logo
الفيلسوف الروسي كوجيف اختبر الشيوعية واستعاد الإيمان

الفيلسوف الروسي كوجيف اختبر الشيوعية واستعاد الإيمان

Independent عربيةمنذ 2 أيام

يلقي الكتابان الصادران حديثاً في باريس عن منشورات "غاليمار" "صوفيا I، الفلسفة والظاهراتية" (544 صفحة) لألكسندر كوجيف من إعداد وترجمة رامبير نيكولا، و"وعي ستالين، كوجيف والفلسفة الروسية" لرامبير نيكولا أيضاً (222 صفحة)، ضوءاً جديداً على شخصية المفكر الفذ ذي الأصل الروسي والهوية الفرنسية ألكسندر كوجيف، واسمه الحقيقي كوجيفينيكوف الذي كان حضوره لافتاً في المشهد الفكري الفرنسي خلال القرن الـ20. وارتبط اسم هذا الفيلسوف المولود في موسكو لعائلة برجوازية ارتباطاً وثيقاً باسم الفيلسوف الألماني هيغل من خلال الدروس التي ألقاها في "المدرسة التطبيقية للدراسات العليا" في باريس والتي قدمت تفسيراً لكتاب هيغل "فينومينولوجيا الروح"، ترك أثراً بالغاً في الفكر الفلسفي الفرنسي، ولا سيما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
كان كوجيف مؤمناً بالشيوعية، لكنه استشعر الأحداث الرهيبة التي ستشهدها بلاده، فغادرها إلى هايدلبرغ في ألمانيا عام 1918 لمتابعة دراساته العليا وكتابة أطروحته تحت إشراف كارل ياسبرز (1883-1969) في فكر فلاديمير سولوفييف الذي انشغل بثنائية حرية الإنسان ومعرفة الله المطلقة، وهما موضوعان سيبقيان حاضرين بقوة في مساره الفكري.
كتاب "صوفيا 1" (دار غالميار)
بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، توجه الروسي الشاب إلى باريس لدراسة الفيزياء والرياضيات الحديثة ولمتابعة المحاضرات الفلسفية التي كان يلقيها أساتذة مرموقون من أمثال ألكسندر كويري، وهو روسي مثله ترك بلاده بعد انتصار الثورة البلشفية، وقد ربطت بين الرجلين علاقة صداقة كانت منطلق كوجيف إلى التعرف إلى نخبة من المفكرين والكتاب والشعراء والرسامين الفرنسيين، وإلى إعطاء محاضراته الشهيرة حول فلسفة هيغل التي كان يلقيها كل يوم اثنين أمام جمع من المعجبين الذين كانوا يخرجون من محاضراته مفتونين بسعة معرفته وقدرته على إيصال أفكاره بأسلوب رشيق ولغة بيّنة واضحة.
في باريس، عاش كوجيف بداية حياة مترفة، معتمداً على ريع ممتلكاته وبيع لوحات قريبه، الرسام التجريدي الشهير فاسيلي كاندينسكي. لكن عام 1929، انهار كل شيء بسبب الأزمة الاقتصادية الكبرى، فجاءت دروسه حول كتاب هيغل "فينومينولوجيا الروح" الصادر عام 1807، بمثابة خشبة خلاص. ونشرت هذه الدروس عام 1947 تحت عنوان "مقدمة في قراءة هيغل" وتعد من أشهر مؤلفاته، علماً أن ريمون كونو هو من صاغ الجزء الأكبر منها بناء على ملاحظات مأخوذة من الحلقات الدراسية، إلى جانب بعض النصوص التي كتبها كوجيف بنفسه. فداخل قاعة صغيرة تقع في شارع أولم، بدأ كوجيف يلقي هذه الدروس على صفوة من كبار مثقفي فرنسا كريمون آرون وجاك لاكان وجورج باتاي وريمون كونو وجان هيبوليت وموريس ميرلو بونتي وهنري كوربان وميشال لييريس وغيرهم من الأسماء اللامعة في الفضاء الفكري الفرنسي، مما منحه مكانة استثنائية في تعريف الفرنسيين بفلسفة هيغل.
مسرى حياة
كتاب "وعي ستالين" (دار غاليمار)
أذهلت هذه الدروس المشهد الفكري الفرنسي في ثلاثينيات القرن الـ20، لكن شخصية معطيها ظلت مجهولة ومثيرة للجدل. لكن من يذهب أبعد من هذه الصورة الظاهرة، ومن يتتبع خفايا مسرى حياة هذا الفيلسوف، يعلم أن كوجيف لم يكُن مجرد شارح لهيغل، بل كان أيضاً شيوعياً متحمساً، بلغ به الولاء أن عمل لمصلحة الاستخبارات السوفياتية، مطلقاً على نفسه، من دون مواربة، لقب "وعي ستالين".
