
تفنيدٌ قانوني لمزاعم وزير الداخلية الفرنسي
فما هي حقيقة هذه المزاعم في ميزان القانون الدولي؟
تتجاهل هذه التصريحات حقائق أساسية: ففرنسا، كأي دولة، لها الحق في تنظيم سياستها الخاصة بالهجرة وتطبيق قوانينها الداخلية، ولكن هذا الحق لا يمكن أن يتجاوز حدود السيادة الوطنية للدول الأخرى أو يمس بحقوق مواطنيها الأساسية. الخلاف الحقيقي هنا لا يتعلق بشرعية إصدار الجزائر للوثائق، بل بمدى تعاون الدولتين في ملف ترحيل المهاجرين، والجدل حول الاتفاقيات الثنائية القائمة، كـاتفاقية 1968 التي تنظم حركة الجزائريين في فرنسا.
إن ما تقوم به الجزائر هو ممارسة طبيعية وراسخة لحقها السيادي وواجبها تجاه مواطنيها، وهو حق لا يمكن لأي دولة أجنبية أن تعترض عليه من الناحية القانونية، فالجزائر بهذا التصرف، لا تحترم فقط الالتزامات الواقعة عليها بموجب القانون الدولي، بل وتُحافظ على حقوق الإنسان لمواطنيها وتدافع عنها بقوة. الأساس في ذلك يعود إلى ركائز القانون الدولي العام:
السيادة القنصلية المتأصلة بموجب القانون الدولي: تُعدّ صلاحية إصدار وثائق الهوية والسفر، وعلى رأسها جوازات السفر، من الوظائف الجوهرية للبعثات القنصلية حول العالم. تنص المادة الخامسة من اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963، وهي معاهدة دولية ملزِمة صادقت عليها كلتا الدولتين، بوضوح على أن وظائف القنصلية تشمل 'إصدار جوازات السفر ووثائق السفر لمواطني الدولة الموفدة'. الأهم في هذا السياق هو أن هذه الصلاحية غير مشروطة أبدًا بوضع الإقامة القانوني للمواطن في الدولة المضيفة. المعيار الوحيد هنا هو الجنسية؛ فالدولة ملزَمة برعاية مواطنيها حيثما كانوا، وتوفير الوثائق التي تثبت هويتهم وتضمن حقوقهم.
جواز السفر: الأداة الجوهرية لتفعيل الحق في التنقل: إن توفير وثائق الهوية والسفر لمواطنينا هو التزامٌ أخلاقي وقانوني يخدم حقوق الإنسان الأساسية المكفولة دوليًّا، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة 13)، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10 ديسمبر 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 12)، الذي دخل حيز النفاذ في 23 مارس 1976، يؤكدان الحق في حرية التنقل، ومغادرة أي بلد (بما في ذلك بلده)، والعودة إليه.
هنا تكمن الأهمية القصوى: جواز السفر ليس مجرد ورقة إدارية، بل هو الأداة العملية التي لا غنى عنها لتفعيل هذه الحقوق الجوهرية، وتحويلها من مجرد مبادئ نظرية إلى واقع ملموس، فكيف يمكن لمواطن أن يمارس حقه في مغادرة وطنه أو العودة إليه من دون وثيقة سفر رسمية معترف بها؟ إن حرمان أي مواطن جزائري من وثيقة سفر رسمية، لأي سبب كان يتعلق بوضعيته في دولة أخرى، سيكون بمثابة انتهاك مباشر لحق أصيل من حقوقه الأساسية المكفولة دوليًّا. وقد أكدت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في تفسيراتها وأحكامها، وعلى سبيل المثال في قضية De Brún v. Ireland (2000)، أن حرمان المواطن من وثيقة السفر من دون مبرِّر قانوني مشروع يُمكن أن يُعدَّ انتهاكًا لحقه في حرية التنقل. وبما أن الجزائر لا تحرم مواطنيها من هذا الحق، بل تمكّنهم منه، فإن موقفها متوافق تمامًا مع هذه المبادئ، فالجزائر، انطلاقًا من مسؤوليتها السيادية والإنسانية، لا يمكن أن تتخلى عن واجبها في توفير وثائق لمواطنيها الذين قد يجدون أنفسهم في وضعيات صعبة بالمهجر، وهي وثائق أساسية لا لعودتهم فحسب، بل لتسوية أوضاعهم إن أمكن في أي وقت.
