
الأم الحزينة في حضرة الغياب: أغنية فيروز الأخيرة مع زياد
لم يكن محبّو فيروز يتمنّون أن يكون اللقاء المنتظر بها في مناسبة أليمة، كعزاء ابنها زياد الرحباني.
توافد المئات إلى كنيسة رقاد السيّدة في بلدة المحيدثة - بكفيا الجبلية، في منطقة المتن (جبل لبنان)، يوم الإثنين، لتشييع الموسيقار الراحل عن 69 عاماً. في باحة الكنيسة، كنا نسمع الناس يتهامسون: "هل رأيتِ الستّ؟ هل فيروز هنا حقاً؟ سلّمتَ عليها؟ معقول سوف نراها؟"
تقدّم المعزّون نحو فيروز كما لو أنهم في حالة انخطاف. كانت تجلس في ركن الصالة، يقتربون منها بصمت، ينحنون أمامها لثوانٍ، يُتمتِمون كلمات مواساة، ثم يمضون.
بدت، بمنديلها الأسود المُسدل على شعرها، بوقارها وثباتها، كأنها نواة مجرّة تدور الكواكب حولها في صمت. الناس يقتربون منها كأنّهم مأخوذون بجاذبية لا تُقاوَم، تخضع لقوانين فيروزيّة خفيّة. في حضرة فيروز، وقف الجميع دون تمييز بين شخصيات عامّة ومواطنين، بين أصحاب سلطة وبسطاء؛ كلّهم سواء، ينتظرون لحظة الوقوف أمامها.
لأعوام طويلة، اعتادت فيروز الغياب. اختارت الابتعاد عن الأضواء، ونادراً ما ظهرت في حفلات أو أصدرت أغنيات جديدة أو تحدّثت في مقابلات صحافية. لذلك، ترك وجودها، على مقربة من المئات ولساعات طويلة، محاطة بالكاميرات، أثراً عميقاً في نفوس الحاضرين.
على وجوه الناس في باحة الكنيسة ارتسم شيء من عدم التصديق: عدم تصديق لرحيل زياد، الفنان الذي ترك أثراً عملاقاً في الموسيقى والمسرح العربي لأكثر من نصف قرن، وعدم تصديق لوجود والدته بينهم. لكنها كانت هناك، جالسة أمام نعش ابنها، لا كأيقونة، ولا كفنانة، ولا كمحبوبة جماهير، ولا حتى كفيروز، بل كأم زياد فقط، كصاحبة العزاء.
وفي حضرة حزنها، وأمام نعش زياد، تكثّف الصمت. همس الناس همساً. لحظة وصولها إلى صالة العزاء صباح الإثنين، ارتبك الصحافيون تحت وقع المفاجأة، فحدث تدافع لبضع دقائق، وحاول بعضهم اقتحام خصوصيّة العائلة. لكن، ما إن جلست على كرسيها، سكن كل شيء. لم يعد أحد يرغب بإزعاجها، وعلت أصوات المرتّلين.
البعيدة القريبة
غياب فيروز وحضورها مسألتان لطالما أثارتا الجدل. بعضهم يلومها على "الاعتصام في برجها العاجي"، كما يُقال. وبعضهم يروّج لتكهّنات حول حالتها الصحية مع تقدّمها في العمر. وآخرون يدافعون عن حقّها في العزلة واحترام خصوصيّتها ورغبتها في حياة هادئة تشبهها، بعيدة عن الضجيج.
لكنّ خيار الاحتجاب، في عيون محبّيها، يثير الشوق والغصّة معاً، لأن خفوت حضورها لا يتناسب مع حجم العاطفة الجارفة تجاهها. فمحبّة فيروز، في الوجدان العام، ليست مجرّد ذائقة فنية أو إعجاباً بسيدة صنعت مجداً غنائياً ومسرحياً فريداً، وكانت العمود الثالث في المدرسة الرحبانية مع رفيق دربها عاصي، وشقيقه منصور.
محبّة فيروز جزء من هوية الناس، من طريقتهم في التعريف عن أنفسهم. مكانتها كأيقونة ورمز وإرث، ليست تفصيلاً في يوميات ملايين اللبنانيين والعرب، بل ظلٌّ طاغٍ.
لكن هل تعني المسافة الغياب حقاً؟ صحيح أن فيروز معتصمة في بيتها، إلا أنها لم تخرج من قلوب الناس. فهي بعيدة قريبة، تغيب ولا تغيب، مثل نجمة كفرغار، كما في أغنيتها الشهيرة من فيلم "بنت الحارس" (1968).
يرى كثيرون في ابتعادها حكمة، وقراراً مدروساً. فربما ترى أن الكلام لم يعد يضيف ولا ينقص، وأن مواقفها، باتت حملاً ثقيلاً. ففي السنوات الماضية، تعرّضت فيروز أحياناً لهجمات بسبب تصريحات لم تصدر عنها، بل نُسبت إليها. فالكلّ يريد لفيروز أن تشبهه، بينما ترى هي، أن من واجبها وحقّها الحفاظ على إرث يتجاوز المناكفات. الكبار يصلون إلى مرحلة ما بعد الحاجة للكلام.
