
الانهيار الخطير للقوة البحرية الأميركية
في عام 2022، كتبت كوري شاك، الزميلة الأولى ومديرة دراسات السياسة الخارجية والدفاعية في معهد "أميركان إنتربرايز"، مقالا في مجلة "فورين أفيرز" يحذر من انهيار القوة البحرية الأميركية اعتمادا على كتابين هما "حكم الأمواج" لبروس جونز، و"العصر الأزرق" لغريغ إيستربروك، وكلاهما يطرح حججا قوية مفادها أن أمن الولايات المتحدة وازدهارها يعتمدان على الهيمنة البحرية، كما يحذران من أن المياه التجارية العالمية سوف تتحول مرة أخرى إلى ساحة للعنف.
ترصد شاك ملامح الانحدار الخطير للبحرية الأميركية، وعلى رأسها تراجع عدد السفن التي تشغلها مقارنة بالصين، والحوادث الناجمة عن الإرهاق ونقص الصيانة والتدريب، فضلا عن التراجع الكبير في الميزانية المتصلة بتطوير قدرة أميركا البحرية، وهي ملامح لا تزال مستمرة وتتواتر إلى اليوم.
وتتبّع شاك في نهجها التحليلي إطارا نقديا يستعرض أبرز ملاحظاتها على الكتابين الرئيسيين الذين تناقشهما في هذا التقرير، لكنها توضح بجانب هذا النقد، أهمية الكتابين في تسليط الضوء على الكثير من القضايا الحساسة التي تُعنى بمسألة تراجع قوة البحرية الأميركية.
وقد قمنا خلال الترجمة برصد وإضافة التحديثات المهمة في هذا الصدد، ومع ذلك تبقى النتيجة النهائية التي خلصت إليها شاك، ومن ورائها جونز وإيستربروك قائمة إلى اليوم، وهي أن الولايات المتحدة تواجه تهديدا حقيقيا لهيمنتها البحرية.
نص الترجمة
في عام 1897، ضغط البرلمان البريطاني على جورج غوشن، اللورد الأول للأميرالية (الإدارة الحكومية المسؤولة عن قيادة البحرية الملكية البريطانية)*، بشأن التهديد المحتمل الذي يشكله التحالف البحري المتزايد بين القوى الأوروبية القارية.
وعندما سُئل عما ستفعله المملكة المتحدة إذا واجهت العديد من السفن الأوروبية في البحر، أجاب غوشن: "ثق في العناية الإلهية وفي أميرال جيد" (الأميرال هو أعلى رتبة عسكرية في البحرية وغالبا ما يحوزها قائد الأسطول). وبعبارة أخرى، لم يكن لدى المملكة المتحدة إجابة جيدة على تحدٍ بهذا الحجم.
واليوم يمكننا قول الشيء نفسه عن الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بالتهديد الذي تشكله الصين الصاعدة بسرعة. لسنوات عديدة، تشبثت الولايات المتحدة باعتقاد "شبه ديني" مفاده أن الصين ستصبح أكثر ديمقراطية وليبرالية سياسيا مع تزايد ازدهارها الاقتصادي.
والآن بعد أن دحض النظام "السلطوي" في بكين هذه النظرية، يبدو أن الشعب الأميركي لا يستطيع أن يثق إلا في الأميرالات الصالحين في البحرية الأميركية للتعامل مع التهديد الوشيك المتمثل في الصين، حتى مع اعتماد الاقتصاد الأميركي بشكل متزايد على خصم واشنطن اللدود في بكين.
ويرجع هذا إلى أن المنافسة بين بكين وواشنطن ستتحول بشكل متزايد إلى صراع على القوة البحرية، وهو ما يفشل العديد من المراقبين في تقديره بشكل ملائم.
كثيرا ما يسخر المحللون البحريون قائلين إن الجيش الأميركي ينبغي له في حالة اندلاع حرب مع الصين؛ أن يضرب أولا ميناء لونغ بيتش في كاليفورنيا، لأن تعطيل التجارة البحرية الصينية إلى الولايات المتحدة من شأنه أن يلحق ببكين ضررا أكبر من مهاجمة بر الصين الرئيسي.
والحقيقة هي أن سلاسل التوريد العابرة للحدود الوطنية متشابكة لدرجة أن التأخيرات الناجمة عن الوباء في الصين تسببت في اختناقات مرورية باهظة التكلفة لسفن الحاويات في لونغ بيتش (بولاية كاليفورنيا)، لدرجة أن إدارة بايدن فكرت في نشر الحرس الوطني للمساعدة في حل تلك الاختناقات.
لقد أدت جائحة "كوفيد-19" إلى زيادة الوعي بهذه الروابط العالمية، وحفزت بعض الحكومات على النظر في "إعادة" توطين الإنتاج داخليا، خاصة في الصناعة الحيوية، لكن شبكات الاستثمار والاتصالات والإنتاج التي تربط الاقتصادات معًا تستمر في التوسع.