لا يوجد حظر قانوني دولي: يجب التأكيد أنه لا يوجد في القانون الدولي أي نص يمنع دولة من إصدار وثائق هوية لمواطنيها، حتى لو كانوا مقيمين بشكل غير نظامي في دولة أخرى. هذا الأمر يُعدُّ جزءًا أصيلًا من ممارسة الدولة لسيادتها على مواطنيها. المحاكم الدولية الكبرى، كمحكمة العدل الدولية، لم تنظر قط في قضايا تطعن في هذا الحق السيادي، بل على العكس، فإن قضايا الجنسية والحماية الدبلوماسية (مثل قضية نوتيبوم الشهيرة عام 1955) تُبرز أهمية الرابط بين الفرد ودولته الأم، وهو رابط يتجسد في وثائق الهوية.
موقفٌ فرنسي متطرف
إن اعتراض وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، ليس جديدًا في طبيعته، ويعكس توجهًا فرنسيًّا متشددًا تجاه ملف الهجرة. هذا التوجه هو سمة مميزة لسياسات اليمين المتطرف، الذي يجد فيه روتايو مساحة لزيادة تطرفه في موقعه على رأس وزارة الداخلية. إن ادِّعاءه 'عدم الاعتراف' بهذه الجوازات لأغراض الإقامة، هو محاولة لممارسة ضغط سياسي على الجزائر، وربما استجابة لاعتبارات انتخابية داخلية في فرنسا أكثر منها مقاربة قانونية.
لقد تأجّجت هذه المسألة بشكل كبير بسبب رفض الجزائر ترحيلَ مواطنيها من فرنسا في بعض الحالات. هذا الرفض الجزائري ليس تعسفيًّا، بل غالبًا ما يأتي في سياق يمسّ بالقواعد المعمول بها في القانون الدولي العرفي، لاسيما تلك المتعلقة بقواعد الطرد المقرة من قبل لجنة القانون الدولي. لقد تبنت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة 'مشروع المواد بشأن طرد الأجانب' في عام 2014، والذي يعكس قواعد القانون الدولي العرفي في هذا الشأن ويضع قيودًا واضحة على سلطة الدول في طرد الأجانب. هذه القواعد تشترط ضمانات إجرائية صارمة، وتحظر الطرد الجماعي، وتُلزم الدول باحترام كرامة الأفراد وحقوقهم الأساسية خلال عملية الترحيل. إذا كانت إجراءات الترحيل لا تلتزم بهذه المعايير الدولية، أو لا توفّر الضمانات الكافية لحقوق الأفراد، فإن الجزائر تحتفظ بحقها السيادي في تقييم كل حالة على حدة، وفي رفض استقبال مواطنيها إذا كانت هذه الإجراءات تتنافى مع القانون الدولي أو كرامة مواطنيها.
تتجاهل هذه التصريحات حقائق أساسية: ففرنسا، كأي دولة، لها الحق في تنظيم سياستها الخاصة بالهجرة وتطبيق قوانينها الداخلية، ولكن هذا الحق لا يمكن أن يتجاوز حدود السيادة الوطنية للدول الأخرى أو يمس بحقوق مواطنيها الأساسية. الخلاف الحقيقي هنا لا يتعلق بشرعية إصدار الجزائر للوثائق، بل بمدى تعاون الدولتين في ملف ترحيل المهاجرين، والجدل حول الاتفاقيات الثنائية القائمة، كـاتفاقية 1968 التي تنظم حركة الجزائريين في فرنسا.
بدلاً من الخطاب التصعيدي الذي لا يخدم إلا تأجيج التوتر، ينبغي أن يكون التركيز على الحوار البنّاء والتفاوض الدبلوماسي لإيجاد حلول عملية وملزِمة للطرفين. إن التحديات المتعلقة بالهجرة تتطلب مقاربة شاملة تقوم على التعاون الدولي، لا على فرض الإملاءات أحادية الجانب أو تجاهل المبادئ القانونية الراسخة.