ففي نص ضائع وغير مكتمل، أعيد اكتشافه أخيراً، كتبه كوجيف بحماسة عالية بين عامي 1940 و1941، أي خلال الفترة التي يعتقد بأنه أصبح فيها عنصراً مهماً في جهاز الاستخبارات السوفياتي، وهو النص الذي شكل مادة كتاب "صوفياI " المحرر والمترجم إلى اللغة الفرنسية من قبل رامبير نيكولا، يكتشف القارئ وجهاً آخر لهذا الفيلسوف، لا يمت بصلة مباشرة إلى شهرته كمفسر لفلسفة هيغل.
كتب كوجيف هذا النص بعد عامين من "التهديدات الكبرى" التي نظمها ستالين والتي أودت بحياة 750 ألف شخص، وبعدما كان الاتحاد السوفياتي وقع مع ألمانيا النازية اتفاقاً جعله حليفاً لها. ويبدو أن كوجيف الذي تبنى كل هذه الأحداث، باعتباره "ستالينياً صارماً"، نادى بضرورة مشاركة الفيلسوف "بفاعلية في العمل الهادف إلى تحقيق المجتمع الشيوعي"، على ما نقرأ في "صوفيا I"، ذلك أن البشرية، برأيه، مدعوة في نهاية المطاف إلى بناء تضامن كوني، "لا بد من بلوغه عبر الفولاذ"، أي، بحسب المعنى الضمني، عبر "إبادة الأجيال المحافظة السابقة".
في هذا النص، يوجه كوجيف تحيته الصريحة إلى جوزيف ستالين "الأب الصغير للشعوب" وإلى الأمة السوفياتية، كاشفاً عن بعد عقائدي لطالما ظل خفياً في سيرته وفكره. ولعل رامبير نيكولا من خلال إبرازه هذا الجانب المجهول من فكر كوجيف، يظهر لنا أيضاً أن هذا الفيلسوف الذي عرف بإلحاده الراديكالي، كان في حقيقة الأمر غارقاً في ينابيع الفلسفة الدينية الروسية، ولا سيما في فلسفة فلاديمير سولوفييف (1853–1900) الذي كرس له كوجيف أطروحة الدكتوراه.
مشروع فلسفي
كوجيف في فترة الشباب (موقع فلاسفة روس)
والأهم من ذلك، يظهر لنا هذا النص أن كوجيف لم يكُن يقرأ هيغل قراءة فلسفية فحسب، بل ألبس تفسيره لبُنيان هيغل طابعاً سياسياً ودعائياً صارخاً حين وضعه تحت راية "الماركسية-اللينينية-الستالينية". ويبدو، في هذا السياق، أن مشروعه الفلسفي كان عبارة عن محاولة فلسفية لتبرير وجود الاتحاد السوفياتي عبر تثبيت موقع روسيا الإمبراطورية ضمن مسار التاريخ الكوني في مواجهة الغرب ونظامه الديمقراطي الليبرالي البرجوازي.
في الكتاب الأول، أي "صوفيا I، الفلسفة والظاهراتية" الذي صمم كمدخل لعمل ضخم، يقدم كوجيف تعريفه للفلسفة، عارضاً منهجه ومحدداً غايته، وهي الإسهام في إرساء أفضل نظام سياسي ممكن في روسيا السوفياتية التي قدّر لها برأيه إنجاز هذه المهمة الكبرى.
في قلب هذا النص غير المنجز، يكمن مشروع كوجيف الفكري، وهو عبارة عن محاولة فلسفية سياسية تهدف إلى الجمع بين تراث المثالية الألمانية و"المهمة التاريخية" لروسيا السوفياتية. إنه بمعنى ما قراءة للـ"هيغلية" تفضي إلى الستالينية، وبحث صوفي عن نهاية التاريخ في رحم الأيديولوجيا.
إلى جانب الكشف عن هذا البعد شبه المجهول في فكر ألكسندر كوجيف، ولا سيما تدربه، على نحو مفاجئ، ضمن تقليد الفلسفة الدينية الروسية، يسعى رامبير نيكولا إلى إعادة الاعتبار لفكر كوجيف الذي كان أسطورة في زمانه، وهو اليوم مجهول نسبياً، من خلال دراسة فلسفية وترجمة غير مسبوقة لنصه هذا الموضوع باللغة الروسية إلى اللغة الفرنسية.
أما كتابه الثاني، "وعي ستالين، كوجيف والفلسفة الروسية"، فهو عبارة عن شروحات وتعليقات على نص كوجيف الموسوم "صوفيا"، وضمنه يستعيد نيكولا السؤال الذي طرحه كوجيف وقبله سولوفييف عام 1877 في كتابه "المبادئ الفلسفية للمعرفة الكاملة"، "ماذا سيحدث في روسيا غداً؟"، ساعياً من خلاله إلى إعادة اكتشاف "الكلمة" التي ينبغي لروسيا أن تطلقها اليوم في وجه العالم كي تغيره.
