
النقد الأدبي بين الانطباعية والعلمية
مع ذلك فقلما يخلو نقد من قدر من الانطباعية، وقلما يجتمع ناقدان على فهم مشترك وتقدير متماثل لنص أدبي، وإن اشتركا في طول الباع وسعة المعرفة وعلو المكانة. فإن لم نُعْزِ هذا إلى العنصر «الانطباعي» الناتج من تباينهما كفردين متمايزين في الطبع وتجربة الحياة، فإلامَ نعزوه؟ فكأن المقال النقدي الذي نطالعه يتراوح بين أن ينير لنا العمل الأدبي في ذاته وأن يعرفنا بشخصية الناقد وميوله الخاصة، أو منطقةٍ وسط بين هذين الضدين. إلا أن ثمة طموحاً أن يطرح النقد عنه ذات يوم أي شبهة للانطباعية، وأن ينضم لقافلة العلوم الاجتماعية وتصبح له أصول وقواعد صارمة يتفق الرأي عليها ويلتزمها الجميع في ممارسته.
هذا الطموح النقدي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم النفس وبالدراسات الأنثروبولوجية الحديثة. فقد تأثر النقاد المحدثون بالكشوف الأنثروبولوجية التي أظهرت أن الأسطورة والطقوس والشعر كلها كانت كامنة في بداية الحضارات وبمقولة علم النفس إن الإنسان البدائي كامن داخل كل منا، كما يتضح في أحلامنا الليلية التي تعيد خلق الرموز الأسطورية القديمة. من هنا كان التفات النقاد الذين يطلبون في الأسطورة مفتاحاً لعملية الخلق الفني إلى السمات المشتركة بين الحلم من ناحية والإبداع الشعري من ناحية أخرى، ومن ذلك «تكثيف الصور» بمعنى تضمين أخيلة عدة في صورة واحدة، و«الإزاحة»، أي تجسيد المعنى الشامل في عنصر يبدو قليل الأهمية، و«التحميل»، بمعنى تركيز مستويات متعددة للمعنى في جزئية واحدة. ولا يغيب عن الذهن في هذا السياق أن الشعر والحلم كلاهما يفتقر إلى العلاقات المنطقية ويحفل بالأخيلة والمواقف السريالية.
في طليعة نقاد الأسطورة هؤلاء يبرز الناقد الكندي المشهور نورثروب فراي Northrop Frye (1912-1991) الذي اتخذ من الأسطورة منطلقاً يعتقد البعض أنه يمكن معه أن يترقى النقد إلى مرتبة العلم. يرى فراي أن العلم الحقيقي لا يمكن أن يقنع بتحليل بناء العمل الأدبي، وأن الشاعر لا يعدو أن يكون «العلَّة الصانعة» للقصيدة، التي تتمتع بدورها بـ«علّة شكلية» مستقلة عنه، وهي ما ينبغي أن يكون طُلبة الناقد «العلمي». هذه العلة الشكلية هي ما يسميه فراي بـ«النموذج الأولي» (Archetype)، وهو اصطلاح مستعار من علم النفس يشير إلى «الصورة الأولية»، التي هي جزء من العقل الباطن الجماعي تترسب فيه نتيجة خبرات من نوع واحد لا حصر لها، وهي بذلك تشكل جزءاً من نظام الاستجابة الموروث عند الجنس البشري قاطبةً. على هذا النسق مثلاً تصبح الأسطورة التوراتية التي تحكي قصة قتل قابيل لهابيل هي النموذج الأولي لكل قصة تلتها يقتل فيها الأخ أخاه أو الصديق صديقه، بدافع الغيرة والحسد... إلخ. وتصبح قصة برومثيوس سارق النار من الآلهة لصالح البشر في الأساطير الإغريقية هي النموذج الأولي لكل قصة تقوم على الفداء والتضحية بالذات للصالح العام أو الثورة على القوى العليا من أجل المبدأ، دون احتفال بالعواقب، وهلُم جرّا.
تي إس إليوت
من هنا، يرى فراي أن مهمة النقد هي البحث عن هذه «النماذج الأولية»، مما يحوّل دراسة الأدب إلى نوع من علم الأنثروبولوجيا الأدبية يختص بدراسة الأدب من حيث تشبُّعه بالمقولات السابقة عليه، مثل الطقس الديني والأسطورة والحكاية الشعبية. لكن الأنثروبولوجيا الأدبية ليست إلا فرعاً من فروع النقد كما يتصوره فراي. فهو يرى أن العمل الأدبي يجب أن يمر بـ«خط إنتاج» نقدي يبدأ بالمحقق الأدبي الذي يطهّر النص الأدبي القديم من الشوائب العالقة به، ثم ينتقل النص إلى عالم البلاغة وتاريخ اللغة والأدب، ومنه إلى المؤرخ الاجتماعي للأدب، ثم إلى الفيلسوف واختصاصي تاريخ الفكر، وأخيراً يؤول الأثر الأدبي إلى عالم الأنثروبولوجيا الأدبية.