احترام السيادة هو أساس العلاقة
تؤكد هذه الأزمة المتجددة أن العلاقة بين الجزائر وفرنسا، بتاريخها المعقد وثقله، لا يمكن أن تُدار بمنطق الاستعلاء أو التضييق على حقوق الدول. إن الجزائر، بدفاعها عن حقها في إصدار وثائق لمواطنيها، تؤكد على سيادتها الكاملة والتزامها بمسؤولياتها الدولية تجاه أبنائها، وهو موقف راسخ لا يمكن التراجع عنه.
إن المسار الصحيح لتجاوز هذه الأزمات يكمن في العودة إلى مبدأ الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، والالتزام الصارم بالقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية. بدلاً من محاولات فرض الإملاءات التي لا تنتج سوى المزيد من التوتر، يجب أن تسود روح التعاون البراغماتي والحوار الصريح الذي يضع المصالح المشتركة فوق المناكفات السياسية. الجزائر، بتعاملها مع هذا الملف، تؤكِّد التزامها الكامل بمسؤولياتها الدولية، وتدعو فرنسا إلى إتِّباع المسار ذاته القائم على الشرعية الدولية والاحترام المتبادل لبناء علاقة قوية ومستقرة تخدم مصالح الشعبين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


المساء
منذ ساعة واحدة
- المساء
الجزائر ملتزمة بالدّفاع عن حقّ إفريقيا في تمثيل دائم بمجلس الأمن
دعا نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني منذر بودن، أول أمس، من جنيف (سويسرا)، إلى إطلاق مسار جاد لإعادة التوازن المفقود في منظومة العلاقات الدولية، مجددا التزام الجزائر بالدّفاع عن الحقّ المشروع للقارة الإفريقية في تمثيل عادل ودائم داخل مجلس الأمن للأمم المتحدة. في كلمة ألقاها خلال مشاركته ممثلا لرئيس المجلس الشعبي الوطني إبراهيم بوغالي، في أشغال المؤتمر الـ6 لرؤساء البرلمانات، أوضح السيّد بودن، أن الجزائر "تدعو إلى إطلاق مسار جاد لإعادة التوازن المفقود في منظومة العلاقات الدولية بمختلف أبعادها"، مشيرا إلى أن "غياب هذا التوازن يعد من أبرز مصادر التوتر في الحوكمة الدولية، خاصة بسبب تهميش الدول النّامية وفي مقدمتها الدول الإفريقية". وبذات المناسبة استعرض بودن، مقاربة الجزائر التي تجعل من التنمية شرطا أساسيا لتحقيق الأمن والاستقرار في إفريقيا"، مجددا في هذا السياق التزام الجزائر بالدّفاع عن الحقّ المشروع للقارة في تمثيل عادل ودائم داخل مجلس الأمن، وفق ما نصّ عليه "إعلان سرت" و«توافق إيزولويني"، داعيا بالمناسبة إلى توحيد الصف الإفريقي لتحقيق هذا المسعى. وذكر في هذا السياق بتمسّك الجزائر بنهج الحوار والحلول السلمية لتسوية الأزمات، وكذا مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، إلى جانب مواصلة تجسيد هذا التوجه من خلال مساهماتها في جهود حفظ السلم والأمن الدوليين، وتعزيز دور الأمم المتحدة لدفعها نحو الاضطلاع الكامل بمسؤولياتها لاسيما تجاه الشعبين الفلسطيني والصحراوي. وأكد أن الجزائر حريصة على إسماع صوت الدول العربية والإفريقية والدّفاع عن مصالحها الاستراتيجية، لاسيما فيما يتعلق بالقضايا المدرجة ضمن اختصاص مجلس الأمن، وعلى رأسها الوضع المأساوي وغير الإنساني في فلسطين المحتلّة التي يتعرّض شعبها إلى انتهاك ممنهج لحقوقه الأساسية. وفي ختام كلمته أبرز بودن، تمسّك الجزائر بالنّهج الإفريقي لبناء قارة آمنة ومتكاملة، قادرة على المساهمة الفاعلة في رسم ملامح المستقبل العالمي، فضلا عن مواصلة جهودها من أجل تعزيز العمل متعدد الأطراف، وتوسيع الشراكات الاستراتيجية وترسيخ مبادئ عدم الانحياز ومكافحة الإرهاب، وكذا تمكين النّساء والشباب من المشاركة في الجهود الدولية ذات الصلة.


