
في ظل الحرب الإيرانية الإسرائيلية.. ماذا تفعل إذا وقع إشعاع نووي؟!
وسط تصاعد المواجهة العسكرية غير المسبوقة بين "إسرائيل" وإيران، بدأ القلق الدولي يتزايد بشأن احتمالات التدهور نحو كارثة نووية، سواء عبر تسرب إشعاعي عرضي من منشآت مستهدفة، أو عبر استخدام مباشر للسلاح النووي، بما يحمل من تداعيات بيئية وصحية كارثية قد تمتد إلى ما هو أبعد من حدود الجانبين.
وتترافق هذه المخاوف مع استهداف متكرر لمنشآت نووية إيرانية حساسة، ومؤشرات من الطرفين على استعدادهما لتوسيع نطاق العمليات.
وفي حين تصر طهران على الرد الكامل على الهجمات الإسرائيلية قبل الدخول في أي مفاوضات، فإن تل أبيب تواصل إرسال إشارات بأنها لن تتراجع عن استهداف البنية التحتية النووية الإيرانية.
ويضع هذا التصعيد المؤسسات الصحية والبيئية في حالة استنفار، لا سيما في دول الجوار، وعلى رأسها دول الخليج التي طالما عبرت عن قلقها من سلامة المفاعلات الإيرانية القريبة من سواحلها.
خلال الأيام الماضية، استهدفت "إسرائيل" مواقع نووية إيرانية، أبرزها منشأة "نطنز" لتخصيب اليورانيوم، الواقعة في محافظة أصفهان، إلى جانب تقارير عن أضرار طالت منشآت فرعية في "فوردو" و"أراك".
ورغم عدم صدور بيانات رسمية عن حدوث تسرّب إشعاعي واسع، فإن وكالة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة أفادت بأنها تتابع الوضع "من كثب"، وسط تقييدات على قدرتها في الدخول والتفتيش في المواقع الإيرانية المتضررة.
وتُعد "نطنز" من أخطر المواقع من حيث البنية التحتية النووية، إذ تحتوي على آلاف أجهزة الطرد المركزي، وتعمل على تخصيب اليورانيوم بدرجات مختلفة. وتاريخياً سبق أن تعرّضت لهجمات إلكترونية وأعمال تخريب داخلية، إلا أن الضربة الأخيرة كانت الأعنف منذ سنوات، وهو ما يزيد من خطر حدوث تسرب إشعاعي إذا تكرّرت الهجمات أو طالت المرافق الأعمق تحت الأرض.
تشير دراسات بيئية سابقة نشرته صحيفة "الخليج أون لاين" إلى أن أي تسرب في منشآت التخصيب أو محطات الوقود النووي قد يُطلق مركبات مثل اليود المشع (I-131) والسيزيوم-137 والسترونشيوم-90، وكلها مواد يمكن أن تنتقل عبر الهواء أو المياه وتستقر في التربة أو السلسلة الغذائية.
ويُعد اليود المشع الأخطر على الأطفال والنساء الحوامل، حيث يهاجم الغدة الدرقية بشكل مباشر.
ويقول خبراء إشعاعيون إن التعرض المباشر لمستويات مرتفعة من هذه المواد يمكن أن يؤدي إلى ما يُعرف بـ"متلازمة الإشعاع الحادة"، والتي تبدأ بأعراض مثل الغثيان والقيء والحروق الجلدية، وقد تصل إلى فشل في الأعضاء والوفاة، إذا لم يُعالج الشخص سريعاً.
أما على المدى الطويل، فتشمل الآثار ارتفاعاً في معدلات السرطان، وتشوهات خلقية، وأمراضاً مزمنة قد لا تظهر إلا بعد سنوات.
وإذا امتد التلوث الإشعاعي إلى مياه الخليج العربي، فإن الخطر سيتضاعف، إذ تعتمد دول الخليج على محطات تحلية المياه من البحر كمصدر رئيسي للشرب، كما أن حركة التيارات البحرية تنقل المواد المشعة من سواحل إيران إلى الضفة الغربية من الخليج، وهو ما حذر منه رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن، في مارس الماضي، حين قال إن أي هجوم على منشآت نووية إيرانية قد "يترك الخليج بلا مياه ولا حياة".