وتعتبر التجارة البحرية والطاقة عنصرين حيويين لهذه الشبكات العالمية، إذ يتم نقل حوالي 90% من السلع المتداولة في العالم عن طريق البحر. ورغم أنه كثيرا ما تدور المناقشات الراهنة حول أساليب القوة والاستراتيجية في القرن 21 حول الحدود الجديدة للفضاء الإلكتروني والمنافسة في الفضاء الخارجي، تبقى الحقيقة أنه -في الأمد القريب على الأقل- ستتمحور غالبية الأحداث الجيوسياسية المفصلية حول ساحة أقدم وأكثر ألفة، وهي البحر.
وفي هذا الصدد، صدر قبل أعوام قليلة كتابان يقيمان التحديات البحرية ويناقشان أهمية العلاقات بين القوى البحرية المعاصرة. إن كتابيّ "حكم الأمواج" لبروس جونز و"العصر الأزرق" لغريغ إيستربروك، يتناولان في المقام الأول الأمن الدولي، استنادا إلى فرضية الخبير الاستراتيجي البحري والمؤرخ ألفريد ثاير ماهان القائلة بأن "تاريخ القوة البحرية.. هو في معظمه تاريخ عسكري".
ويطرح كلا الكتابين حججا قوية مفادها أن أمن الولايات المتحدة وازدهارها يعتمدان على الهيمنة البحرية، وكلاهما يحمل في طياته نذرا بأن المياه التجارية العالمية ستتحول مرة أخرى إلى ساحة للعنف. ورغم أن هذا الطرح ربما يثير حفيظة بعض الخبراء، فإنه يقدم لأغلب القراء رؤى مفيدة حول الجوانب البحرية للاقتصاد العالمي، وصعود الصين، وقضية التغير المناخي.
الأمواج الهائجة
يتبنى جونز نهجًا صحفيًا، وهو يوظف الروايات حول لقاءاته ومحادثاته الخاصة كأساس لأفكاره وتفسيراته. ولتسليط الضوء على مركزية المحيطات في التجارة والاتصالات اليومية، يرسم الكاتب خريطة لشبكة ضخمة من أنابيب نقل الوقود وكبلات نقل البيانات تحت سطح البحر، ما يسلط الضوء على الاعتماد الاقتصادي العالمي على النقل البحري، ويؤكد بشكل قاطع أن المحيطات "تلعب دورا محوريا بشكل مدهش في مجال الطاقة، وفي الصراع العالمي بشأن تغير المناخ".
يسعى جونز إلى إظهار أن "محيطات العالم تتحول بسرعة إلى أهم منطقة مواجهة بين الجهات الفاعلة العسكرية الكبرى في العالم"، ويرى أن أنماط التعاون التي سادت في القرن 20 آخذة في التآكل، مما يمهد الطريق لصراع واسع النطاق، وأن الصراعات الجيوسياسية تدور الآن في أعالي البحار.
في ضوء هذه التوقعات القاتمة، يحذر جونز من تراجع الهيمنة البحرية الأميركية، لكن توصياته غير واقعية وتفتقر إلى الدقة التحليلية، فهو يدعو -على سبيل المثال- إلى إنشاء "تحالف من التحالفات" تعمل من خلاله الولايات المتحدة على تنسيق التعاون العالمي بين جميع الاقتصادات المستهلكة للطاقة. كما دعا واشنطن إلى "معالجة مسألة الفائزين والخاسرين من العولمة"، و"اعتماد الخطط اللازمة للحد من انبعاثات الكربون"، دون أن يقدم سوى القليل من التفاصيل حول كيفية متابعة هذه المقترحات.
يدعو إيستربروك أيضا إلى الحفاظ على الهيمنة البحرية الأميركية، ولكنه يتخذ مساراً مختلفاً. ومن الواضح أن هذا الكتاب موجه بشكل رئيسي إلى أنصار اليسار السياسي، حيث يؤكد أن "كثيرًا من الناس لا يحبون المنظمات العسكرية".
ويردف قائلا: "إن الأسباب التي تجعلنا نكرههم لا تحتاج إلى بيان، ويمكننا أن نحلم باليوم الذي لن تحتاج فيه أي دولة إلى جيش أو بحرية". ومن أجل جلب نوع من التوازن إلى حججه، يقدم إيستربروك "حجة ليبرالية لصالح البحرية الأميركية"، قائلا إن قوتها أدت إلى "انخفاض مذهل في معدلات الفقر في العالم النامي".
ويرى إيستربروك أنه بالإضافة إلى الحفاظ على الهيمنة البحرية الأميركية، يمكن لواشنطن أن تسعى إلى تعزيز النطاق العالمي للبحرية الأميركية من خلال زيادة زيارات سفنها إلى الموانئ، وإنشاء المزيد من القواعد للدفاع عن الحلفاء، وفرض حرية الملاحة. ولكنه يضعف حجته من خلال ملاحظته أن الدَّين الوطني الأميركي أصبح بالفعل ضخما للغاية، بحيث لا يجعل مثل هذه الخطوات قابلة للتحقيق من الناحية المالية.
