الأزرق… وين ضحكتك؟! و كيف روّضتك؟
2
غاب وجهٌ من ضوء، وغادرتنا قامةٌ من قامات الشعر والدبلوماسية. غادر الفانية وجهٌ من وجوه النبل، ورحل عنا من كان للكلمة روحًا، وللأخلاق ظلًا، وللوطن نغمه وفاء… رحل عبد الله الأزرق، الشاعر، والأديب، والدبلوماسي؛ كان دبلوماسيًا صاخب الضحكات، عميق الحكمة، يمشي على خُطى السودان كما يمشي الحرف على المعنى. الإنسان الذي لم يعرف إلا الكرم والشهامة، ولا نطق إلا صدقًا وجمالًا.
كان الأزرق (هل أقول "كان"؟ يا ويحي… ويا ويْبَ لي) متعدد المواهب كما تتعدد ألوان السماء في الغروب… شاعرًا يطرز المعاني بخيوط من ضوء، وأديبًا يغزل اللغة برفق العارف في حضرته كانت المجالس تضيء، وفي غيابه الآن، يخيم الحزن في زوايا الأرواح التي أحبّته وارتوت من نُبله.، كان إنسانًا لا يُنسى: كريم النفس، رقيق القلب، شهم في مواقفه، صادق في ودّه، وأصيل في كل ما كان يفعل ويقول.
3
إن بحثتَ عن عبد الله الأزرق، الدبلوماسي الذكي الأنيق الشجاع، فيمكن أن تقرأ ما كتب رفيقه الدرديري محمد أحمد، وصديقه معاوية التوم، وزميله خالد موسى – نضد الله يراعهم – فقد عرفوه دبلوماسيًا أنيق الصمت، ، يزن الكلمات بمكيال الحكمة.4
لو رغبت أن تعرف عن فحولته الشعرية، يمكن أن تقرأ قصائده الجياد، أو تسأل الناقد الشاعر الكبير إبراهيم القرشي، أو أن تستمع بإفادة الشاعر الكبير خالد فتح الرحمن حول أصالة شعره ومفرداته. وكيف لا وهو حفيد المجاذيب، وما أدراك ما هم؟ أهل دين وكرم وشهامة وتقوى وأدب، من لدن عبد الله الطيب المجذوب إلى عكير الدامر.انظر قصيدته كعبة المضيوم:
"ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بدوحة عزٍّ كي أروِّي فؤاديا
أولئك أقوامٌ صباحٌ أعزةٌ مآثرُهم أربتْ وفاقتْ عداديا
دوحتهم ضاءتْ من العزّ والبها
وبالعلم والعرفانِ تجلّى معانيا"
39 بيتًا، مكتوبة على بحر الطويل ، يالها من قصيدة ويالها من كلمات جزلة وياله من شاعر.
5
إذا كنتَ لم تتعرف عليه كاتبًا، فراجع كتابه (إدارة التوحش)، أو راجع أرشيف الأحداث، لتتعرف على قلم باذخ في الكتابة المسؤولة والتحليل العميق للسياسة العالمية. مئات المقالات تكشف لك عن كاتب عميق ومبهر.
أذكر أنني قرأت مقالًا واحدًا له في الصحافة السودانية، فبحثت عنه زمنًا لأستكتبه لصحيفة الأحداث، فاستجاب بدون لف ولا دوران، قائلًا: (بس عندي شرط واحد، أن تُنشر كما كُتبت). فقلت له: وهكذا هي الأحداث، لا تتدخل في مقالات كتابها أبدًا.
أما أنا، الآن، في سأحدثك عن الأزرق الإنسان.
6
عرفتُ عبد الله الأزرق الضاحك الإنسان قبل عقدين أو أكثر من الزمان. كنتُ في ذلك المساء أتسكع في أكسفورد رود كعادتي في المساءات اللندنية… فإذا بشخص يأخذني مباشرة بالأحضان وهو يضحك، فاستغربتُ من تلك المفاجأة إذ كنتُ لا أعرف وقتها من هو ذلك الضحّاك الحنين… فلما رأى حيرتي قال: (مش عيب عليك تكون في لندن ولا تزور أحد كُتّابك؟).
