
صعود السطحية وسقوط القيمة
في عصر يُقاس فيه التأثير بعدد المشاهدات لا جودة الفكرة، تتصدر التفاهة المشهد، ويُهمّش العقلاء، ويتراجع التعليم، وتنهار المعايير، لم تعد مؤشرات التأثير في عصرنا تُقاس بالعلم، ولا مكانة الأشخاص تُبنى على الحكمة أو عمق الفكرة. بل بات المعيار هو من يُثير الضجيج، ويجيد صناعة "الترند"، ويُتقن فن الحضور الخفيف، حتى لو كان بلا مضمون.
إذن نحن أمام تحول جذري، لا في أدوات التواصل فقط، بل في البنية القيمية التي تحكم مجتمعاتنا. فمنذ سنوات قليلة، كان المثقف هو من يُستشار، والعالم هو من يُقدَّم، وصاحب الخلق هو من يُصغى إليه، أما اليوم، فقد اختلطت الأصوات، وغاب الرشد، وتقدّم من لا دراية له، وتوارى أصحاب الفضل في الزوايا.
وكما يقول آلان دونو في كتاب نظام التفاهة: "لقد تبوأ التافهون المناصب، أما أصحاب الكفاءة فقد انزَوَوا جانبًا."
وحينما أصحبت التفاهة نظاماً لا استثناء أصبح العالم يعيش لحظة فارقة، تتحكم فيها أدوات تكنولوجية فائقة التأثير، تتصدرها وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُعيد تشكيل الذائقة العامة والمعايير الثقافية وأصبحت الخوارزميات هي التي تُقرر من يظهر، ومن يُنسى. ومن ثم، لا يُطلب من المحتوى أن يكون نافعًا أو رصينًا، بل أن يكون لافتًا، سريعًا، قابلاً للمشاركة... ولو كان أجوف.
وتُشير الإحصائيات إلى أن 63٪ من الشباب اليوم يستقون أخبارهم من هذه المنصات، مما يجعل عقولهم مُعرضة للتوجيه الممنهج، لا من أصحاب الاختصاص، بل ممن يملكون أدوات التأثير الرقمي.
وكأننا نعيش زمن الرويبضة الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أصبح الرجل التافه - الذي لا يفقه شيئًا - هو من يُستشار في قضايا العامة عبر مقاطع مصوّرة قصيرة، وسلاسل ترندات "ساخرة" تُغيّب الوعي، وتختزل القضايا، وتُقصي العقلاء، يُهمَّش العلماء، ويُسخر من المفكرين، وتُطفأ منابر الحكمة لحساب شهرة آنية لا تدوم. وهذا تمامًا ما وصفه آلان دونو بقوله: "التافه هو الذي يتقن لعبة الصعود في النظام، ويخضع لقواعده، ويترقّى لا لأنه الأفضل، بل لأنه لا يُهدد أحدًا."
وهنا نتساءل: من الذي سمح بصعود التافهين؟
التفاهة لا تصعد وحدها، بل تُهيأ لها الأرض، وتُفرش لها المنابر، ويُمنح أصحابها التصفيق والترويج. ومن أبرز العوامل التي مهّدت لها:
صمت العقلاء وانسحاب أصحاب الرأي فحين آثر أهل الحكمة السلامة، وترددوا في الدخول إلى فضاءات التأثير الحديثة، فُتح المجال لغيرهم.
فكثير من المثقفين والمختصين نأوا بأنفسهم عن منصات التواصل، معتبرين أنها "سوق ضجيج"، فخلا الميدان، واحتله من لا خُلق ولا علم له. وقديما قيل: "إذا غاب العاقل، تكلم الأحمق." والصمت الطويل للعقلاء ليس حكمة دائمًا، بل قد يكون تفريطًا في وقت الحاجة.
فالمتلقي نفسه - في كثير من الأحيان - أصبح شريكًا في صعود التفاهة، حين صار يبحث عما يُسليه لا ما يُنميه. فصاحب المحتوى السطحي يحصد الإعجابات، والمفكر يُعد "ثقيلًا" أو "مُعقدًا". وهذا الانحراف في الذائقة شجع صناع المحتوى على إنتاج المزيد من "السهل الممتنع"… الذي لا يمتنع.
كما أن تساهل المؤسسات الإعلامية والثقافية في المعايير قد فتح المجال لهؤلاء، فحين تتراجع معايير الجدارة والكفاءة، ويُستضاف "المثير" لا "المؤثر"، وتُمنح الجوائز والمناصب وفق الشعبية لا المعرفة، تصبح التفاهة مُؤسّسة، لا مجرد ظاهرة عابرة، وتتحول البرامج إلى ترفيه صرف، والحوارات إلى جدل بلا مضمون، وتغيب البرامج العميقة لصالح ما "يصنع مشاهدات". وقد عبّر الإمام علي بن أبي طالب عن هذه الظاهرة حين قال: "إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه." حين تصعد التفاهة وتتراجع الكفاءة، فإن أول القطاعات التي تدفع الثمن هو التعليم، الذي يُفترض أن يُخرّج العقول لا يُخرّج المتابعين.
ومع تعاظم رموز السطحية، يصبح القدوة عند الطالب ليس المعلم أو الباحث، بل صاحب المقاطع الطريفة والعبارات المثيرة. وهذا ينعكس على القطاع العام، إذ تضعف الكفاءة ويُستبدل الأداء بالواجهة، وتُدار المؤسسات بعقلية العلاقات لا بالخطط، فينهار الأداء وتتدنى الإنتاجية.
وفي لحظات التحول الحضاري، لا تسقط الأمم فجأة، بل تتآكل من الداخل بصمت؛ حين تتقدّم الواجهة على الجوهر، وتُستبدل الكفاءة بالاستعراض، ويُرفع الجهل على أنه وعي، وتُقدَّم التفاهة في هيئة حكمة. ولعلّ سقوط بغداد عام 656هـ مثال حي على هذا المسار، حين أُهملت الكفاءات، وسُرّحت العقول، وأُغدقت الأموال على الجهلة والمنافقين. لم تعد الدولة تُدار بالعقل والحنكة، بل تحولت إلى قصر من ترف واستعراض، فكانت النتيجة انهيارًا مروعًا على يد هولاكو، وسقوط مدينة كانت رمزًا لحضارة كاملة.
هذا المشهد لا يخصّ الماضي وحده، بل هو واقع يتكرر بصيغ جديدة. نحن نعيش اليوم حالة صعود غير مسبوق لما أسماه المفكر الكندي آلان دونو "نظام التفاهة"، وهو نظام لا يفسد الأفراد فقط، بل يُنتج بيئة كاملة تُكافئ الامتثال وتُعاقب التميز، وتستبدل العمق بالسطحية، والمعنى بالضجيج، والكفاءة بالشهرة.
عندما يتصدر المشهد من لا علم له ولا تجربة، تتحول الساحة العامة إلى صدى للانفعالات، لا ميدانًا للفكر. تغيب القضايا الجوهرية، وتتوارى الموضوعات الكبرى، لتُستبدل بنقاشات هامشية تصنع الإثارة لا الفهم، ويضيع الرأي العام وسط طوفان من التوجّه لا التعبير، والتلقين لا التفكير.
وتتشوّه المعايير حين يرى الجيل الناشئ أن النجاح لا يرتبط بالاجتهاد أو الخلق أو العلم، بل يرتبط بالقدرة على لفت الانتباه ولو بالسخرية أو الجدل الفارغ. تُستبدل القدوة بالواجهة، والمربّي بالمؤثر، والمحتوى بالصوت العالي، فتنشأ أجيال تعيش في فقاعة شهرة زائفة، بعيدة عن واقع البناء الحقيقي.
ولا يسلم التعليم من هذا التيار الجارف، إذ يُستهزأ بالمعلم، ويُستبدل احترام المعرفة بالبحث عن الملخصات السريعة، وتُهمل مهارات التفكير والتمييز. فتتراجع الكفاءة، وتضعف الإنتاجية، ويختل الأداء في مؤسسات الدولة والمجتمع، نتيجة لتراكم مخرجات تعليمية تفتقر إلى العمق والمنهج.
أما التفاهة حين تسيطر على المنصات العامة، فإنها لا تجمع، بل تفرّق. لا تبني، بل تهدم. لأن غايتها ليست الفكرة ولا المصلحة العامة، بل البروز والإثارة. تُزرع ثقافة الاستهزاء، ويغيب أدب الاختلاف، وتتفكك القيم المشتركة التي تُمسك نسيج المجتمعات، فنجد أنفسنا أمام حالة من التشظي والانقسام.
وحين يُقدَّم غير المؤهلين إلى المواقع الحساسة، فإن الخطر لا يكون إداريًا أو معرفيًا فقط، بل وجوديًا. وقد نبه النبي ﷺ إلى هذا المعنى العميق حين قال: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة" (رواه البخاري). الحديث لا يخص المناصب العليا فحسب، بل يشمل كل موقع يُدار بغير أهله: في التعليم، في الإعلام، في القضاء، في الرأي العام، وفي كل ساحة يؤثر فيها القرار أو الكلمة.
وإذا كنّا نُدرك حجم الانحراف في المعايير، فلا بد أن نعي أن الصمت لم يعد خيارًا، ولا الترفع عن الدخول في "سوق الكلام" مبررًا للغياب. يجب أن يعود أهل الرأي والخبرة إلى المشهد العام، لا لمجاراة التافهين، بل لحضور رصين وهادئ وثابت، يزرع الثقة والفهم في ساحة اختلط فيها كل شيء. فمن يغيب عن الميدان، لا يلوم من يحتله.
ولا بد من إعادة تشكيل الذائقة الجمعية، عبر التربية والتعليم والإعلام، لتستعيد الكلمة قيمتها، وتُفهم الشهرة في سياقها الحقيقي، ويُفرّق بين من يفكر ومن يثير، بين من ينفع ومن يُشغل الفراغ. فليس كل من كثر متابعوه يستحق أن يُسمع، ولا كل من تصدّر يستحق أن يُقتدى به.
علينا أيضًا أن نعيد إحياء السنة النبوية في اختيار القادة والمستشارين، فالنبي ﷺ كان لا يُسند أمرًا إلا لمن يجمع بين الكفاءة والأمانة، لا لمن يطلبه، ولا لمن يثير الإعجاب السطحي. هذه القاعدة يجب أن تحكم اختيار المسؤول، والمربي، والموجّه، وكل من له أثر في التشكيل العام للعقول والقرارات.
ولا يمكن إنقاذ الذوق العام ما لم تراجع المؤسسات الإعلامية خطها التحريري، وتتوقف عن صناعة التافهين لمجرد أنهم "يربحون المشاهدات". كما أن المؤسسات التعليمية مطالبة بإعادة بناء القيم والمناهج، بحيث تُنتج جيلًا قادرًا على التمييز، لا فقط على الحفظ، وعلى المشاركة، لا فقط على التلقي.
غير أن كل هذا لن يُثمر ما لم يبدأ الفرد بمراجعة ذاته. قبل أن نطالب بتغيير المجتمع أو إصلاح الإعلام، علينا أن نتساءل: هل نُسهم، دون أن نشعر، في ترسيخ التفاهة؟ هل نتابعها؟ نُعيد نشرها؟ نُقلد رموزها؟ إن أولى خطوات الإصلاح تبدأ من هذا الوعي الفردي، من إدراك أثر المتابعة، واختيار من نصغي له، ومن نرفع صوته.
نحن لا نخوض معركة محتوى فحسب، بل معركة وعي. لسنا ضد الترفيه، بل ضد تسويقه كمعيار للجدارة. ولسنا ضد الشهرة، بل ضد أن تتحول إلى بطاقة عبور لكل منصة وموقع تأثير. فبقاء التفاهة في الصدارة ليس قدرًا، بل نتيجة غياب من يُنهض بالفكرة، ويُعيد ترتيب الذوق العام.
الحكمة لا تموت، لكنها تحتاج منبرًا يصونها، وعقلًا يصغي لها بإرادة حرة ونضج صادق. والتافه لا يعلو إلا حين يصمت العاقل. وإن كنا لا نملك السيطرة على الخوارزميات، فإننا نملك الاختيار: من نتابع، من نُشارك، من نُصغي له، ومن نصنع له جمهورًا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
منذ 2 أيام
- جريدة الرؤية
رحيل زياد الرحباني.. حين يصمت اللحن وتتوقف النوتة الموسيقية
الرؤية- مدرين المكتومية عندما تموت الموسيقى واللحن يموت معهما الجمال وتموت معه المشاعر، وتتحول الأراضي الماطرة والخصبة إلى أراض جافة، كما تتحول الحياة من الألوان الجميلة والرائعة إلى لوحة قاتمة، لوحة لا ترى خلالها سوى الحزن والفقد والألم. وعندما نتحدث عن اللحن والموسيقى فإننا نتحدث عن جزء من جماليات الحياة التي سرقها الموت في لحظة، وعندما يسرق الموت فناناً وملحناً موسيقياً هذا يعني أن نوتة موسيقية أخرى قد سقطت ولم يعد لها مكان في السلك الموسيقي، وعندما يخسر الفن أحد فنانيه تجد الرثاء عليه مختلفاً، رثاء الكلمات الصادقة الشاعرية التي لا يفهمها سوى متذوقوه، هو من قال "اكتبوا على الأوراق، على أوراق الدفاتر، على أوراق الأشجار الصفر، اكتبوا على شبابيك الزواريب الطويلة، على أصغر الأحجار، احفروا في جذوع الأشجار، على أبواب البيوت المتهدمة، اكتبوا كل ما يخطر ببالكم، فإننا راحلوا ! اكتبوا". وها نحن نكتب كلمات الوداع كما قال وذكرنا، إننا ودعنا بالكتابة كما أوصانا بالأمس الفنان والملحن والكاتب والمسرحي الفنان اللبناني زياد الرحباني الذي توفي عن عمر يناهز 69 عاما، هذا الشخص الذي استطاع أن يحول المسرح ساحة للتعبير عن نفسه وعن ما يعيشه العالم بأسلوبه الشيق الفكاهي، فهو عميق جدا إلى حد أنك تستمع لسخريته وتنصت بكل اهتمام فلديه أسلوبه السحري في معالجة القضايا والمواضيع. كان الرحباني شخصية مثيرة للجدل نتيجة لما يقدمه من موسيقى ومسرح وشعر، فهو ابن المغنية الشهيرة فيروز، وأبوه عاصي الرحباني، فشهرت أبويه وموهبتهما حولته لشخصية ذات طباع وسمات مختلفة. تشارك الرحباني الفن والمقطوعات الموسيقية مع والده منذ سن صغير، فقد كان يتساءل عن المقطوعات والألحان التي كان يشاركه والده في ذلك، حيث إن أول عمل قدمه زياد كان شعرا بعنوان "صديقي الله" كان هو الباب الأول لولادة شاعر جديد على الساحة الشعرية آنذاك، ولكن زياد كان مهتما بالموسيقى، حيث لحن أوَّل عمل له في 1971 وكان لأغنية "حبيني يا لوزية" ثم تلا ذلك الأغنية الشهيرة التي غنتها فيروز وتعد من أهم أغانيها التي لايزال إلى اليوم يرددها الناس وهي "سألوني الناس". أما المسرح فهو البوابة التي يعبر الناس من خلالها للحياة، لم يكن المسرح مجرد قاعة عرض وإنما في تلك المساحة البسيطة منه كانت تقام عليه الكثير من الأحداث والنشاطات الكبيرة، الرسالة العميقة للعالم نحو حياة يتمنونها، فلم يكن المسرح مجرد سيناريو وشخصيات وإنما كان بمثابة مكان للإصلاح والتظاهر والاعتراض والتعبير عن الحرية وغيرها من المواقف الاجتماعية الأخرى التي كان حاضرا فيها زياد الرحباني، حيث سجل حضوره الأول كشرطي في مسرحية "المحطة" وبنفس الدور أيضًا شارك في مسرحية "ميس الريم" التي صاغ فيها ألحان ذلك العرض. وفي المسرح لم يقف زياد عند التمثيل والتلحين، وإنما مضى نحو كتابة أولى مسرحياته والتي حملت عنوان "سهرية" والتي أخذت المقطوعات الموسيقية خلالها الاهتمام الأكبر، ومن المعروف عنه بعد فترة من الزمن هو أن مسرحياته لم تكن تمثل فقط الأسلوب التي قام به الأخوان الرحباني والمليئة بالحياة المثالية والخيالية بعيدا عن الواقعية، في حين ذهب هو نحو الواقعية والسياسة التي يعيشها المجتمع آنذاك. ومن يعرف زياد عن قرب ويتابعه من المهتمين والعاملين في المجال الفني يعرف جيدا أن أعماله لم تقتصر فقط على كتابة الشعر والمسرح والموسيقى، بل كان هناك جانبا سياسيا في حياته، فهو جريء جدا وكتب الكثير من المقالات الجريئة في عدد من الجرائد اللبنانية. رحل زياد تاركا خلفه الكثير من الأعمال الفنية بين أفلام وشخصيات تقمصها، وبين موسيقى تصويرية بالإضافة إلى أعماله التي كانت لوالدته الفنانه فيروز والتي يمكن القول إنها كثيرة جدا، وكما قال "طرق السفر يقف عليها أناس كثيرون، لا يبكون، لا يضحكون، إنهم مسافرون" فنحن في هذه الحياة نأتي كمسافرين نقف في كل مرة عند محطة نظن أنها الأخيرة وأننا سنبقى فيها طويلا، ولكن الموت أيضا له كلمته المباغتة، فيسرق منا ما كنا نخافه ويهرب بنا نحو عالم آخر، ذلك العالم الذي لا بد وأن نقبل به، لأنه ليس خيارا أبدا.


جريدة الرؤية
منذ 2 أيام
- جريدة الرؤية
رسالة كونية في حمامة
أنيسة الهوتية فجأة شعرت بأنني لا أشعر بشيء!!! لا خوف، لا قلق، لا توتر!!! حتى لا جوع ولا عطش ولا نعاس!! ولا رغبة في الخروج من البيت، أو المكوث فيه!!! ماذا أصابني؟! هل تبلدت مشاعري؟! أم أنها جلطة عاطفية، وربما سكتة مشاعرية؟! كنت أسقي عروقي العطشى حين تصرخ مستنجدة مخافة الموت بالقهوة المرة السادة، فقد كانت النكهة الوحيدة التي تقبلتها وحدتي الممتلئة بالضجيج. بصمت وهدوء أجلس ليلًا أمام مدخل البيت، وحيدة على كرسيي الهزاز الخشبي، الذي أنينه يخدش هدوء الليل بينما يهودني… وأنا أغرق في ضجيج الأصوات والمشاهد الذهنية، وما ربط على قلبي سوى الأذكار والدعاء والعبادات. وبين كل لحظة ولحظة أدعو الله أن يدمر الظالمين، ويشفي صدور المظلومين ويعوضهم.. لم يتجرأ أحد على مداهمة وحدتي، مخافة ردة فعلٍ مجنونة من شخصٍ لطيف. أو لعدم علمهم بحالتي… باستثناء تلك الحمامة البرية "الحقمة" التي قررت في ليلة وضحاها بناء عشها فوق مصباح مدخل البيت، حيث أجلس وأحتسي القهوة، وتمامًا على رأسي. انزعجت من ذلك، ولكنني لم أستطع أن أُنفرها، فإن الملك لله وحده. فتركتها، وشغلتني بالتنظيف وراءها. وليلًا كانت تهدل بصوت خافت حين احتسائي لقهوتي، وكلما غرقت في أفكاري أخرجتني إلى الواقع. فقررت إطفاءَ المصباح الذي بنت عشها عليه، واكتفينا بالمصابيح الجانبية التي تعمل بالمجسات والطاقة الشمسية. وهكذا عقدنا اتفاقًا أنني سأحتسي أكواب قهوتي في الظلام، وأطفأ لها المصابيح حتى تنام… وألا يزعج أحدٌ منا الآخر. وبالأمس، قبيل وقتنا، كانت تنوح نوحًا ولا "تهجع"... تطير إلى المصابيح المجسية بتكرار واحدة تلو الأخرى وتجعلها تضيء، كانت مجنونة. فخرجت لأرى ما بها! وما إن فتحت الباب وإذا بجيوش من النمل الأسود في خط مستقيم وكأنه شعر ساحرة شرقية طوله عشرة أمتار!! وبيضة واحدة من بيوضها متكسرة على الأرضية، يبدو أنها سقطت من العش، والنمل يحتفل بوليمة دسمة. فنظرت إليها بينما هدأت من جنونها! وبدأت تنظر إليَّ مباشرة، فبدأت أبكي… بكيت بكاءً… بُكاءً لم أبكهِ حتى في عزاء أبي لأنني كنت أفكر حينها بأمي، ولم أرد أن أثقل حمل حزنها وألمها أكثر. بكاء لم أبكهِ حتى في عزاء أمي لأنني كنت أفكر بإخوتي وأخواتي الصغار، فإن كنت أنا من انهار ماذا يكون بشأنهم!؟ وتخيلت أن مجرد حمامة "انجنت" على بيضة من بيوضها "كذا؟" فماذا عن الأمهات في غزة؟ جلست دون شعورٍ على النمل الذي لربما قال لجيشه: انتبهوا لتحطمنكم أنيسة! وبدأت أشعر بمرارة وحرارة دموعي في بلعومي وحلقي وأنفاسي. حتى نزلت الحمامة وجلست على رأسي وكأنها تواسيني في خسارتها. أخبرتها وصوتي يشهق أنفاسه: أنا آسفة جدًا بأنني لم أستطع مساعدتك، وبأن البيضة لو لم تكن مكسورة لكنت سأعيدها لكِ إلى عشك! لم أستطع التوقف عن البكاء الذي كان يزهق قلبي طوفانًا مقهورًا وغاضبًا من قلة الحيلة، حتى نزلت الحمامة من قمة رأسي إلى كتفي ثم إلى كفي. وعندما بدأت أهدأ، رفرفت بجناحيها راجعة لعشها… اعتذرت منها كثيرًا، لأنني أعلم شعور ألم الخيبة، خاصة حين لا ينقذك من ترى فيه السند والظهر… ولأن قلبي ممتلأ بحزن الأمهات في غزة، وبعضًا مما أكبته، انفجرت بكاءً… ولم تكن الحمامة سوى تمثيل حي في صورة تشبيهية كونية كمثل الغراب الذي علم قابيل كيف يدفن جسد هابيل. وعلمتني تلك الحمامة أن الحياة لا تتوقف، وبأننا يجب أن نؤمن إيمانا ويقينا بأن الله تعالى هو مسبب الأسباب وحده، وهو القاضي العدل والمحامي الذي سيعيد لكل مظلوم حقه، ولو بعد حين.


جريدة الرؤية
١٩-٠٧-٢٠٢٥
- جريدة الرؤية
غير نظرتك.. تتغير حياتك
د. قاسم بن محمد الصالحي أريد أن أغير طباعي، أريد أن تتغير حياتي، أتمنى أن يتغير مسؤولي في العمل.. كل منا يريد ويتمنى أن يصبح كل شخص وكل شيء في الدنيا موافقًا لهواه ورغباته، إذا أردت أن تغير من شخص ستصاب في الغالب بخيبة أمل، لأنه لا أحد يتغير إلا بإرادته هو، والأهم من ذلك أنه لا شيء يحتاج التغيير سوى نظرتنا نحن للأشياء والأحداث من حولنا، يقول غاندي: إن الشيء الوحيد الذي يميز بين شخص وآخر هو النظرة السليمة تجاه الاشياء.. قل لي كيف تفكر في المستقبل؟، هل تفكر فيه على أنه استمرار وتفاقم للمشاكل، أم أنه يحمل الفرص التي يجب أن تستعد لها لتستغلها وتحقق لنفسك حياة أفضل، هل تفكر في نفسك فقط؟ أم تفكر في الطريقة التي ستترك بها بصماتك التي سيشكرك عليها الناس ويتذكرونك بالخير بعد أن تفارق هذه الحياة، التي وإن طالت بك فهي قصيرة جدًا في عمر الزمن. أعطني لحظات من وقتك أيها القارئ الكريم، وتأمل معي هذه المقارنات، لكي أثبت لك أن ما يحدد مشاعرنا وسعادتنا ليس الواقع الذي نعيشه، بل طريقتنا في النظر إلى هذا الواقع.. هل هناك فرق بين من ينظر إلى المستقبل على أنه "الفرصة القادمة"، التي لا بد أن نستعد لاستغلالها، وبين من ينظر إليه على أنه تراكم للمزيد من المشكلات التي لن يكون لها حل!!، هل هناك فرق بين من ينظر إلى أطفاله على أنهم نتيجة طبيعية للزواج، وواجب يفرضه المجتمع و"المباهاة"، وبين من ينظر إليهم على أنهم "المفاجأة التي يخبئها للعالم!".. أكرر "المفاجأة التي يخبئها للعالم بأسره!!، هل تعتقد أن كلا الأبوين سيشعران وسيتصرفان بشكل متشابه. جميل! فلنبدأ بحديث بسيط يحفزنا على تغيير نظرتنا للأشياء، بأسلوب مشجع وقريب للقلب.. في زحمة الأيام وتقلّبات الحياة، قد نجد أنفسنا محاطين بمواقف محبطة، وأحيانًا نشعر أن كل شيء ضدنا، وهذا الشعور طبيعي، لكن الخطير هو الاستسلام له.. فالتشاؤم لا يغيّر الواقع، بل يزيده ثقلًا، ويغلق أمامنا أبواب الأمل، إذا ما رأينا فقط العقبات أمامنا، دون أن نرى الفرص.. نحن وسط تلك العقبات سيكون الفرق ليس في الظروف، بل في النظرة، فكم من شخص خرج من ضيقٍ إلى فرج لأنه آمن بأن بعد العسر يسرًا، وكم من شخص بقي حبيس مشاعره السلبية لأنه لم يُصدّق أن الضوء موجود في آخر النفق. نعم.. لنكن صادقين مع أنفسنا، بأن التفكير الإيجابي لا يحل كل المشاكل، لكنه يعطينا القوة لمواجهتها، والصبر لتحمّلها، والعقل للبحث عن حلول لها.. التغيير يبدأ من داخلنا، من فكرة صغيرة تقول لنفسك: "ربما هناك جانب آخر لهذه القصة، لم أرَه بعد". أيها القارئ الكريم، جرب أن تعطي نفسك فرصة، لا تطفئ النور بيدك، ولا تسجن نفسك داخل دائرة السواد، هناك أشياء جميلة حولك، تنتظر فقط أن تفتح لها نافذتك.. الحياة قصيرة، فلا تضيعها في التوقعات السوداوية، عشها ببساطة، بحسن ظن، وبقلب يُجيد رؤية النور حتى في أصعب اللحظات. قد تكون اللحظة مناسبة لتقديم دعوة من القلب إلى كل شاب أثقلته الحياة.. كن إيجابيًا، ولو أظلمت الدنيا، يا من ضاق صدرك من الدنيا، وشعرت أن الأبواب كلها موصده، وأن الحظ لا يعرف طريقك.. تمهّل، لا تظن أن ما تمر به دائم، ولا تحكم على مستقبلك من يومٍ سيئ عشته.. أيها الشاب، أيتها الشابة.. كثيرٌ من العظماء مرّوا بلحظات ضعف وانكسار، لكنهم لم يسمحوا لليأس أن يعشش في قلوبهم، لأنهم آمنوا بأن الله لا يُضيع من أحسن الظن به، وأن النور يأتي بعد الظلمة، والفرج بعد الضيق.. ربك الذي قال: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"، لم يقل ذلك ليروي قصة، بل ليُطمئن قلبك.. فمهما اشتدت عليك الحياة، هناك يسْر قادم، فقط تمسك بالأمل، وابدأ بالنظر إلى نعم الله عليك، ولو كانت بسيطة.. أنت في بداية العشرينيات، تخرّجت بشهادة جامعية، وظننت أن الوظيفة تنتظرك عند الباب، طرقت كل الأبواب، أرسلت عشرات السير الذاتية، وانتظرت، وانتظرت.. حتى بدأت ثقتك بنفسك تضعف، وبدأت الأسئلة تنهشك: "هل فشلت؟ هل أنا أقل من غيري؟ هل تعبي ضاع؟".. لا تستسلم ابدأ من الصفر، اعمل بأي وظيفة حتى وإن كانت بسيطة بأجر زهيد، طوِّر من مهارتك، وواصل التقدم، ولكن بإيمان أن الله يرى ويسمع، مع الأيام ستلهم غيرك بقصة نجاح حققتها، فقط اختار ألا تسمح للتشاؤم أن يسرق مستقبلك.. الشيطان يفرح حين يُقنعك أن لا جدوى، أن كل شيء لا معنى له، لكن المؤمن، القوي، العاقل، يعلم أن مع كل تحدٍ فرصة، ومع كل سقوط درس، ومع كل تأخير حكمة، فلا تيأس، ولا تقارن نفسك بأحد، توكل على الله، واعمل، وارضَ، وابتسم، ولا تنسَ أن الله لا يُخيب من أحسن الظن به.