logo
كيف استخدم ملوك مصر القديمة الفن "أداة حكم" سياسية ودينية؟

كيف استخدم ملوك مصر القديمة الفن "أداة حكم" سياسية ودينية؟

مصراويمنذ يوم واحد
(بي بي سي)
لعب الفن في مصر القديمة دوراً محورياً تجاوز حدود الجمال والزخرفة، ليصبح "لغة" رمزيّة فعّالة تعبّر عن السلطة والإيمان والهوية الجمعية؛ فلم يكن النحت والرسم والنقش الفني مجرد أعمال تستوحي موضوعها من الخيال، بل وسيلة تواصل تنقل من خلالها الدولة أفكارها، وتُكرِّس مفاهيمها، وتُرسّخ شرعيتها السياسية والدينية أمام الشعب والإله على حدّ سواء.
استخدم الملوك الفن كأداة سياسية، وظهروا من خلاله بصورة مثالية، وقدَّموا أنفسهم كأبناء للإله أو كممثلين للعدل والنظام على الأرض، وبنفس المنطق والقوة وظّفه الكهنة ورجال الدين لتسجيل تفاصيل الطقوس الإيمانية، وتمجيد الإله، وتأكيد الروابط الروحية بين الناس والمقدّس، وترسيخ سلطتهم الدينية، وهكذا أصبح الفن مرآة حقيقية و"لغة تواصل" داخل المجتمع المصري القديم، يُترجم قِيَمَه ويُدوِّن رؤيته للعالم الأرضي والسماوي، وعالم ما بعد الموت، بوسيلة تعبيرية شاملة.
وغطى الفن المصري القديم مرحلة امتدت لما يزيد على أربعة آلاف عام، ونستعرض هنا سر هذه الاستمرارية الأساسية في وسائل التعبير، ونسعى للإجابة عن تساؤلات من بينها: ما هي فلسفة ودوافع هذا التنوع الفني الهائل لدى المصري القديم بأساليب مختلفة؟ ولماذا بُنيت تلك الصروح الأثرية بأحجام شامخة؟ ولماذا حرص الملوك على نحت تماثيل عملاقة لهم ووضعها في واجهة المعابد الدينية؟ وما سر اجتهاد الفنان في رسم ونقل حركات وايماءات من الحياة اليومية ومشاهدها على جدران المعابد والمقابر؟.
تخلق الصورة دائماً واقعاً لما تمثله في تاريخ مصر القديم، ولذا، كان وجودها هو المهم وليس فقط أن تكون موضوعاً للبحث والتأمل؛ فبعد أن أدرك المصريون صعوبة الإحاطة بالواقع من جميع جوانبه بسبب محدودية حاسة الإبصار، أقدموا على تشييد "بناء ذهني" حقيقي للصورة، جامعين في تآلف فني متناسق، عدداً كبيراً من الرؤى الفكرية داخل المشهد الواحد.
وتقول العالمة الفرنسية كلير لالويت في دراستها "الفن والحياة في مصر القديمة": "يستطيع الفن أن يجسد شكلاً ما، أو يعيد خلقه من جديد، من هنا تأسست فلسفة الفن المصري القديم الذي اعتبر رسم الأشكال وكأنه عملية خلق جديدة، بل هو ثمرة تحليل واع وذاتي...، فعلى مدى آلاف السنين تطور الفن المصري تطوراً هائلاً، لكنه بالرغم من ذلك بقي على وفائه وإخلاصه لمطلبه الأساسي، ألا وهو: الاتحاد بين الملموس والفكرة السامية، وإقامة علاقة بين الأشكال النابضة بالحياة، والخلود بواسطة التماثيل أو الرسوم".
وتضيف أن "المفهوم الخاص بالحياة والموت هو المحرك الأساسي للفن" في مصر القديمة.
ويمكن تقسيم المدارس الفنية عبر عصور مصر القديمة إلى أربع مدارس، بحسب دراسة عالم الآثار المصري عبد الحليم نور الدين "تاريخ وحضارة مصر القديمة"، وهي المدرسة المثالية (التي أظهرت أصحابها في أفضل صورة ممكنة)، والمدرسة الواقعية (التي عبّرت عن واقع أصحابها وعصرها وانسحبت على الطبقات الدنيا)، والمدرسة المثالية الواقعية (وهي مزيج بين المدرستين السابقتين)، والمدرسة الآتونية (أو فن العمارنة في عصر الملك أخناتون)، وقد ظل لهذه المدارس وجودها على امتداد الحضارة المصرية، وإن ازدهر بعضها على حساب الآخر في بعض الفترات.
وعن المدرسة الآتونية يفسر نور الدين قائلاً: "لما كان الإله آتون هو الإله الذي خلق نفسه بنفسه، وهو صورة من إله الشمس الذي لم يخلقه أحد، جاءت تماثيل وصور الملك أخناتون (1360-1343 قبل الميلاد) وأسرته معبّرة عن تلك الصفة التي يتميز بها آتون، من حيث أنها جمعت بين الذكورة والأنوثة في تكوين واحد، وكأن أخناتون عمد – وهو يظهر نفسه بهذه الهيئة – أن يؤكد للناس في كل مكان أنه التجسيد البشري لذلك الإله الذي خلق نفسه بنفسه".
كما تميّز الفن المصري القديم بفلسفة تقوم على الرمزية والوظيفة، لا على المحاكاة الواقعية أو الجمال المجرد، إذ كان الهدف من العمل الفني هو أداء وظيفة محددة، سواء دينية أو جنائزية أو سلطوية، عكست هذه الأساليب إيمان المصريين القدماء بمفهوم "ماعت" الذي مثّل النظام والعدالة، فجاءت أعمالهم الفنية معبرةً عن الثبات والديمومة والاتساق مع الكون الإلهي.
وتجلّت دوافع وفلسفة الفن بوضوح في العديد من الآثار التي لا تزال شاهدة على ذكاء حضاري، فعلى جدران معبد الكرنك، على سبيل المثال، نجد نقوشاً تمجّد انتصارات الملك تحتمس الثالث (1479-1424 قبل الميلاد)، وهي نقوش استُخدمت لترسيخ هيبته وسلطته بوصفه حاكماً مختاراً من الإله، وهو ما يعبّر عن الوظيفة السياسية والدينية للفن في آن واحد.
كما تعكس تماثيل رعمسيس الثاني (1279-1212 قبل الميلاد) في معبد أبو سمبل مفهوم القوة الإلهية، إذ صُوّر الفرعون بهيئة جبارة تمزج بين الإنسان والإله، في تجسيد لفكرة الحكم الإلهي.
كما وظف الملك رعمسيس الثاني الفن في التعبير عن مكانة محبوبته وزوجته الملكة نفرتاري في مقبرتها في وادي الملكات، وظهر البُعد الجنائزي والديني للفن في أبهى صوره، حيث تزيّنت جدران المقبرة بمناظر تُظهر الملكة وهي يستقبلها الإله في العالم الآخر، في تصوير يهدف إلى تأمين خلود روحها.
وتبرز هذه الأمثلة كم كان الفن المصري القديم ليس مجرد وسيلة زخرفية، بقدر ما كان يحمل رسالة سياسية وروحية وفلسفية عميقة ووسيلة للتواصل مع الشعب والعالم الإلهي، بهدف ترسيخ مفاهيم الخلود وجعل الحياة الأرضية متناغمة مع الإرادة الإلهية، فضلا عن ضمان استمرار هذا التناغم بعد الموت في عالم أبدي يتسم بالنظام والسلام.
كشف لنا المجتمع المصري القديم عن مكوناته وعناصره المتباينة بواسطة النقوش البارزة والتماثيل والرسوم، والتي تعتبر بمثابة معرض تصوير ضخم عن الملوك وكبار شخصيات تلك الفترة بأكملها، بالإضافة إلى القادة العسكريين وكبار أفراد الشعب المصري. وبفضل الفن، أُحطنا علماً كذلك بالشعوب الأجنبية، وسهل علينا تمييزها من خلال خصائصها العرقية وملابسها وصفاتها المختلفة.
وتصف نينا ديفيز في دراستها "مختارات من فن التصوير المصري القديم"، نقلا عن موسوعة الحضارة المصرية القديمة لسمير أديب، الفن المصري بأنه "له في أعماله تقاليد خاصة تبرز النواحي التي يريد الإفصاح عنها، والتعبير عن مدلولها بأيسر وسائل الأداء، في الرسم واللون والتوزيع والاتزان والتنسيق. فتجد الصورة الجميلة تدعوك إلى مشاهدتها وترغمك على الإعجاب بها بالشكل والوضع والروحية التي أرادها لها صانعوها، في الوقت الذي تخالف فيه هذه الصورة في جوّها وتكوينها ما يألفه المرء في الفنون المعاصرة".
وحرص الفنان القديم على رسم أشخاصه تبعاً لمركزهم في البلاد، فصور الإله والملوك بحجم كبير نوعاً ما ومتميزاً بما يتفق مع مكانتهم أمام الشعب، وهي أحجام تفوق في ارتفاعها حجم كبار الموظفين، وتتفق مع الوقار المحيط بالملوك والإله ومع مركزهم الاجتماعي في الدولة، كما صُور كبار رجال الدولة في حجم أكبر نوعاً ما من صور الأشخاص الممثلين لأفراد الشعب.
كما استخدم الفن في تصوير الإله والملوك أوضاعاً محددةً بغية توجيه رسالة تنم على مكانتهم وفي أيديهم إمارات الشرف مثل "الصولجان" و"العصا الطويلة"، وذلك بحيث لا يخفي جزء من الجسم جزءاً آخر أو يقطعه.