تؤكد منظمات دولية مثل منظمة الصحة العالمية، ومراكز السيطرة على الأمراض الأمريكية (CDC)، أن الإجراءات العاجلة يجب أن تبدأ فور الاشتباه في أي تسرب.
* الاحتماء الفوري في مبانٍ خرسانية أو تحت الأرض، بعيداً عن الجدران الخارجية والأسطح، ويفضل التمركز في الطوابق الوسطى أو السفلى.
* إغلاق جميع المنافذ (نوافذ، أبواب، فتحات تهوية)، وارتداء كمامات أو تغطية الفم والأنف لتقليل استنشاق الغبار المشع.
* خلع الطبقة الخارجية من الملابس بعد التعرض للهواء الطلق، وغسل الجلد والشعر جيداً بالماء والصابون.
* تناول أقراص يوديد البوتاسيوم (KI) لحماية الغدة الدرقية من امتصاص اليود المشع، خاصة للأطفال والنساء الحوامل، بشرط تناوله خلال الساعات الأولى من التعرّض.
# البقاء داخل المباني لمدة لا تقل عن 24 ساعة، أو حتى صدور توجيهات من السلطات المختصة.
أما في حال كان الأشخاص في سياراتهم فينصح بأن يغلقوا نوافذ السيارة والمكيف وأي فتحات تهوية طالما تعثر عليهم اللجوء إلى مبانٍ مغلقة، وفي حالة اللجوء إلى المباني أو الإخلاء لا بد من تقليل فرص التعرض للهواء الطلق بشكلٍ عام.
وبصورة عامة يكون الخطر الأكبر على الأشخاص الذين يعيشون في محيط 16 كيلومتراً من محطة نووية أو انفجار نووي، وتحذر مراكز الطوارئ من أن الإشعاع لا يُمكن رؤيته أو شمه أو لمسه، ويُكتشف فقط باستخدام أجهزة مخصصة، ما يجعل من الالتزام بالإجراءات المعلنة ضرورة قصوى، حتى في حال غياب "علامات مرئية".
مع استمرار التوتر تعيد دول الخليج، خصوصاً الكويت والإمارات وقطر، تفعيل خطط الطوارئ التي سبق إعدادها منذ عام 2012، عندما شكلت الأمانة العامة لمجلس التعاون لجاناً خاصة لتقييم التأثير البيئي لمفاعل بوشهر.
وتركز هذه الخطط على:
مراقبة التلوث الإشعاعي البحري.
حماية محطات تحلية المياه.
توفير المخزون الاستراتيجي من أقراص اليود.
التدريب على الإخلاء والإيواء السريع.
ومع المخاوف الجديدة سارع مركز عمليات الطوارئ النووية بهيئة الرقابة النووية والإشعاعية السعودية بإعلان أنه يتابع الأوضاع الإقليمية على مدار الساعة، ويؤكد أن المستويات الإشعاعية في المملكة في مستوياتها الطبيعية.
ويعمل المركز على "استقراء تداعيات الطوارئ النووية المحتملة على المملكة استباقياً، واتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لحماية الإنسان والبيئة من الآثار الإشعاعية"، وفق بيان نشره المركز عبر منصة "إكس" (13 يونيو الحالي).
بدورها أكدت وزارة البيئة والتغير المناخي القطرية (15 يونيو 2025)، أن مستويات الإشعاع في الهواء والمياه الإقليمية في قطر ضمن المعدلات الطبيعية، وأنها "تتابع بدقة، وعلى مدار الساعة، مستويات الإشعاع من خلال شبكات الرصد الإشعاعي البرية والبحرية المنتشرة في مختلف أنحاء الدولة".
ودشنت قطر مؤخراً شبكة وطنية متقدمة للرصد الإشعاعي، تعمل على مدار الساعة وتغطي كافة مناطق الدولة، بهدف الرصد المبكر للإشعاعات في حالات ارتفاعها عن الحدود الطبيعية، وضمان تحقيق أعلى مستويات الأمان الإشعاعي والنووي على المستويين الإقليمي والعالمي.