إلا أن ثمة نقطة مهمة ينبغي التنويه بها عند هذا الحد، وهي أن هذا المنهج النقدي يخلو تماماً من أحكام القيمة. هو منهج وصفي تصنيفي يصلح للتطبيق على الأعمال الأدبية العظيمة، وتلك القليلة الشأن في آن. وفي هذا السياق نلاحظ أن فراي كثيراً ما يشير إلى العمل الأدبي بوصفه نوعاً من المنتجات (a product) أو سلعة عضوية يمكن رصد نوعها وتصنيفها وتحديد رتبتها. وهي فكرة تتضح إذا ما تأملنا وصفه لكيفية خروج القصيدة إلى الوجود. يقول في مقالة له بعنوان «عقيدتي في النقد»:
«إن عملية مراجعة القصيدة وتنقيحها، وحقيقة أن الشاعر يغيّر فيها، ليس لأنه شخصياً يفضّل ذلك، وإنما لأن ذلك أفضل في حد ذاته، هذا يعني أن القصائد – مثلها مثل الشعراء – تُولد ولا تُصنع. وينحصر عمل الشاعر في أن يخرج بالقصيدة إلى الوجود في حال سليمة بقدر الإمكان. وإذا وُلدت القصيدة حيّة فإنها تكون في شوق للتخلص من الشاعر وتصرخ لكي يقطع الحبل الذي يربطها بذكرياته وعلاقاته الخاصة وبرغبته في التعبير عن ذاته، وكذلك كل حبال المشيمة الأخرى وأنابيب التغذية المتصلة بالذات. بعد ذلك يأتي الناقد ليستأنف من حيث توقف الشاعر».
في هذه المقارنة الحيّة تلعب القصيدة دور الوليد، والشاعر دور الأم. أما الناقد فيؤدي دور القابلة التي تفصم حبل المشيمة عن الأم/ الشاعر. على أن هذه المقارنة لا تقدم الإجابة عن سؤال بالغ الأهمية: هل القصيدة الوليدة تنبض بالحياة أم هي جثة هامدة لا تجري في عروقها الدماء؟ لا يجيب فراي عن هذا السؤال الحيوي الذي هو في العادة شغل النقد الشاغل. فلا نراه يعهد لناقده/ القابلة في أي من أدواره العديدة كمحقق للنصوص أو مؤرخ للأفكار أو حتى عالم في الأنثروبولوجيا الأدبية بمهمة الإجابة على هذا السؤال. فالقصيدة الخاملة لا تعدو أن تكون وثيقة لا قيمة لها تخضع للعملية التصنيفية ذاتها التي تخضع لها القصيدة الحية العظيمة.
وإذا تذكرنا أن الغرض من هذه العملية هو أن يصبح النقد علماً يحتل مكانه بين سائر العلوم الاجتماعية، فإن السؤال يصبح أكثر إلحاحاً، لأنه إذا أصبح النقد علماً اجتماعياً، فإنه من الأهمية بمكان أن نعرف موقفه من أحكام القيمة. هل يصير علماً وصفياً راصداً، فحسب مثل العلوم الاجتماعية الأخرى؟ أم ينتحي طريقاً يميزه منها فيصير دراسة معيارية تتجاوز الرصد والوصف إلى اتخاذ الموقف الجمالي وإصدار أحكام القيمة. وفي الحالة الأخيرة ألن يجد النقد نفسه ينزلق من جديد في طريق الانطباعية والأحكام الخاضعة لشخصية الناقد وتجربته؟ معضلة قد يحلها المستقبل. وقد لا يحلها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
منذ 20 ساعات
- العربية
تفاصيل وفاة أسطورة المصارعة هولك هوغان
توفي هولك هوغان، أسطورة المصارعة الحرة، يوم الخميس، عن عمر يناهز الـ 71 عاما، بحسب ما أعلنت وسائل إعلام أميركية. وذكرت شبكة (سكاي سبورتس): شوهدت سيارات إسعاف خارج منزله في كليرووتر بولاية فلوريدا الأميركية. وتم نقله عبر محفة لسيارة الإسعاف إلى أقرب مستشفى، وقالت التقارير الأميركية: أخبرنا رجال الشرطة أنهم تلقوا اتصالات في الساعة الـ 9:51 صباحا، وحاول رجال الطوارئ إسعافه قبل إعلان وفاته في المستشفى. وستقدم الشرطة تفاصيل إضافية في مؤتمر صحافي في وقت لاحق، يوم الخميس. وفاة أسطورة المصارعة الحرة هولك هوغان عن عمر يناهز 71 عاماً 🚨 — العربية رياضة (@AlArabiyaSports) July 24, 2025 وكشفت مصادر مقربة من مصارع الـ "دبليو دبليو إي" الشهير، أن هوغن توفي في منزله محاطا بعائلته. ويعد هوغان، واسمه الحقيقي تيري بوليا، النجم الأكثر شهرة في تاريخ الـ "دبليو دبليو إي" الممتد لخمسة عقود. تواجد هوغان في عرض ريسلمانيا الأول على الإطلاق عام 1985، وكان شخصية رئيسية لسنوات في مختلف أحداث المصارعة، وفاز بست بطولات "دبليو دبليو إي"، كما ظهر في العديد من الأفلام والبرامج التلفزيونية.