ويرى العالمان الفرنسيان، كرستيان زيغلر وجان لوك بوفو، في دراستهما "الفن المصري" أن الفنان "كان يضع جنباً إلى جنب، صوراً عديدة لنفس الشيء، ووجهة نظره لها مغزى محدد، ألا وهي أن ننظر إلى نفس الشيء، من زوايا مختلفة، وذلك لنتمكن من تكوين صورة إجمالية للشيء الذي نصوره".
ويضيفان: "طريقة تقديم (تصوير/تمثيل) الشيء، هي نفسها حقيقة هذا الشيء. فهذا التقديم، الذي لا تنطبق عليه قواعد المنظور، خلق أعرافاً فنيةً ذات قوة إلزام إجبارية" لمن يراها.
ويُعَدّ توحيد القطرين، الوجه البحري والوجه القبلي، على يد الملك نعرمر (حوالي 3150 قبل الميلاد) نقطة تحول مفصلية في التاريخ المصري القديم، وقد لعب الفن دوراً محورياً في تخليد هذا الحدث المهم وتأكيد رمزيته السياسية والدينية.
وسُجّل الحدث على صلاية من حجر الشست الإردواز، تعرف بصلاية نعرمر الشهيرة، والتي تُعدّ واحدة من أقدم الأعمال الفنية الرمزية في تاريخ الحضارة المصرية، حيث تُصوّر الملك نعرمر وهو يضرب أعداءه، ويرتدي في أحد وجهي اللوحة التاج الأبيض لمصر العليا، وفي الوجه الآخر التاج الأحمر لمصر السفلى، في دمج بصري قوي يرمز إلى وحدة أرض مصر تحت سلطانه.
كما امتلأت رموز اللوحة ومكوناتها بإشارات بصرية دقيقة تعبّر عن القوة والسيطرة الإلهية، مثل ظهور الإله حورس، وتجسيد الأعداء في هيئة مقهورة، مما يدل على أن توحيد قُطريّ البلاد لم يكن مجرد نصر سياسي، بل قُدَّم كفعل مقدّس برعاية الإله، وهكذا أصبح الفن في هذه الحقبة أداة بارعة لترسيخ صورة الملك كمُوحِّد ومُنقذ للبلاد، وجاءت رموز الوحدة مؤكدة على أن الملك ليس فقط حاكماً، بل هو الضامن للنظام الكوني والنظام السياسي في آنٍ واحد.
ويقول الفرنسيان كريستيان زيغلر وجان لوك بوفو: "كل تقاليد وأعراف الفن المصري موجودة هنا (في صلاية نعرمر)، وهناك كذلك الدليل على مولد الكتابة، هذا الدليل هو ذلك الشيء الذي يصور العلاقة الوثيقة التي تربط بين الصورة والكتابة.
وهناك كذلك إدراج أو إدخال كل العلاقات التي تدخل في تكوين الفضاء، أو الحيز الذي يشغله التشكيل الفني".
كما لعب الفن دوراً بوصفه أداة رئيسية لتأكيد شرعية حكم الملك الفرعون وإضفاء طابع إلهي على سلطته، فلم يكن تصوير الملوك عشوائياً، بل كان محسوباً بدقة ليُظهر الملك دائماً في صورة مثالية: شاباً، قوياً، مهيباً، وأكبر من أعدائه أو تابعيه حجماً، كما ذكرنا.
فعلى جدران المعابد، كان يُصوَّر الملك وهو يهزم الأعداء بـ "يد واحدة"، في دلالة فنية رمزية على قوته الخارقة وحمايته لأرض مصر، وأبرز مثال على ذلك، رسوم معركة "قادش" الشهيرة في عهد رعمسيس الثاني، والتي صُوّرت على جدران معبد أبو سمبل، وعلى الرغم من أن النتيجة الفعلية للمعركة كانت غير حاسمة تاريخياً، إلا أن الفن هنا لم يسجل الحقيقة فحسب، بل شكّل رواية سياسية تخدم صورة الفرعون كبطل منتصر لا يُهزم.
ولم يقتصر الفن السياسي على الجداريات، بل شمل أيضاً المعمار والتماثيل الضخمة، فالأهرامات نفسها كانت رمزاً للسلطة والخلود، وبُنيت لتُجسّد عظمة الملوك وقدرتهم على الانتقال للعالم الآخر مع الإله.
كما استخدم الملوك تماثيلهم الموضوعة أمام المعابد، مثل تماثيل رعمسيس الثاني في أبو سمبل، لإظهار الهيبة والسيطرة على المناطق الجنوبية للبلاد، وإرهاب الشعوب المجاورة وإبهارهم بحجم وقوة مصر ممثلةً في ملكها، فجاء هذا النوع من الفن المعماري ليس بهدف التعبير عن الجمال، بل كان رسالة سياسية حاسمة في الداخل والخارج.
وكان الملوك يتحكمون في كيفية تسجيل الأحداث، وبالتالي استخدموا الفن كوسيلة لكتابة "التاريخ الرسمي" بالطريقة التي تخدمهم، فعلى جدران المعابد، لم تكن تُسجل الهزائم أو الصراعات الداخلية، بل فقط الانتصارات والمشاريع المعمارية العظيمة والقرابين المقدمة للإله، ومن خلال هذا التوثيق الفني، جرى بناء سردية تُعظّم الحاكم وتُخفي نقاط ضعفه، مما رسّخ في الأذهان صورة محددة "لا تقبل الشك" لكونها منقوشة على حجارة المعابد وتُعرض في أقدس الأماكن.
وتميّز عهد الملك رعمسيس الثاني، على سبيل المثال، باستخدام مكثّف للفن كوسيلة سياسية ودينية هدفها ترسيخ صورته كحاكم قوي، شبه إلهي، يتمتع بعلاقة خاصة مع الإله، ويحكم بتفويض إلهي مباشر.
وقد تجلّى هذا التوظيف بوضوح في معابده الضخمة وتماثيله، كما في معبد أبو سمبل، حيث صُوّر رعمسيس جالساً متربعاً جنباً إلى جنب مع آلهة، داخل قدس الأقداس، في رسالة بصرية مفادها أنه ليس فقط ملكاً، بل شخصاً ذا طبيعة إلهية، وهكذا استخدم رعمسيس الثاني الفن ببراعة لدمج السياسي بالديني، وجعل من صورته رمزاً خالداً للقوة والخلود في ذاكرة التاريخ المصري.
ولم يكن الفن موجّهاً للناس فقط، بل كان يُستخدم أيضا لإيصال رسائل ملكية إلهية، وكأن الفن نفسه وسيلة تواصل سماوية، فكانت المعابد تمتلئ بالنقوش التي تُظهر الملك وهو يُقدّم القرابين للإله، للتأكيد على علاقته المباشرة به ودوره كوسيط بينه وبين الشعب، هذه المشاهد كانت تحمل في طيها رسائل سياسية بمذاق ديني موجهة للشعب أيضاً، تفيد بأن طاعة الملك تعني طاعة الإله، وتعني عدم الطاعة خروجاً عن النظام الكوني المقدس المعروف بـ"ماعت"، وبالتالي، أصبح الفن جزءاً لا يتجزأ من منظومة تثبيت السلطة وتقديسها في نظر الناس.
وتُعدّ الملكة حتشبسوت (1472-1457 قبل الميلاد) أبرز مثال على استخدام الفن لتعزيز شرعية الحُكم في مصر القديمة بأسلوب مزج الدنيوي المتعارف عليه بالديني المقدس، لا سيما وأنها تولّت العرش في سياق غير تقليدي بصفتها امرأة في منصب كان يحتكره الرجال.
فمنذ بداية حُكمها، حرصت حتشبسوت على توظيف الفن بكل عناصره لترسيخ صورتها كأنها "ملك فرعون شرعي"، وليست وصية على العرش، فقد صوّرت نفسها في التماثيل بزيّ الملوك الرجال، مرتديةً التاج الملكي واللحية المستعارة، وبتكوين جسدي يُقارب الصورة التقليدية للملك الفرعون الرجل، وذلك لكسر الحاجز بين جنسها "الأنثوي" وطبيعة المنصب أمام الشعب.
كما زُيّنت جدران معبدها الشهير في الدير البحري بمشاهد تصويرية تُظهِر دعم الإله آمون لها، وقصص أسطورية تُثبت نسبها الإلهي، مثل نقش شهير يعرف بمشهد "الميلاد الإلهي"، الذي يُصوّرها كابنة مباشرة من صُلب الإله، في محاولة لتقديم شرعية دينية تُعزز مكانتها السياسية، وهكذا سخّرت حتشبسوت الفن كأداة ذكية لإعادة تشكيل تصور المجتمع عن الحُكم والهوية، وضمان استمرار سلطتها وسط نظام تقليدي صارم.
وبعد وفاة الملكة حتشبسوت، سعى الملك تحتمس الثالث (1479-1424 قبل الميلاد)، الذي شاركها الحكم لفترة طويلة، إلى تثبيت سلطته بشكل مطلق، فبدأ حملة ممنهجة مستعيناً أيضاً بناصية الفن كأداة لمحو ذكراها وهدم إرثها السياسي والديني. فعلى الرغم من أنها لم تكن غاصبة للسلطة بل وصية عليه في طفولته، إلا أن تحتمس الثالث نظر إلى حُكمها كتهديد رمزي لنظام الحكم التقليدي، فشرع في تشويه صورها ونقوشها في المعابد، ولا سيما في معبدها الجنائزي بالدير البحري، وهي قضية أثارت حيرة علماء تاريخ مصر القديم بين مؤيد ومعارض.
لجأ الفنانون في عهده إلى طمس ملامحها من الجداريات، وتكسير تماثيلها، وكتابة أسماء أخرى مكان اسمها، بل وأحياناً ترك الفراغات بلا نقش، في إشارة إلى إنكار وجودها تماماً، وكان هذا الطمس ممنهجاً ودقيقاً له أهدافه الدينية أيضاً.