"ضمير روسيا"
يقول لنا لامبير نيكولا إن الثورة البلشفية التي قامت في الفترة الزمنية الفاصلة بين حياة سولوفييف وكوجيف والتي انعطفت بالقرن الـ20 نحو مسار مختلف، سبقتها مرحلة أسس فيها سولوفييف نظاماً فلسفياً كان وراء إطلاق الناس عليه لقب "ضمير روسيا". هذه الروسيا التي ورثها كوجيف والتي أسقطها في الوقت عينه باسم السوفياتية، جعلته يطلق هو أيضاً على نفسه لقب "ضمير ستالين"، أي "ضمير الاتحاد السوفياتي".
وتشكل هذه المواجهة بين الفلسفة الدينية الروسية التي أسسها سولوفييف والفلسفة الإلحادية السوفياتية التي بناها كوجيف، لبّ هذا الكتاب الذي نكتشف فيه فكر كوجيف وقد أعيد دمجه في ثقافة بلده الأم، ولا سيما الفلسفة الروسية التي قامت بدور حاسم في مصير أمة تغلي بالتجارب الفنية والسياسية والفكرية.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
و في هذه الدراسة يستكشف رامبير نيكولا أيضاً فكر كوجيف الذي لا تزال أفكاره، على رغم تعقيدها، تلامس بحسبه راهنيتنا، مسلطاً الضوء ليس فقط على الجانب الستاليني المتحمس من فكره وعلى شخصيته الغامضة والذي يُعتقد بأنه عمل لفترة كعميل مزدوج لمصلحة الحكومة السوفياتية، بل أيضاً، ومن خلاله، على مجمل تاريخ الفلسفة الروسية وعلاقتها بالأسئلة الوجودية والموت والعمل السياسي، داعياً إلى عدم رفض هذا التقليد الفلسفي كلية، على رغم تناقضاته، بل إلى إدخاله مجدداً في النقاش الفلسفي المعاصر، طارحاً السؤال عن إمكان هذا الفكر الآتي من روسيا أن يساعدنا، اليوم، في فهم الحاضر وتعقيداته.
إذاً، من خلال فكر الفيلسوفين فلاديمير سولوفييف وألكسندر كوجيف، يعود بنا رامبير نيكولا لتلك اللغة المتوهجة والملهمة التي اتسم بها فلاسفة روسيا الإمبراطورية المتأخرة، وللغة الروسية المعاصرة، لغة المثقفين الذين يشاركون، هم أيضاً، بحماسة في إعادة الاعتبار لـ"الإنجازات الكبرى" لوطنهم التي يسعى إلى توصيفها في كتابه "وعي ستالين".
ويظهر كتاب "صوفيا I" الذي يشكل المرحلة الأولى من مشروع أوسع لم يكتمل، البعد العملي الملموس لهذه النظرية، إذ تتطابق فيه النهاية الفلسفية للتاريخ مع سياسة ستالين. وفي هذا الجزء من نصه، يعرّف كوجيف الفلسفة بأنها علم الغايات النهائية للإنسانية، جاعلاً من الشيوعية السوفياتية أفقاً لهذا التحقق. أما عنوان الكتاب الثاني "وعي ستالين، كوجيف والفلسفة الروسية"، المستوحى من كوجيف نفسه، فيقدم لنا قراءة عميقة لمخطوطة "صوفيا I"، يتتبع فيها رامبير نيكولا أثر الفلسفة الدينية عند فلاديمير سولوفييف التي شكلت خلفية فكرية لكوجيف الشيوعي، مبيناً لنا أنه بين سولوفيوف الذي رأى في روسيا "ضمير العالم"، وكوجيف الذي أراد أن يكون "ضمير ستالين"، تتقاطع رؤيتان متناقضتان للعالم والإنسان والسلطة.
إن كتابي "صوفيا I ، الفلسفة والظاهراتية" و"وعي ستالين، كوجيف والفلسفة الروسية" يسلطان الضوء إذاً على مفكر لم يعُد يُقرأ اليوم إلا من خلال صدى محاضراته الشهيرة حول كتاب هيغل "فينومينولوجيا الروح"، ولعلهما يعيدان الاعتبار للجانب الروسي والسياسي والديني في فكره. وهذا بالضبط ما أراده لامبير نيكولا في إعداده وترجمته وشرحه لنص كوجيف ومشروعه الفلسفي وهويته كـ"ضمير ستالين"، المتأرجح بين إرث سولوفييف الديني والـ"يوتوبيا" الشيوعية الحديثة بوصفها بداية جديدة ومرحلة نهائية في العقل والتاريخ، متطلعاً إلى فهم أثر هذا الفكر في التاريخ المعاصر، ومساءلة موقعه من جدلية الفكر والسلطة والحلم والواقع.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

