logo
تزايد خطر الإرهاب في غرب أفريقيا مع تراجع دور الولايات المتحدة

تزايد خطر الإرهاب في غرب أفريقيا مع تراجع دور الولايات المتحدة

الشرق الأوسط٢٤-٠٦-٢٠٢٥

يتوسع المتمردون من منطقة الساحل في غرب أفريقيا نحو الدول الساحلية على المحيط الأطلسي مثل ساحل العاج؛ ما يخلق بؤراً إرهابية جديدة مع تشريد الملايين.
في سوق توغبو، وهي بلدة صغيرة في شمال ساحل العاج، كانت رائحة السمك المجفف والعجين المقلي تملأ الهواء. كان الأطفال يركضون حول الأكشاك المزدحمة، حيث كانت النساء يبعن الذرة والكسافا التي حملنها على رؤوسهن لمسافات طويلة من الريف. كان كبار السن من المسلمين يراقبون الحشود في الشارع الرملي الرئيسي، بينما كان المصلون المسيحيون يخرجون من الكنيسة بعد قداس الأحد.
مريم سيسيه (60 عاماً) لاجئة مالية في متجر تلجأ إليه مع عائلتها في بلدة وانغول ودوغو شمال ساحل العاج (نيويورك تايمز)
لكن هذا الصخب كان يخفي تهديداً خفياً. نحو نصف الوفيات الناجمة عن الإرهاب في جميع أنحاء العالم في عام 2023 سُجلت في منطقة الساحل، وهي منطقة قاحلة في غرب أفريقيا معروفة بقبائلها شبه الرحل وطرق التجارة القديمة. مدفوعين بنجاحهم في دول بوركينا فاسو ومالي والنيجر غير الساحلية، بحسب تقرير لـ«نيويورك تايمز»، الاثنين، يتحرك المتمردون المرتبطون بتنظيمي «القاعدة» و«داعش» الإرهابيين جنوباً نحو المحيط الأطلسي وإلى الدول الساحلية مثل ساحل العاج.
استمعت خديجة باري (على اليسار) إلى نساء محليات خلال اجتماع مجتمعي في دوروبو وقالت: «أبعدوا أبناءكم عن المتطرفين» (نيويورك تايمز)
يخشى المسؤولون الأفارقة والغربيون من أن يؤدي هذا التقدم إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في غرب أفريقيا في وقت قلصت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون من وجودهم هناك، وحوّلت إدارة ترمب انتباهها إلى سياسة ترحيل فوضوية، وحظر سفر لا يشمل أي دولة في منطقة الساحل. مع تقدم المتمردين نحو المحيط الأطلسي، تزداد المخاوف من أن منطقة، ذات تعداد سكاني من بين الأصغر سناً في العالم، ومستويات عالية من الفقر سوف تقع قريباً تحت حكم الجهاديين.
وقال الجنرال مايكل إي. لانغلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، الشهر الماضي: «أحد الأهداف الجديدة للإرهابيين هو الوصول إلى سواحل غرب أفريقيا. إذا تمكنوا من الوصول إلى الساحل، فإنه يمكنهم تمويل عملياتهم من خلال التهريب والاتجار بالبشر وتجارة الأسلحة. هذا لا يعرض الدول الأفريقية للخطر فحسب، وإنما يزيد أيضاً من احتمال وصول التهديدات إلى سواحل الولايات المتحدة».
خديجة جالو (70 عاماً) لاجئة من بوركينا فاسو تقف في دوروبو... وقالت إن زوجها قُتل في هجوم شنته ميليشيات مدعومة من الدولة على قريتها في بوركينا فاسو (نيويورك تايمز)
أصبح فرع تنظيم «القاعدة» الذي يعمل في غرب أفريقيا الآن أحد أقوى فروع التنظيم، وقد شن مسلحو تنظيم «داعش» كثيراً من الهجمات في المنطقة مؤخراً، لدرجة أن فلاديمير فورونكوف، كبير مسؤولي مكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة، حذر من أن «مساحة شاسعة تمتد من شمال نيجيريا إلى مالي قد تقع تحت سيطرتهم الفعلية».
في الخريف الماضي، أمضت صحيفة «نيويورك تايمز» أسابيع في توثيق تحركات المتطرفين جنوباً. على أحد جانبي هذه الجبهة الجديدة توجد 3 دول غير ساحلية، تحكمها جميعاً مجالس عسكرية، وتضم مساحات شاسعة من الأراضي التي تخضع بالفعل لسيطرة الجهاديين.