وأعلن أمين عام مجلس التعاون الخليجي جاسم البديوي، في بيان الاثنين (16 يونيو)، "تفعيل مركز المجلس لإدارة حالات الطوارئ لاتخاذ جميع الإجراءات الوقائية اللازمة على المستويات البيئية والإشعاعية كافة، ومتابعة المؤشرات الفنية بدقة، وذلك بالتنسيق الكامل مع الجهات المختصة في الدول الأعضاء، وعبر منظومات الإنذار المبكر، مع إصدار التقارير الفنية فور توفرها، ونشر البيانات المتعلقة بها، وقد أصدر البيان الأول في هذا الجانب لوسائل الإعلام".
من جانبه أكد مركز الشيخ سالم العلي للدفاع الكيماوي والرصد الإشعاعي في الحرس الوطني الكويتي (15 يونيو)، أن "الحالة الإشعاعية والكيماوية في الكويت طبيعية ولا يوجد أي ارتفاع بها".
وقال المسؤول بالمركز المقدم الركن خالد لامي، في حديث لقناة "الأخبار" المحلية: "لدينا 29 محطة برية في المناطق الحدودية للرصد الإشعاعي موزعة بشكل يغطي دولة الكويت قدر المستطاع، وتؤخذ القراءات الإشعاعية والكيماوية بها باستمرار وعلى مدار الساعة، إلى جانب 15 محطة رصد بحرية وزعت لتغطية المياه الإقليمية للكويت".
أما سلطنة عُمان، فأعلنت عبر "هيئة البيئة" (16 يونيو) أن البيانات الحالية تشير إلى عدم وجود أي مستويات إشعاعية غير طبيعية أو ملوثات بيئية تؤثر على الأجواء في السلطنة، وأن الوضع البيئي مستقر وآمن حتى تاريخه، داعيةً المواطنين والمقيمين إلى استقاء المعلومات من المصادر الرسمية وعدم الانسياق وراء الشائعات أو المعلومات غير الموثوقة.
وتطالب دراسات خليجية حديثة بإطلاق "بروتوكول خليجي موحد" للتعامل مع الطوارئ الإشعاعية، مشددة على ضرورة التواصل المستمر مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والاستفادة من تجارب دول مثل اليابان وأوكرانيا وبيلاروسيا.
وبينما لا تزال فرص تفادي الكارثة قائمة، خصوصاً في ظل وجود وسطاء إقليميين مثل سلطنة عُمان وقطر، فإن فشل الجهود الدبلوماسية وغياب خطوط الاتصال بين تل أبيب وطهران يُبقي الخيار النووي، أو على الأقل خطره، حاضراً بقوة.
وما لم تُضبط إيقاعات التصعيد الراهن، فإن الخليج والشرق الأوسط عموماً يقتربان من احتمال بالغ الخطورة: مواجهة نووية غير تقليدية، تبدأ من قصف منشأة، لكن لا أحد يعرف أين تنتهي.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
٢٩-٠٦-٢٠٢٥
- جريدة الرؤية
التخصيب العالي لليورانيوم: ما وراء الأرقام؟
أ. د. حيدر أحمد اللواتي ** تحدثنا في مقالنا السابق عن خطر الإشعاعات النووية المختلفة وكيف يمكنها تدمير الخلايا البشرية، وهنا قد يطرح البعض سؤلًا مُهمًا مفاده: إذا كانت هناك مخاطر بالغة الخطورة تنتج من هذه الإشعاعات النووية، فلماذا السعي نحو تطوير تقنيات قائمة عليها؟ وما هي الفوائد المرجوة؟ وهل هذه الفوائد تعادل المخاطر أو تفوقها قيمة؟ يكمُن السبب الرئيسي في محاول امتلاك هذه التقنيات في بحث العالم عن الطاقة؛ إذ اتِّضح لنا أن أي تقدم مهما كان نوعه يحتاج إلى مصدر للطاقة، وكلما كان المصدر المستخدم غنيًا بالطاقة كانت فائدته أكبر وأكثر نفعًا، وهذا ما تتميز به الطاقة النووية؛ فالطاقة الناتجة من جرام واحد من اليورانيوم تفوق بـ4500 مرة الطاقة الناتجة من استخدام 1 جرام من النفط! هذا إذا كان اليورانيوم المستخدم منخفض التخصيب (3 إلى 5%)، أما إذا كان عالي التخصيب كأن يكون 60%، فإن الطاقة الناتجة من 1 جرام من اليورانيوم حينها ستفوق ملايين المرات الطاقة الناتجة من 1 جرام من النفط! وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الدول تسعى للحصول على هذه التقنية المُهمة. والمقصود من عملية التخصيب هو تحويل نظير اليورانيوم 238 إلى 235، وهناك نظيران لليورانيوم في الطبيعة، الأول يورانيوم 238 ويُشكِّل ما نسبته 99.3%، بينما الثاني يُشكِّل ما نسبته 0.07% ويُعرف باليورانيوم 235، وهو الذي يتم استخدامه في المفاعلات النووية، ولأن نسبته بسيطة فلا بُد من تحويل جزء من اليورانيوم 238 إلى 235، وعندما نقول إنَّ نسبة التخصيب وصلت إلى 5% فإنَّ ذلك يعني أننا حصلنا على 5% من اليورانيوم 235. وللحد من خطورة هذه الإشعاعات، فإنَّ أغلب الاستخدامات السلمية التي يتم فيها استخدام الطاقة النووية، لا تتجاوز نسبة التخصيب فيها 5%، وهذا هو الحال مثلًا مع محطة بوشهر الإيرانية، ووظيفتها الأساسية إنتاج الكهرباء لمختلف الأغراض السلمية. لكن هناك منشآت نووية أخرى لدى الجمهورية الإسلامية الإيرانية مثل فوردو ونطنز، تقوم بتخصيب اليورانيوم إلى نسب مرتفعة تصل إلى 60% من تخصيب اليورانيوم، علمًا بأنَّ نسبة التخصيب المستخدمة في السلاح النووي تصل إلى حوالي 90%، فهل يعني تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% أن إيران قادرة على صنع أسلحة نووية؟ والجواب من الناحية التقنية: نعم، بإمكانها القيام بذلك؛ إذ تشير بعض الدراسات إلى أنَّ 20% من التخصيب يكفي لذلك، لكن المستوى المثالي لإنتاج أسلحة نووية متطورة وفعّالة يكون عادة عندما تصل نسبة التخصيب إلى حوالي 90%؛ لأنَّ هذا المستوى من التخصيب يسمح بتصغير حجم السلاح وتقليل وزنه مع تحقيق قوة تدميرية كبيرة، لذا فإنَّ السلاح النووي من اليورانيوم المُخصَّب بنسبة 60% سيكون أكبر حجمًا وأكثر وزنًا وأقل كفاءة من سلاح مصنوع من يورانيوم مُخصَّب بنسبة 90%. فهل يمكن لإيران أن تقوم بتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 90%، أم أنها لا تمتلك التقنيات للوصول إلى ذلك، والجواب إن التقنية اللازمة لتخصيب اليورانيوم إلى 90% لا تختلف عن تلك المستخدمة للوصول إلى 60%، والسبب هو أنَّ عملية التخصيب تتم على مراحل متتابعة باستخدام أجهزة الطرد المركزي، فيمكن استخدام نفس تقنية الطرد المركزي وتكرار العملية للوصول إلى 90% بسهولة نسبيًا. وتدَّعي الولايات المتحدة والدول الغربية أنهم يخشون ذلك؛ اذ يشير عدد من التقارير إلى أن إيران هي الدولة الوحيدة في العالم والتي لا تمتلك سلاحًا نوويًا ومع ذلك فإنها تمتلك القدرة على تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%؛ حيث إن جميع الدول التي تستخدم الطاقة النووية للتطبيقات السلمية تقوم بإنتاج يورانيوم مُخصَّب بنسبة لا تزيد عن 5%، بينما تُصِر إيران على أن إنتاجها لهذا المستوى المرتفع من التخصيب، إنما هو لأغراض سلمية بحتة. فهل تسعى إيران لامتلاك سلاح نووي؟ وإذا لم تكن تسعى لذلك، فلماذا تقوم بتخصيب اليورانيوم لهذا المستوى العالي من التخصيب الذي يفوق الاستخدامات السلمية بحوالي 12 ضعفًا؟! وللحديث بقية... ** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس


جريدة الرؤية
٢٩-٠٦-٢٠٢٥
- جريدة الرؤية
الصدفة التي كشفت أسرار الذرات المُشِعَّة
أ. د. حيدر أحمد اللواتي ** تأخذُنا هذه السلسلة في رحلة لعالَم الإشعاعات النووية، من أسرار الذرة إلى لعبة التخصيب، وصولًا إلى الصدام الحاسم بين إيران والغرب، فهل ستكون هذه الإشعاعات النووية وميضَ أمل، أم ظلال خطر تقلب العالم رأسًا على عقب؟ في عام 1895، لاحظ العالِم الألماني رونتجن شيئًا غريبًا وهو يعمل في مختبره، أشعة غير مرئية تصدر عند تعريض سطح معدني لإلكترونات مُتدفِّقة، وكانت هذه الأشعة تخترق جلده لكنها توقفت عند عظامه، فظهرت صورة يده على لوح فوتوغرافي، أطلق عليها "أشعة إكس" تعبيرًا عن غموضها، ولم يكن يدرك حينها أن هذا الاكتشاف سيُغيِّر وجه الطب والعلوم إلى الأبد. وسعى العلماء للكشف عن غموض هذه الأشعة، ومنهم العالم الفرنسي هنري بيكريل الذي ركّز أبحاثه على أملاح عنصر اليورانيوم، ظنًا منه وحدسًا بأنَّ هذه الأملاح قد تُصدر أشعة إكس بعد أن يتم تعريضها لمصدر طاقة قوي. لكن الأمر الذي أثار دهشته وتعجبه، أنه لاحظ أنَّ هناك إشعاعًا آخر صادر من هذه الأملاح، هذا الإشعاع يصدُر من الذرة نفسها! ولكن ما الذي جعله يظُن أن الإشعاع يصدر من داخل الذرة؟ ولماذا اعتقد جازمًا أن الإشعاع الصادر من أملاح اليورانيوم يختلف عن أشعة إكس؟ الجواب أنه لاحظ أن أملاح اليورانيوم تُصدِر الإشعاع دون تعرُّضها للشمس أو مصدر للطاقة أو سيل مُتدفق من الإلكترونات، فحتى لو تم وضعها في ظلام دامس فإنها تقوم بإصدار هذا الإشعاع، وهذا ما جعله على يقين بأن الإشعاع صادر من الذرة ذاتها! كان هذا الأمر من الغرابة بمكان، وقد لعبت الصُدف دورها في الكشف عنه، لأن بيكريل كان يعتزم تعريض أملاح اليورانيوم لأشعة الشمس، ولكن في اليوم الذي كان يُخطط للقيام بذلك، تلبدت السماء بالغيوم واشتد الظلام، ولذا قام بيكريل بوضع أملاح اليورانيوم في درج طاولته في مكان مُظلِم؛ مما مهَّد الطريق له لاكتشاف هذا الإشعاع النووي العجيب، والذي لم يعهده الإنسان من قبل؛ فهو لا يُرى بالعين المجردة، ولكن بيكريل لاحظ أثره الخارجي، وهذه الملاحظة قادته إلى اكتشافه. وكانت هذه الصدفة بداية لغور عالم الإشعاع النووي؛ إذ اتضح فيما بعد أن هذا الإشعاع عبارة عن طاقة تنبعث من داخل نواة بعض الذرات. وبعد اكتشاف بيركيل، قام الزوجان الشغوفان ماري وبيير كوري بأبحاثهما حول هذه الظاهرة العجيبة، وكرَّسا حياتهما لفك شفرة "النشاط الإشعاعي"، وبعد تجارب مُضنية، اكتشفا أنَّ هناك عناصر أخرى تمتلك