكر أننا كعائلة انتظرنا لقاءه الطويل مع الراحلة جيزيل خوري، الذي استمرّ ست ساعات على حلقتين، وكان حديث الناس لأيام.
بعد انتقالي إلى باريس، كانت مسرحيات زياد رفيقة نهاية الأسبوع: "نزل السرور"، "فيلم أميركي طويل"، "ميس الريم"... كانت تخفف من وطأة الغربة وتترك تلك اللمسة التي تشعرني بالانتماء إلى مكان وثقافة رغم البعد. ببساطة، لم يغب زياد يوماً، كما لم تغب السيدة فيروز عن صباحاتنا.
ولا ننسى أن كثيراً من الفرق الموسيقية الفلسطينية تأثرت بفلسفة زياد ونهجه، أبرزهم فرج سليمان في أغنيته "إسا جاي"، وألبومه "أحلى من برلين".
اليوم، في زمن الإبادة الجماعية والنكبة المستمرة، تحولت كلمات زياد: "أنا مش كافر، بس الجوع، والذل، والقهر كافر"، إلى عنوان فصل كارثي نعيشه وسط حرب ومجاعة تجاوزت 22 شهراً. تجد تلك الكلمات متجلّية في كل مكان. واقعية زياد السريالية تطفو وسط إيديولوجيا التعتير، في بلدٍ كله مهزوز.
الكلمة واللحن... رفقة أجيال
يقول الصحافي الفلسطيني في إذاعة "مونت كارلو" يوسف حبش، لـ"النهار": "عندما استضفنا زياد في برنامج 'هوى الأيام'، بدأت أستعيد الذكريات تدريجاً. الأغاني التي سمعتها أول مرة كانت في جامعة بيرزيت، خلال فترة العمل الطلابي، خصوصاً أثناء إضراب الطعام دعماً للأسرى. أغنية 'أنا مش كافر' ظلت ملتصقة بذاكرتي".
ويتابع حبش: "أغاني زياد وكلماته الناقدة للواقع اللبناني والعربي وارتباطها بالقضية الفلسطينية رافقتنا في تكوين هويتنا الوطنية. حتى عندما التقيته في باريس، وأثناء تبادلنا سريعاً للكلمات، لم أتذكر أن لقاءنا كان في بيروت، وكان الشعور وكأنني ألتقيه للمرة الأولى". ويضيف: "اليوم مع عودة الذاكرة بقوة لكل ما يمثله لنا زياد، أذكر صورته على المسرح في شارع الحمرا، حيث دعيت من بعض الرفاق في الحزب الشيوعي اللبناني لحضور ذكرى جمول والاحتفال المركزي". ويتابع: "كان زياد حاضراً يومها، وكان شعوراً ممزوجاً بين الفرح والترقب بكل الحواس. أن تكون حاضراً لتسمع كل كلمة، وكل تنهيدة ونفس، وكل نقد موسيقي، وكلمات تحملك من المكان الذي عشت تستمع فيه لصوته لتراه أمامك بصوته وجسده وصورته. إنه شعور مختلف".
ويستذكر حبش: "في ختام الحفلة، قدّم زياد فرقة موسيقاه عبر طوائفهم، شيعي، سنّي، درزي، مسيحي أرثوذكسي وكاثوليكي... في نقد صريح للطائفية اللبنانية. وعندما ذكر الأرثوذكس، أشار إلى جورج حبش ووديع حداد، ليختم بذكر فلسطين ومبادئها وقيمها".
كان زياد حالة تربوية وفنية وفكرية لن تتكرر، كما كثير من الرموز اللبنانية والعربية اليسارية. للأسف، رحل زياد ولم يلتقِ جورج، وجورج لم يلتقِ زياد. هل في ذلك مغزى؟ بالتأكيد، فلبنان احتضن جورج، وسيودّع زياد، وبينهما فلسطين، واليسار، والمنطقة، وكل القيم التي تربّينا عليها... ستبقى حيّة، بوجودهم، وبرحيلهم.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الطائفيّة ولو لساعة من الزمن
الطائفيّة ولو لساعة من الزمن

