غرفة العمليات
أستطيع أن أُجزم أنني وبفضل الله بلغت الأربعين من عمري، ولم تطأ قدماي مستشفى قط، لا كمريض ولا حتى كمراجع، كنا نحن،الذين يرعبهم حتى المرور من أمام المستشفى والمترددين امام الإبر ومشرط الطبيب – نعيش على المسكنات، نُداوي الألم بالصبر والدعاء. نُقاوم حتى ندخل في عقدنا الخامس، ثم تبدأ أجسادنا بالتراجع: آلام في الظهر، وديسك، ومفاصل عاجزة عن حملنا، يليها ضغط وسكري، ودفتر أمراض مزمنة نضعه في الجيب كالبطاقة الشخصية.في أيام كورونا، كنت أول من تلقى المطعوم في الحارة، وأكملته بالثاني والثالث. ومنذ ذلك الحين، لا أدري إن كان من أثر اللقاح أو أمر آخر، لكني أصبحت زبونًا دائمًا للمستشفيات.أذكر، قبل عامين، راجعت قسم الطوارئ في مستشفى السلط، كنت أعاني من ألم في صدري وضغط مرتفع. بعد الفحوصات، أصر الطبيب على إدخالي فورًا لإجراء قسطرة قلب صباح اليوم التالي. حينها فقط، شعرت بالدنيا تدور من حولي، وكأنني في دوّامة مدينة ملاهٍ، وانتابني قلق لم أعرفه من قبل.قضيت الليل بلا نوم، عيني لا تفارق نافذة الطابق السابع، أراقب السيارات التي تمر نحو المستشفى، وأرتجف كلما رأيت سيارة إسعاف قادمة من شارع الستين، متوجسًا أنها قد تحمل مصيرًا شبيهًا بما ينتظرني.مع شروق الشمس، طلب مني الممرض أن أخلع ملابسي وأرتدي( الدسبوزبل جاون) هو عبارة عن مريول أزرق مصنوع من الورق، يُستخدم لمرة واحدة فقط،ارتديت المريول وتحرك الممرض حيث بدأ بدفع (الترولي) الحماله،شعرت وكأن المسافة من غرفتي إلى غرفة العمليات أطول من الطريق إلى الحج. كانت الغرفة باردة حد الارتجاف، والبرودة التي شعرت بها لم تكن فقط من الجو، بل من الخوف الذي تسلل إلى أعماقي.دخل الممرض، رجل بشارب بارز يظهر من خلف الكمامة، سلّم عليّ بحرارة وكأنه يستقبلني في وليمة منسف، لا غرفة عمليات. وعندما قرأ اسمي، قال ضاحكًا: "أنت اللي بتطلع بالتلفزيون؟ يا دكتور حسين، تعال شوف تبع الكاميرا الخفية!"وبعد دقائق معدودة، انتهت القسطرة بسلام، قال لي الطبيب بابتسامة مطمئنة: "الحمد لله، أمورك طبيعية". لم أصدق أن الأمر انتهى بهذه البساطة.لكن بعد أشهر، وخلال زيارة دورية لصديقي الدكتور وضاح الجوهري، لاحظ شيئًا غير طبيعي في الصور. قال لي بصرامة، وهو المعروف بصراحته مع المرضى: "فيه شيء مش واضح، ممكن ورم، كيس، أو شيء آخر… لازم تنظر."منذ تلك اللحظة، لم أذق طعم النوم شهرًا كاملًا. كنت أُحصي الاحتمالات كما يحصي التاجر الخسائر. ثم جاء موعد العملية، وكانت المفاجأة أن عدد الفريق الطبي هذه المرة تضاعف: طبيبان، وطبيبة تخدير، وثمانية من الممرضين والممرضات. فقلت في نفسي: "أكيد الوضع خطير، إذا عملية القلب كانت بطبيب وممرض، فماذا عن هؤلاء؟!"خُيّرت بين التخدير النصفي والكامل، فاخترت النصفي متعللًا بضيق في التنفس، والحقيقة أن خوفي من البنج كان أعمق من أي تفسير.كان خوفي لسببين: السبب الأول هو خوفي من التخدير والعملية ذاتها، بما تحمله من احتمالات وأوهام لا تهدأ. أما السبب الثاني، والأهم، فكان خجلي الشديد من طاقم الممرضات وطبيبة التخدير. كنت قلقًا، بل مرعوبًا، من أن تسحب قطعة القماش التي تغطي الجزء السفلي من جسدي، ولو بالخطأ. كان خجلي أشد وطأة من مشرط الجراح، وخوفي أشد من صوت الأجهزة حولي.ثم، كرّر طبيب التخدير الاول ذات المشهد الطريف الذي حصل بالعملية الجراحية الاولى قبل أشهر ،حين قال لي بعد أن قرأ أوراقي والتقرير، نظر إلي وسأل:اسم المريض عاطف أبو حجر؟ شو بقرباك اللي بطلع بالتلفزيون؟"أجبته بهدوء:أناوفجأة، وبعد أن كان يهمس لي بصوت منخفض، رفع صوته وقال بحماس:"يا جماعة! عارفين مين مريضنا؟ هذا اللي بطلع يتخوث على الناس بالتلفزيون!"صراحةً، ضحكت ضحكة مصطنعة، لأنني كنت في وضع لا أُحسد عليه. ، فانفجر الجميع بالضحك، وارتسمت على وجهي ابتسامة مجاملة تخفي خلفها ارتجاف الخوف والقلق.لكن تعامل الطاقم الراقي، واحترامهم وخبرتهم، هدّأ روعي، وساهم في إزالة خوفي وتوتري. أجريت العملية، وبفضل الله لم يجدوا أثرًا للورم. خرجت من غرفة العمليات منتشيًا، ممتنًا، رغم آثار البنج.لم تكن مجرد عملية. كانت لحظة فارقة، أعادت ترتيب أولوياتي، وذكّرتني بضعف الإنسان مهما بلغ من قوة، وبأهمية الكلمة الطيبة، والابتسامة، والرحمة في مهنة الطب.غرفة العمليات لم تكن مكانًا للمرض فحسب، بل كانت فصلًا إنسانيًا عميقًا في حياتي. خرجت منها لا فقط بجسد سليم، بل بقلب ممتن، وعقل أكثر إدراكًا لقيمة الصحة ونعمة البشر الطيبين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سرايا الإخبارية
منذ ساعة واحدة
- سرايا الإخبارية
أفقد كل ما أُرزقُ به بعد إخبار الآخرين به، فما توجيهكم؟
سرايا - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أعاني منذ فترة من شعور مزعج، يتكرر كلما رزقني الله بنعمة، أو حدث أمر مفرح في حياتي، فبمجرد أن أشارك هذه الأخبار مع المقربين، يحدث بعدها ما يعكر صفو فرحتي! فمثلًا: عندما حملت، وأخبرت الآخرين، تعرضت لمشكلة كبيرة في الحمل، ولم يكتمل -للأسف-، الأمر الذي سبب لي حزنًا شديدًا، ومرة أخرى اشتريت شقةً، وبعد توقيع العقد بيومين فقط، اكتشفت إصابتي بالسرطان، وخضت بعدها رحلة علاج شاقة، و-الحمد لله- شُفيت، لكن التجربة أثرت بي نفسيًا وجسديًا بشكلٍ كبيرٍ. أيضًا خطط كثيرة للسفر أُلغيت؛ لأن زوجي يُصر دائمًا على إخبار الآخرين بكل التفاصيل، مما تسبب أحيانًا في خسائر مالية، رغم التزامنا بالعبادات والصدقات. هذا كله جعلني أشعر بالقلق الشديد من الحسد، خاصةً مع بعض تعليقات الناس المليئة بالغيرة والحقد، فانعزلت، وأصبحت انطوائيةً، وأتلقى علاجًا نفسيًا، كما تأثرت علاقتي بالله بسبب هذه المعاناة. حاولت مرارًا إقناع زوجي بعدم مشاركة تفاصيل حياتنا مع الآخرين، لكنه لا يقتنع، أصبحت لا أرغب في شراء أي شيء جديد، خوفًا من تكرار التجربة، فما الحل؟ وكيف أتعامل مع هذا الخوف، وأحافظ على استقراري النفسي والإيماني؟


جفرا نيوز
منذ 3 ساعات
- جفرا نيوز
الشركة الأردنية لإنتاج الأدويه تهنىء سمو ولي العهد بعيد ميلاده الميمون
جفرا نيوز - يتقدم رئيس مجلس إدارة الشركة الأردنيه لإنتاج الأدويه الدكتور عبّد الجبار الكبيسي وأعضاء المجلس، والرئيس التنفيذي ، والإدارة التنفيذية وكافة العاملين في الشركة من مقام صاحب السمو الملكي الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد المعظم، بأصدق مشاعر التهنئة وأطيب التبريك بمناسبة عيد ميلاده السعيد. وإذ نغتنم هذه المناسبة العزيزة على قلوب الأردنيين جميعاً، لنبتهل إلى الله العلي القدير أن يمنّ على سموّه بموفور الصحة والعافية، وأن يُسدد خُطاه في مسيرته المباركة في خدمة الوطن إلى جانب حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، حفظه الله ورعاه.