وكشأن جونز، يقدم إيستربروك عددا من الوصفات السياسية للحل، ولكنه لا يبذل الكثير من الجهد لتقييم البدائل. بيد أن إيستربروك يبدو أكثر مثالية من جونز، حيث يقترح إنشاء "منظمة محيطات عالمية" من شأنها أن توفر "نظام حوكمة عالميا حقيقيا" لحماية حقوق العمال، وتقييد الأسلحة، وتنظيم مشاريع الطاقة البحرية، وفرض التجارة الحرة، وضمان المعايير البيئية في جميع أنحاء المياه الدولية.
يقدم المؤلفان ادعاءات خاطئة تؤثر على مصداقية تحليلاتهما وأفكارهما التوجيهية. على سبيل المثال، يفسر جونز أزمة السويس عام 1956 على أنها "واحدة من اللحظات الأولى التي كان يمكن أن تتصاعد فيها الحرب الباردة إلى صراع فعلي"، في حين أن أزمة 1948-1949 بسبب الحصار السوفياتي لبرلين والحرب الكورية تتناسب مع هذا الوصف بشكل أوثق.
من جانبه، يزعم إيستربروك خطأً أن "الولايات المتحدة لديها نفس العدد تقريباً من السفن البحرية الحديثة القابلة للنشر مثل كل الدول الأخرى مجتمعة"، في حين أن الصين وحدها لديها بحرية أكبر من الولايات المتحدة.
كما يلقي إيستربروك باللوم في الاحتكاك بين الصين والولايات المتحدة على "تضخيم التهديدات من جانب المجمع الصناعي العسكري الأميركي والتهويل من جانب الصحفيين"، مما يعفي الصين من أي مسؤولية.
وفيما يتعلق ببحر جنوب الصين، حيث انتهكت بكين بشكل روتيني السيادة الإقليمية للدول الأخرى وأنشأت جزرًا اصطناعية لإنشاء قواعد عسكرية، يخلص إيستربروك إلى أنه "حتى الآن، كانت هذه المياه سلمية وخالية من العنف في الغالب، وهو أمر لا تنال الصين أي تقدير عليه من قبل الغرب".
غليان في المحيط
ولكن رغم عيوبهما، يمثل كلا الكتابين محاولة رائعة لجذب القراء العاديين إلى مجالات متخصصة. إذ ولكي تتمكن الولايات المتحدة من مواجهة تحديات العولمة، وصعود الصين، وتغير المناخ، فسيحتاج الأميركيون العاديون إلى تطوير فهم أفضل للقضايا البحرية ودور بلادهم كقوة بحرية.
ومن أجل أن تحافظ الولايات المتحدة على النظام الدولي المتدهور الذي أشاد به جونز وإيستربروك، فستحتاج إلى استعادة قوتها البحرية العسكرية والمدنية التي سمحت لها بالضمور.
لقد مكّن الترابط العالمي الذي أشاد به المؤلفان؛ من ظهور تكتلات لوجستية خاصة هائلة الحجم، أصبحت الآن ضخمة مقارنة بأسطول الولايات المتحدة البحري التجاري، الذي يعد ضروريا لقدرة الولايات المتحدة على التعبئة العسكرية في أوقات الحروب.
في عام 1950، كان الأسطول البحري التجاري الأميركي يشكل 43% من الشحن العالمي، وبحلول عام 1994 انخفضت هذه النسبة إلى 4% فقط رغم صدور قانونٍ عام 1920 يشترط أن يتم بناء السفن المارة بين الموانئ الأميركية وتسجيلها في الولايات المتحدة وتشغيلها بواسطة طاقم أغلبه من المواطنين الأميركيين.
ويحتل الأسطول التجاري الأميركي الحالي، الذي يتألف من 393 سفينة، المرتبة 27 على مستوى العالم. وعلى النقيض من ذلك، تمتلك الصين ثاني أكبر أسطول بحري تجاري في العالم، وهذا لا يشمل أسطول الصيد شبه العسكري "سيئ السمعة" الذي تستخدمه بكين لشن غارات على المياه المتنازع عليها (يشير كتاب حقائق السي آي أي أن الأسطول التجاري الأميركي يقبع في المركز السابع عالميا، بينما تحتل الصين المركز الثالث وفق تقديرات عام 2023).