رابطة العالم الإسلامي تُدين العنف ضد المدنيين في غزة واعتداءات المستوطنين على كفر مالك
رابطة العالم الإسلامي تُدين العنف ضد المدنيين في غزة واعتداءات المستوطنين على كفر مالك

الرياض

timeمنذ 3 ساعات

  • الرياض

رابطة العالم الإسلامي تُدين العنف ضد المدنيين في غزة واعتداءات المستوطنين على كفر مالك

أدانت رابطة العالم الإسلامي بشدة استهداف قوات حكومة الاحتلال الإسرائيلي مواقع مدنية تؤوي نازحين، والعنفَ الذي تواصله ضد المدنيين في قطاع غزة، والاعتداءات الهمجية الدامية التي شنها مستوطنون إسرائيليون على قرية كَفَر مالك شرقي رام الله، في إطار العنف الذي ينتهجه المستوطنون ضد الفلسطينيين تحت حمايةٍ من قوات حكومة الاحتلال، مع إفلات كامل من العقاب. وفي بيانٍ للأمانة العامة للرابطة ندَّد معالي الأمين العام رئيس هيئة علماء المسلمين فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، بهذه الجرائم الوحشية المتواصلة ضد المدنيين العُزّل في الأراضي الفلسطينية، والتي تمثِّل انتهاكًا صارخًا لكل القيم الإنسانية، والقوانين والأعراف الدوليّة. وشدد فضيلته على الضرورة الملحّة لاضطلاع المجتمع الدوليّ بمسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه سياسة حكومة الاحتلال المتمادية في الاستهانة بحقوق الشعب الفلسطيني وإنسانيته وكرامته، واتخاذ موقف عاجل وجدّي لوقفِ هذه المجازر المروعة التي تواصل آلة الحرب الإسرائيلية ارتكابَها، ولتفعيلِ الآليات الدولية لردعها، ومحاسبة المسؤولين عنها.