فتأملتُ الوجه، وتطابقت الصورة… إذن أنت السفير عبد الله الأزرق! يا له من لقاء… قلت له: ولكن لي حكاية مع السفارات، حكاية سأحكيها لك مرة أخرى.
وحكايتي تلك تقول إنني، على كثرة أسفاري، كنتُ ولا زلتُ أتجنب السفارات ودبلوماسييها وموظفيها، سواء كنت أعرفهم أم لا؛ وذلك لأنني بعد تجارب قليلة زرت فيها بعض سفاراتنا بالخارج، رأيتُ القوم حين تدخل عليهم بالسلام والتحية والمجاملة، تجحظ عيونهم، وترى الخوف يتملكها، وكأنك جئت لتحملهم عبئًا أو تكلفهم ما لا طاقة لهم به، ويظنون بك الظنون، كأن الذي أتى بك الحاجة!! فيسلمون عليك على عجل بطرف أصابعهم، ويغادرون سريعًا.
ومنذ أن لاحظت أحوالهم تلك، امتنعت عن زيارات السفارات السودانية نهائيًا. بالطبع، هناك كثيرون أفاضل يكرمون مقدمك ويأنسون غربتك، ولكنهم قليل.
7
أصرّ الأزرق بعد اللقاء في أكسفورد رود أن يأخذني معه مباشرة إلى المنزل، و بإلحاح شديد. ذهبتُ وأنا كاره، وخرجتُ وأنا ندمان أنني لم أعرف هذا الإنسان من قبل. ومنذ تلك اللحظة، امتدت صداقتنا أكثر من عشرين عامًا. كنتُ كلما أذهب إلى لندن أجد الديوان عامرًا بالضيوف، والإنس الجميل، والشعر، والحكايات. يا لها من حكايا!
لا زلت أذكر كثيرًا من الأمسيات، يقرأ لنا فيها شعرًا لا يُقرأ لعامة الناس، وأستمتع فيها بحكايات الصادق الرزيقي، وماجد عبد الباري، وعبد الرحمن سليمان، وخلق كثير لا أذكره، ولكن كلهم كانوا على قدر من الثقافة الرفيعة.
8
المرة الوحيدة التي زرته فيها ولم يستقبلني بضحكته، كانت في المستشفى حين هوت به عربته من فوق كبري شمبات… يومها، وراء الدموع، كتمنا ضحكات، وأنا أتخيله ساخرًا من نفسه والآخرين. وقد فعل! أول ما فاق من الغيبوبة ورآنا، قال: (إنتو هنا ولا في الآخرة؟)… فضحكنا، و فرحنا، وسعدنا، وعرفنا أنه بخير ما دام قادرًا على الضحك.
9
حين خرج من المستشفى، كان يوم بهجة عظيمة؛ لم أرَ حشودًا تعاود مريضًا كما رأيتُها في ذلك اليوم. كان الناس يتوافدون بالعشرات… من أين لعبد الله معرفة كل هذا الخلق؟! جاء جيرانه الأقربين، وأصدقاؤه المقربون، وتقريبًا كل الدبلوماسيين في السودان. جاءت وفود من أهله المجاذيب الأتقياء الفصحاء، جاء الإخوان الذين عرفهم والذين لم يعرفهم، جاءت كل الطوائف والأحزاب.
تخيّلت اليوم لو أن عبد الله الأزرق دُفن في الخرطوم ، إذن لما وسعت الناس الطرقات والمقابر، ولكن شاءت الأقدار أن يُدفن بعيدًا عن الأرض التي أحبّها، وعشقها، وكتب فيها أروع أشعاره، وعاش فيها أجمل أيامه.
10
حين كان الأزرق يكتب في صحيفة (الأحداث)، ما كان يأخذ لنفسه أجرًا مقابل الكتابة، كبقية كتاب الأحداث وقتها، إذ كان المال يتسرب من بين أيديهم للناس.
فكان عبد الله يأمرنا في كل شهر: "ادفع هذا الشهر لفلان فإنه يربي أيتامًا، وادفع لذلك فإنه محمول، وآخر مصاريفه كثيرة، وعمنا الحاج فلان عيان."