لم يكتف تحوتمس الثالث بمحو صور حتشبسوت في الحياة، بل سعى لطمسها من الأبدية، نظراً لإيمان المصريين القدماء بأن الخلود مرتبط بذكر الاسم وصورة المتوفى، وهكذا أصبح الفن، الذي استخدمته حتشبسوت لترسيخ شرعيتها، أداة استخدمها ضدها خليفتها لاحقاً لطمس تلك الشرعية، في واحدة من أوضح صور الصراع السياسي في التاريخ المصري القديم.
ويقول العالم المصري رمضان عبده علي في دراسته "حضارة مصر القديمة": "في معبد الدير البحري نجد اسمي تحوتمس الثالث وابيه قد نُقشا في أماكن عديدة بدلاً من اسم حتشبسوت، كما أحاط المسلات التي أقامتها الملكة بالكرنك بأبنية حتى لا يظهر منها سوى القمة فقط".
ويضيف: "على الرغم من أن هذه الأعمال توضح لنا مدى ما كان يحمله (تحوتمس الثالث) من كره عميق لهذه الملكة، التي كانت السبب في تعاسته وإهماله في السنوات الأولى من حياته، فإنه كان ذو طابع لطيف ورقيق، فكان يحب نحت التماثيل وجمع الأزهار النادرة، ونقرأ أيضاً أن من الهدايا الثمينة التي أمر تحوتمس الثالث بصنعها لإهدائها إلى معبد آمون رع في الكرنك أوانٍ رسم تصميمها بنفسه".
وعن براعة استخدام الفن، لاسيما فن النحت، في ترسيخ شخصية كل منهما ورسم ملامحهما في ذهن كل من شاهد تمثالاً لحتشبسوت أو تحوتمس الثالث حتى وقتنا هذا، على سبيل المثال، يرى عبده أن الفنان المصري "جمع في تماثيل الملوك بين المثالية والجمال. وبلغت مدارس النحت غايتها في تماثيل الملكة حتشبسوت، التي مثلها أهل الفن في عصرها بأنوثة حلوة ناضجة، ولم يستثنوا من هذه الأنوثة وجوه التماثيل التي مثّلوا ملكتهم فيها رابضة على هيئة أسد".
وأضاف: "كما بلغت غاية أسمى في تماثيل تحوتمس الثالث الذي جمع فيها النحاتون بين الفتوة ورقة الطابع ونبل المشاعر، ومنها ما يصور الملك واقفاً وجاثياً خاشعاً ورابضاً على هيئة أسد".
بناء على ما سبق ظلت الصورة التي رسمها الفنان المصري القديم، تحوي في عقيدته عنصراً حيوياً وحياً فيما تمثله، فسواء مثلت الصورة إنساناً أو حيواناً أو شيئاً، فهي تمثل عموماً نوعاً من "الخلق" ينم عن جوهر ما تمثله وتكون جزءاً من شخصيته تتأثر به وتؤثر فيه، فالصورة مادامت كاملة فهي تمثل صاحبها كاملاً، وإذ تصدعت تصدع، وإن طُمست اختفى ذكره إلى الأبد، فالصورة تعبر عن "حقيقة" صاحبها وعن "حقيقة" المنظر، بمعنى أن العقائد الدينية والفكرية ألزمت الفنان باتباع هذه "الحقيقة" وهذا المنطق في أعماله على مر العصور.
كان الفن في مصر القديمة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة الدينية، واعتُبر وسيلة مقدسة للتقرب من الإله وتمجيده، فالمعابد كانت مزيّنة بنقوش وجدران مليئة بالصور الرمزية للإله، وكل إله كان له ألوانه ورموزه وهيئته الخاصة، كانت هذه الصور وسيلة لفهم صفات الإله ومجاله الروحي، وبالتالي لم يكن الفن هنا وسيلة جمالية، بل أداة "تعليمية" و"تعبّديّة" ترسّخ معتقدات دينية بشكل بصري مؤثر، مثالاً على ذلك، الإله أوزير الذي كان يصور دوماً بلون أخضر رمزاً للحياة والبعث، أما ربّة الحق "ماعت" فكانت تُصوَّر بريشة على رأسها رمزاً للعدالة والنظام.
كان الإيمان بالحياة بعد الموت أحد الركائز الأساسية في العقيدة المصرية القديمة، وقد اضطلع الفن بدور محوري في تجسيد هذا الإيمان بصرياً، فغدت مقابر الملوك وغيرهم بمثابة عوالم متكاملة، تُصوَّر على جدرانها مشاهد تُظهر المتوفى وهو يواصل حياته في العالم الآخر، يأكل، ويشرب، ويمارس طقوسه، وكأن الفن يمنحه حياة أبدية.
واختلف الموضوع الفني للمناظر المنقوشة على الآثار بحسب الغرض الذي أنشيء الأثر من أجله، ففي المعابد خُصصت الجدران الخارجية لتسجيل أعمال الملك المهمة أمام الشعب، أما القاعات والأروقة الداخلية كانت تُخصص غالباً للمشاهد الدينية فقط.
وفي مقابر الملوك، التي مُثلت فيها المناظر بالنقش أو الرسم التصويري، كانت الموضوعات دينية وجنائزية فقط، ومنها مناظر تمثل الكتب الدينية، إذ صوّر الفنان، على سبيل المثال، مشاهد من فصول كتاب "الخروج إلى النهار"، المعروف اصطلاحاً بـ "كتاب الموتى"، لمرافقة روح الملك أو المتوفى في رحلته إلى الآخرة، وتقديم مشاهد الحساب والبعث، فأصبح الفن وسيلة بصرية وشريكاً روحياً في العقيدة، يُجسّد المعتقد ويُفعّله.
كما لعب الكهنة دوراً بالغ الأهمية في إنتاج الفن الديني وتوجيه رموزه، إذ أولوا عناية فائقة بأدق تفاصيل النقوش والتماثيل، حرصاً منهم على أن تتوافق مع العقيدة وتحمل طاقة روحية مقدسة للمؤمن، فجاءت وضعية الأيدي، وحركات الجسد، وترتيب العناصر داخل النقوش، جميعها تحمل دلالات دينية عميقة، وكان من المألوف أن يُصوَّر الكهنة وهم يمارسون الطقوس أو يقدمون القرابين للإله، في تجسيد رمزي لدورهم كحلقة وصل بين العالم الأرضي والعالم الإلهي أمام المؤمنين.
وتقول لالويت في دراستها "الفن والحياة" إن المصريين القدماء "تميزوا، دون سواهم، بقوة العقيدة الدينية وعمقها، فكلمة (ديانة) كانت تعني التعامل، والصلة التي تربط بين البشر والإله".
وتضيف لالويت في دراستها "الفراعنة في زمن الملوك الآلهة" أن الفن المصري "فن نفعي، ولكن نفعيته على أكبر قدر من السمو، إنه فن يلعب دور الوسيط بتطلعه إلى الخلود، الأمر الذي يفسر وجود أعداد كبيرة من التماثيل والاهتمام بتشابهها فيما يتعلق بالوجه على الأقل، في حين كان من الممكن تجميل الجسد بعض الشيء، لضمان أن يحيا الإنسان شباباً أبدياً، وهو ما يفسر أيضاً مبادئ التعبير التصويري".
إن الروابط الوثيقة القائمة بين الملك والإله، هي الأصل الذي نشأت عنه كثير من الإبداعات التشكيلية الفنية التي بلغت أحياناً حداً فريداً من الشموخ، فنذكر على سبيل المثال تمثال الملك خعفرع (2437-2414 قبل الميلاد) المتربع على عرشه، ويظهر صقر الأسرة الملكية وهو يبسط جناحيه خلف رأس الملك لينقل له القوة الروحية، كما يشكل جناحا الطائر الإلهي وحدة متناغمة مع غطاء رأس الملك كإيماءة إلى الاتحاد الطبيعي الذي لا ينفصم بين الإله والملك.
وتقول لالويت: "الفن المصري ليس فناً سهلاً، بل يتضح أنه فن قائم على إعمال الفكر، يريد إدراك الواقع واستجلاءه، من كافة جوانبه المكانية وعبر امتداد زمني. فبعد أن يُبعث الإنسان حياً يصبح في وسعه الاستفادة من حياة الكون استفادة شاملة (للزمن الأبدي والزمن اللامحدود)، وإذا كانت طرق فناني مصر القديمة قريبة من طرق فنانينا المعاصرين، فإن البواعث التي كانت تحركهم مختلفة كل الاختلاف".
ويتّضح من خلال تتبع مسار الفن في مصر القديمة أن الفن لم يكن مجرد وسيلة زخرفية لا معنى لها، بل يحمل بُعداً أعمق وأقوى، يجمع بين السلطة والإيمان، استخدمه الملوك في ترسيخ حكمهم، وبث رسائل سياسية تؤكد قوتهم ومكانتهم الإلهية، في حين استُخدم نفس الفن لتوصيل معتقدات دينية، وتأكيد الصلة بين الإنسان والإله، وتوثيق رحلة الروح بعد الموت، وبذلك، أصبح الفن في الحضارة المصرية القديمة "لغة بصرية" كاملة، تنطق بكلمات لا تفوه بها الشفاه، وتُخلِّد رؤية مجتمع عاش على التوازن بين الحكم والقداسة، وبين الأرضي والسماوي، وبين الزمني والأبدي.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