الشرق الأوسط
منذ 20 ساعات
- الشرق الأوسط
وفاة المصارع الأميركي الشهير هالك هوغن عن 71 عاماً
توفي المصارع الأميركي الشهير تيري جين بوليا، المعروف بهالك هوغن، عن 71 عاماً، وذلك وفق ما أفادت وسائل الإعلام الأميركية، الخميس. وفارق هالك هوغن الذي اشتهر في حلبات المصارعة خلال الثمانينات قبل أن يتخلى عن هذه المسيرة لصالح التمثيل، في منزله في فلوريدا، جنوب شرقي الولايات المتحدة، حسب ما نقلت شبكة «إن بي سي نيوز» عن وكيل أعماله كريس فولو.


الشرق السعودية
منذ 20 ساعات
- الشرق السعودية
وفاة أوزي أوزبورن "أمير الظلام وأسطورة الهيفي ميتال" عن 76 عاماً
توفي المغني البريطاني أوزي أوزبورن الملقب بـ"أمير الظلام" وأحد أبرز رموز موسيقى الهيفي ميتال Heavy Metal، عن عمر ناهز 76 عاماً. وأعلنت عائلته خبر الوفاة، بحسب ما نقلته وكالة" أسوشيتد برس"، الثلاثاء. وقبل أقل من 3 أسابيع، اعتلى أوزبورن خشبة المسرح في حفل وداعي أمام 40 ألف معجب في إنجلترا، جالساً على عرش أسود بسبب معاناته من مرض باركنسون، الذي كشف عن إصابته به علناً في عام 2020. واشتهر أوزبورن باعتباره المغني الرئيسي لفرقة "بلاك ساباث" منذ تأسيسها عام 1968 وحتى طرده منها في 1979، ليبدأ بعدها مسيرته الفردية التي باع خلالها أكثر من 100 مليون ألبوم، بحسب مجلة "بيلبورد". كما دخل عالم تلفزيون الواقع من خلال برنامجه الشهير The Osbournes الذي تناول حياة أسرته، وفقا لـ"بلومبرغ". تميزت مسيرته الفنية بسلوكيات متهورة بفعل تعاطي المخدرات والكحول. ففي إحدى أشهر الحوادث، عض رأس خفاش أُلقي على المسرح خلال حفل في دي موين بولاية أيوا عام 1982. وبعدها بشهر، ألقي القبض عليه لتبوله على نصب تذكاري مقابل مبنى "ألامو" في سان أنطونيو. وقال أوزبورن في مقابلة عام 1986: "لم أظن يوماً أنني سأعيش كل هذا الوقت… اقتربت من الموت عدة مرات بسبب الكحول والمخدرات. لكنني استمتعت كثيراً وآمل أنني قدّمت بعض الأغاني الجيدة". وُلد جون مايكل أوزبورن في 3 ديسمبر 1948 بمدينة برمنجهام الإنجليزية، وعانى من عسر القراءة الذي لم يُشخّص حينها، الأمر الذي أثر على تحصيله الدراسي. وعمل في وظائف متفرقة وفشل في العمل بالمصانع، وحتى حاول السطو قبل أن يحقق حلمه في عالم الموسيقى مع "بلاك ساباث". لكن الشهرة جلبت له الانهيار أيضاً، فدخل في دوامة الإدمان والعلاقات المضطربة والأبوة الغائبة، حتى أنه وصف المخدرات بأنها "كادت تقتله". وبعد طرده من الفرقة، ساعدته مديرة أعماله شارون آردن، التي أصبحت لاحقاً زوجته عام 1982، في إحياء مسيرته وأطلقا معاً مهرجان Ozzfest في التسعينيات. شارك أوزبورن في عدة جولات لمّ شمل مع "بلاك ساباث" منذ عام 1997، وكان آخرها بين 2012 و2014 عندما سجلوا ألبومهم الأخير 13. وفي بداية الألفية، دخل عالم تلفزيون الواقع من خلال مسلسل The Osbournes الذي بُث على قناة MTV بين 2002 و2005، وشاركه فيه زوجته شارون وابناه جاك وكيلي، فيما رفضت ابنته الكبرى إيمي الظهور. وفي سيرته الذاتية I Am Ozzy التي صدرت عام 2009، روى حادثة عض رأس الخفاش، معتقداً أن ما أُلقي عليه كان لعبة مطاطية، كما اعتاد جمهوره. لكن الصدمة جاءت عندما شعر بالخفقان في فمه وتذوّق الدم، ما استدعى حصوله على لقاحات ضد داء الكلب وتعرضه لحملات من جماعات حقوق الحيوان. تزوج أوزبورن للمرة الأولى من ثيلما أوزبورن عام 1971، وأنجب منها طفلين، جيسيكا ولويس، قبل أن ينفصلا في 1982. وبرحيل أوزي أوزبورن، يفقد عالم الموسيقى أحد أعمدته المتمردة الذين ساهموا في تشكيل هوية الهيفي ميتال، تاركاً خلفه إرثاً موسيقياً وثقافياً لا يُمحى.