كان آخر ظهور علنيّ لفيروز في سبتمبر 2020، حين زارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في منزلها، وقلّدها وسام جوقة الشرف الفرنسي، أرفع وسام تمنحه الدولة الفرنسية. خرجت عن اللقاء يومها مجموعة صور نادرة لفيروز، لم يحظ بها محبّوها منذ زمن. جاءت الزيارة في خضمّ الانهيار المالي وأزمة المصارف وتفجير مرفأ بيروت، وكأنها تذكير بأن لبنان، رغم كل ما خسره، ما زال يملك فيروز.
فيروز: ماذا تعني الأيقونات المعلقة على جدار بيتها؟
فيروز: المغنية اللبنانية والأخوان عاصي الرحباني ومنصور الرحباني في لقاء خاص مع راديو بي بي سي عام 1961
تكرّست هذه المكانة الأيقونية بمرور الزمن، إذ عايشت المغنية التسعينية مآسي أبناء بلدها كافة، على امتداد ما يقارب القرن، وتقاطعت مآسي الوطن مع مآسيها الشخصية، من الحرب الأهلية، إلى رحيل زوجها عاصي الرحباني عام 1986، ثم وفاة ابنتها ليال عام 1988.
ومع جلوسها أمام نعش زياد، تجلّت لحظة لا تكثّف حزنها الخاص فقط، بل حزن وطن لم يعد يحتمل المزيد من الخسارات. ومع أنها صاحبة المصاب، إلا أن الناس، وهم يلتفّون حولها، بدا كأنهم يرغبون في التدثّر بمنديلها، لكي تعزّيهم هي، وتُطمئنهم أن ظلّها لا يزال بينهم.
في وداع زياد، كانت "سيّدة الأصول"، تؤدّي واجبها، متقدّمة عائلة الرحباني، متعالية على خلافات طالما كُتب عنها، وعن معارك قضائية بين ورثة عاصي وورثة منصور كان لها وقع إعلاميّ سلبيّ على مدى سنوات.
ورغم ثقل اللحظة، كانت الساعات التي قضتها بين الناس، نافذة إلى معرفة نادرة وثمينة. عرفنا أنها بصحة جيدة، رغم التعب والشيخوخة وخطواتها التي أثقلها الحداد. عرفنا أيضاً أنها محاطة بأيدٍ أمينة: فإلي يمينها جلست ابنتها ريما الرحباني، تراقب كلّ حركات والدتها، وإلى يسارها محاميها الشخصي فوزي مطران، الذي حرص على ألّا يبالغ أحد المعزّين بالانفعال أمامها.
الأم الحزينة
صور فيروز في جنازة ابنها تستحضر سلسلة من المشاهد القديمة، ارتبط فيها حضورها العام بارتداء الأسود، خصوصاً في تسجيلاتها لترانيم الجمعة العظيمة.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، تحوّل هذا الطقس إلى موعد ثابت، ينتظره الناس للحصول على إطلالة نادرة على "الستّ". كانت تظهر في تلك التسجيلات القليلة جاثية، تغطي رأسها بالمنديل الأسود، وترنّم.
لهذا لم يكن غريباً أن يُشبِّبها كثيرون على مواقع التواصل، بـ"الأم الحزينة"، بعد انتشار صورها في العزاء، في استعارة من صورة مريم العذراء في صلوات الرثاء المسيحية.
وإلى جانب صورة الأم المكلومة، برز نوع آخر من الحداد: حداد على علاقة فنية استثنائية جمعت فيروز بزياد. في تلك العلاقة، لم يكن زياد مجرّد امتداد لمدرسة الرحابنة، بل كان صوتاً خاصاً، اصطدم بإرث والده، وجادل صورة والدته، وغيرّ مسارها الفنّي.
لم يتعامل زياد مع فيروز كرمز لا يمسّ، بل كمغنية يملك صوتها قابلية التعبير عن أبعاد لم تُلامسها من قبل. حرّكها من موقع الأيقونة، إلى امرأة تغنّي عن الخوف، عن الخيبة، عن الحبّ المتعثّر، عن هشاشتها، عن رغبتها بالانعتاق من صور الرومانسية التقليدية.
ذلك التحوّل لم يكن صوتياً أو تقنياً أو موسيقياً فقط. في نظر كثيرين، كان لحظة إعادة تعريف لصوت فيروز. جعله أقرب، أكثر عرضة للانكسار، بدون أن يفقده هيبته.
لم تكن تلك الأغاني مجرّد تجريب موسيقي. أعاد زياد رسم ملامح فيروز، ووسّع حدودها. وفي الوقت نفسه، رسّخ مكانته كملحّن مختلف، صاحب مشروع فني مستقل، في أعمال مثل "كيفك إنت"، و"بلا ولا شي"، و"كبيرة المزحة".