أخبار العالم : ما الذي يجعل كأس العالم للرياضات الإلكترونية في السعودية حدثاً مهماً يتجاوز الرياضة والترفيه؟
أخبار العالم : ما الذي يجعل كأس العالم للرياضات الإلكترونية في السعودية حدثاً مهماً يتجاوز الرياضة والترفيه؟

نافذة على العالم

timeمنذ 20 ساعات

  • نافذة على العالم

أخبار العالم : ما الذي يجعل كأس العالم للرياضات الإلكترونية في السعودية حدثاً مهماً يتجاوز الرياضة والترفيه؟

الأحد 6 يوليو 2025 08:40 مساءً نافذة على العالم - صدر الصورة، Getty Images Article Information Author, محمد القاعود Role, محرر الرياضة- بي بي سي عربي قبل 2 ساعة تشهد الرياضات الإلكترونية في جميع أنحاء العالم نمواً كبيراً، مدفوعاً بزيادة عدد المشاهدين وفرص الرعاية والشعبية المتزايدة للألعاب التنافسية بين الفئات السكانية المتنوعة، في الوقت الذي تحولت فيه هذه الألعاب إلى هوس حقيقي لعشرات الملايين من الشباب في مختلف أنحاء العالم. وتستضيف المملكة العربية السعودية خلال يوليو/تموز الجاري ولمدة سبعة أسابيع، النسخة الثانية من كأس العالم للرياضات الإلكترونية، وهو أكبر حدث تنافسي في تاريخ الألعاب، إذ يجمع نخبة بطولات الألعاب الإلكترونية تحت مظلة واحدة، ويُقام سنوياً في العاصمة السعودية الرياض. وفي نسخة 2025، يرتقي الحدث إلى مستوى غير مسبوق، من خلال التنافس في 24 من أهم الألعاب وأكثرها جماهيرية، بمشاركة 2000 لاعب من 100 دولة، يتنافسون على أكبر مجموع جوائز مالية على الإطلاق في تاريخ الرياضات الإلكترونية، ويبلغ أكثر من 70 مليون دولار وفق ما أعلنته اللجنة المنظمة. واستقطب الحدث العام الماضي، 500 مليون مشاهدة عبر الإنترنت، وشهد حضوراً جماهيرياً تجاوز 2.6 مليون شخص حسبما أعلن المنظمون. الرياضات الإلكترونية وتعزيز الاقتصادات الإقليمية ويفتح كأس العالم للرياضات الإلكترونية آفاقاً جديدة أمام الشركات المحلية والإقليمية للاستفادة من هذه الفرصة الاقتصادية الضخمة، كما أنه يوفر منصة مثالية للمبدعين لعرض مواهبهم وإبداعاتهم أمام جمهور عالمي واسع. وتشكل البطولة منصة حيوية لدعم المبدعين والمطورين المحليين، إذ تُقدم لهم فرصاً غير مسبوقة للنمو والابتكار. فمن خلال التعاون مع شركات الألعاب العالمية واستضافة البطولات الكبرى، يتمكن المطورون المحليون من اكتساب خبرات جديدة وتطوير مهاراتهم التقنية، كما يمكنهم الاستفادة من الدعم المالي والاستثماري لتعزيز مشاريعهم وتحقيق نمو مستدام. هل تكون الرياضات الإلكترونية بمثابة "نفط السعودية الجديد"؟ ويُعد قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية واحداً من 13 قطاعاً يتم إعطاؤها الأولوية ضمن رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى تنويع اقتصاد المملكة التي تعد الدولة الأكثر تصديرا للنفط على مستوى العالم وتعتمد عليه بشكل رئيسي في اقتصادها. ومن بين الأهداف، أن تصبح المملكة مركزاً عالمياً للألعاب والرياضات الإلكترونية، إذ تتقدم الرياض بخطوات ثابتة نحو هذا الهدف بفضل سلسلة من المشاريع الاستباقية، والاستثمارات الذكية عبر المنظومة، واستضافة بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية التي تعتبر أحد هذه المشاريع. وتُعد المملكة أول دولة في العالم تطلق استراتيجية وطنية للألعاب الإلكترونية، بهدف خلق 39,000 وظيفة جديدة وزيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 50 مليار ريال سعودي بحلول عام 2030. ويُمثّل كل من كأس العالم للرياضات الإلكترونية ومؤتمر الرياضة العالمية الجديدة، بداية حقبة جديدة للألعاب والرياضات الإلكترونية، ليس فقط على مستوى المملكة العربية السعودية، بل على الصعيد العالمي، إذ فتح الحدثان التاريخيان آفاقاً واسعة لنمو قطاعي الرياضة والترفيه، ووضعا المملكة في صدارة الدول الرائدة في هذا المجال. ويقول الخبير الاقتصادي صبري ناجح لبي بي سي، إن "أي مسابقة يصل فيها حجم الجوائز إلى ملايين الدولارات، ستجذب دون شك الملايين من المتسابقين، لكنها أيضا تحقق الملايين، هذا ما يحدث في سوق الألعاب الإلكترونية حالياً، كونها تخطت مسألة الرفاهية والتسلية إلى مصدر دخل للكثيرين". ويضيف أنه "على الصعيد العالمي، هناك بطولة Fortnite World Cup بجوائز تخطت قيمتها 30 مليون دولار، وبطولة Dota 2 International بجوائز بلغت 40 مليون دولار، وبطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025 في الرياض بمجموع جوائز 70 مليون دولار". وفي عام 2022 بلغ حجم سوق الألعاب الإلكترونية العالمية 235 مليار دولار (بحسب تقديرات مؤسسة «نيوزو» Newzoo المتخصصة في إحصاءات الألعاب الإلكترونية). صدر الصورة، Getty Images وبحسب الموقع المتخصص في الإحصاءات «ستاتيستا»، استطاعت الولايات المتحدة الاحتفاظ بالنصيب الأكبر من سوق الألعاب الإلكترونية في العالم خلال عام 2022، بإيرادات وصلت إلى 55 مليار دولار من خلال 156 مليون مستخدم. في المقابل، بلغت إيرادات الصين التي تحمل لقب «عاصمة ألعاب الفيديو» 44 مليار دولار خلال العام 2022، رغم أن عدد اللاعبين فيها تجاوز 714 مليون شخص. ويوضح ناجح أنه "من هذه القاعدة تنطلق المنافسات بين الشركات والدول للحصول على حصة سوقية من هذه السوق الضخمة. ومن هنا جاءت منطقة الشرق الأوسط أو السعودية تحديداً في مقدمة الدول الناشئة للحصول على حصة سوقية من خلال المسابقات التي تنتجها وترعاها. ولك أن تتخيل أن أعداد مستخدمي الألعاب الإلكترونية قد وصل إلى أكثر من 3 مليارات لاعب حول العالم". ويوضح صبري ناجح أن متوسط العائد السنوي عن كل مستخدم في سوق ألعاب الفيديو، ارتفع من 58.9 دولار في عام 2019، إلى 80.18 دولار في عام 2022، مع توقعات بارتفاع العائد إلى قرابة 100 دولار هذا العام (وفق تقديرات نيوزوو). ويواصل ناجح: "هذه الأرقام تنقل المنافسة الاقتصادية إلى الواقع الافتراضي، خاصة وسط مساع بكين إلى إدراج الرياضات الإلكترونية لتكون ضمن الألعاب الأولمبية، ومن المتوقع أن تزداد الأرباح حينها إلى مستويات قد تتخطى قطاعات اقتصادية تقليدية". ويختم الخبير الاقتصادي بأن الألعاب الإلكترونية هي ابتكارات أولاً، من خلال تشجيع الشباب للدخول في قطاع التكنولوجيا الذي يرسم مستقبل الاقتصادات، ثم فرصة اقتصادية حقيقية، من خلال التسابق على حصة سوقية من قطاع الألعاب الإلكترونية، ولها أيضا أبعاد اجتماعية أخرى حيث يمكنك استخدام القطاع في تسويق بلادك، إذ تضمن وصول الهدف التسويقي إلى ما يقرب من 3 مليارات شخص حول العالم". هل تنجح السعودية في توظيف الألعاب الإلكترونية لتعزيز نفوذها الاقتصادي؟ صدر الصورة، Getty Images ومن الناحية الاقتصادية، يُتوقع أن يكون للبطولة تأثير كبير على السياحة والاقتصاد المحلي في السعودية، وقد تؤدي إلى جذب استثمارات إضافية في قطاع الرياضات الإلكترونية، وزيادة حركة السياحة الدولية. كما سيكون لها تأثير اجتماعي إيجابي من خلال توسيع قاعدة المشاركين والمشاهدين في الرياضات الإلكترونية، وهو ما سيعزز من تفاعل الشباب السعودي مع هذه الرياضات. وكأس العالم للرياضات الإلكترونية في السعودية هو حدث ينتظره الملايين من عشاق الألعاب حول العالم، إذ تعكس استضافة المملكة لهذه البطولة رؤيتها في استثمار التكنولوجيا وتعزيز مكانتها كمركز عالمي للرياضات الإلكترونية. ومع جوائز ضخمة، وتقنيات متقدمة، ومشاركة واسعة من اللاعبين الدوليين، فإن هذه البطولة ستكون محطة هامة في تاريخ الرياضات الإلكترونية، وستسهم في دفع عجلة النمو لهذا القطاع الحيوي في المنطقة والعالم. هل نعيش لحظة ولادة ثقافة إلكترونية جديدة؟ وتعتبر كأس العالم للرياضات الإلكترونية (EWC) حدثاً رياضياً سنوياً بارزاً، واحتفالاً عالمياً بالمنافسات النخبوية وشغف الرياضات الإلكترونية. وتتميز البطولة بنظام فريد يُعرف بـ "التجميع النقطي" عبر الألعاب Cross Gaming. وأصبح حفل افتتاح كأس العالم للرياضات الإلكترونية أكثر إثارة مع انضمام المغني الأمريكي بوست مالون، أحد عشاق الألعاب منذ فترة طويلة، وسيمزج العرض الحي الذي سيقدّمه خلال حفل الافتتاح في 10 يوليو/تموز بين أنغامه الشهيرة والاحتفال بثقافة الألعاب على أكبر مسرح تنافسي في العالم. ويمتلك بوست مالون، الفنان العالمي الحاصل على 9 شهادات ألماسية، جذوراً عميقة في مجتمع الألعاب والرياضات الإلكترونية، حيث يشارك في ملكية فريق OpTic Gaming، ويبث ألعاب Call of Duty: Warzone و PUBG و Hunt: Showdown على منصة تويتش، كما تعاون مع مطوري الألعاب في فعاليات داخل اللعبة، من بينها تعاونه الأخير مع لعبة Apex Legends. ويقول ميك مكابي الرئيس التنفيذي للعمليات في مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية لبي بي سي، إن "الرياضات الإلكترونية أصبحت قوة ثقافية عالمية، حيث تلتقي الموسيقى بالسرد القصصي والمنافسة لصناعة لحظات لا تُشاهد فقط، بل تُحس". وأضاف أنه "مع افتتاح البطولة بعرض لبوست مالون، نحن نخلق نغمتنا الخاصة، و هويتنا المميزة، بلغة عالمية توحّد الجماهير وتشكّل المستقبل الثقافي للرياضات الإلكترونية". ماذا وراء إطلاق السعودية لكأس العالم للألعاب الإلكترونية؟ رؤية اقتصادية أم إعادة تشكيل ثقافي؟ صدر الصورة، Getty Images وكان ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، قد أبدى اهتماماً بالغاً بتطوير قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية، مؤكداً أهمية هذا القطاع في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030. وفي إطار تعزيز هذا القطاع، أعلن بن سلمان عن استراتيجية مجموعة سافي للألعاب الإلكترونية (Savvy Games Group)، التي تمثل عنصراً رئيسياً فيما وصفها بـ"الاستراتيجية الطموحة" لتحويل المملكة إلى مركز عالمي لقطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية بحلول عام 2030، وتتبع المجموعة صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) الذي يترأسه ولي العهد. وتشمل الاستراتيجية ضخ استثمارات تبلغ قيمتها 142 مليار ريال سعودي في أربعة برامج تغطي مختلف أنواع الاستثمارات وعمليات الاستحواذ، ومنها تخصيص مبلغ 50 مليار ريال للاستحواذ على أفضل شركات نشر الألعاب وتطويرها، لتصبح شريكاً استراتيجياً فعالاً. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى إنشاء 250 شركة ألعاب محلية، وتوفير 39,000 وظيفة، وزيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي إلى 50 مليار ريال سعودي بحلول عام 2030. لماذا تراهن الرياض على مؤتمر الرياضة الجديدة لتغيير قواعد اللعبة؟ وبالتزامن مع كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025، يُقام مؤتمر "الرياضة العالمية الجديدة" كحدث رئيسي تنظمه مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية. ويهدف المؤتمر إلى أن يكون منصة استراتيجية تجمع بين قادة الصناعة المبدعين، وصناع القرار لاستكشاف الفرص الاقتصادية الهائلة التي يقدمها قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية. ويمثل المؤتمر فرصة ذهبية للصناعات الإقليمية للاستفادة من النمو السريع لقطاع الرياضات الإلكترونية. ومن خلال جلسات النقاش وورش العمل، سيتم تسليط الضوء على كيفية تطوير البنية التحتية المحلية ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة لتلبية الطلب المتزايد على الخدمات المتعلقة بالرياضات الإلكترونية. ما هي أبرز المسابقات في كأس العالم للرياضات الإلكترونية ؟ صدر الصورة، Getty Images ومن المقرر أن تشهد بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية تنافساً قوياً في مجموعة من الألعاب الإلكترونية الشهيرة التي تحظى بقاعدة جماهيرية كبيرة في 24 لعبة من فئات متنوعة. ومن بينها: الألعاب التنافسية (FPS)، والموبا، والقتال الفردي، والرياضة الافتراضية، والاستراتيجية الرقمية بما فيها الشطرنج. هل يتحول الترفيه إلى اضطراب نفسي؟ متخصصون يحذرون من الوجه الخفي للألعاب الإلكترونية ظاهرة الهوس بالألعاب الإلكترونية بين فئة الشباب لا تحدث من فراغ، بل ترتبط بعدة عوامل نفسية وسلوكية حيث تعتمد معظم الألعاب الإلكترونية الحديثة على نظام المكافأة الفورية، وهو ما يحفّز إفراز هرمون الدوبامين في الدماغ، المسؤول عن الشعور بالمتعة. وتقول الاختصاصية النفسية الأردنية شذى عبدالجليل لبي بي سي، إن "أسباب هوس الشباب بالألعاب الإلكترونية متعددة، منها الشعور بالفراغ الداخلي والشعور بالوحدة وحب الاستكشاف والفضول وتأثير الأصدقاء. فكلما كان وقت الفراغ أكثر كلما زاد الهوس بالألعاب الإلكترونية". وتتابع الاختصاصية: "أيضاً من أهم أسباب الهوس بالألعاب الالكترونية، الرغبة في الهروب من والواقع وعدم الرضا عنه، فالألعاب الإلكترونية عالم خيالي به أحداث كثيرة ومثالية نوعا ما، وربما يكون الأمر نوعاً من التفريغ الانفعالي حيث يقوم الشخص بتفريغ انفعالاته ومشاعره المكتومة ومنها الغضب في الألعاب الإلكترونية". وتوضح عبد الجليل أن "الهوس بالألعاب الإلكترونية هو تعبير عن حاجة نفسية، فربما يلجأ الشباب إليها لعجزهم عن تحقيق احتياجاتهم في الواقع، بسبب رفض الأهل لبعض المشاعر والسلوكيات مثلاً، فيتم التعبير عنها وتفريغها في الألعاب الإلكترونية وربما يكون لها اثار نفسية غير جيدة على الشباب".