ياكاريا واتارا إمام مسجد بولي يرتدي ثوباً أبيض ووشاحاً أخضر يغادر المسجد مع جماعته بعد صلاة العصر... احتجز عشرات المسلحين السكان رهائن عام 2021 (نيويورك تايمز)
وعلى الجانب الآخر، توجد دول ساحلية هي ساحل العاج وغانا وتوغو وبنين، التي تحاول منع المتمردين من الدخول. تعاونت هذه الدول الساحلية مع الحكومات الغربية لسنوات، ولكن مع قيام إدارة ترمب بتفكيك عقود من السياسة الخارجية، بما في ذلك إلغاء عشرات الملايين من الدولارات من المساعدات الأمنية الأميركية، أصبح الحلفاء الأفارقة متخوفين من جهود واشنطن لمكافحة الإرهاب في القارة.
يقول لاسينا ديارا، الباحث في الأكاديمية الدولية لمكافحة الإرهاب في ساحل العاج: «ساحل العاج هي مثال للاستقرار في المنطقة، لكن هذا الاستقرار قد ينهار في أي وقت». الجهاديون يتحركون بحرية بعد طرد القوات الفرنسية والأميركية من دول الساحل التي تقودها المجالس العسكرية، أصبحت دول مثل ساحل العاج محور استراتيجية الاحتواء الجديدة للغرب. وقدمت الولايات المتحدة لساحل العاج 65 مليون دولار لدعم مكافحة الإرهاب وأمن الحدود العام الماضي. ووفقاً للقيادة الأميركية في أفريقيا، تم نشر نحو 50 من أفراد الجيش الأميركي والمتعاقدين .
التقى الجنرال لانغلي بكبار المسؤولين العسكريين والحكوميين هنا في وقت سابق من هذا العام وسط شائعات بأن الولايات المتحدة تخطط لبناء قاعدة للطائرات المسيرة في البلاد، لكن استمرار الدعم لا يزال غير مؤكد، حيث توقف في يناير (كانون الثاني) من العام الحالي برنامج بقيمة 20 مليون دولار تموله الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والذي كان يهدف إلى رصد العلامات المبكرة للتطرف، وذلك بعد أن أعلن الرئيس ترمب تجميد جميع المساعدات الأميركية الخارجية. تُحدد الخريطة مدن «أوانغولودوغو»، و«كورهوجو»، و«توغبو»، و«بولي»، و«كافولو»، و«دوروبو»، بالإضافة إلى متنزه «كوموي» الوطني في شمال ساحل العاج، أسفل الحدود مع بوركينا فاسو مباشرة. تقع توغبو على خط المواجهة في معركة ساحل العاج ضد المتمردين. يقف الجنود حراسة في مواقع محصنة عند مدخل ومخرج المدينة؛ إذ تقع بوركينا فاسو على مسافة أميال قليلة فقط منها. على الرغم من وجود الجيش، يتحرك الجهاديون بحُرية، حسبما قال السكان المحليون ومسؤولو الأمن. قال طبيب يعمل بالقرب من الحدود، والذي تحدث مثل معظم السكان المحليين في المنطقة شريطة عدم الكشف عن هويته خوفاً على سلامته: «إنهم بيننا». ثم أضاف قائلاً: «نحن نراهم». يشتري المتمردون الإمدادات من السوق أو من خلال الشباب الباحثين عن المال السريع. يرتدون ملابس مدنية، ولا يحملون أسلحة بشكل علني، لكنهم يغرون الشباب بعروض مربحة للقيام بأعمال تجارية مقابل الصمت. قالت كاديدجا باري، زعيمة مجتمع محلي في دوروبو، وهي مركز قريب من الحدود: «إن عدم توفر فرص العمل هو السبب في انضمام أبنائنا إلى هذه الفئة الخبيثة».
حسن وأوسينو لي شقيقان توأمان لاجئان من الفولاني من بوركينا فاسو نسحا أجزاءً من القرآن الكريم في منزلهما الجديد في دوروبو بساحل العاج... وكثيراً ما يُجنّد المتمردون التابعون لتنظيم «القاعدة» رجال الفولاني (نيويورك تايمز)