هكذا، في حضورها المهيب أمام نعشه، بدت فيروز وكأنها تنهي مع زياد، أغنيتهما الأخيرة معاً.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الأنباء
منذ يوم واحد
- الأنباء
عادل كرم يواصل «خيال صحرا»
يواصل عادل كرم عروض مسرحية «خيال صحرا» التي يقدمها مع الكاتب والممثل جورج خباز على خشبة مسرح كازينو لبنان حتى 17 الجاري وذلك قبل بدء جولة لها في الخارج. من جانب آخر، قرر كرم الابتعاد عن التقديم التلفزيوني حاليا والتفرغ للسينما والمسرح، لاسيما في مصر ولبنان.


الأنباء
منذ يوم واحد
- الأنباء
الفنانون والاستمرارية.. هذه هي الوصفة
بيروت - بولين فاضل لا يختلف اثنان على أن قطف النجاح بواسطة أغنية تشق طريقها إلى الجمهور العريض و«تضرب» كما يقال باللغة الفنية، ليس بالمهمة الصعبة في زمن مواقع التواصل والتسويق المكثف عبرها. أما الاستمرارية الفنية على امتداد سنوات وعقود، فهي التحدي بعينه ولها وصفتها التي تحدث عنها النجوم، كل وفق مفهومه. البداية مع الفنانة نجوى كرم التي ترى أن الإيمان والمثابرة في العمل والقناعة بأنها لاتزال في بداياتها، كلها عوامل تقف وراء استمراريتها في العطاء والنجاح. الفنانة نوال الزغبي من جهتها تقول إنها نجمة منذ 30 سنة وستستمر كذلك لكون علاقتها بالفن هي علاقة شغف. وتضيف: «أنا مستمرة لكوني أريد أن أكون قوية وناجحة دوما وأحاول أن أكون ترند بطريقة محترفة.. صحيح أن لدي تاريخا فنيا ورصيدا كبيرا من الأغنيات لدرجة أنه بإمكاني أن أغني عشر ساعات أغنيات ضاربة من رصيدي، الا أني مصرة على مواكبة الجيل الجديد بأغنيات جديدة ناجحة وأنا أعرف كيف أسوق أعمالي وكيف أكون محترفة في التعامل مع السوشيل ميديا». أما الفنانة اليسا فترى أن الفن لا يقوم على نجاح أغنية أو البوم، إنما هو استمرارية، مضيفة ان الوصفة في هذا الإطار الا يغير الفنان في شخصيته وهويته. وتقول: «قبل 25 سنة هناك من أحبني وكبر على فني ولا يزال يحبني لكوني لم أتغير معه ولا أريد أن أتغير. وحتى على الصعيد الفني، لا أريد أن أقوم بنقلة من شأنها أن تحدث صدمة لدى جمهوري، بل يكفي أن أقدم تجديدا يفرح به». الفنان جوزف عطية من جهته يقول إن استمرار نجاحه ربما يعود إلى كونه من النوع الذي يسلم بمشيئة الله ويعمل على البركة وبهدوء وطبيعية لا بهاجس المنافسة أو مراقبة الغير أو التفوق على الآخرين. وأضاف: «صحيح أني أسعى لتقديم أعمال جميلة وللنجاح، لكن إذا لم أستمر، لا بأس في ذلك لأنها تكون مشيئة الله».


الأنباء
منذ 2 أيام
- الأنباء
سينتيا خليفة تنضم لـ «سفاح التجمع»
بيروت - بولين فاضل تستعد الفنانة سينتيا خليفة لبدء تصوير أولى مشاهدها في فيلم «سفاح التجمع»، من بطولة أحمد الفيشاوي وتجسد خلاله شخصية لبنى ياقوت، زوجة سفاح التجمع الشخصية المحورية في القضية المثيرة للجدل، في حين يجسد أحمد الفيشاوي شخصية كريم سليم، المعروف بلقب سفاح التجمع الذي قتل ثلاث فتيات في شهر مايو من العام الماضي وأحدثت قضيته زلزالا في الرأي العام وضجة إعلامية كبرى في مصر. وتقتحم سينتيا خليفة عالم السينما المصرية بأولى بطولاتها السينمائية في مصر، ومن المقرر بدء تصوير مشاهده والإعلان عن باقي طاقم العمل خلال أيام، والفيلم من تأليف وإخراج محمد صلاح العزب، ومن إنتاج أحمد السبكي. ويأتي فيلم سفاح التجمع ضمن انتعاشة فنية تعيشها سينتيا خليفة مؤخرا تزامنا مع العديد من الأعمال الدرامية المصرية والعالمية التي تشارك في بطولتها، آخرها مشاركتها في مسلسل «ابن النادي» مع النجم أحمد فهمي الذي يعرض قريبا على إحدى المنصات الرقمية. كما وضعت سينتيا بصمتها في السينما العالمية عبر مشاركتها في بطولة فيلم المريخ الأبيض «White Mars» مع النجمة العالمية لوسي هيل، نجمة مسلسل Pretty Little Liars، والفنان البريطاني لوك نيوتن نجم مسلسل نتفليكس الشهير Bridgerton، إضافة للفنانة الكندية وعارضة الأزياء سابرينا ألبا زوجة النجم العالمي ادريس ألبا.