أخبار العالم : من هو الدالاي لاما وكيف يعمل مبدأ التناسخ في البوذية التبتية؟
أخبار العالم : من هو الدالاي لاما وكيف يعمل مبدأ التناسخ في البوذية التبتية؟

نافذة على العالم

timeمنذ يوم واحد

  • نافذة على العالم

أخبار العالم : من هو الدالاي لاما وكيف يعمل مبدأ التناسخ في البوذية التبتية؟

الأحد 6 يوليو 2025 12:00 مساءً نافذة على العالم - صدر الصورة، Getty Images Article Information Author, سواميناثان ناتاراجان Role, خدمة بي بي سي العالمية قبل 37 دقيقة أكد الزعيم الروحي للتبت، الدالاي لاما، الذي يُتمّ عامه التسعين اليوم الأحد، أنه سيكون له خلف بعد وفاته، مشيراً إلى أن "صندوق غادين فودراغ" الذي أسسه بنفسه هو الجهة الوحيدة المخولة بالاعتراف بتناسخه القادم. جاء هذا الإعلان المنتظر في دارامشالا بشمال الهند، حيث يعيش الدالاي لاما في المنفى منذ خروجه من التبت هرباً من الحكم الصيني. ويأتي في ظل مخاوف من أن تحاول بكين فرض مرشح بديل. وردّت الحكومة الصينية بأنها ترى أن التناسخ القادم للدالاي لاما يجب أن يُحدد داخل الصين، وبموافقة الحكومة المركزية. يُذكر أن الصين الشيوعية ضمّت التبت عام 1951 وتعتبر الدالاي لاما انفصالياً يسعى لتقسيم البلاد. من هو الدالاي لاما؟ يُنظر إلى الدالاي لاما بوصفه تجسيداً لِـ"أفالوكيتشيفارا" أو "شنريزيغ"، شفيع التبت، أو القديس الراعي للتبت. وكما في الديانتين الهندوسية واليانية، يعتقد البوذيون أن الكائنات تولد من جديد بعد الموت. وفي التقاليد التبتية، يُعتقد أن من يبلغون درجات عليا من الصفاء الروحي يمكنهم اختيار زمان ومكان ولادتهم التالية. وُلد الدالاي لاما الحالي في 6 يوليو/تموز 1935 لعائلة قروية فقيرة تعمل في الزراعة في شمال شرقي التبت، وتم التعرف عليه في سن الثانية بوصفه التناسخ الرابع عشر للدالاي لاما. يقول الدكتور ثوبتن جينبا، الراهب السابق والمترجم الرسمي للدالاي لاما منذ عام 1985، والحاصل على أعلى مؤهل لاهوتي في البوذية التبتية: "يؤمن التيبتيون بأن روح الدالاي لاما نفسها تتناسخ مراراً وتكراراً". صدر الصورة، Christopher Michel التعليق على الصورة، الدكتور ثوبتن جينبا يجلس بجانب الدالاي لاما. لكن الدكتور جينبا يضيف أن الدالاي لاما الحالي لا يأخذ هذا المفهوم حرفياً، مشيراً إلى أن "قداسته قال في مناسبات عدة إنه لا يعتقد بالضرورة أن الأربعة عشر تجسيداً هم نفس الشخص تماماً، لكن جميعهم ينتمون إلى سلالة روحية واحدة ذات ترابط خاص". البوذية عمرها أكثر من 2500 عام، لكن منصب الدالاي لاما أكثر حداثة. ويقول البروفيسور مارتن ميلز، مدير المركز الاسكتلندي لأبحاث الهيمالايا في جامعة أبردين، إن أول من عُرف لاحقاً بلقب "الدالاي لاما" كان الراهب غدون دروب، المولود عام 1391، لكن "فكرة المعلم البوذي المتناسخ الذي يرث طلاب وممتلكات سابقه تعود إلى ما لا يقل عن 300 عام قبل ذلك". كيف يُختار الدالاي لاما؟ "عملية اختيار الدالاي لاما شديدة الصرامة والتعقيد"، بحسب الدكتور جينبا. وقد تستغرق سنوات، كما حدث مع التناسخ الرابع عشر الذي تطلب أربع سنوات من البحث. يبدأ كبار الرهبان بالبحث عن طفل وُلد في توقيت قريب من وفاة الدالاي لاما السابق، مسترشدين بعدد من العلامات. قد يتلقى أحد الرهبان رؤى في الحلم، كما يُعد اتجاه دخان محرقة الجنازة علامة على موقع التناسخ المحتمل. وعندما يُعثر على الطفل، يُعرض عليه عدد من المتعلقات الشخصية للدالاي لاما السابق. فإذا اختارها بشكل صحيح، يُعدّ ذلك دليلاً قوياً على أنه التناسخ الجديد. بعد التأكد، يُخضع الطفل لسنوات من التعليم الديني والدراسات اللاهوتية. جدير بالذكر أن اثنين فقط من الدالاي لاما وُلدا خارج التبت: أحدهما في منغوليا والآخر في شمال شرقي الهند. السيطرة الصينية صدر الصورة، Google التعليق على الصورة، يُعتقد أن الدالاي لاما لبانشين لاما، ثاني أهم شخصية في البوذية التبتية، أُسر من قِبل السلطات الصينية عام 1995 وهو في السادسة من عمره. في عام 1950، أرسلت الصين آلاف الجنود لفرض سيطرتها على التبت. وبعد انتفاضة فاشلة عام 1959، فرّ الدالاي لاما وأسس حكومة منفى في الهند. ورغم تنحيه عن رئاسة الحكومة في المنفى، لا يزال يُعد رمزاً للمقاومة ضد حكم بكين. وقد صرّح سابقاً أنه قد يتناسخ خارج التبت، وهو موقف عملي في ظل السيطرة الصينية على الإقليم. لكن الصين تصفه بأنه "منفي سياسي يمارس أنشطة انفصالية تحت غطاء ديني". وفي عام 2007، أصدرت بكين لائحة تنظيمية بعنوان "إجراءات إدارة تناسخ الرهبان الأحياء في البوذية التبتية"، وُصفت بأنها محاولة للتحكم في اختيار الدالاي لاما المقبل. وأعربت منظمات حقوقية عن قلقها من التدخل الصيني في الشؤون الدينية. وقالت مديرة قسم الصين في منظمة العفو الدولية، سارة بروكس، إن "على السلطات الصينية أن توقف فوراً تدخلها السياسي في الممارسات الدينية التبتية، وأن تتوقف عن استخدام مسألة الخلافة الدينية أداةً للسيطرة والإكراه". الضغوط على التبت صدر الصورة، Getty Images التعليق على الصورة، يخصع قصر بوتالا في لاسا، المقر التقليدي لسلطة الدالاي لاما، للسيطرة الصينية. يتعرض المواطنون في التبت لخطر السجن إذا تحدثوا إلى صحفيين أجانب أو عرضوا صوراً للدالاي لاما. ومن خلال ناشط تبتي مقيم في الهند، تمكّنت بي بي سي من التواصل مع راهبين داخل التبت وأحد أتباع البوذية هناك. أفاد الثلاثة بأن السلطات تتخذ تدابير لمنع أي احتفال بعيد ميلاد الدالاي لاما. وقال رجل من منطقة أمدو، طلب عدم الكشف عن اسمه: "عقدت قريتنا اجتماعين شتما فيهما الدالاي لاما ووجها تهديدات شديدة لأي شخص يخالف التعليمات". وأضاف أنه لاحظ تزايد أعداد الشرطة والجنود الصينيين مع اقتراب ذكرى الميلاد. وقال "شعرنا بوجود أمني مكثف حول الدير". ويعتقد أن الرقابة الشديدة تسببت في بُعد بعض الشباب عن شخصية الدالاي لاما، مشيراً إلى أن "الكثير منهم لم يروه قط، بل يسمعون اسمه فقط عبر وثائق الدعاية الحكومية الصينية". ورغم أن كثيراً من الأديرة تخضع للمراقبة المستمرة، فإن البعض لا يزال يرتدي الرداء الديني ويعيش حياة التدين. "عدد أقل من الرهبان الجدد" يقول تسيرينغ، وهو راهب يبلغ من العمر 46 عاماً من إقليم سيتشوان الصيني، تم تغيير اسمه لحمايته: "دخلتُ الرهبنة صغيراً بناءً على رغبة والديّ، عندما كنت في السابعة." لكن القوانين الجديدة في الصين تمنع دخول الرهبنة قبل سن 18، مما أدى إلى تراجع كبير في عدد الرهبان. "هذا العام، انضم فقط ثلاثة رهبان جدد إلى ديرنا، وعدد الأطفال القادمين من القرى المجاورة للدراسة والعبادة يتناقص باستمرار". ويضيف أن الفوائد الاقتصادية التي جلبتها الصين جاءت على حساب الثقافة: "في طفولتي، كنا نعاني من الجوع ونأكل طعاماً سيئاً في الدير... ثم تحسنت الحياة، وتطورت وسائل النقل والتعليم". لكن "يبدو أن استخدام اللغة التبتية يتدهور يوماً بعد يوم". ويؤكد راهب آخر من منطقة نغابا في أمدو أن "اللغة والكتابة التبتية بقيتا فقط بفضل الممارسة الدينية". الدالاي لاما القادم صدر الصورة، Getty Images التعليق على الصورة، الدالاي لاما شخصية عامة وتحظى بتقدير واسع وحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1989 يصرّ الدالاي لاما الرابع عشر على ضرورة الحفاظ على هذه المؤسسة الروحية العريقة التي تعود إلى 600 عام. ولمنع تدخل بكين، أوصى أتباعه برفض أي مرشح يتم تعيينه من قبل الحكومة الصينية. يقول الدكتور جينبا: "قد يُظهر الناس احتراماً شكلياً خوفاً على حياتهم، لكنهم لن يعترفوا بالدالاي لاما الذي تعيّنه بكين". ويضيف: "بإمكان الصين أن تفرض سيطرتها على الناس جسدياً، لكنها لن تكسب قلوبهم وعقولهم". وتواصل بكين ترويج خطاب مفاده أنها حرّرت التبت من نظام ثيوقراطي متخلف، وسارت بها نحو الحداثة.