الخواص ذاتها؛ بل وتفوق اليورانيوم في قوة نشاطها الإشعاعي، وقاما بتسمية العنصر الأول باسم البولونيوم، تيمنًا بوطن ماري، والآخر الراديوم، نسبة إلى كلمة "شعاع"، تعبيرًا عن نشاطه الإشعاعي الفائق. كانت لهذه الاكتشافات أهمية عميقة؛ إذ غيَّرت مفاهيمنا عن المادة، فقد اعتُقِد سابقًا أن الذرة وحدة صلبة ومتماسكة؛ إذ تبيَّن أنها تحمل في داخلها طاقات هائلة، تُطلقها عبر أنواع مختلفة من الإشعاعات: ألفا، وبيتا، وجاما. والنوعان الأولان: ألفا وبيتا، لا يملكان القدرة على اختراق الأجسام، لكنهما قد يدخلان الجسم عبر الاستنشاق أو الابتلاع، مُسببيْن أضرارًا خلوية بالغة، مع تفوُّق أشعة بيتا في الضرر بسبب طاقتها الأعلى. أما أشعة جاما فهي الأخطر؛ إذ تخترق الجسم بالكامل وتُدمِّر الخلايا بشكل كامل. ولم تكن هذه الاكتشافات الكبيرة بلا ثمن؛ إذ تعرَّض عدد من العلماء الذين تعاملوا مع هذه الإشعاعات لمخاطر صحية جسيمة، منهم من أصيب بالسرطان ومنهم من فارق الحياة، لذا، تُبنى المفاعلات الحديثة بحواجز حماية مُتعدِّدة، من دروع خرسانية إلى ألواح من الرصاص، لضمان سلامة العاملين والبيئة. لقد لعبت الصدفة دورًا بارزًا في اكتشافنا للإشعاعات النووية؛ فلولا الغيوم التي حجبت الشمس في ذلك اليوم الذي كان بيكريل يعتزم فيه تعريض أملاح اليورانيوم لأشعة الشمس، لما توصلنا إلى هذه الإشعاعات النووية، أو لتأخرنا أعوامًا في التعرف عليها. فهل كانت هذه الصدفة نعمة أم نقمة على الإنسان؟! وهل النور الخفي الذي يصدر من تلك الذرات أضاء الطريق لمستقبل مُزهِر، أم أنَّ ذلك النور وتلك الصدفة كانت وابلًا من الويلات على الإنسان وخطت طريقه للهاوية! وللحديث بقية.. ** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس


جريدة الرؤية
٢٩-٠٦-٢٠٢٥
- جريدة الرؤية
الإشعاعات النووية: وميض أمل أم ظلال خطر؟! (2)
التخصيب العالي لليورانيوم: ما وراء الأرقام؟ أ. د. حيدر أحمد اللواتي ** تحدثنا في مقالنا السابق عن خطر الإشعاعات النووية المختلفة وكيف يمكنها تدمير الخلايا البشرية، وهنا قد يطرح البعض سؤلًا مُهمًا مفاده: إذا كانت هناك مخاطر بالغة الخطورة تنتج من هذه الإشعاعات النووية، فلماذا السعي نحو تطوير تقنيات قائمة عليها؟ وما هي الفوائد المرجوة؟ وهل هذه الفوائد تعادل المخاطر أو تفوقها قيمة؟ يكمُن السبب الرئيسي في محاول امتلاك هذه التقنيات في بحث العالم عن الطاقة؛ إذ اتِّضح لنا أن أي تقدم مهما كان نوعه يحتاج إلى مصدر للطاقة، وكلما كان المصدر المستخدم غنيًا بالطاقة كانت فائدته أكبر وأكثر نفعًا، وهذا ما تتميز به الطاقة النووية؛ فالطاقة الناتجة من جرام واحد من اليورانيوم تفوق بـ4500 مرة الطاقة الناتجة من استخدام 1 جرام من النفط! هذا إذا كان اليورانيوم المستخدم منخفض التخصيب (3 إلى 5%)، أما إذا كان عالي التخصيب كأن يكون 60%، فإن الطاقة الناتجة من 1 جرام من اليورانيوم حينها ستفوق ملايين المرات الطاقة الناتجة من 1 جرام من النفط! وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الدول