وكان لا يكتفي بذلك، بل يرسل المال اوزعه على الأصدقاء والأصحاب وبعض الزملاء الصحفيين، الذين كان دائمًا ما يتفقد أحوالهم.
11
أما في لندن ، فلقد مدّ يديه لمعارضين للنظام العطالي، يعملون ضده، وآخرين لا يعرفهم. لم يشكُ أحدٌ منهم رغم ما طالته من اتهامات، ولم يغضب؛ بل، على العكس، كان لا يرد على كثيرين ويقول لي: "دعهم سيعرفون يومًا الحقائق."
تحمّل كثيرًا من الأذى؛ لأنه إن تحدث أفشى من أسرار الدولة التي هو مؤتمن عليها. فليس أمامه غير الصبر، وانتظار الأجر، يوم يكشف عالم الغيب الأسرار ويعرف الناس الحقائق.
12
أيها المقيم في ذاكرة الوطن… كيف تسللت من بين أنفاسنا، وتركت كلمتك الأخيرة معلقة بين السطر والدمعة؟
أيها الراحل في صمت الحكماء، الساكن في دفاتر القصيدة، الرافل – بإذن الله – في سندس واستبرق، الراقد في نمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة، المتكئ في ظل ممدود وطلح منضود… بالله، قل الآن ياايها الضاحك، يا أزرق العينين أبيض القلب، كيف روّضتك؟ ووين ضحكتك؟
نم هادئًا يا من استراح من وعثاء الطريق، نم بين أوراقك وذكراك، وسيظل يلهج باسمك كل من عرفك، واستمتع بأنسك وضحكك، وكلما رفرفت راية الشعر، أو هتف نيلنا باسم النبلاء.
رحمك الله رحمة واسعة، وجعل مثواك جنات ورضوانًا، وألهمنا وذويك ومحبيك الصبر والسلوان.
عادل الباز
script type="text/javascript"="async" src="https://static.jubnaadserve.com/api/widget.js" defer data-deferred="1"
إنضم لقناة النيلين على واتساب
مواضيع مهمة
ركوب الخيل لا يناسب الجميع؟ أيهما أصعب تربية الأولاد أم البنات؟ جسر الأسنان
هل تعقيم اليدين مفيد؟ الكركم والالتهابات أفضل زيوت ترطيب البشرة

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى الالكترونية
منذ 2 ساعات
- صدى الالكترونية
المتحدة تنهي تعاقدها مع لميس الحديدي بعد خمس سنوات من التعاون
في خطوة فاجأت الوسط الإعلامي، أعلنت شركة المتحدة للخدمات الإعلامية عن انتهاء تعاونها مع الإعلامية المصرية لميس الحديدي، مؤكدة عدم تجديد التعاقد بين الطرفين بعد خمس سنوات من العمل المشترك. ووجهت الشركة، التي تُعد أكبر الكيانات الإعلامية في مصر، في بيان رسمي، الشكر للحديدي على الفترة التي خاضتها وقدمت خلالها برنامج 'كلمة أخيرة' على شاشة قناة 'ON'، مشيدة بمستوى المهنية الذي ميّز مسيرتها، ومتمنية لها التوفيق في خطوتها المقبلة. من جانبها، علقت زوجة الإعلامي عمرو أديب على القرار عبر حسابها الرسمي في 'فيسبوك'، مؤكدة انتهاء رحلتها مع 'المتحدة' بكل فخر ورضا، وقالت: 'أنهي سنوات العمل مع المتحدة، فخورة بما قدمت من عمل مهني، حاولت أن أقدم خلاله – قدر استطاعتي – ما يليق بالجمهور المصري'. وأضافت: 'أشكر فريق العمل العظيم الذي رافقني طوال مسيرتي على مختلف الشاشات، كما أوجه شكري العميق لجمهوري العزيز، من اتفقوا معي أو اختلفوا، على الدعم والنقد والمحبة'. ولم تكشف الحديدي عن تفاصيل وجهتها الإعلامية القادمة، لكنها ألمحت إلى تجربة جديدة قيد التحضير، قائلة: 'لكم نعمل ومنكم نتعلم وبكم نستمر، وإلى تجربة صحفية وإعلامية جديدة، قريبًا بإذن الله'.