والمشكلة هنا أن افتقار الولايات المتحدة إلى أسطول تجاري ضخم يجعل البلاد تعتمد بشكل أكبر على قواتها البحرية، التي تقلص أسطولها أيضًا بشكل حاد. كانت البحرية الأميركية تمتلك سفنا في عام 1930 أكبر مما لديها اليوم، بينما حلت الصين محل الولايات المتحدة كأكبر قوة بحرية في العالم في عام 2020. ويظل الهدف الذي وضعته وزارة الدفاع الأميركية لزيادة حجم الأسطول من 306 إلى 355 سفينة عام 2034 حلما بعيد المدى، حيث لم يوفر الكونغرس التمويل اللازم له حتى الآن.
في غضون ذلك، تفرض الاستراتيجية العسكرية الحالية للولايات المتحدة ضغوطا عملياتية شديدة على هذه القوة المحدودة بالفعل. وفي ضوء استعدادات واشنطن لصراع محتمل مع الصين، والتزامها بإرسال قوات إلى أوروبا في حالة وقوع هجوم على حليف في حلف الناتو، واستخدامها للزيارات الدبلوماسية للموانئ والتدريبات العسكرية كوسيلة لتعزيز العلاقات مع الشركاء الأميركيين، فإن الجيش الأميركي يعاني من ضغوط شديدة.
وفي عدد من المناسبات، بدا أن الإدارات الأميركية تضيف إلى العبء المتراكم، كما في حالة الالتزام العلني للولايات المتحدة في عهد بايدن بالدفاع عن تايوان، على خلاف سياسة واشنطن المستمرة منذ عقود في "الغموض الاستراتيجي" حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستهب لمساعدة الجزيرة في حالة الغزو الصيني. هذه المسؤوليات الصعبة مجتمعة، من غير المرجح أن تستطيع القوات الأميركية التعامل معها في الوقت الراهن.
ومما يزيد الضغط على الجيش الأميركي أن القادة المسؤولين عن صياغة خطط الحرب "يفرضون مطالب ضخمة على القوات تفوق بشكل واضح قدراتها، ما يخلق فجوة ضخمة بين "الطلب" و"العرض". وحتى أسطول مكون من 500 سفينة لن يكون قادرًا على تلبية هذه المتطلبات المستحيلة. هذا التناقض الهائل بين العرض والطلب على القوات البحرية الأميركية يؤثر سلبا على أفراد الخدمة: ففي كل عام، يتم تمديد فترات نشر ما يقرب من 20 سفينة، وتقوم حاملات الطائرات بانتظام بنشر قواتها بشكل متتالٍ دون توقف للصيانة.
هذه الفجوة بين الالتزامات البحرية وقدرات الأسطول تؤدي إلى استنزاف البحرية الأميركية، كما يتضح من العدد المتزايد من الحوادث في البحر. (على سبيل المثال، فقدت حاملة الطائرات هاري ترومان طائرتين من طراز إف/أي-18 سوبر هورنيت"، واحدة بنيران صديقة، والأخرى بسبب انزلاقها أثناء مناورات الحافلة لتفادي رصاص الحوثيين في اليمن مؤخرا.
وحتى بعيدا عن ساحات الاشتباك، تشير تقارير قيادة السلامة البحرية الأميركية إلى زيادة معدلات الحوادث البحرية الخطيرة بين وحدات الأسطول، (ارتفع عدد الحوادث البحرية من الفئة (أ) -وهي الحوادث التي تؤدي إلى الوفاة أو العجز الدائم للأفراد أو الأضرار بالممتلكات بقيمة أكثر من 2.5 مليون دولار- إلى أعلى رقم خلال عقد من الزمن)*.
وبشكل عام، ارتفع معدل الحوادث البحرية خلال السنوات الثلاث الماضية بواقع 8 حوادث في عام 2022، ومثلها في عام 2023، و10 حوادث في عام 2024. وقبل ذلك في عام 2021، ألقى مكتب المحاسبة الحكومي -وهو هيئة رقابية فيدرالية- باللوم في هذه الإخفاقات؛ على نقص أعداد الطاقم والإرهاق ونقص التدريب. وفي عام 2018، وجد تقييم داخلي للبحرية أن 85% من الضباط الصغار كانوا يفتقرون إلى المهارات اللازمة للتعامل مع السفن.
وتتفاقم هذه التحديات التشغيلية بسبب التحديات الإدارية. وقد انتقد تقرير صادر عن الكونغرس عام 2022 الثقافة البحرية التي "تقدّر الأعمال الإدارية على التدريب على القتال، وقادة السفن الذين يطبقون معايير إدارية صارمة وينفرون من المخاطرة".
وتؤكد انتقادات التقرير شكاوى العديد من الضباط البحريين من أن شخصا بمواصفات القائد البحري اللامع خلال الحرب العالمية الثانية تشيستر نيميتز، الذي حوكم عسكريا بسبب سلوكه المتهور في وقت مبكر من حياته المهنية ولكنه أصبح فيما بعد واحداً من أكثر الضباط شهرة في تاريخ البحرية، لن يتمكن أبدا من البقاء في ظل الثقافة البيروقراطية التي تحكم البحرية اليوم.