السعودية تدين استمرار العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين
السعودية تدين استمرار العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين

الشرق الأوسط

timeمنذ 5 ساعات

  • الشرق الأوسط

السعودية تدين استمرار العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين

أعربت السعودية، الجمعة، عن إدانتها واستنكارها لاستمرار أعمال العنف التي يشنها مستوطنون إسرائيليون بحمايةٍ من قوات الاحتلال ضد مدنيين فلسطينيين، بما فيها الاعتداءات في قرية كفر مالك شرق رام الله. وجدَّدت في بيان لوزارة خارجيتها، إدانتها لاستمرار أعمال العنف الإسرائيلية ضد المدنيين العزل في غزة، من بينها استهداف المواقع المدنية التي تؤوي النازحين. وشدَّدت السعودية على ضرورة بذل جميع الجهود لتوفير الحماية للمدنيين، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة كافة، مُجدِّدةً مطالبتها للمجتمع الدولي بالاضطلاع بمسؤولياته لوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية للقوانين والأعراف الدولية. من جانبه، أدان جاسم البديوي، أمين عام مجلس التعاون الخليجي، الهجمات العدوانية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، مؤكداً أن هذه الانتهاكات المتكررة تمثل تصعيداً خطيراً وخرقاً فاضحاً للقوانين الدولية والإنسانية، وتندرج ضمن سياسة ممنهجة تهدف لتقويض حقوق الشعب المشروعة، وفرض الأمر الواقع بالقوة. وجدَّد البديوي دعوته إلى المجتمع الدولي، لا سيما مجلس الأمن، لتحمل مسؤولياته القانونية والإنسانية، والتحرك العاجل لوضع حد لهذه الانتهاكات، وتوفير الحماية الدولية اللازمة للشعب الفلسطيني، ودعم جميع الجهود الرامية لتحقيق السلام العادل والشامل، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.