أسبوعاً بعد أسبوع، تأتي النساء المحليات ويجلسن على كراسي بلاستيكية تحت شجرة المانجو الشاهقة الخاصة بها، بينما تحذرهن السيدة باري من الخطر الذي يقترب من بلدتهن. تقول لهن: «أبعدن أبناءكن عن الجهاديين. إنهم مافيا». يستقطب المتمردون المرتبطون بتنظيم «القاعدة» في الغالب رجالاً من الفولاني، وهي المجموعة العرقية التي تنتمي إليها السيدة باري. وقد أدى تجنيدهم إلى زيادة التمييز ضد مجتمع الفولاني في ساحل العاج، التي شهدت تدفقاً كبيراً للاجئين من عِرق الفولاني من بوركينا فاسو. تقول السيدة باري عن الشباب في مجتمعها: «يجب أن نحميهم، ويجب أن نرسلهم إلى المدرسة. لكن في بعض المناطق، يُجبر بعض الشباب تقريباً على الانضمام إلى هذه الجماعات». في الليل، يتسلل المتمردون إلى مراكز الرعاية الصحية في ساحل العاج بحثاً عن علاج للجروح التي أصيبوا بها في أثناء القتال في بوركينا فاسو، وفقاً للعاملين في المجال الطبي. كما انتقلوا إلى متنزه كوموي الوطني القريب، وهي غابة مترامية الأطراف أصبحت الآن محظورة بسبب العنف. كما زادت حالات الاختطاف وسرقة الماشية. قال إيرين، وهو صاحب ماشية فقد عشرات من رؤوس الماشية العام الماضي: «ما كنا نراه في بوركينا فاسو، نراه الآن هنا». وقال إيرين إن موظفه عندما عبر إلى بوركينا فاسو بحثاً عن الحيوانات المفقودة، احتُجز كرهينة لأسابيع من قبل رجال قالوا إنهم جهاديون.
أقامت ساحل العاج مراكز عسكرية، وعززت جمع المعلومات الاستخباراتية، ونشرت قوات برية على طول حدودها في محاولة لإبعاد المتمردين. وبحسب بعض الروايات، فإن هذه الأساليب تؤتي ثمارها. وأقر ضابط عسكري رفيع المستوى، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته كي يتحدث بصراحة عن الأمن القومي للبلاد، بأن الجيش كان قد استخف بالتهديد في السابق. وقال الضابط: «الآن، نحن نضغط عليهم، لكننا نعلم أيضاً أن السكان يرحبون بنا عندما نقوم بدوريات، لكنهم يتعاملون مع الجهاديين». في قرية بولي، قام العشرات من المسلحين الذين يطلقون على أنفسهم اسم «مقاتلي الإسلام» باحتجاز السكان رهائن في إحدى أمسيات شهر رمضان عام 2021، وفقاً للضحايا والشهود. أمر المتمردون القرويين بالتوقف عن إبلاغ الجيش بوجودهم وإلا فسيواجهون عواقب مميتة، لكن بعد مغادرة المتمردين، اتصل القادة المحليون بالجيش على أي حال، وظل الجنود متمركزين بالقرب من القرية منذ ذلك الحين.
عثمان سال (37 عاماً) ينطلق في رحلة صيد على نهر كوموي في كافولو... لم تشهد هذه المدينة الحدودية أي هجوم منذ عام 2023 (نيويورك تايمز)
يخرج عثمان سال، 37 عاماً، في رحلة صيد على نهر كوموي في كافولو. لم تشهد هذه المدينة الحدودية أي هجوم منذ عام 2023. واجهت مدينة حدودية أخرى، كافولو، هجومين مميتين على الجنود في عامي 2020 و2021. أقام الجيش قاعدة جديدة هناك في عام 2023 ولم تشهد كافولو أي هجوم آخر. قالت لاميسا تراوري، وهي قائدة شبابية في كافولو: «مع وجود قوات الأمن، اختفى الخوف». حاولت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وهي المنظمة الجامعة التي تضم فرع تنظيم «القاعدة» المحلي والمعروفة باسمها المختصر العربي «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، أن تظهر وجهاً أكثر ودية للسكان المحليين في بعض أجزاء منطقة الساحل.
وتعهدت بحماية السكان من المسؤولين الحكوميين الفاسدين الذين تقول إنهم مسؤولون عن فقر المنطقة. ومع ذلك، بلغت الوفيات المنسوبة إلى الجماعة في عام 2023 أعلى مستوى لها منذ عام 2017، عندما تأسست الجماعة، وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي. ورداً على أسئلة صحيفة «التايمز»، قال أمير فرع تنظيم «القاعدة» العامل في غرب أفريقيا إن جماعته «نشطة رسمياً» في ساحل العاج ودول ساحلية أخرى.
وقال الأمير أبو يوسف عبدة الأنبي عن الحكومات المحلية: «إذا أرادوا، فإنهم يمكنهم ترك الوضع كما هو. أو ربما سيزداد سوءاً».