كيف استخدم ملوك مصر القديمة الفن "أداة حكم" سياسية ودينية؟
كيف استخدم ملوك مصر القديمة الفن "أداة حكم" سياسية ودينية؟

مصراوي

timeمنذ يوم واحد

  • مصراوي

كيف استخدم ملوك مصر القديمة الفن "أداة حكم" سياسية ودينية؟

(بي بي سي) لعب الفن في مصر القديمة دوراً محورياً تجاوز حدود الجمال والزخرفة، ليصبح "لغة" رمزيّة فعّالة تعبّر عن السلطة والإيمان والهوية الجمعية؛ فلم يكن النحت والرسم والنقش الفني مجرد أعمال تستوحي موضوعها من الخيال، بل وسيلة تواصل تنقل من خلالها الدولة أفكارها، وتُكرِّس مفاهيمها، وتُرسّخ شرعيتها السياسية والدينية أمام الشعب والإله على حدّ سواء. استخدم الملوك الفن كأداة سياسية، وظهروا من خلاله بصورة مثالية، وقدَّموا أنفسهم كأبناء للإله أو كممثلين للعدل والنظام على الأرض، وبنفس المنطق والقوة وظّفه الكهنة ورجال الدين لتسجيل تفاصيل الطقوس الإيمانية، وتمجيد الإله، وتأكيد الروابط الروحية بين الناس والمقدّس، وترسيخ سلطتهم الدينية، وهكذا أصبح الفن مرآة حقيقية و"لغة تواصل" داخل المجتمع المصري القديم، يُترجم قِيَمَه ويُدوِّن رؤيته للعالم الأرضي والسماوي، وعالم ما بعد الموت، بوسيلة تعبيرية شاملة. وغطى الفن المصري القديم مرحلة امتدت لما يزيد على أربعة آلاف عام، ونستعرض هنا سر هذه الاستمرارية الأساسية في وسائل التعبير، ونسعى للإجابة عن تساؤلات من بينها: ما هي فلسفة ودوافع هذا التنوع الفني الهائل لدى المصري القديم بأساليب مختلفة؟ ولماذا بُنيت تلك الصروح الأثرية بأحجام شامخة؟ ولماذا حرص الملوك على نحت تماثيل عملاقة لهم ووضعها في واجهة المعابد الدينية؟ وما سر اجتهاد الفنان في رسم ونقل حركات وايماءات من الحياة اليومية ومشاهدها على جدران المعابد والمقابر؟. تخلق الصورة دائماً واقعاً لما تمثله في تاريخ مصر القديم، ولذا، كان وجودها هو المهم وليس فقط أن تكون موضوعاً للبحث والتأمل؛ فبعد أن أدرك المصريون صعوبة الإحاطة بالواقع من جميع جوانبه بسبب محدودية حاسة الإبصار، أقدموا على تشييد "بناء ذهني" حقيقي للصورة، جامعين في تآلف فني متناسق، عدداً كبيراً من الرؤى الفكرية داخل المشهد الواحد. وتقول العالمة الفرنسية كلير لالويت في دراستها "الفن والحياة في مصر القديمة": "يستطيع الفن أن يجسد شكلاً ما، أو يعيد خلقه من جديد، من هنا تأسست فلسفة الفن المصري القديم الذي اعتبر رسم الأشكال وكأنه عملية خلق جديدة، بل هو ثمرة تحليل واع وذاتي...، فعلى مدى آلاف السنين تطور الفن المصري تطوراً هائلاً، لكنه بالرغم من ذلك بقي على وفائه وإخلاصه لمطلبه الأساسي، ألا وهو: الاتحاد بين الملموس والفكرة السامية، وإقامة علاقة بين الأشكال النابضة بالحياة، والخلود بواسطة التماثيل أو الرسوم". وتضيف أن "المفهوم الخاص بالحياة والموت هو المحرك الأساسي للفن" في مصر القديمة. ويمكن تقسيم المدارس الفنية عبر عصور مصر القديمة إلى أربع مدارس، بحسب دراسة عالم الآثار المصري عبد الحليم نور الدين "تاريخ وحضارة مصر القديمة"، وهي المدرسة المثالية (التي أظهرت أصحابها في أفضل صورة ممكنة)، والمدرسة الواقعية (التي عبّرت عن واقع أصحابها وعصرها وانسحبت على الطبقات الدنيا)، والمدرسة المثالية الواقعية (وهي مزيج بين المدرستين السابقتين)، والمدرسة الآتونية (أو فن العمارنة في عصر الملك أخناتون)، وقد ظل لهذه المدارس وجودها على امتداد الحضارة المصرية، وإن ازدهر بعضها على حساب الآخر في بعض الفترات. وعن المدرسة الآتونية يفسر نور الدين قائلاً: "لما كان الإله آتون هو الإله الذي خلق نفسه بنفسه، وهو صورة من إله الشمس الذي لم يخلقه أحد، جاءت تماثيل وصور الملك أخناتون (1360-1343 قبل الميلاد) وأسرته معبّرة عن تلك الصفة التي يتميز بها آتون، من حيث أنها جمعت بين الذكورة والأنوثة في تكوين واحد، وكأن أخناتون عمد – وهو يظهر نفسه بهذه الهيئة – أن يؤكد للناس في كل مكان أنه التجسيد البشري لذلك الإله الذي خلق نفسه بنفسه". كما تميّز الفن المصري القديم بفلسفة تقوم على الرمزية والوظيفة، لا على المحاكاة الواقعية أو الجمال المجرد، إذ كان الهدف من العمل الفني هو أداء وظيفة محددة، سواء دينية أو جنائزية أو سلطوية، عكست هذه الأساليب إيمان المصريين القدماء بمفهوم "ماعت" الذي مثّل النظام والعدالة، فجاءت أعمالهم الفنية معبرةً عن الثبات والديمومة والاتساق مع الكون الإلهي. وتجلّت دوافع وفلسفة الفن بوضوح في العديد من الآثار التي لا تزال شاهدة على ذكاء حضاري، فعلى جدران معبد الكرنك، على سبيل المثال، نجد نقوشاً تمجّد انتصارات الملك تحتمس الثالث (1479-1424 قبل الميلاد)، وهي نقوش استُخدمت لترسيخ هيبته وسلطته بوصفه حاكماً مختاراً من الإله، وهو ما يعبّر عن الوظيفة السياسية والدينية للفن في آن واحد. كما تعكس تماثيل رعمسيس الثاني (1279-1212 قبل الميلاد) في معبد أبو سمبل مفهوم القوة الإلهية، إذ صُوّر الفرعون بهيئة جبارة تمزج بين الإنسان والإله، في تجسيد لفكرة الحكم الإلهي. كما وظف الملك رعمسيس الثاني الفن في التعبير عن مكانة محبوبته وزوجته الملكة نفرتاري في مقبرتها في وادي الملكات، وظهر البُعد الجنائزي والديني للفن في أبهى صوره، حيث تزيّنت جدران المقبرة بمناظر تُظهر الملكة وهي يستقبلها الإله في العالم الآخر، في تصوير يهدف إلى تأمين خلود روحها. وتبرز هذه الأمثلة كم كان الفن المصري القديم ليس مجرد وسيلة زخرفية، بقدر ما كان يحمل رسالة سياسية وروحية وفلسفية عميقة ووسيلة للتواصل مع الشعب والعالم الإلهي، بهدف ترسيخ مفاهيم الخلود وجعل الحياة الأرضية متناغمة مع الإرادة الإلهية، فضلا عن ضمان استمرار هذا التناغم بعد الموت في عالم أبدي يتسم بالنظام والسلام. كشف لنا المجتمع المصري القديم عن مكوناته وعناصره المتباينة بواسطة النقوش البارزة والتماثيل والرسوم، والتي تعتبر بمثابة معرض تصوير ضخم عن الملوك وكبار شخصيات تلك الفترة بأكملها، بالإضافة إلى القادة العسكريين وكبار أفراد الشعب المصري. وبفضل الفن، أُحطنا علماً كذلك بالشعوب الأجنبية، وسهل علينا تمييزها من خلال خصائصها العرقية وملابسها وصفاتها المختلفة. وتصف نينا ديفيز في دراستها "مختارات من فن التصوير المصري القديم"، نقلا عن موسوعة الحضارة المصرية القديمة لسمير أديب، الفن المصري بأنه "له في أعماله تقاليد خاصة تبرز النواحي التي يريد الإفصاح عنها، والتعبير عن مدلولها بأيسر وسائل الأداء، في الرسم واللون والتوزيع والاتزان والتنسيق. فتجد الصورة الجميلة تدعوك إلى مشاهدتها وترغمك على الإعجاب بها بالشكل والوضع والروحية التي أرادها لها صانعوها، في الوقت الذي تخالف فيه هذه الصورة في جوّها وتكوينها ما يألفه المرء في الفنون المعاصرة". وحرص الفنان القديم على رسم أشخاصه تبعاً لمركزهم في البلاد، فصور الإله والملوك بحجم كبير نوعاً ما ومتميزاً بما يتفق مع مكانتهم أمام الشعب، وهي أحجام تفوق في ارتفاعها حجم كبار الموظفين، وتتفق مع الوقار المحيط بالملوك والإله ومع مركزهم الاجتماعي في الدولة، كما صُور كبار رجال الدولة في حجم أكبر نوعاً ما من صور الأشخاص الممثلين لأفراد الشعب. كما استخدم الفن في تصوير الإله والملوك أوضاعاً محددةً بغية توجيه رسالة تنم على مكانتهم وفي أيديهم إمارات