في روايته لانحدار البحرية الملكية البريطانية، يميز المؤرخ أندرو جوردون بين نوعين من العسكريين: "صائدي الفئران" الذين يخرقون القواعد ويكسبون الحروب، و"المنظمين" الذين يتبعون القواعد ويعملون ضمن الإطار البيروقراطي ويتقدمون في الجيوش في زمن السلم فقط، لكي يخسروا الحروب بعد ذلك. ومن خلال إعطاء الأولوية للمهام الإدارية على المهارات الجوهرية اللازمة لكسب الحروب، تعمل الولايات المتحدة على إنشاء أسطول يتحكم فيه "المنظمون"، لكن كفاءته القتالية ربما تكون محل شك كبير.
تغيير الموازين
وغالبا ما تأتي المشكلة الثقافية المتمثلة في عدم الاهتمام بالكفاءة القتالية في البحرية الأميركية من القمة. على سبيل المثال، وجهت إدارة بايدن السابقة طاقتها نحو أولويات مثل جائحة كورونا العالمية، والركود الاقتصادي الساحق، وأزمة العدالة العرقية، وحالة الطوارئ المناخية. وفي عهده، أكدت حسابات وزارة الدفاع على وسائل التواصل الاجتماعي التزام الوزارة بتوسيع التنوع، وإنهاء التحرش الجنسي، ومعالجة قضايا المناخ. ورغم أهمية هذه القضايا، فإنها ليست الأسباب التي من أجلها وجد الجيش الأميركي.
الأهم من ذلك أن البنتاغون لا يمتلك ميزانية كافية لمعالجة هذه القضايا دون استنزاف الأموال اللازمة للإنفاق على الأفراد والمعدات والعمليات (جدير بالذكر أن الرئيس دونالد ترامب ألغى سياسات التنوع في الجيش بعد توليه السلطة مطلع العام الحالي)*. وفيما يبدو، فإن تبني البنتاغون لما يُسمى "الردع المتكامل" الذي يركز على الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية للدفاع يُعد مبررا لعدم استخدام القوة العسكرية لردع الخصوم.
لفترة طويلة، أثارت مسألة نقص ميزانية القوات المسلحة الأميركية الكثير من التساؤلات تجاه التزام الإدارات الأميركية بالوفاء بالمتطلبات العسكرية. على سبيل المثال، في الميزانية التي اقترحها بايدن لعام 2022، كانت وزارة الدفاع هي الوكالة الفيدرالية الوحيدة التي لم يتم زيادة تمويلها، في حين كان من المقرر زيادة ميزانيات الوكالات المحلية الأخرى بنسبة 16% في المتوسط.
في غضون ذلك، رفضت إدارة بايدن تمويل برامج مثل مبادرة الردع في المحيط الهادئ، التي تطلبت استثمارًا في القوات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والتي يعتبرها معظم الخبراء العسكريين حاسمة لردع الصين.
وكان الإنفاق الإجمالي الذي خصصته إدارة بايدن للدفاع في ميزانيتها آنذاك غير كافٍ لدرجة أن الكونغرس أضاف في النهاية 24 مليار دولار إلى طلب الإدارة. (في الأعوام التالية، تفطنت الإدارة الأميركية إلى المخاطر الناجمة عن العجز في تمويل الجيش، وقامت بزيادة ميزانية الدفاع إلى 858 مليار دولار عام 2023 "وهي أكبر ميزانية دفاع في تاريخ الولايات المتحدة حتى ذلك الحين"، ثم إلى 886 مليارا عام 2024، و895 مليارا عام 2025، وهي الميزانية التي اعتمدتها إدارة بايدن قبل أسابيع على رحيلها عن المكتب البيضاوي. واليوم، تتعهد إدارة ترامب بزيادة 13% في الإنفاق العسكري خلال عام 2026، بما يعني ميزانية عسكرية تتجاوز تريليون دولار، مقابل خفض بقيمة 163 مليارا في مجالات التعليم والمساعدات الخارجية والطاقة وحماية البيئة. ومن المرجح أن يتوجه جزء من الإنفاق الدفاعي إلى خطط لبناء المزيد من السفن الحربية وفق تعهدات ترامب. ولكن حتى مع هذه الإضافة، فإن الأمر يتطلب الحفاظ على مستويات الإنفاق الدفاعية الضخمة، بل وزيادتها لفترة طويلة من أجل الوفاء بالمتطلبات الدفاعية المتزايدة للبلاد)*.
لقد تسامحت الولايات المتحدة على مدى ما يقرب من عقدين من الزمن مع الفجوة المتزايدة بين وسائلها العسكرية واستراتيجيتها المعلنة. وسوف يتطلب التعامل مع هذه المشكلة من واشنطن تضييق أهدافها، وزيادة إنفاقها بشكل مطرد، أو إيجاد طرق ثورية لتحسين الأداء العسكري. ويمكن للمساهمات من الحلفاء أن تعوض بعض أوجه القصور التمويلية الحالية، لكنها لن تغطيها بصورة كاملة على الإطلاق.