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

تنفيذ حكم القتل في مواطن ارتكب عدداً من الجرائم الإرهابية
تنفيذ حكم القتل في مواطن ارتكب عدداً من الجرائم الإرهابية

عكاظ

timeمنذ 3 ساعات

  • عكاظ

تنفيذ حكم القتل في مواطن ارتكب عدداً من الجرائم الإرهابية

أصدرت وزارة الداخلية، اليوم، بياناً بشأن تنفيذ حكم القتل حدّاً في محمد بن حامد بن حميد اللهيبي الحربي (سعودي الجنسية)؛ لإقدامه على ارتكاب عدد من الجرائم الإرهابية تمثلت في قتله أربعة من أفراد أسرته أثناء نومهم وهم (والدته، وشقيقته وطفلاها)، وذلك بطعنهم بأداة حادة تنفيذاً لأهداف التنظيم الإرهابي المؤيد له. وبفضل من الله تمكنت الجهات الأمنية من القبض على الجاني المذكور، وأسفر التحقيق معه عن توجيه الاتهام إليه بارتكاب تلك الجرائم، وبإحالته إلى المحكمة المختصة صدر بحقه حكم يقضي بثبوت ما نسب إليه وقتله حدّاً لبشاعة جريمته وقتله المجني عليهم غيلة وهم في مأمن منه أثناء نومهم، وأصبح الحكم نهائيّاً بعد استئنافه ثم تأييده من المحكمة العليا، وصدر أمر ملكي بإنفاذ ما تقرر شرعاً. وتم تنفيذ حكم القتل حدّاً بحق الجاني اليوم الثلاثاء 6 / 1 / 1447هـ الموافق 1 / 7 / 2025 م بمنطقة المدينة المنورة. ووزارة الداخلية إذ تعلن ذلك لتؤكد للجميع حرص حكومة المملكة العربية السعودية على استتباب الأمن وتحقيق العدل وتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية في كل من يتعدى على الآمنين ويسفك دماءهم، وينتهك حقهم في الحياة والأمن، وتحذر في الوقت نفسه كل من تسول له نفسه الإقدام على مثل ذلك بأن العقاب الشرعي سيكون مصيره. أخبار ذات صلة

النيجر واستحقاقات السيادة في زمن التحولات الصعبة
النيجر واستحقاقات السيادة في زمن التحولات الصعبة