الشرف مثل "الصولجان" و"العصا الطويلة"، وذلك بحيث لا يخفي جزء من الجسم جزءاً آخر أو يقطعه. ويرى العالمان الفرنسيان، كرستيان زيغلر وجان لوك بوفو، في دراستهما "الفن المصري" أن الفنان "كان يضع جنباً إلى جنب، صوراً عديدة لنفس الشيء، ووجهة نظره لها مغزى محدد، ألا وهي أن ننظر إلى نفس الشيء، من زوايا مختلفة، وذلك لنتمكن من تكوين صورة إجمالية للشيء الذي نصوره". ويضيفان: "طريقة تقديم (تصوير/تمثيل) الشيء، هي نفسها حقيقة هذا الشيء. فهذا التقديم، الذي لا تنطبق عليه قواعد المنظور، خلق أعرافاً فنيةً ذات قوة إلزام إجبارية" لمن يراها. ويُعَدّ توحيد القطرين، الوجه البحري والوجه القبلي، على يد الملك نعرمر (حوالي 3150 قبل الميلاد) نقطة تحول مفصلية في التاريخ المصري القديم، وقد لعب الفن دوراً محورياً في تخليد هذا الحدث المهم وتأكيد رمزيته السياسية والدينية. وسُجّل الحدث على صلاية من حجر الشست الإردواز، تعرف بصلاية نعرمر الشهيرة، والتي تُعدّ واحدة من أقدم الأعمال الفنية الرمزية في تاريخ الحضارة المصرية، حيث تُصوّر الملك نعرمر وهو يضرب أعداءه، ويرتدي في أحد وجهي اللوحة التاج الأبيض لمصر العليا، وفي الوجه الآخر التاج الأحمر لمصر السفلى، في دمج بصري قوي يرمز إلى وحدة أرض مصر تحت سلطانه. كما امتلأت رموز اللوحة ومكوناتها بإشارات بصرية دقيقة تعبّر عن القوة والسيطرة الإلهية، مثل ظهور الإله حورس، وتجسيد الأعداء في هيئة مقهورة، مما يدل على أن توحيد قُطريّ البلاد لم يكن مجرد نصر سياسي، بل قُدَّم كفعل مقدّس برعاية الإله، وهكذا أصبح الفن في هذه الحقبة أداة بارعة لترسيخ صورة الملك كمُوحِّد ومُنقذ للبلاد، وجاءت رموز الوحدة مؤكدة على أن الملك ليس فقط حاكماً، بل هو الضامن للنظام الكوني والنظام السياسي في آنٍ واحد. ويقول الفرنسيان كريستيان زيغلر وجان لوك بوفو: "كل تقاليد وأعراف الفن المصري موجودة هنا (في صلاية نعرمر)، وهناك كذلك الدليل على مولد الكتابة، هذا الدليل هو ذلك الشيء الذي يصور العلاقة الوثيقة التي تربط بين الصورة والكتابة. وهناك كذلك إدراج أو إدخال كل العلاقات التي تدخل في تكوين الفضاء، أو الحيز الذي يشغله التشكيل الفني". كما لعب الفن دوراً بوصفه أداة رئيسية لتأكيد شرعية حكم الملك الفرعون وإضفاء طابع إلهي على سلطته، فلم يكن تصوير الملوك عشوائياً، بل كان محسوباً بدقة ليُظهر الملك دائماً في صورة مثالية: شاباً، قوياً، مهيباً، وأكبر من أعدائه أو تابعيه حجماً، كما ذكرنا. فعلى جدران المعابد، كان يُصوَّر الملك وهو يهزم الأعداء بـ "يد واحدة"، في دلالة فنية رمزية على قوته الخارقة وحمايته لأرض مصر، وأبرز مثال على ذلك، رسوم معركة "قادش" الشهيرة في عهد رعمسيس الثاني، والتي صُوّرت على جدران معبد أبو سمبل، وعلى الرغم من أن النتيجة الفعلية للمعركة كانت غير حاسمة تاريخياً، إلا أن الفن هنا لم يسجل الحقيقة فحسب، بل شكّل رواية سياسية تخدم صورة الفرعون كبطل منتصر لا يُهزم. ولم يقتصر الفن السياسي على الجداريات، بل شمل أيضاً المعمار والتماثيل الضخمة، فالأهرامات نفسها كانت رمزاً للسلطة والخلود، وبُنيت لتُجسّد عظمة الملوك وقدرتهم على الانتقال للعالم الآخر مع الإله. كما استخدم الملوك تماثيلهم الموضوعة أمام المعابد، مثل تماثيل رعمسيس الثاني في أبو سمبل، لإظهار الهيبة والسيطرة على المناطق الجنوبية للبلاد، وإرهاب الشعوب المجاورة وإبهارهم بحجم وقوة مصر ممثلةً في ملكها، فجاء هذا النوع من الفن المعماري ليس بهدف التعبير عن الجمال، بل كان رسالة سياسية حاسمة في الداخل والخارج. وكان الملوك يتحكمون في كيفية تسجيل الأحداث، وبالتالي استخدموا الفن كوسيلة لكتابة "التاريخ الرسمي" بالطريقة التي تخدمهم، فعلى جدران المعابد، لم تكن تُسجل الهزائم أو الصراعات الداخلية، بل فقط الانتصارات والمشاريع المعمارية العظيمة والقرابين المقدمة للإله، ومن خلال هذا التوثيق الفني، جرى بناء سردية تُعظّم الحاكم وتُخفي نقاط ضعفه، مما رسّخ في الأذهان صورة محددة "لا تقبل الشك" لكونها منقوشة على حجارة المعابد وتُعرض في أقدس الأماكن. وتميّز عهد الملك رعمسيس الثاني، على سبيل المثال، باستخدام مكثّف للفن كوسيلة سياسية ودينية هدفها ترسيخ صورته كحاكم قوي، شبه إلهي، يتمتع بعلاقة خاصة مع الإله، ويحكم بتفويض إلهي مباشر. وقد تجلّى هذا التوظيف بوضوح في معابده الضخمة وتماثيله، كما في معبد أبو سمبل، حيث صُوّر رعمسيس جالساً متربعاً جنباً إلى جنب مع آلهة، داخل قدس الأقداس، في رسالة بصرية مفادها أنه ليس فقط ملكاً، بل شخصاً ذا طبيعة إلهية، وهكذا استخدم رعمسيس الثاني الفن ببراعة لدمج السياسي بالديني، وجعل من صورته رمزاً خالداً للقوة والخلود في ذاكرة التاريخ المصري. ولم يكن الفن موجّهاً للناس فقط، بل كان يُستخدم أيضا لإيصال رسائل ملكية إلهية، وكأن الفن نفسه وسيلة تواصل سماوية، فكانت المعابد تمتلئ بالنقوش التي تُظهر الملك وهو يُقدّم القرابين للإله، للتأكيد على علاقته المباشرة به ودوره كوسيط بينه وبين الشعب، هذه المشاهد كانت تحمل في طيها رسائل سياسية بمذاق ديني موجهة للشعب أيضاً، تفيد بأن طاعة الملك تعني طاعة الإله، وتعني عدم الطاعة خروجاً عن النظام الكوني المقدس المعروف بـ"ماعت"، وبالتالي، أصبح الفن جزءاً لا يتجزأ من منظومة تثبيت السلطة وتقديسها في نظر الناس. وتُعدّ الملكة حتشبسوت (1472-1457 قبل الميلاد) أبرز مثال على استخدام الفن لتعزيز شرعية الحُكم في مصر القديمة بأسلوب مزج الدنيوي المتعارف عليه بالديني المقدس، لا سيما وأنها تولّت العرش في سياق غير تقليدي بصفتها امرأة في منصب كان يحتكره الرجال. فمنذ بداية حُكمها، حرصت حتشبسوت على توظيف الفن بكل عناصره لترسيخ صورتها كأنها "ملك فرعون شرعي"، وليست وصية على العرش، فقد صوّرت نفسها في التماثيل بزيّ الملوك الرجال، مرتديةً التاج الملكي واللحية المستعارة، وبتكوين جسدي يُقارب الصورة التقليدية للملك الفرعون الرجل، وذلك لكسر الحاجز بين جنسها "الأنثوي" وطبيعة المنصب أمام الشعب. كما زُيّنت جدران معبدها الشهير في الدير البحري بمشاهد تصويرية تُظهِر دعم الإله آمون لها، وقصص أسطورية تُثبت نسبها الإلهي، مثل نقش شهير يعرف بمشهد "الميلاد الإلهي"، الذي يُصوّرها كابنة مباشرة من صُلب الإله، في محاولة لتقديم شرعية دينية تُعزز مكانتها السياسية، وهكذا سخّرت حتشبسوت الفن كأداة ذكية لإعادة تشكيل تصور المجتمع عن الحُكم والهوية، وضمان استمرار سلطتها وسط نظام تقليدي صارم. وبعد وفاة الملكة حتشبسوت، سعى الملك تحتمس الثالث (1479-1424 قبل الميلاد)، الذي شاركها الحكم لفترة طويلة، إلى تثبيت سلطته بشكل مطلق، فبدأ حملة ممنهجة مستعيناً أيضاً بناصية الفن كأداة لمحو ذكراها وهدم إرثها السياسي والديني. فعلى الرغم من أنها لم تكن غاصبة للسلطة بل وصية عليه في طفولته، إلا أن تحتمس الثالث نظر إلى حُكمها كتهديد رمزي لنظام الحكم التقليدي، فشرع في تشويه صورها ونقوشها في المعابد، ولا سيما في معبدها الجنائزي بالدير البحري، وهي قضية أثارت حيرة علماء تاريخ مصر القديم بين مؤيد ومعارض. لجأ الفنانون في عهده إلى طمس ملامحها من الجداريات، وتكسير تماثيلها، وكتابة أسماء أخرى مكان اسمها، بل وأحياناً