خبر للأنباء
منذ 9 ساعات
- خبر للأنباء
"هيومن رايتس ووتش": بث مليشيا الحوثي لاعترافات طاقم "إتيرنيتي سي" جريمة حرب وانتهاك صارخ للكرامة الإنسانية
وفي بيان صحفي، قالت المنظمة إن الفيديوهات التي نشرتها مليشيا الحوثي في 27 يوليو/تموز 2025، أظهرت أفرادًا من طاقم السفينة وهم يرددون مزاعم الجماعة بأن السفينة كانت متجهة إلى ميناء إسرائيلي، معتبرة ذلك انتهاكًا صارخًا للكرامة الشخصية للمحتجزين، ودليلًا على احتمال إجبارهم على الإدلاء باعترافات قسرية. وأكدت الباحثة في شؤون البحرين واليمن لدى المنظمة، نيكو جعفرنيا، أن السفينة التجارية كانت في طريقها إلى السعودية قادمة من الصومال بعد إيصال مساعدات إنسانية لصالح برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، نافية مزاعم الحوثيين بشأن وجهتها. وأضافت جعفرنيا أن المليشيا اعتادت استخدام أساليب التعذيب وانتزاع الاعترافات تحت الإكراه، مشيرة إلى واقعة سابقة في يونيو/حزيران 2024، عندما بثت قناة "المسيرة" التابعة لهم اعترافات مشابهة لأشخاص اتهموا بالتجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. واختتم البيان بدعوة مليشيا الحوثي إلى الإفراج الفوري عن عشرة من أفراد الطاقم ما يزالون قيد الاحتجاز دون أي أساس قانوني، والسماح لهم بالعودة الآمنة إلى أوطانهم وأسرهم.


حدث كم
منذ يوم واحد
- حدث كم
ترامب: ما يحصل في غزة مفجع ومؤسف وعار
قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إن ما يحصل في غزة مفجع ومؤسف وعار وكارثي، في أحدث تصريحاته بشأن الوضع المأساوي في القطاع الفلسطيني الذي يتعرض لحرب إبادة من قبل إسرائيل منذ 22 شهرا. وأضاف ترامب أمام صحفيين في البيت الأبيض الخميس، أن واشنطن قدمت 60 مليون دولار أميركي قبل أسبوعين للمساعدات في غزة، لكنه لا يرى أي نتائج للمساعدات التي قدمتها الإدارة الأميركية. وأشار الرئيس الأميركي إلى أنه يريد فقط أن يحصل الناس على الطعام في غزة وهو يساعد ماليا في هذا الوضع. وقال ترامب إن خطط كندا للاعتراف بدولة فلسطين في اجتماع للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل لا تروق له، لكنه أضاف أنها لا تفسد محادثات التجارة مع أوتاوا. في سياق متصل، قالت المتحدثة باسم البيت الابيض كارولاين ليفيت إن المبعوث الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف والسفير الأميركي في إسرائيل مايك هاكني عقدا اجتماعا وصفته بالمثمر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومسؤولين آخرين، لبحث سبل إيصال المساعدات إلى قطاع غزة. وأشارت ليفيت في مؤتمر صحفي بواشنطن إلى أن ويتكوف وهاكابي، سيزوران غزة الجمعة لتفقد مواقع توزيع المساعدات، وسيقدمان إحاطة للرئيس ترامب بعد الزيارة للموافقة على الخطة النهائية لتوزيع المساعدات. والتقى ويتكوف امسالخميس، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية في القدس المحتلة، وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن الاجتماع بين الطرفين خُصص للوضع الإنساني في قطاع غزة وصفقة تبادل الأسرى ووقف اطلاق النار . وقد تصاعدت أخيرا الدعوات الدولية والأممية لإنهاء الحرب والحصار المفروض على قطاع غزة بعد الارتفاع الكبير في أعداد الشهداء الفلسطينيين المجوّعين الذين يقتلون في ' مصائد الموت' عند نقاط توزيع مساعدات ما تسمى 'بمؤسسة غزة الإنسانية' التي تقف وراءها الولايات المتحدة وإسرائيل. حدث/وكالات