الشرق الأوسط

timeمنذ 14 ساعات

  • الشرق الأوسط

النيجر واستحقاقات السيادة في زمن التحولات الصعبة

المتغيرات التي تطول منطقة الساحل الأفريقي متسارعة، بحيث تغيب أحياناً عن عين الراصد والمتابع، وتتوالى بوتيرة تجعل القراءة المتأنية للمشهد ضرورة أكثر من كونها خياراً. لكن الخطوة التي اتخذتها السلطات العسكرية الجديدة في النيجر بتأميم شركتي SOMAÏR للتعدين وNIGELEC للطاقة، فتحت باباً واسعاً للتأمل، وطرحت السؤال الجوهري: إلى أين يتجه هذا البلد الواقع في قلب الساحل، والذي يختزن ثروات استراتيجية، ويواجه في الآن ذاته اختناقات اقتصادية وأمنية متزايدة؟ هل كان قرار التأميم تعبيراً حقيقياً عن استرداد للسيادة الوطنية؟ أم أنه انعكاس لأزمة داخلية تُدار بشعارات كبرى في محاولة لتأجيل المواجهة مع تعقيدات الواقع؟ من الطبيعي أن تلجأ سلطة انتقالية خرجت من رحم انقلاب عسكري إلى قرارات ذات طابع رمزي، تعزز من مشروعيتها الداخلية وتعيد تشكيل علاقتها مع الخارج. وكان من المنتظر أن تكون إعادة النظر في بعض العقود الدولية، واستعادة السيطرة على الموارد الاستراتيجية، جزءاً من هذا التوجه. لكن قرار تأميم شركتين بهذا الحجم وبهذا التوقيت، وبهذا الأسلوب الأحادي، يطرح علامات استفهام أكبر مما يقدم من إجابات. القرار لا يمكن عزله عن السياق الإقليمي المتوتر، حيث تتبنى سلطات انتقالية جديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر خطاباً سيادياً حاداً، يقوم على القطيعة مع فرنسا، واستعادة ما يوصف بـ«الكرامة الوطنية» كمدخل لتثبيت الشرعية الداخلية. ومما لا شك فيه أن للنيجر، مثل جيرانها، ذاكرة استعمارية نازفة وتجارب اقتصادية غير متكافئة مع الشركاء الأجانب، خصوصاً فرنسا. لذا، فإن مساعي استعادة التحكم في الثروات الوطنية مثل اليورانيوم أو الكهرباء، تحمل في جوهرها بعداً شعبياً وسياسياً مفهوماً. لكن المشكلة لا تكمن في النوايا، بل في الوسائل، وفي القدرة على إدارة هذا النوع من التحولات دون الانزلاق إلى مواجهات قانونية أو مالية قد تكون لها تبعات ثقيلة. قرار تأميم شركة مثل SOMAÏR، التي تملك فيها شركة Orano الفرنسية حصة رئيسية، من دون إشعار أو تعويض، يُدخل الدولة في منطقة رمادية قانونياً، ويعرضها لمواجهة أمام هيئات التحكيم الدولية بحكم المعاهدات الموقعة لحماية الاستثمار. والأمر لا يختلف بالنسبة لشركة NIGELEC، التي تشكل العمود الفقري لقطاع الطاقة في البلاد. وحتى الصين، الشريك الدولي الذي التزم الصمت طيلة الأشهر التي أعقبت الانقلاب، بدأت تلوّح بعدم رضاها، بعد تصاعد الخلافات مع شركتها النفطية CNPC، العاملة في مشروع أنابيب التصدير إلى ميناء كوتونو في بنين. الرهان على السيادة وحدها، كعنوان وحيد للمرحلة، من دون تهيئة بيئة