التغييرات في البحر
من المهم أن نتذكر في هذا المقام أن سبب الهيمنة البريطانية في أواخر القرن 19 يرجع جزئيا إلى أن المملكة المتحدة كانت تعتمد بشكل كبير على سيطرتها على البحر، في حين أدى ظهور السكك الحديدية كشكل من أشكال السفر البري الموثوق به؛ إلى كسر قدرة البريطانيين على التحكم في التجارة والاتصالات. واليوم تواجه الولايات المتحدة خطرا مماثلا من أن تؤدي الاختراقات التكنولوجية والعملياتية إلى تقويض هيمنتها العسكرية أو دفعها خارج إطار الزمن.
ورغم كل التركيز على أهمية القوة البحرية، فإنه لا جونز ولا إيستربروك يوليان اهتماما كبيرا للحرب البحرية الحالية والطريقة التي تتغير بها. وينبغي أن يكون الابتكار هو النقطة القوية في الجيش الأميركي، ويجب على الإنفاق الدفاعي الأميركي أن يعكس هذه الأولوية.
لقد أجرى الجيش الأميركي مجموعة من التجارب في العمليات التي أسفرت عن تعديلات مهمة، مثل عودة سلاح مشاة البحرية إلى العمليات البرمائية واستثماره في وحدات أصغر حجماً وأكثر قدرة على الحركة. وتعتبر هذه الأنواع من التطورات ضرورية لمنح الجيش الأميركي الميزة التي يحتاجها للدفاع عن المصالح الأميركية، ولكنها ليست كافية، والأخطر أنها لا تحدث بالسرعة الكافية.
ورغم الاختلافات الكبيرة بينهما، يتفق ترامب وبايدن على أن الصين تشكل التهديد العسكري الأساسي للولايات المتحدة، وأن منطقة المحيطين الهندي والهادئ هي المسرح المرجح لاندلاع الصراع، وهو مسرح بحري كما هو واضح. وبناء عليه، يتعين أن يعكس الإنفاق الدفاعي هذه الحقيقة، ليس فقط من خلال زيادة أرقام الإنفاق ككل، ولكن أيضا من خلال إعطاء الأولوية للبحرية الأميركية على حساب الجيش الأميركي والقوات الجوية.
إن ضمان قوة البحرية أمر بالغ الأهمية، فبدون قوة بحرية قادرة وذات موارد جيدة، لن تتمكن الولايات المتحدة من الدفاع عن حلفائها في اليابان والفلبين، أو تأمين المسرح الأوسع في حال نشوب صراع. وفي هذا الصدد، فإن جونز وإيستربروك على حق تماما، فالسيطرة على البحر ستظل العامل الحاسم في القرن المقبل.
تعد الولايات المتحدة قوة مهيمنة "شاذة" وغير تقليدية من حيث مشاركتها على مضض في النظام الدولي الذي خلقته بنفسها. على سبيل المثال، قادت واشنطن المفاوضات التي أدت إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، حيث صاغت "دستوراً للمحيطات" بهدف وضع معايير للنشاط البحري الدولي، ولكن الولايات المتحدة نفسها لم تصادق على الاتفاقية أبدا. وقد أدت المخاوف المتنوعة، مثل قلق الكونغرس بشأن المصالح التجارية في مجال التعدين في قاع البحار العميقة، إلى شعور الرؤساء باليأس من التصديق على الاتفاقية، على الرغم من أن وزارتي الدفاع والخارجية دعتا إلى القيام بذلك.