ترك الفراغات بلا نقش، في إشارة إلى إنكار وجودها تماماً، وكان هذا الطمس ممنهجاً ودقيقاً له أهدافه الدينية أيضاً. لم يكتف تحوتمس الثالث بمحو صور حتشبسوت في الحياة، بل سعى لطمسها من الأبدية، نظراً لإيمان المصريين القدماء بأن الخلود مرتبط بذكر الاسم وصورة المتوفى، وهكذا أصبح الفن، الذي استخدمته حتشبسوت لترسيخ شرعيتها، أداة استخدمها ضدها خليفتها لاحقاً لطمس تلك الشرعية، في واحدة من أوضح صور الصراع السياسي في التاريخ المصري القديم. ويقول العالم المصري رمضان عبده علي في دراسته "حضارة مصر القديمة": "في معبد الدير البحري نجد اسمي تحوتمس الثالث وابيه قد نُقشا في أماكن عديدة بدلاً من اسم حتشبسوت، كما أحاط المسلات التي أقامتها الملكة بالكرنك بأبنية حتى لا يظهر منها سوى القمة فقط". ويضيف: "على الرغم من أن هذه الأعمال توضح لنا مدى ما كان يحمله (تحوتمس الثالث) من كره عميق لهذه الملكة، التي كانت السبب في تعاسته وإهماله في السنوات الأولى من حياته، فإنه كان ذو طابع لطيف ورقيق، فكان يحب نحت التماثيل وجمع الأزهار النادرة، ونقرأ أيضاً أن من الهدايا الثمينة التي أمر تحوتمس الثالث بصنعها لإهدائها إلى معبد آمون رع في الكرنك أوانٍ رسم تصميمها بنفسه". وعن براعة استخدام الفن، لاسيما فن النحت، في ترسيخ شخصية كل منهما ورسم ملامحهما في ذهن كل من شاهد تمثالاً لحتشبسوت أو تحوتمس الثالث حتى وقتنا هذا، على سبيل المثال، يرى عبده أن الفنان المصري "جمع في تماثيل الملوك بين المثالية والجمال. وبلغت مدارس النحت غايتها في تماثيل الملكة حتشبسوت، التي مثلها أهل الفن في عصرها بأنوثة حلوة ناضجة، ولم يستثنوا من هذه الأنوثة وجوه التماثيل التي مثّلوا ملكتهم فيها رابضة على هيئة أسد". وأضاف: "كما بلغت غاية أسمى في تماثيل تحوتمس الثالث الذي جمع فيها النحاتون بين الفتوة ورقة الطابع ونبل المشاعر، ومنها ما يصور الملك واقفاً وجاثياً خاشعاً ورابضاً على هيئة أسد". بناء على ما سبق ظلت الصورة التي رسمها الفنان المصري القديم، تحوي في عقيدته عنصراً حيوياً وحياً فيما تمثله، فسواء مثلت الصورة إنساناً أو حيواناً أو شيئاً، فهي تمثل عموماً نوعاً من "الخلق" ينم عن جوهر ما تمثله وتكون جزءاً من شخصيته تتأثر به وتؤثر فيه، فالصورة مادامت كاملة فهي تمثل صاحبها كاملاً، وإذ تصدعت تصدع، وإن طُمست اختفى ذكره إلى الأبد، فالصورة تعبر عن "حقيقة" صاحبها وعن "حقيقة" المنظر، بمعنى أن العقائد الدينية والفكرية ألزمت الفنان باتباع هذه "الحقيقة" وهذا المنطق في أعماله على مر العصور. كان الفن في مصر القديمة مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة الدينية، واعتُبر وسيلة مقدسة للتقرب من الإله وتمجيده، فالمعابد كانت مزيّنة بنقوش وجدران مليئة بالصور الرمزية للإله، وكل إله كان له ألوانه ورموزه وهيئته الخاصة، كانت هذه الصور وسيلة لفهم صفات الإله ومجاله الروحي، وبالتالي لم يكن الفن هنا وسيلة جمالية، بل أداة "تعليمية" و"تعبّديّة" ترسّخ معتقدات دينية بشكل بصري مؤثر، مثالاً على ذلك، الإله أوزير الذي كان يصور دوماً بلون أخضر رمزاً للحياة والبعث، أما ربّة الحق "ماعت" فكانت تُصوَّر بريشة على رأسها رمزاً للعدالة والنظام. كان الإيمان بالحياة بعد الموت أحد الركائز الأساسية في العقيدة المصرية القديمة، وقد اضطلع الفن بدور محوري في تجسيد هذا الإيمان بصرياً، فغدت مقابر الملوك وغيرهم بمثابة عوالم متكاملة، تُصوَّر على جدرانها مشاهد تُظهر المتوفى وهو يواصل حياته في العالم الآخر، يأكل، ويشرب، ويمارس طقوسه، وكأن الفن يمنحه حياة أبدية. واختلف الموضوع الفني للمناظر المنقوشة على الآثار بحسب الغرض الذي أنشيء الأثر من أجله، ففي المعابد خُصصت الجدران الخارجية لتسجيل أعمال الملك المهمة أمام الشعب، أما القاعات والأروقة الداخلية كانت تُخصص غالباً للمشاهد الدينية فقط. وفي مقابر الملوك، التي مُثلت فيها المناظر بالنقش أو الرسم التصويري، كانت الموضوعات دينية وجنائزية فقط، ومنها مناظر تمثل الكتب الدينية، إذ صوّر الفنان، على سبيل المثال، مشاهد من فصول كتاب "الخروج إلى النهار"، المعروف اصطلاحاً بـ "كتاب الموتى"، لمرافقة روح الملك أو المتوفى في رحلته إلى الآخرة، وتقديم مشاهد الحساب والبعث، فأصبح الفن وسيلة بصرية وشريكاً روحياً في العقيدة، يُجسّد المعتقد ويُفعّله. كما لعب الكهنة دوراً بالغ الأهمية في إنتاج الفن الديني وتوجيه رموزه، إذ أولوا عناية فائقة بأدق تفاصيل النقوش والتماثيل، حرصاً منهم على أن تتوافق مع العقيدة وتحمل طاقة روحية مقدسة للمؤمن، فجاءت وضعية الأيدي، وحركات الجسد، وترتيب العناصر داخل النقوش، جميعها تحمل دلالات دينية عميقة، وكان من المألوف أن يُصوَّر الكهنة وهم يمارسون الطقوس أو يقدمون القرابين للإله، في تجسيد رمزي لدورهم كحلقة وصل بين العالم الأرضي والعالم الإلهي أمام المؤمنين. وتقول لالويت في دراستها "الفن والحياة" إن المصريين القدماء "تميزوا، دون سواهم، بقوة العقيدة الدينية وعمقها، فكلمة (ديانة) كانت تعني التعامل، والصلة التي تربط بين البشر والإله". وتضيف لالويت في دراستها "الفراعنة في زمن الملوك الآلهة" أن الفن المصري "فن نفعي، ولكن نفعيته على أكبر قدر من السمو، إنه فن يلعب دور الوسيط بتطلعه إلى الخلود، الأمر الذي يفسر وجود أعداد كبيرة من التماثيل والاهتمام بتشابهها فيما يتعلق بالوجه على الأقل، في حين كان من الممكن تجميل الجسد بعض الشيء، لضمان أن يحيا الإنسان شباباً أبدياً، وهو ما يفسر أيضاً مبادئ التعبير التصويري". إن الروابط الوثيقة القائمة بين الملك والإله، هي الأصل الذي نشأت عنه كثير من الإبداعات التشكيلية الفنية التي بلغت أحياناً حداً فريداً من الشموخ، فنذكر على سبيل المثال تمثال الملك خعفرع (2437-2414 قبل الميلاد) المتربع على عرشه، ويظهر صقر الأسرة الملكية وهو يبسط جناحيه خلف رأس الملك لينقل له القوة الروحية، كما يشكل جناحا الطائر الإلهي وحدة متناغمة مع غطاء رأس الملك كإيماءة إلى الاتحاد الطبيعي الذي لا ينفصم بين الإله والملك. وتقول لالويت: "الفن المصري ليس فناً سهلاً، بل يتضح أنه فن قائم على إعمال الفكر، يريد إدراك الواقع واستجلاءه، من كافة جوانبه المكانية وعبر امتداد زمني. فبعد أن يُبعث الإنسان حياً يصبح في وسعه الاستفادة من حياة الكون استفادة شاملة (للزمن الأبدي والزمن اللامحدود)، وإذا كانت طرق فناني مصر القديمة قريبة من طرق فنانينا المعاصرين، فإن البواعث التي كانت تحركهم مختلفة كل الاختلاف". ويتّضح من خلال تتبع مسار الفن في مصر القديمة أن الفن لم يكن مجرد وسيلة زخرفية لا معنى لها، بل يحمل بُعداً أعمق وأقوى، يجمع بين السلطة والإيمان، استخدمه الملوك في ترسيخ حكمهم، وبث رسائل سياسية تؤكد قوتهم ومكانتهم الإلهية، في حين استُخدم نفس الفن لتوصيل معتقدات دينية، وتأكيد الصلة بين الإنسان والإله، وتوثيق رحلة الروح بعد الموت، وبذلك، أصبح الفن في الحضارة المصرية القديمة "لغة بصرية" كاملة، تنطق بكلمات لا تفوه بها الشفاه، وتُخلِّد رؤية مجتمع عاش على التوازن بين الحكم والقداسة، وبين الأرضي والسماوي، وبين الزمني والأبدي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store