قانونية ومالية وإدارية قادرة على استيعاب هذه التحولات، قد يتحول إلى عبء. فالشعارات، رغم قدرتها على حشد الدعم الشعبي في المدى القصير، لا تكفي لتأمين الرواتب، ولا لضمان استمرارية الخدمات، ولا لتفادي تداعيات مالية وقضائية قد تمتد لسنوات. وهنا تبرز تجربة Africard Co. Ltd التي لا تزال حاضرة في ذاكرة المؤسسات المالية والقانونية الدولية. ففي عام 2016، خسرَت النيجر قضية تحكيم أمام هذه الشركة البريطانية الصغيرة، بسبب فسخ عقد لطباعة جوازات السفر، وانتهت القضية بقرار يُلزم الدولة بدفع أكثر من 46 مليون دولار، مع السماح بالحجز على أصول دبلوماسية تابعة للنيجر في الولايات المتحدة. هذه السابقة، التي بدأت بنزاع على عقد لا يتجاوز بضعة ملايين، تقدم اليوم نموذجاً لما يمكن أن يحدث حين تُتخذ القرارات خارج الأطر القانونية المتعارف عليها دولياً. في خلفية المشهد، يقف شعب ينتظر أكثر من مجرد رمزية السيادة. ينتظر كهرباء لا تنقطع، ومياهاً نظيفة، ومراكز صحية تعمل، وتعليماً يليق بأطفاله. كل هذه التطلعات لا يمكن تلبيتها إلا من خلال إدارة رشيدة للموارد، ومناخ استثماري آمن، وقدرة تفاوضية تحفظ كرامة الدولة من دون أن تعزلها عن النظام الاقتصادي الدولي. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن العلاقة بين النيجر وفرنسا تمر بأزمة ثقة عميقة. فالطريقة التي تعاملت بها باريس مع الانقلاب، ورفضها الاعتراف بالسلطات الجديدة، وسعيها لتأليب دول الجوار ضد نيامي، ساهم في مفاقمة التوتر. هذا التصعيد الفرنسي لم يدفع المجلس العسكري للتراجع، بل حفّزه على اتخاذ خطوات أكثر جرأة، ربما على أمل إعادة رسم المعادلة بالكامل. لكن فرنسا، رغم نفوذها التاريخي، لم تعد اللاعب الوحيد في المنطقة. واليوم، تدرك دول الساحل أن العالم أوسع من باريس، لكنها في المقابل مطالبة بأن تدير هذه الانفتاحات الجديدة بعقلانية، تحفظ مكانتها ولا ترهق إمكانياتها. ربما ما تحتاج إليه النيجر الآن ليس تأميماً متسرعاً، بل إصلاح هادئ. ليس مواجهة مفتوحة، بل تفاوض متكافئ يعيد التوازن ويصون المصالح. وربما يكون على السلطات الانتقالية أن تصغي لأصوات عاقلة من الداخل، تطالب بأن تكون القطيعة مع الاستعمار السابق خطوة مدروسة، لا انفعالاً لحظياً، وأن تُؤخذ مصالح الشعب بالحسبان، لا أن يُستخدم كغطاء لقرارات محفوفة بالمخاطر. في عالم متشابك المصالح، لا تتحدد السيادة فقط برفع الشعارات، بل بالقدرة على التفاوض من موقع القوة، وبالاستثمار في الثقة، وببناء مؤسسات تُمكّن الدولة من التحكم في مقدراتها، دون الحاجة إلى خوض معارك خاسرة. النيجر بلد غني بثرواته، شابٌّ بأحلامه، لكنه محاصر بجغرافيته، محكوم بأن يزن خطواته بدقة؛ لأن الخطأ، ولو كان عن حسن نية، مكلف في ميزان الدول.

«داعش» وكاريكاتير «الشرق الأوسط»
«داعش» وكاريكاتير «الشرق الأوسط»

الشرق الأوسط

timeمنذ 14 ساعات

  • الشرق الأوسط

«داعش» وكاريكاتير «الشرق الأوسط»

الفنون جميعها تعبّر عن مواقف كبرى تجاه الكون والإنسان والحياة، وهي تفرعت في تاريخ البشرية تفرعاتٍ كبرى، وكان لبعضها قصب السبق في تنبيه بقية العلوم على أخطاء وملاحظاتٍ ونقدٍ عميقٍ للمجتمع والثقافة والسياسة، ومن هذه الفنون فن رسم الكاريكاتير، الذي ينبغي أن يجمع راسمه بين الخبرة الصحافية والسياسية والفن التشكيلي. في عدد السبت الماضي، رسم رسام الكاريكاتير المتميز في هذه الصحيفة أمجد رسمي، كاريكاتيراً مكثفاً في فكرته ومضمونه، وهو يظهر باباً مغلقاً وشديد الإغلاق، ولكن «تنظيم داعش» الإرهابي يتسلل من تحت الباب ليفاجئ منطقة الشرق الأوسط بظهوره مجدداً على الساحة. هذه فكرةٌ رائعةٌ تدل على خلفية ثقافية مميزةٍ، وتحليل سياسي متفرد، بحيث ثبت اليوم فشل الرؤى التي طرحت منذ سنواتٍ طروحاتٍ تبشيرية بـ«نهاية الإرهاب»، وأكثر من هذا طروحاتٍ عاطفية ووعظية تحدثت عن «نهاية الصحوة» برمتها، وهي دعوى وإن كتبها محللون، فإنها لا تعدو أن تكون مصوغةً صياغةً وعظيةً تظهر تأثير «الصحوة» نفسها في صياغتها ونشرها ومحاولة تثبيتها. يمكن للمتشكك في خطل هذه الأطروحة الوعظية بنهاية الإرهاب ونهاية الصحوة الإسلاموية، أن يراجع الأخبار في القارات الخمس، وأن يتابع ما يجري في أوروبا تحديداً من تحركاتٍ مريبةٍ وخططٍ خطيرةٍ لإعادة نشاط تنظيم «داعش» إلى العمل والتأثير مجدداً، ويمكنه أكثر أن يسائل الدولة السورية الجديدة قياداتٍ وعناصر ومواطنين، عن صحة الحديث عن «نهاية الإرهاب» أو «نهاية داعش»، هذا فضلاً عن قراءة تقارير الأجهزة العالمية المعنية بهذا الحقل الخطير والمؤثر حول العالم. الدعايات المصوغة للتأثير في الرأي العام يمكن اكتشافها بسهولةٍ لأي مواطنٍ عاديٍ يشاهد الواقع، ويتمتع باستقلالية وعقلانية فكرية، والمواطن السوري اليوم خير مثالٍ، فلا يمكن لأحدٍ أن يشكك بأن له أي غرضٍ غير محاولة اكتشاف الحقيقية والابتعاد عن أي أجندةٍ من أي نوعٍ، سواء كانت تلك الأجندة تنتمي لجماعات وحركات «الإسلام السياسي»، أو لبعض مطاياهم من المثقفين، أو حتى لبعض المستفيدين شخصياً من هذه الدعاية الجوفاء التي تبشر لا بنهاية التطرف فحسب؛ بل بنهاية الصحوة الإسلاموية مرةً واحدةً وإلى الأبد. طارحو مثل هذه الأفكار غير العلمية وغير الواقعية، يعيشون في بوتقةٍ مغلقةٍ يمكن للمواطن العادي في سوريا، وفي غيرها، ويمكن للصحافي المحترف، ويمكن لراسم الكاريكاتير النبيه، أن يكتشف خطَلها وتناقضها بسهولةٍ، والحديث هنا عن «نهاية داعش» التي بشر بها الكثيرون على مدى عقدٍ من الزمان غربياً وعربياً، ولئن كان موقف الإعلام الغربي متفهماً، خصوصاً من التيارات السياسية المصطرعة هناك، فإن الأمر ذاته لا ينطبق على إعلام منطقتنا، حيث يفترض بإعلاميينا وصحافيينا أن يكونوا أكثر معرفةً وإدراكاً وحساسيةً تجاه مثل هذه التنظيمات، كما يفترض أن يكونوا مطلعين على عمقها التاريخي القديم، وتأثيراتها واسعة النطاق تنظيمياً وفكرياً واجتماعياً وثقافياً في القرن الأخير من تاريخ المنطقة ودولها. حركات «الإسلام السياسي» ومفاهيمه وأفكاره وخطابه ما زالت تتحكم في رؤية وعقل وقرار كثيرٍ من النافذين في الدول العربية والإسلامية، إما عن طريق الولاء التنظيمي والبيعة، وإما من خلال التأثر بالمفاهيم والأفكار التي أحدثها وخلقها وسعى للخلط بينها وبين دين الإسلام الكريم، وإما من خلال التربية والتعليم الذي سيطرت عليه هذه الجماعات عقوداً من الزمن في الدول العربية والإسلامية، وبخاصةٍ الغنية منها، في الخليج العربي وفي شرق آسيا، كما في دول الاغتراب الغربية أوروبياً وأميركياً. الاستهانة بتأثير الأفكار الكبرى عبر التاريخ، والتقليل من أثرها، وعدم إدراك قيمة الوعي بها، كل ذلك يؤدي دائماً إلى هزائم كبرى وخساراتٍ غير محدودةٍ وتراجعاتٍ فادحةٍ للدول والأمم والشعوب التي تقتنع بتلك الاستهانة، وتتكئ كسلاً على قناعاتٍ مغلوطةٍ تعززها وتنشرها، وليقرأ من شاء تاريخ البشرية وتاريخ صراع الحضارات قديماً وحديثاً، ليجد أن الآيديولوجيات والمفاهيم والأفكار والخطابات لا تختفي فجأةً، ولا تنتهي عفو الخاطر من التاريخ. أخيراً، فقد أحسن الصحافي والفنان التشكيلي أمجد رسمي حقاً في هذا الكاريكاتير المعبّر عن الواقع كما هو. «داعش» الذي يتسلل من تحت الباب، هو لم يتسلل من تحت الباب، ولكنْ، صانعو الأوهام أرادوا تزلفاً أو تفكيراً رغبوياً أن يقنعوا الناس بنهاية التنظيم، لمجرد خلق نشوة عامةٍ بأن المخاطر العميقة قد تنتهي بقرارٍ والآيديولوجيّات المتطرفة قد تختفي في طرفة عين.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store