ومع هذا التردد الرسمي في الانضمام إلى المعاهدة، فإن الولايات المتحدة لا تلتزم بشروطها فحسب؛ وبل وتفرضها على الدول الأخرى. إن ما تصفه بعض الدول "باستثنائية" السلوك الأميركي، كما يتضح من رفض واشنطن الالتزام بالاتفاقية بينما تجني فوائدها، يغذي الانتقادات بأن الولايات المتحدة زعزعت استقرار النظام الدولي وأصبحت حليفاً غير موثوق به. وفي ظل هذه الأجواء فإن إحجام واشنطن عن تعزيز قوتها البحرية يرسل رسالة خاطئة إلى حلفائها وشركائها. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد الاستمرار في إرساء قواعد النظام الدولي وتطبيقها، فيتعين عليها أن تنتبه إلى بعض النصائح القديمة، وأولها: لا تدر ظهرك للمحيط أبدا.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
توماس فريدمان: هكذا سيجعل قانون ترامب "الكبير والجميل" الصين عظيمة
شن الكاتب توماس فريدمان في مقاله بصحيفة نيويورك تايمز هجوما عنيفا على مشروع القانون الذي قدمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب لخفض الضرائب، وأقره الكونغرس أمس الخميس بأغلبية ضئيلة. واعتبر أن مشروع القانون، الذي يوصف بأنه "كبير وجميل"، يصب في صالح الصين. وقال إن الصينيين لن يصدقوا حظهم، بعد أن قرر الرئيس الأميركي وحزبه الجمهوري "في فجر الذكاء الاصطناعي"، الانخراط في واحد من أفظع تصرفات إيذاء النفس الإستراتيجية التي يمكن تخيلها. وكان مشروع القانون، الذي قدمه الرئيس دونالد ترامب لخفض الضرائب، قد تجاوز العقبة الأخيرة في الكونغرس يوم الخميس، بعد حصوله على موافقة مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون بفارق ضئيل وإحالته إلى ترامب للتصديق عليه ليصبح قانونا. وقبلها بيومين، أقره مجلس الشيوخ بأرجحية صوت نائب الرئيس جيه دي فانس. وتنص أبرز بنود مشروع القانون على تمديد الإعفاءات الضريبية الضخمة التي أُقرت خلال ولاية ترامب الأولى (2017-2021)، وتوفير مليارات الدولارات الإضافية لقطاع الدفاع ومكافحة الهجرة، وإلغاء الضريبة على الإكراميات، وتقليص برامج شبكة الضمان الاجتماعي. وإلى جانب ذلك، يشير فريدمان إلى أن مشروع القانون يلغي سريعا الإعفاءات الضريبية التي كانت مخصصة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح على مستوى المرافق الكبرى. كما يلغي كافة الإعفاءات الضريبية للسيارات الكهربائية، وهو ما من شأنه أن يضمن عمليا تقويض مستقبل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والسيارات والشاحنات الكهربائية، بالإضافة إلى المركبات ذاتية القيادة. على أن الكاتب الأميركي يرى أن من حسن الحظ أن ترامب أبقى على ائتمان ضريبي كبير من عهد سلفه جو بايدن للشركات التي تطور تقنيات أخرى خالية من الانبعاثات مثل المفاعلات النووية والسدود الكهرومائية ومحطات الطاقة الحرارية الأرضية وتخزين البطاريات، وذلك حتى عام 2036. ووصف فريدمان إجازة مشروع القانون بأنها تقوِّض عمدا قدرة الولايات المتحدة على توليد الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة، المتمثلة في الطاقة الشمسية والبطاريات وطاقة الرياح على وجه الخصوص، التي ينظر إليها الجمهوريون على أنها مصادر "ليبرالية" على الرغم من أنها تعد اليوم -حسب قوله- أسرع وأرخص الطرق لتعزيز شبكة البلاد الكهربائية لتلبية الطلب المتزايد من مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي. وأكد الكاتب -وهو ليبرالي يهودي يميل إلى الحزب الديمقراطي – أن ما تريده الإدارة الأميركية من القانون الكبير والجميل، هو بالضبط عكس ما تفعله الصين، التي ربما تحتفل من الآن فصاعدا باليوم الرابع من يوليو/تموز من كل عام باعتباره عيدا وطنيا خاصا بها. وقال إنه في حين تضاعف دول -مثل المملكة العربية السعودية- من استخدام الطاقة الشمسية لتلبية احتياجات مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي التي تريد استقطابها من الغرب، تفعل الولايات المتحدة العكس تماما من خلال قانون ترامب "الكبير والجميل". وحذر من أن مشروع القانون -الذي تم تمريره على عجل دون جلسة استماع واحدة في الكونغرس مع خبراء الطاقة المستقلين أو حتى عالِم واحد- سيُعَرِّض استثمارات بمليارات الدولارات في مجال الطاقة المتجددة للخطر، معظمها في الولايات ذات الأغلبية الجمهورية، وربما يقضي على وظائف عشرات الآلاف من العمال الأميركيين. وأعرب فريدمان عن تعاطفه مع الملياردير الأميركي إيلون ماسك في خلافه مع الرئيس. وقال