أخبارنا
منذ 6 ساعات
- أخبارنا
د. ذوقان عبيدات يكتب : قصة تدمع لها العيون
أخبارنا : تحكي عن حياة أخت فاضلة اسمها أماني ..... كانت أماني مديرة دار تحفيظ للقرآن الكريم، حولت جميع جلساتهم الاجتماعية سواء في اﻷسرة أو العمل أو اللقاءات أيا كان نوعها الى وقفة مع آية من كتاب الله أو درس قرآني،، أو معجزة قرآنية،، وفي شهر شعبان الماضي،، أصيبت بجلطة،، وأدخلت على أثرها المستشفى،، تحكي صاحبتها أنها وقت تكون محررة من اﻷجهزة والمغذيات،،تمر على الغرف واحدة واحدة،، تدعو إلى درس قرآني في غرفتها،،وإن كانت معلقة باﻷجهزة تستخدم الهاتف الداخلي للغرف وتدعو من في الغرف لحضور درسها القرآني،، أماني كانت حافظة للقرآن الكريم،، اتصلت عليها صاحبتها يوماً للاطمئنان عليها،،فطلبت منها أماني طلباً،، قالت أرغب بأن تراجعي لي القرآن،، خشية أن تموت على أثر مرضها وهي غير متمكنة منه،، قالت صاحبتها،، أبشري ولا يهمك،، راح أتصل فيك يوميا وأسمع لك،، قالت أماني: ﻻ ﻻ ﻻ أرغب بحضورك عندي بالمستشفى وتراجعي لي عن قرب لأستشعر الحلقة وأعيش أجوائها،، وافقت صاحبتها على طلبها،، وكانت تأتي لزيارتها من العصر إلى العشاء،، وتراجع معها القرآن،. دخل رمضان عليها،، أمرها اﻷطباء باﻹفطار قالت،، لا والله ما أُفطر نهار رمضان،، قالوا اﻷطباء ستهلكين!! قالت : لا والله،، لا أستطيع اﻹفطار في نهار رمضان،، ثاني يوم رمضان،، وافتها المنية،، ووقت احتضارها.. كانت صاحبتها بالجوار،، تقول صاحبة أماني،، بدأت تحتضر أماني ولسانها يلهج بآية،، ( والذين آمنوا أشد حبا لله) تقول بدأ صوتها يعلو ويعلو وهي تردد هذه اﻵية،، وصلت إلى أعلى حد من الصوت وهي تردد هذه اﻵية ( والذين آمنوا أشد حبا لله) ( والذين آمنوا أشد حبا لله) ( والذين. آمنوا أشد حبا لله) ثم بدأ ينخفض صوتها،، رويداً رويداً،، وهي ما زالت تردد هذه اﻵية،، حتى فارقت الحياة،، فارقت الحياة والمصحف بين يديها،، لا إله إلا الله،، أي موتة هذه،، وأي خاتمة هذه،، نقلت أماني إلى مغسلة اﻷموات،، حاولت المغسلة أن تفك المصحف من بين يديها لم تستطع،، اتصلت على شيخ،، قال مستحيل مستحيل،، لن أصدق حتى أراها،، قالوا له تعال وانظر،، وحجبوا أماني ودخل الشيخ،، حجبوا أماني وروحها قد حلقت إلى بارئها،، كانت محافظة على حجابها حية، فحجبها الله ميتة،، ما أن رأى الشيخ الموقف،، حتى قال: والله إنها لهذه هي الخاتمة الحسنة،، أغسلوها وكفنوها وأدفنوها بمصحفها،، وفعلا غسلوها وكفنوها ودفنوها بمصحفها،، هذه هي أماني في حياتها،، وهذه هي خاتمتها،، نحسبها من الصالحين والله حسيبها،، رحمها الله ورفع درجتها في عليين.. فماذا فعلنا نحن أخي أختي مع القرآن ؟!!!! وكيف ستكون الخاتمة ؟؟؟ قبل ان ننام وجوالاتنا بين أيدينا وأول مانستيقظ نفتح جوالاتنا اشغلتنا الدنيا الى متى وهذا حالنا فضلاً انشروها للفائدة وبالأخص فى جروبات القرآن عسى الله أن ينفعهن بها. لعلها تُحرك قلوبا ابتعدت عن القرآن ". اذا نويت نشر هذا الكلام انوِ به خيرا لعل الله يفرج لك بها كربة من كرب الدنيا والآخرة وتذكر : افعل الخير مهما استصغرته فلا تدري أي عملٍ يكون سبباً في دخولك الجنة اللهم احسن خواتيمنا جميعا .