الأرباح والخسائر في لعبة أكبر
الأرباح والخسائر في لعبة أكبر

Independent عربية

timeمنذ 5 ساعات

  • Independent عربية

الأرباح والخسائر في لعبة أكبر

الرئيس دونالد ترمب أمسك باللعبة من أيدي القوى الإقليمية في المنطقة، وأعاد الدورين الروسي والصيني إلى مسافة طويلة وراء الدور الأميركي. وما كان من الصعب عليه الانتقال سريعاً من توجيه ضربة هائلة للمنشآت النووية الإيرانية إلى فرض وقف النار على إسرائيل وإيران، المتعبتين من تبادل التدمير في حرب قاسية. ولم يكن خارج التوقعات إعلان ثلاثة "منتصرين" في حرب هي عملياً حرب "منتصر" واحد وعاجزين اثنين عن الانتصار. فليس في حرب كالتي بدأتها إسرائيل بالطائرات وردت عليها إيران بالصواريخ انتصارات، بل مجرد أرباح وخسائر لدى كل طرف. ولا شيء يمنع من الادعاء أن نتنياهو "ملك إسرائيل" وأن المرشد الأعلى علي خامنئي "إمبراطور غرب آسيا"، وأن ترمب "ملك العالم"، لكن على الجميع الجلوس في هدوء و"البحث عن الحقيقة في الوقائع" حسب الحكمة الصينية. ذلك أن حسابات الأرباح والخسائر ليست نهائية ولا كاملة في حرب ناقصة، حرب هي الأولى بين دولتين وجيشين في المنطقة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بين التحالف المصري-السوري وإسرائيل، لأن كل الحروب الأخرى كانت بين إسرائيل ومجرد فصائل مثل "حزب الله و'حماس' وأنصار الله الحوثيين"، حرب لا تستطيع أطرافها تحمل دمارها وكلفتها ومضاعفاتها طويلاً، وليسوا قليلي الرغبة في إكمالها حين تسمح الظروف. وما تقوله الوقائع واضح، بصرف النظر عن القراءات المتسرعة والقراءة الأيديولوجية. إسرائيل ربحت إبعاد الكابوس النووي وتدمير جزء من منصات الصواريخ، مقابل خسارتها لما روجت له من كونها "القلعة الحصينة"، وانكشاف ضعف قدرتها على حماية أصولها الاستراتيجية من ضرب الصواريخ الباليستية. إيران ربحت تأكيد القدرة على الصمود وإلحاق الأذى بإسرائيل، وما لم يكن على جدول الأعمال أمام أميركا وإسرائيل، وهو بقاء النظام، لكنها خسرت أسطورة الاقتدار، وبدت مكشوفة أمام الطيران الإسرائيلي من دون حماية فعلية، بحيث دفعت في الضربات اليومية أثماناً لا تقل عن الأثمان التي دفعتها في "الضربة الاستباقية" لجهة اغتيال القادة الكبار وعلماء الذرة، كما أن قوتها الصاروخية لفتت أنظار أوروبا والعرب إلى أخطار الصواريخ الباليستية على أمن أوروبا والمنطقة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ترمب ربح الحرب عبر الضربة العسكرية التي شكلت مشهد الذروة في التراجيديا القتالية، ويريد أن يربح السلام. ومن المبكر رسم السيناريوهات حول الصورة الجديدة للشرق الأوسط، فلا تقسيمات سايكس-بيكو كانت ممكنة لولا الحرب العالمية الأولى وهزيمة السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمسوية-المجرية والإمبراطورية البروسية ثم القيصرية. ولولا الحرب العالمية الثانية لما حصلت البلدان العربية على الاستقلال، ولما كان من السهل أن تولد إسرائيل. والتطورات الدراماتيكية التي يتحدث عنها أصحاب الخيال، وبينهم أصحاب رؤية بعيدة، تحتاج إلى حرب أكبر من حرب غزة ولبنان وحرب إسرائيل وإيران وإن دخلتها أميركا مباشرة. وما حدث ليس السيناريو الخطر الذي تصوره بعض، وهو أن تسجل إسرائيل نصراً مطلقاً على الجمهورية الإسلامية أو بالعكس أن تلحق طهران بإسرائيل هزيمة كاملة. ففي مثل هذا السيناريو تقع المنطقة من المتوسط إلى الخليج، وحتى من المحيط إلى الخليج بحسب الشعار القديم، تحت هيمنة قوة إقليمية واحدة تتحالف مع قوة دولية واحدة أو أكثر. وهذا هو الخطر الأكبر الذي يتطلب التخلص منه عقوداً وتضحيات وعذابات. وليس سراً أن كثراً في المنطقة راهنوا على أن تنتهي الحرب بخسارة الطرفين، مقابل قلة راهنت على ربح إيران وقلة راهنت على ربح إسرائيل، ولكل أسبابه وظروفه وموقفه المبني على تجارب الماضي وما فعلته في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، وسواها هيمنة إسرائيل وهيمنة إيران. والسؤال المباشر الآن هو ماذا بعد وقف النار؟ هل تنتهي الحرب أم أن المنطقة في استراحة محارب قبل معاودة القتال، وما التسوية التي تقود إليها المفاوضات بين أميركا وإيران؟ طهران توحي أنها ستكمل برنامجها النووي وأن الأضرار التي وقعت في المنشآت لم تدمر كل شيء، كما أنها لن تتخلى عن حقها في تخصيب اليورانيوم. وترمب يقول إن الضربة الأميركية دمرت المنشآت النووية بالكامل، وسط تشكيك حتى في أوساط الاستخبارات الأميركية، ويهدد بضرب أية منشأة تحاول طهران إعادة بنائها وإحياء وظيفتها، ونتنياهو يهدد بما هو أكثر، وهما معاً يصران على شعار "صفر تخصيب" داخل إيران. وإذا كان أنصار إيران يتصورون أن الجمهورية الإسلامية ستخرج من المفاوضات مع أميركا، لا فقط برفع العقوبات عنها بل أيضاً بإطلاق يدها في المنطقة، فإن الأوساط الأميركية والإسرائيلية تضع على جدول الأعمال ثلاث لاءات، لا للمشروع النووي الإيراني ولا لتطوير البرنامج الصاروخي ولا للمشروع الإقليمي الإيراني وأذرعه. الحرب التي كشفت نقاط القوة والضعف لدى كل من إسرائيل وإيران، تركت لدى بعض انطباعاً خلاصته أن الجمهورية الإسلامية خسرت دور القوة الإقليمية، ولم تعد قادرة على حماية الرأس ولا الأذرع من إسرائيل. ومقابل الرهانات على الطائرات والصواريخ لصنع التاريخ، يقول هيغل "الفلسفة وحدها تستطيع قراءة ما خفي من التاريخ".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store