تسعى للحصول على هذه التقنية المُهمة. والمقصود من عملية التخصيب هو تحويل نظير اليورانيوم 238 إلى 235، وهناك نظيران لليورانيوم في الطبيعة، الأول يورانيوم 238 ويُشكِّل ما نسبته 99.3%، بينما الثاني يُشكِّل ما نسبته 0.07% ويُعرف باليورانيوم 235، وهو الذي يتم استخدامه في المفاعلات النووية، ولأن نسبته بسيطة فلا بُد من تحويل جزء من اليورانيوم 238 إلى 235، وعندما نقول إنَّ نسبة التخصيب وصلت إلى 5% فإنَّ ذلك يعني أننا حصلنا على 5% من اليورانيوم 235. وللحد من خطورة هذه الإشعاعات، فإنَّ أغلب الاستخدامات السلمية التي يتم فيها استخدام الطاقة النووية، لا تتجاوز نسبة التخصيب فيها 5%، وهذا هو الحال مثلًا مع محطة بوشهر الإيرانية، ووظيفتها الأساسية إنتاج الكهرباء لمختلف الأغراض السلمية. لكن هناك منشآت نووية أخرى لدى الجمهورية الإسلامية الإيرانية مثل فوردو ونطنز، تقوم بتخصيب اليورانيوم إلى نسب مرتفعة تصل إلى 60% من تخصيب اليورانيوم، علمًا بأنَّ نسبة التخصيب المستخدمة في السلاح النووي تصل إلى حوالي 90%، فهل يعني تخصيب اليورانيوم بنسبة 60% أن إيران قادرة على صنع أسلحة نووية؟ والجواب من الناحية التقنية: نعم، بإمكانها القيام بذلك؛ إذ تشير بعض الدراسات إلى أنَّ 20% من التخصيب يكفي لذلك، لكن المستوى المثالي لإنتاج أسلحة نووية متطورة وفعّالة يكون عادة عندما تصل نسبة التخصيب إلى حوالي 90%؛ لأنَّ هذا المستوى من التخصيب يسمح بتصغير حجم السلاح وتقليل وزنه مع تحقيق قوة تدميرية كبيرة، لذا فإنَّ السلاح النووي من اليورانيوم المُخصَّب بنسبة 60% سيكون أكبر حجمًا وأكثر وزنًا وأقل كفاءة من سلاح مصنوع من يورانيوم مُخصَّب بنسبة 90%. فهل يمكن لإيران أن تقوم بتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 90%، أم أنها لا تمتلك التقنيات للوصول إلى ذلك، والجواب إن التقنية اللازمة لتخصيب اليورانيوم إلى 90% لا تختلف عن تلك المستخدمة للوصول إلى 60%، والسبب هو أنَّ عملية التخصيب تتم على مراحل متتابعة باستخدام أجهزة الطرد المركزي، فيمكن استخدام نفس تقنية الطرد المركزي وتكرار العملية للوصول إلى 90% بسهولة نسبيًا. وتدَّعي الولايات المتحدة والدول الغربية أنهم يخشون ذلك؛ اذ يشير عدد من التقارير إلى أن إيران هي الدولة الوحيدة في العالم والتي لا تمتلك سلاحًا نوويًا ومع ذلك فإنها تمتلك القدرة على تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%؛ حيث إن جميع الدول التي تستخدم الطاقة النووية للتطبيقات السلمية تقوم بإنتاج يورانيوم مُخصَّب بنسبة لا تزيد عن 5%، بينما تُصِر إيران على أن إنتاجها لهذا المستوى المرتفع من التخصيب، إنما هو لأغراض سلمية بحتة. فهل تسعى إيران لامتلاك سلاح نووي؟ وإذا لم تكن تسعى لذلك، فلماذا تقوم بتخصيب اليورانيوم لهذا المستوى العالي من التخصيب الذي يفوق الاستخدامات السلمية بحوالي 12 ضعفًا؟! وللحديث بقية... ** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس