logo
الحرب تُبرمج: الذكاء الاصطناعي يربك قواعد القانون الدولي

الحرب تُبرمج: الذكاء الاصطناعي يربك قواعد القانون الدولي

الجزيرةمنذ يوم واحد
لم نعد أمام مجرد تقدم تقني في أدوات الحرب، بل أمام نقطة تحول تزعزع جوهر العلاقة بين القانون، والقرار، والقتل.
في عالم تُدار فيه المعارك بخوارزميات، وتُتخذ فيه قرارات إطلاق النار دون تدخل بشري، تظهر أنظمة قتالية ذاتية، تحلل وتختار وتنفّذ الهجوم خلال أجزاء من الثانية.. لم تعد الآلة تطيع، بل بدأت تأمر! وهكذا تنتقل حياة الإنسان من أن تكون مسؤولية سياسية أو عسكرية إلى أن تصبح ناتجًا لخوارزمية لا تملك ضميرًا، ولا تحاسب على خطأ.
في هذا الواقع المتسارع، يقف القانون الدولي حائرًا أمام سؤال مصيري: من يحاسَب حين ترتكب الآلة مجزرة؟ ولفهم خطورة هذا التحول، لا بد من العودة إلى المفهوم الجوهري الذي بات يتصدر هذا الجدل القانوني والأخلاقي.
أولًا: ما المقصود بالأسلحة الذاتية القاتلة؟
الأسلحة الذاتية القاتلة (LAWs) قد تكون قادرة على تحديد الهدف، وتقييم الخطر، وتنفيذ الهجوم، كل ذلك خلال أجزاء من الثانية، وبلا مراجعة بشرية، تشمل هده الفئة طائرات بدون طيار، وروبوتات برية مسلحة، وأنظمة بحرية ذاتية التشغيل. ويختلف ذلك عن "الأسلحة الموجهة" التي تحتاج لتأكيد بشري في لحظة إطلاق النار.
ثانيًا: من يتحمّل المسؤولية القانونية؟
وفقًا للقانون الدولي الإنساني، يخضع استخدام القوة لمبادئ أساسية مثل التمييز، والتناسب، والضرورة العسكرية. لكن عندما تكون الآلة هي التي تتخذ قرار القتل، تظهر أسئلة شائكة :
من يتحمل المسؤولية عند ارتكاب مجزرة؟ أهو المبرمج، أم القائد العسكري، أم الدولة؟ كيف يمكن التحقيق في "نية" الخوارزمية؟ هل يمكن أن تُحاكم آلة على "قراراتها" القتالية؟
ماذا عن القائد العسكري؟ في القانون الدولي، القائد مسؤول عن الأوامر التي يصدرها. لكن ماذا لو لم يكن هو من أعطى الأمر النهائي، بل كانت "الخوارزمية"؟
ماذا عن المبرمج أو الشركة المصنّعة؟ يمكن تحميلهما مسؤولية مدنية، لكن من الصعب إثبات "النية الجنائية" أو "القصد"، وهما عنصران أساسيان في القانون الجنائي الدولي.
ماذا عن الدولة المستخدمة؟ هذه أقوى الاحتمالات؛ إذ إن القانون الدولي الإنساني يُحمّل الدولة المسؤولية عن أعمال قواتها أو أدواتها. لكن في حالة العمليات ذاتية القرار، قد تحاول الدولة التنصل بحجة "خطأ تقني" أو "سلوك غير متوقع".
النتيجة: نحن أمام فراغ قانوني خطير؛ فالقانون لا يحدد بعد من هو الفاعل القانوني حين تكون الآلة هي من قررت القتل.
القانون الجنائي يعتمد على الركن المعنوي (القصد أو الإهمال)، لكن الخوارزمية ليست كائنًا عاقلًا.. فكيف يمكن مساءلتها؟ أيُعدُّ الخطأ في البرمجة جريمة؟
ثالثًا: هل يمكن محاكمة خوارزمية؟
قانونيًّا، لا يمكن محاكمة خوارزمية، لأنها ببساطة ليست كيانًا قانونيًّا؛ فهي ليست شخصًا طبيعيًّا يمكن مساءلته جنائيًّا، ولا شخصًا معنويًّا يملك ذمة قانونية مستقلة، كما أنها لا تملك نية أو وعيًا، ولا تستطيع الدفاع عن نفسها أو تمثيل ذاتها أمام محكمة. وبالتالي، فإنها لا تخضع لأي من المبادئ الأساسية للمسؤولية الجنائية الفردية المعروفة في القانون الدولي أو الوطني.
وعليه، لا تحاسَب الخوارزمية نفسها، وإنما يُوجَّه النظر نحو من صمّمها أو شغّلها أو أمر باستخدامها. لكن الإشكال القانوني الخطير يظهر عندما لا تتوفر نية إجرامية مباشرة، أو تقصير واضح من قبل أي عنصر بشري، فتدخل المساءلة في منطقة رمادية يصعب ضبطها قانونيًّا.
لهذا السبب، يطالب كثير من الخبراء القانونيين والحقوقيين بإعادة التفكير في قواعد المسؤولية، واقتراح مفاهيم جديدة مثل "النية الآلية"، أو على الأقل فرض مبدأ دائم يُلزم بوجود "إشراف بشري هادف" (Meaningful Human Control) في كل قرار تتخذه الأنظمة القتالية الذاتية. وبدون ذلك، سيبقى القانون في موقع المتفرج أمام "قتل آلي" بلا محاسبة.
رابعًا: كيف نقيّم "نية" الآلة؟
القانون الجنائي يعتمد على الركن المعنوي (القصد أو الإهمال)، لكن الخوارزمية ليست كائنًا عاقلًا.. فكيف يمكن مساءلتها؟ أيُعدُّ الخطأ في البرمجة جريمة؟ أم إن انحياز الخوارزمية في تحديد الأهداف هو نتيجة لبيانات منحازة؟ هذا يعقّد مسألة المسؤولية الفردية، ويُظهر الحاجة لإعادة تعريف النية في سياق الذكاء الاصطناعي.
هل يمكن للقانون الدولي أن يُخضع التكنولوجيا لأحكامه؟ أم سنشهد ميلاد حروب بلا قانون؟
القانون الدولي، عبر تاريخه، أثبت قدرته على التطور بعد الكوارث لا قبلها.. تأسس ميثاق الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وجاءت اتفاقيات جنيف ردًّا على الجرائم الجماعية، وتم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بعد فظائع البوسنة ورواندا. لكن ذلك كان دائمًا رد فعل أكثر مما هو استباق.
اليوم، الذكاء الاصطناعي لا يمنحنا هذه "الرفاهية الزمنية"؛ فالآلة التي تتخذ قرار القتل دون بشر تُعيد تعريف الحرب، والمسؤولية، والنية، والعدالة. وهي تفعل ذلك قبل أن يتشكل لها إطار قانوني ناظم.
إذًا، نعم، يستطيع القانون الدولي أن يُطوّر نفسه، لكنه لم يفعل ذلك بعد. وحتى الآن، معظم ما يُطرح هو توصيات غير ملزمة، وجدل فلسفي أكثر منه أدوات ضبط حقيقية.
هل نشهد ميلاد "حروب بلا قانون"؟
جزئيًا.. نعم، حين تُستخدم طائرات مسيرة في اغتيال خارج ساحة المعركة، دون إعلان حرب، وبلا مسؤولية قانونية واضحة، وحين تبرمَج خوارزميات لتحديد "أنماط التهديد"، فتستهدف أشخاصًا بسبب حركتهم أو صورتهم الحرارية، فنحن عمليًّا ندخل منطقة رمادية جديدة: حروب بلا قانون، وبلا قاضٍ، وبلا مدنيين محميين فعليًّا.
القانون لم يختفِ لكنه لم يعد يسيطر، والذكاء الاصطناعي صار في بعض الحالات أقوى من كل المواثيق.
نحن في عصر تتسارع فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي لتصبح حاسمة في ساحات الحرب، يقف القانون الدولي أمام تحدٍّ وجودي
سادسًا: معركة القانون.. أم معركة الكرامة الإنسانية؟
إنها الاثنتان معًا، لكنها في الجوهر معركة على جوهر إنسانيتنا.
من يُقرر القتل؟ في القانون، الإنسان هو من يُقرر.. وفي التكنولوجيا، القرار انتقل إلى الخوارزمية! إننا نُخاطر بأن نُعطي الحق في إنهاء الحياة لكيان لا يعي معنى "الحياة" أصلًا.
إعلان
من يُحاسب؟ لا أحد.. كل طرف يشير إلى الآخر: القائد يقول "اتّبعنا البرمجة"، والمبرمج يقول "نفذنا الأوامر"، والدولة تقول "الآلة أخطأت". وإذا استمر كل طرف يُحمّل الآخر المسؤولية -القائد للبرمجة، والمبرمج للدولة، والدولة للآلة- فإن النتيجة الحتمية هي القتل بلا مساءلة.
ختامًا، نحن في عصر تتسارع فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي لتصبح حاسمة في ساحات الحرب، يقف القانون الدولي أمام تحدٍّ وجودي. إما أن يتطور ليضبط هذا الواقع الجديد، أو نشهد ولادة حروب بلا ضوابط، حيث تُتخذ قرارات القتل بلا ضمير، وتغيب المحاسبة.
الإنسانية لا تحتمل أن يُترك مصيرها لمعادلات رقمية، والقانون لا بد أن يظل الحصن الحامي لكرامتها.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

فكرة إمارة الخليل تعيد فشل مشروع روابط القرى
فكرة إمارة الخليل تعيد فشل مشروع روابط القرى

الجزيرة

timeمنذ 34 دقائق

  • الجزيرة

فكرة إمارة الخليل تعيد فشل مشروع روابط القرى

تبرأ وجهاء عشيرة الجعبري بمدينة الخليل من دعوة أحد المنتسبين إليها إلى إقامة إمارة مستقلة عن السلطة الفلسطينية وتعترف بإسرائيل دولة يهودية، في مقابلات له أمس السبت مع صحيفة جيروزاليم بوست، وتناولتها وول ستريت جورنال الأميركية. وكان الإعلام الإسرائيلي قد احتفل بتقرير للصحيفة ينسب إلى عدد من شيوخ مدينة الخليل طلبهم الانفصال عن السلطة الفلسطينية وإقامة إمارة مستقلة، وأعلنت الصحيفة هوية شخص واحد منهم هو وديع الجعبري، في حين امتنع غيره بدعوى الخوف على السلامة. وقال بيان العشيرة "إننا كعشيرة آل الجعبري نعلن براءتنا التامة واستنكارنا واستهجاننا لما أقدم عليه أحد أفراد العائلة غير المعروف لدى العشيرة وليس من سكان خليل الرحمن" مؤكدا التزام العشيرة بـ"الثوابت الإسلامية والوطنية وحقوق شعبنا في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة". الاعتراف بيهودية الدولة ووفقا للصحيفة فقد وقع وديع الجعبري و4 ممن وصفتهم بأنهم من شيوخ الخليل البارزين رسالة موجهة إلى وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات، يتعهدون فيها بالسلام والاعتراف الكامل بإسرائيل دولة يهودية، ويطالبون بإنشاء إمارة خاصة بمحافظة الخليل، تنضم بدورها إلى اتفاقات التطبيع المعروفة باسم اتفاقات أبراهام. وتضيف الرسالة "تعترف إمارة الخليل بدولة إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي، وتعترف دولة إسرائيل بإمارة الخليل ممثلة للسكان العرب في قضاء الخليل". كما تقترح وضع جدول زمني للمفاوضات للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام و"ترتيب عادل ولائق يحل محل اتفاقيات أوسلو التي لم تجلب سوى الدمار والموت والكوارث الاقتصادية والدمار" وجلبت "السلطة الفلسطينية الفاسدة، بدلًا من الاعتراف بالقيادة المحلية التقليدية الأصيلة". وفي الجانب الاقتصادي تطالب الرسالة، وفقا لما تنقله وول ستريت جورنال، بأن تسمح إسرائيل بإدخال ألف عامل من الخليل لفترة تجريبية، ثم 5 آلاف آخرين. وتتعهد الرسالة بـ"عدم التسامح مطلقًا مع إرهاب العمال، على عكس الوضع الحالي الذي تُشيد فيه السلطة الفلسطينية بالإرهابيين". ويرتبط الجعبري والعديد من نظرائه بعلاقة وثيقة بالوزير بركات الذي استضافهم في منزله مرات عديدة منذ فبراير/شباط الماضي -وفقا للصحيفة- والذي توسط لدى رئيس كريات أربع لمد خط مياه من المستوطنة إلى الخليل. كما يرتبطون بعلاقات مع قادة المستوطنين في الضفة، مثل يوسي داغان الذي يدعم خطة الجعبري ويعمل عليها. مشروع الإمارات الفلسطينية وتعود أصول فكرة المشروع -الذي تطرحه الرسالة- إلى مردخاي كيدار الباحث في الثقافة العربية بجامعة بار إيلان الإسرائيلية، الذي يروج منذ 20 عاما لفكرة "الإمارات الفلسطينية". وتقول الفكرة إن المدن الفلسطينية السبع في الضفة الغربية متمايزة ثقافيا، وتدار تاريخيا من قبل العشائر الرئيسية فيها، وفي سبيل إنجاح فكرة تفكيك الضفة التي يطرحها، التقى كيدار بوالد "وديع الجعبري" قبل 11 عاما. ويراهن كيدار وبركات على أن يكون نجاح المشروع في الخليل مقدمة لتعميمه على بقية مدن الضفة، والتي قد يكون في مقدمتها بيت لحم. مخاوف الاحتلال الأمنية ومقابل طموحات بركات وكيدار، تنقل وول ستريت جورنال عن مصادر سياسية وأمنية أن جهاز الأمن العام الإسرائيلي " الشاباك" يعتبر السلطةَ الفلسطينية أساسيةً في مكافحة أعمال المقاومة الفلسطينية بالضفة، وقد عارض "خطة الشيوخ" داخليًا. وتتزايد المخاوف من احتمال اندلاع عنف أو فوضى في مدن أخرى بالضفة، كما أعرب جيش الاحتلال عن مخاوفه، إذ يعتقد الكثيرون في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن عشائر الضفة مجزأة للغاية بحيث لا يمكنها الحكم أو مكافحة المقاومة الفلسطينية. وتنقل الصحيفة عن اللواء المتقاعد غادي شامني، الذي قاد القيادة المركزية لجيش الاحتلال من عام 2007 إلى 2009، قوله "كيف تتعامل مع عشرات العائلات المختلفة، كل منها مسلحة؟ وسيجد الجيش الإسرائيلي نفسه في مرمى النيران، وستكون فوضى عارمة وكارثة". ويرفض شامني فكرة أن "التطلعات الوطنية للفلسطينيين ستتلاشى ويمكنك التعامل مع كل عشيرة على حدة" وحسب رأيه "لا توجد طريقة للسيطرة على الضفة الغربية وإدارة الحياة هناك دون السلطة المركزية". التوقيت السياسي ويأتي الإعلان عن المشروع في توقيت يستبق لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويوفر بديلا نظريا عن حل الدولتين الذي لم يعد مقبولا لدى أي منهما. في حين تسعى دول أوروبية -في مقدمتها فرنسا- إلى إحياء مسار التفاوض بشأن حل الدولتين، وكانت باريس والسعودية قد أجلتا مؤتمرا مخصصا لهذه الغاية من موعده المقرر منتصف يونيو/حزيران الماضي إلى أجل غير مسمى بسبب اندلاع المواجهة العسكرية بين إسرائيل وإيران. وتسعى إسرائيل إلى فرض بدائل عشائرية محلية في غزة منذ أشهر عديدة، من أبرزها مليشيا ياسر أبو شباب التي دعمتها في رفح، وزج الإعلام الإسرائيلي بأسماء عائلتي بربخ وحلس في سياق مشاريع مشابهة، وهو ما تبرأت منه العائلتان في بيانات وتصريحات صادرة عنها متهمة الاحتلال بالسعي للوقيعة والفتنة بين مكونات الشعب الفلسطيني. البيئة الاستعمارية وفي خلفية إخراج هذه الفكرة إلى العلن، تبرز الظروف الأمنية والاقتصادية التي يفرضها الاحتلال على الضفة منذ احتلالها، والتي تزايدت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ويفصل جيش الاحتلال المدن الفلسطينية عن بعضها، مما يقوض مختلف أشكال الخدمات والنشاط الاقتصادي، ويمنع العمال الفلسطينيين من العمل بالأراضي المحتلة عام 1948. إعلان وفي هذه البيئة تعاني الخليل وكبقية مدن الضفة من الفراغ الأمني، ونقص المياه وارتفاع نسب البطالة بين الشباب، وهو ما يعتمد عليه مشروع كيدار بركات لاستقطاب تأييد بعض الفلسطينيين لمشروع شبيه بمشروع "روابط القرى" العميلة للاحتلال في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي. روابط القرى تعود فكرة "الروابط القروية" -وفقا لما تذكره الموسوعة الفلسطينية- إلى العام 1976، حين طرحها الحاكم العسكري لمدينة الخليل الجنرال يغئال كرمول، فالتقطها مناحيم ملسون مستشار الشؤون العربية بالحاكمية العسكرية للضفة وبدأ يدرسها إلى أن شرع ينفذها عملياً بعد التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، وما نصت عليه من إجراء مفاوضات لإقامة الحكم الذاتي الإداري بالضفة وقطاع غزة. وبالفعل تم الإعلان رسميا عن قيام "رابطة قرى محافظة الخليل" عام 1978، وحدد نظامها الأساسي غاياتها المعلنة في "حل المنازعات والخلافات بين السكان وتشجيع تنظيم الجمعيات التعاونية لمساعدة المزارعين لتحسين أوضاعهم الاقتصادية وتطوير أساليب الزراعة وتحديثها" وغير ذلك. لكن الغايات الحقيقية لهذه الرابطة والروابط التي تلتها كانت محاولة لإيجاد قيادة فلسطينية بديلة عن منظمة التحرير الفلسطينية تكون مستعدة لتأييد "كامب ديفيد" وقادرة على المشاركة في مفاوضات الحكم الذاتي وتنفيذ مخطط إسرائيل للإدارة المدنية وتولي المناصب أو المهام التي توكل إليها بهذا السياق. ويضاف إلى ذلك أن روابط القرى، اعتماداً على التجربة السابقة لسلطات الانتداب البريطانية، يمكن أن تحقق للاحتلال أهدافاً أخرى هامة من بينها تفتيت الوحدة الوطنية بالضفة بين الفلاحين والمدنيين وإحياء النعرات القديمة بين أبناء المدن والأرياف. وقد تعمدت سلطات الاحتلال وهي تعلن إنشاء أول رابطة للقرويين بمحافظة الخليل المجاهرة بإثارة هذه النعرات، إلا أن إعراض المواطنين من أبناء القرى عن هذه الرابطة وإحجامهم عن الانخراط فيها دفعا سلطات الاحتلال إلى سياسة الترهيب والترغيب مع القرويين لإنجاح الرابطة وإخراجها إلى حيز الوجود. وبالفعل قامت بالتلويح بتقديم فيض من التسهيلات للفلاحين ابتداء من جمع شمل العائلات وقضايا التسويق الزراعي والحصول على البدار بأسعار معتدلة، وانتهاء بتقديم المساعدات المادية لتنفيذ بعض مشاريع القرى والمجالس القروية، وقد أعطيت رابطة قرى الخليل دور الوسيط بين القرى وسلطات الحكم العسكري. غير أن مشاريع روابط القرى واجهت رفضا شعبيا واسعا، تمثل في المظاهرات واغتيال بعض المنخرطين فيها. ولما تم اغتيال يوسف الخطيب رئيس رابطة قرى رام الله أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1981، عمدت سلطات الاحتلال إلى تسليح رؤساء وأعضاء روابط القرى ووفرت الحماية الأمنية لهم وزودتهم بالبنادق وعربات النقل وعربات الجيب العسكرية وأجهزة الاتصال تمهيداً لتحويلهم إلى عصابات ومليشيات مسلحة تنفذ الدور المنوط بها في مواجهة الشعب الفلسطيني. وبالفعل تحولت روابط القرى إلى مليشيات محلية تساعد قوات الاحتلال في أعمال العنف والقمع والتصدي للجماهير الفلسطينية، وعمدت إلى نصب الحواجز للسيارات واعتقال الوطنيين وإطلاق النار عليهم. وبالمقابل، استمرت المقاومة الشعبية القوية، وصولا إلى العام 1984، حين وصل قادة الاحتلال وفي مقدمتهم رئيس الوزراء إسحاق شامير ووزير الدفاع موشيه آرينز إلى قناعة بأن هذه الروابط فاشلة ولا يمكن أن تحقق مساعي إسرائيل، فتم الإعلان عن إنهاء التجربة بشكل رسمي في 10 مارس/آذار 1984. آفاق نجاح محدودة في ظل الرفض الشعبي والسياسي الفلسطيني المتوقع لمشروع إحياء روابط القرى، فإن فرص نجاحها تعد محدودة، إذ يظهر رفض أهل الخليل ارتباط اسمهم بمشروع من هذا القبيل، إضافة لتعارض المشروع مع مواقف مختلف الفصائل الفلسطينية على تباين أيديولوجياتها واصطفافاتها السياسية. إعلان غير أن هذا قد يشكل بالون اختبار وذخيرة سياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي في سياق مساعيه لتفادي أي ضغوط سياسية بشأن التعاطي مع حل الدولتين. كما يشكل وسيلة ضغط إضافية على السلطة الفلسطينية لإبداء المزيد من التعاون بشأن المطالب السياسية والأمنية الإسرائيلية في الحاضر والمستقبل.

استطلاع جديد: 57% من الدانماركيين يعارضون حرب غزة
استطلاع جديد: 57% من الدانماركيين يعارضون حرب غزة

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

استطلاع جديد: 57% من الدانماركيين يعارضون حرب غزة

كشف استطلاع جديد للرأي، أجرته شركة "إبينون" لصالح القناة الدانماركية الأولى في يوليو/تموز الجاري، أن 57% من الدانماركيين يرون أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة "غير مناسبة"، مقارنة بـ45% في استطلاع مماثل أجري في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأظهر الاستطلاع أن نسبة من يفضلون عدم إبداء رأيهم تراجعت من 13% قبل 9 أشهر إلى 6% فقط اليوم، مما يشير إلى ارتفاع واضح في مناهضة الحرب واستعداد أكبر للتعبير عن هذا الموقف. في المقابل، بقيت نسبة الذين يرون أن العمليات العسكرية الإسرائيلية "مناسبة" أو "قليلة التدخل" مستقرة تقريبا عند نحو 12.9%. وفيما يتعلق باتفاق الشراكة التجارية بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، الذي أُبرم عام 2000 ويتضمن بندا يتعلق باحترام حقوق الإنسان، أعرب نحو نصف المستطلَعين (49%) عن تأييدهم لتعليق الاتفاق، فيما عارضه 22%، وأجاب 26% بـ"لا أدري"، وامتنع 2% عن الإجابة. وقد شهدت البلاد خلال الأشهر الماضية مظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين، في وقت بدأ فيه وزراء طرح قضايا في البرلمان من أجل إيقاف الحرب على غزة. كما سبق أن نظمت الكوادر الطبية في كوبنهاغن وقفات احتجاجية للتنديد باستهداف الاحتلال الإسرائيلي للأطباء في غزة مرددين هتافات دعما لغزة. ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل -بدعم أميركي- حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، أسفرت حتى الآن عن استشهاد وإصابة أكثر من 192 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وما يزيد على 11 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين.

دولة الاحتلال وتصفية العقول العربية
دولة الاحتلال وتصفية العقول العربية

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

دولة الاحتلال وتصفية العقول العربية

في عالم تتسارع فيه الأمم نحو امتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا، يخوض الكيان الصهيوني حربًا مختلفة، لا تُخاض بالجيوش النظامية ولا بصواريخ ذكية، بل عبر سلاح صامت وفعال: تصفية العقول.. إنها معركة تدور في الظل، ضد كل من يحاول إحياء مشروع علمي مستقل في الشرق الأوسط، سواء كان في بغداد، أو صفاقس، أو طهران، أو غزة. صحيفة "يديعوت أحرونوت" وصفت الزواري بعد اغتياله بأنه "أحد العقول خلف مشروع الطائرات المسيّرة في حماس".. لم يكن التصريح تهديدًا بقدر ما كان تباهيًا بعملية استخباراتية ناجحة النهضة العربية المستهدفة منذ عقود، تدرك إسرائيل أن الخطر الأكبر على وجودها ليس فقط في الصواريخ أو الجيوش، بل في العقل العربي عندما يتحرر ويبدع. ولهذا، لم يكن استهداف العلماء العرب مصادفة أو رد فعل، بل سياسة ممنهجة تخضع لتخطيط إستراتيجي طويل المدى. ففي العراق، خلال التسعينيات وحتى بعد الغزو الأميركي عام 2003، تمت تصفية مئات العلماء والباحثين في الفيزياء النووية والطب والهندسة. تقارير عديدة أكدت أن هذه التصفيات تمت بعلم وتنسيق مباشر مع أجهزة استخبارات أجنبية، على رأسها الموساد. لم تكن الأسماء تهم بقدر ما كان يهم ما تمثّله تلك العقول من قدرة على إعادة بناء دولة متقدمة ومستقلة علميًّا. الزواري.. حين يخاف العدو من مهندس تونسي في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2016، اهتزّت مدينة صفاقس التونسية على وقع اغتيال المهندس محمد الزواري أمام منزله. لم يكن الرجل عسكريًّا، بل باحثًا وأستاذًا جامعيًّا، لكن ذنبه أنه سخّر علمه لتطوير طائرات بدون طيار لصالح المقاومة الفلسطينية. اعتبرته إسرائيل تهديدًا يستحق الموت، حتى لو كان على بعد آلاف الكيلومترات من فلسطين! صحيفة "يديعوت أحرونوت" وصفت الزواري بعد اغتياله بأنه "أحد العقول خلف مشروع الطائرات المسيّرة في حماس".. لم يكن التصريح تهديدًا بقدر ما كان تباهيًا بعملية استخباراتية ناجحة. بالنسبة لإسرائيل، العالِم هو مشروع إستراتيجي قبل أن يكون فردًا، وإذا سُمح له بالبقاء والإنتاج، فقد تتحول دول مثل العراق أو إيران إلى قوى حقيقية قادرة على تغيير قواعد اللعبة إيران وتصفية المشروع النووي بالعقول وفي إيران، اغتيال محسن فخري زادة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 كان الحدث الأبرز في سلسلة طويلة من استهداف العلماء النوويين؛ وزادة لم يكن مجرد عالم، بل يُصنّف على أنه "أبو البرنامج النووي الإيراني". طريقة اغتياله أشبه بفيلم استخباراتي: كمين إلكتروني، مدافع آلية دون سائق، تكنولوجيا متقدمة.. والرسالة كانت واضحة: "نستطيع أن نصل إليكم أينما كنتم". إسرائيل، التي لم تُخفِ رضاها الضمني، أرادت من هذا الاغتيال توجيه ضربة مزدوجة: للمشروع النووي الإيراني من جهة، وللثقة الإيرانية في قدرتها على حماية عقولها من جهة أخرى. لماذا تخاف إسرائيل من العلماء؟ تقوم العقيدة الأمنية الإسرائيلية على أساس التفوق النوعي، خصوصًا في مجالات: التكنولوجيا العسكرية. الذكاء الاصطناعي. الأمن السيبراني. الأسلحة المتقدمة. وأي مشروع عربي أو إسلامي يُهدّد بكسر هذا التفوق يُعتبر خطرًا وجوديًّا. فبالنسبة لإسرائيل، العالِم هو مشروع إستراتيجي قبل أن يكون فردًا، وإذا سُمح له بالبقاء والإنتاج، فقد تتحول دول مثل العراق أو إيران إلى قوى حقيقية قادرة على تغيير قواعد اللعبة. في غزة مثلًا، رغم الحصار والدمار، استمر تطوير الطائرات المسيّرة والصواريخ، بقدرات محلية وبعقول مصممة على المقاومة بالتكنولوجيا، لا بالشعارات فقط التأثير النفسي: القتل بالترويع الاغتيالات ليست فقط لإسكات منجز علمي، بل لزرع الخوف داخل أوساط الباحثين، لتتحول العقول المهاجرة إلى عقول خائفة أو صامتة.. هي رسالة رعب موجهة إلى كل من تسوّل له نفسه أن يضع علمه في خدمة مشروع عربي أو مقاوم. في هذا السياق، تنشأ معادلة خطيرة: كلما اقترب العالِم من همّ الأمة، اقترب منه رصاص القناص. هل تنجح سياسة التصفية؟ نجحت جزئيًّا في تعطيل مشاريع أو تأخيرها، لكنها فشلت في إيقاف المدّ العلمي. فبعد اغتيال كل عالم، ينبثق جيل جديد أكثر وعيًا بأن المعركة لم تعد بين الجيوش، بل بين من يملك الذكاء والمعرفة والإرادة. وفي غزة مثلًا، رغم الحصار والدمار، استمر تطوير الطائرات المسيّرة والصواريخ، بقدرات محلية وبعقول مصممة على المقاومة بالتكنولوجيا، لا بالشعارات فقط. تصفية العلماء ليست أمرًا عارضًا، بل إستراتيجية، ومواجهة هذه الإستراتيجية تتطلب وعيًا عربيًّا رسميًّا وشعبيًّا بضرورة حماية العقول، وتوفير بيئة للإبداع، وربط الأمن القومي بالبحث العلمي معركة بقاء تتطلب حماية العقول في النهاية، ما تقوم به إسرائيل هو حرب وجود لا تخلو من الذكاء والخطورة؛ فهي لا تنتظر أن ترى المصانع الحربية، بل تراقب من يُمكنه التفكير في إنشائها. تصفية العلماء ليست أمرًا عارضًا، بل إستراتيجية، ومواجهة هذه الإستراتيجية تتطلب وعيًا عربيًّا رسميًّا وشعبيًّا بضرورة حماية العقول، وتوفير بيئة للإبداع، وربط الأمن القومي بالبحث العلمي؛ فكما تحمي الدول حدودها، يجب أن تحمي عقولها، فحدود اليوم ليست على الخريطة، بل في المختبرات.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store