الديار

timeمنذ 12 دقائق

  • الديار

الطائفيّة ولو لساعة من الزمن

في السادس والعشرين من تموز توقف قلب زياد الرحباني، الذي عاش عمره في لعبة يومية مع الموت، الذي لازمه منقلباً على "الخندق" الذي عاش فيه وانضباطية الحياة، متنقلا بين يسار حدّ التطرف وايمان حدّ التصديق. كان شيئاً خرافياً ان يولد من رحم الرحابنة عاصي ومنصور وفيروز فتى ممزقاً بالجدل، ومستشكلاً بالحوار، فصديقه الله منذ الصغر، حاملا ملامح فتى تجاوز رفاهية الطفولة الى عباءة الدراويش والمعذبين في الارض. هكذا يقف زياد كرجل متأهل من الفلسفة والاجتماع والنضال السياسي بتشعباته، ومتأهل من الفن معاً دون افضلية غربية على عربية ، وبعيداً عن ديبلوماسية المصطلاحات، لم يكن لزياد هاجس من الجمع بين كل هؤلاء، لتتكون بذلك شخصيته العبقرية. عام 1975 كان تاريخ بداية الحرب الاهلية اللبنانية، وهو تاريخ انحياز زياد الفكري والسياسي، فأمسك بأجهزة الراديو في "صوت الشعب"، ليتكشف طريقه الى الجنوب وسمائه المثقوبة بآلاف الصواريخ والطائرات، ومن هناك الى زهرة المدائن فلسطين. ابان الحرب الاهلية آمن زياد بالمعجزات من كل مكان من الله ومن الشعب، وابطال الشوارع من القوميين والجهاديين والعروبيين والشيوعيين، لكنه كان يدرك ايضا ان جميع معجزات الولايات المتحدة هي معجزات "توراتية اسرائيلية" و"فيلم اميركي طويل". في مسرح زياد وقتذاك، كنا على موعد مع الحقيقة التي خاف اللبنانيون منها، وكان مطلوبا منه ان يكون اكثر من ملحن وممثل ومؤلف، ان يكون ملهماً ومنوراً ومؤثراً بجيل سار على ما سار عليه. مذهل زياد في مسرحه، ففيه تاريخ من العصيان والتمرد والخروج عن القانون والاعراف، والاعجب انك عندما تستمع اليه، يستطيع ان يأخذك ويحميك ويوحدك ويوجهك ويغسلك من غبار الطائفية، ولو لساعة من الزمن. بعد اتفاق الطائف حاول البعض شراء مواقفه وضمه الى دولتهم، عبثاً فزياد في الاصل يبحث عن وطن، ويبحث عن هوية قبل الدولة، لكنه شكل لوحده حكومة ظل او حكومة منفى، وقدم للوطن المكسور عكازين، عكازاً من الموسيقى المتفردة وعكازاً من القلم، الذي مر على "السفير" و"الاخبار". بعد تحرير الجنوب عام 2000 اخذت الثورة بعداً آخر في فكره، ووضعته في حرب تموز 2006 بحالة استثنائية، ومنحته لحظات من الحنين الى الانتصار. كان مستمتعاً ومنتشياً ومنفعلاً بلحظات الصدق، التي لم تحدث في حياة الامة منذ بداية انحطاطها العربي. لم يكن لزياد يد في سقوط فلسطين ولا سوريا، ولا سقوط القومية ولا الماركسية ولا العروبة، لكنه ما استقال من همومه وآلامه وآماله، وانبرى مدافعاً عن القضية حتى المنية. خمسون عاماً وما يزيد وهو يبحث عن بلاده المسروقة. شكل زياد الرحباني حزبه الخاص، حزب الذي يبحثون عن الحب وعن العدل وعن الشعر وعن الموسيقى وعن انفسهم وعن الله.

بالصور .. وصول جورج وسوف القاهرة لإحياء حفل ضخم بالعلمين
بالصور .. وصول جورج وسوف القاهرة لإحياء حفل ضخم بالعلمين

صدى البلد

timeمنذ 2 ساعات

  • صدى البلد

بالصور .. وصول جورج وسوف القاهرة لإحياء حفل ضخم بالعلمين

وصل منذ قليل سلطان الطرب جورج وسوف مطار القاهرة استعدادا لإحياء حفل ضخم مساء بعد غد الخميس 31 يوليو داخل سكاي بالعلمين الجديدة. كان في استقبال جورج وسوف بمطار القاهرة المنتج تامر عبد المنعم ونجله يوسف ويتجه الآن إلى احد منطقة العلمين الجديدة للإقامة بأحد الفنادق ومتابعة بروفات الحفل بصحبة فرقته الموسيقية. وتم عمل ديكورات ترحيب بجورج وسوف وكتابة " welcome wassouf " داخل غرفته بالفندق. وكان سلطان الطرب جورج وسوف قد نعى الفنان والملحن اللبناني زياد الرحباني الذي رحل عن عالمنا، صباح يوم السبت الماضي، عن عمر ناهز الـ 69 عامًا. وكتب جورج وسوف عبر حسابه الشخصي بموقع إنستجرام: 'رحل زياد العبقري، رحل زياد المبدع، أعمالك رح تبقى خالدة وفنك العظيم بالقلب والفكر على مر الاجيال، أحرّ التعازي للسيدة فيروز الأم ولعائلة الرحباني ولكل محبيك يا زياد'.

ميشال حايك يصيب مجددًا...هذا ما قاله عن زياد الرحباني!
ميشال حايك يصيب مجددًا...هذا ما قاله عن زياد الرحباني!

الديار

timeمنذ 2 ساعات

  • الديار

ميشال حايك يصيب مجددًا...هذا ما قاله عن زياد الرحباني!

اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب في سابقةٍ جديدة تُضاف إلى سجلّه الحافل بالتوقّعات اللافتة، لفت ميشال حايك الأنظار مجددًا بعدما تحقّق أحد أبرز توقّعاته لهذا العام، والذي كان قد خصّ به الفنان الكبير زياد الرحباني. فقد توقّع حايك في إطلالاته السابقة قائلا:"ضجّة غير فنّية حول اسم زياد الرحباني." وتابع:"وهذه المرّة فيلم لبناني طويل، لا أميركي، بطله زياد الرحباني." وهو ما تحقق فعليًّا بعد الخبر المؤلم الذي صدم الجميع وأعاد تسليط الضوء على حياة ومسيرة هذا العبقري المميز.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store