صدى الالكترونية
منذ 3 ساعات
- صدى الالكترونية
وفاة والدة عبدالحميد العوام
تنعي أسرة صحيفة 'صدى' وفاة المغفور لها بإذن الله، والدة الأستاذ عبدالحميد العوام، الفنان والمنتج التلفزيوني، التي انتقلت إلى رحمة الله تعالى يوم السبت الموافق 14/6/2025م. وأقيمت صلاة الجنازة يوم الاثنين 16/6/2025م في مسجد الراجحي (مخرج 14) بعد صلاة العصر، وتم الدفن في مقبرة النسيم. ونسأل الله العلي القدير أن يتغمد الفقيدة بواسع رحمته، وأن يسكنها فسيح جناته، وأن يلهم أهلها وذويها الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون.


الرياض
منذ 10 ساعات
- الرياض
من خلال ملتقيات شقراء الفنية..محمد الحسيني يوثق «الفن التشكيلي السعودي»
استطاع الصحفي والكاتب محمد بن عبدالله الحسيني جمع محطات فريدة من تاريخ الفن التشكيلي في شقراء، المدينة التي ارتسمت ملامحها الثقافية على صفحات هذا العمل، لتكون شاهداً على نبضها الإبداعي المتجدد وتوثيقها في كتاب جديد بعنوان «الفن التشكيلي السعودي» من خلال ملتقيات شقراء الفنية 1442 إلى 1445 – تراجم وسير. حراك دائم معزز ويقدم الحسيني توثيقاً دقيقاً للفعاليات في هـذا الكتاب، وكيف عملت رؤية المملكة 2030 على جعله حراكاً دائماً معززاً، وأبرز المخرجات الفنية، وسير المشاركين، في سياق يعكس ارتباط الإنسان بمكانه وبيئته الثقافية، كما يبرز الكتاب دور مدينة شقراء كقاعدة تنموية وإبداعية، تشهد تفاعلاً مميزاً بين الإرث الفني السعودي وتطلعات الجيل الجديد. حيث يعود تشكل المشهد الثقافي والإبداعي الفني في المملكة العربية السعودية إلى محطات تاريخية، جذور الفن التشكيلي السعودي ويرصد المؤلف «إبداع الفن التشكيلي السعودي: من الماضي إلى المستقبل» جذور الفن التشكيلي السعودي وأفقه المعاصر، مستعرضاً كيف انتقل من حدود المعارض المغلقة إلى الشوارع والساحات العامة، ليصبح تعبيراً حياً عن روح المجتمع السعودي وطموحه، ويشير الحسيني إلى أهمية هذه الملتقيات في تعزيز الهوية الفنية المحلية، وتجديد صلة الشباب بموروثهم الإبداعي، مؤكداً على دور وزارة الثقافة في دعم هذا الحراك الحيوي. وعمق البحث والتتبع تبويب عناوين وفصول الكتاب تشير إلى التنوع الكبير في معلوماته وعمق البحث والتتبع الذي سعى إليه المؤلف، وتوثيقه للوحات فنية لفنانين سعوديين أشبه بمعرض تشكيلي ورقي حيث تضمن أعمال نحات العرب فيصل النعمان، ولوحة زيتية ملكية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- للفنان التشكيلي نواف بن عبدالله الدايل -وأخرى للرياض- 2020م اليوم الوطني، ولوحة من أعمال النحات خالد العنقري - محافظة الدوادمي 2024م، ورسمة لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بدهن العود من أعمال التشكيلية مها العتيبي 2019م، إضافة إلى جامع الإمام فيصل بن تركي في أثينا - للفنانة طيف 2023م، ولوحة أخرى لمعالي وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود بريشة الفنانة التشكيلية فهدة بنت محمد السدر 2024م، وأيضا لوحة لغازي القصيبي من أعمال الفنانة التشكيلية أمل الشمري 2024م، ولوحة من أعمال الفنانة التشكيلية منيرة السليم.