إنه لأمر محزن حقا أن يفقد ماسك مصداقيته لدى الكثير من الناخبين بسبب مداعبته لترامب وبسبب التخفيضات المتقلبة التي قامت بها إدارته للكفاءة الحكومية. ووصف ماسك بأنه أحد أعظم المبتكرين في مجال التصنيع في أميركا، وهو من أسس شركات رائدة عالميا في صناعة السيارات الكهربائية والصواريخ المتجددة وبطاريات التخزين والأقمار الصناعية للاتصالات. ولفت إلى أن ماسك وكثيرين غيره رأوا أن من "الجنون والخراب" أن ترامب وطائفته من الحزب الجمهوري رفضوا سياسة الطاقة التي تقوم على أكبر وأسرع قدر ممكن من الطاقة النظيفة، التي تعمل على التخلص تدريجيا من الطاقة "الأقذر" من أجل التحول إلى الطاقة "الأنظف"، مثلما فعلت الصين في كثير من الأحيان. فريدمان: لا يوجد شيء يمكنه أن يجعل الصين عظيمة مرة أخرى أكثر من مشروع قانون ترامب "الكبير والجميل، الذي يسلّم مستقبل الكهرباء في أميركا لبكين". وانتقد فريدمان أيضا التقدميين في الحزب الجمهوري، الذين جعلوا ترامب بأوهامهم "المجنونة" يتصرف "بهذا الغباء" في مجال الطاقة. وقال إن الكثير منهم تصرفوا كما لو كان بالإمكان التحول من اقتصاد الوقود الأحفوري إلى اقتصاد نظيف وأخضر، دون توسيع نطاق الوقود الأنظف لسد هذا التحول، مثل الغاز الطبيعي والطاقة النووية، ودون تخفيف معايير السماح بالمزيد من خطوط النقل لتحويل الطاقة النظيفة من وسط الصحراء إلى المدن التي تحتاج إليها. وأعرب الكاتب عن اعتقاده أن هناك حزبين سياسيين فقط في العالم اليوم يهللان لتمرير هذا القانون؛ هما الحزب الجمهوري الأميركي والحزب الشيوعي الصيني. واختتم مقاله بأنه لا يوجد شيء يمكنه أن يجعل الصين عظيمة مرة أخرى أكثر من مشروع قانون ترامب "الكبير والجميل، الذي يسلّم مستقبل الكهرباء في أميركا لبكين".


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
فزغلياد: هكذا تبني الهند شبكات نفوذ حول العالم
ترى الهند في تصدير كفاءاتها البشرية إستراتيجية ذكية، تهدف إلى تحويل المواطنين المهاجرين إلى أدوات نفوذ ناعمة لها على الساحة الدولية، خاصة في ظل النجاحات البارزة التي يحققها الهنود في مختلف المجالات حول العالم. وفي تقريره بصحيفة "فزغلياد" الروسية، أكد الكاتب جيفورج ميرزايان أن الجاليات الهندية باتت قوة فاعلة اقتصاديا وسياسيا في الدول الغربية، نتيجة مزيج من الثقافة التعليمية والقدرة العالية على التأقلم وشبكات اجتماعية متماسكة. النفوذ الهندي بأميركا وأشار التقرير إلى أن مدينة نيويورك قد تنتخب قريبا زهران ممداني ، مما سيجعله أول مسلم من أصول هندية في منصب عمدة المدينة. وحسب ميرزايان، فإن الهنود أصبحوا يحظون بحضور واسع في الحياة السياسية الأميركية، ويتمثل ذلك في نائبة الرئيس الأميركي السابقة والمرشحة الديمقراطية للرئاسة عام 2024 كامالا هاريس ، بجانب أوشا فانس -زوجة جي دي فانس نائب الرئيس الأميركي- التي قد تصبح مستقبلا السيدة الأولى. ولا يقتصر حضور الهنود على السياسة فحسب، بل يمتد أيضا إلى عالم الأعمال، حسب التقرير، إذ يشغل عدد من الهنود مناصب قيادية في كبريات الشركات العالمية. ومن هؤلاء ساندر بيتشاي رئيس شركة غوغل، وساتيا ناديلا الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، ولينا ناير الرئيسة التنفيذية لشركة شانيل، وآرفيند كريشنا الرئيس التنفيذي لشركة آي بي إم. وتعود هذه النجاحات، حسب الكاتب، إلى حجم الجالية الذي يقدر بين 25 و30 مليون شخص حول العالم، بثروة إجمالية تقارب تريليون دولار، أي ما يعادل نصف الناتج المحلي الإجمالي للهند. ووفق التقرير، يشكّل الهنود في الولايات المتحدة 1.5% فقط من السكان، لكنهم يمثلون 5% من دافعي الضرائب و10% من الأطباء و5% من أعضاء مجلس الشيوخ وفق بيانات عام 2024. كما أن 11% من مؤسسي الشركات الناشئة التي تتجاوز قيمتها مليار دولار هم من الهنود، ويبلغ معدل الحاصلين على تعليم جامعي بينهم 78%، وهو أكثر من ضعف المعدل الوطني الأميركي، حسب التقرير. قوة سكانية حيوية ويعزو ديباك مهرا، الملحق العسكري الهندي السابق في موسكو، هذا النجاح إلى ثقافة التكيّف التي تميز الهنود بحكم تنوع لغات ومناخات بلادهم، مما يُنمّي فيهم قابلية الاندماج دون صدام مع المجتمعات المضيفة. كما أن اعتماد الإنجليزية لغة تعليم رئيسية في الهند -حسب مهرا- يسهّل انتقال الجالية الهندية إلى أسواق العمل الغربية. وأضاف مهرا أن الجامعات الهندية لا تستوعب إلا 20 مليون طالب سنويا، مقابل 100 مليون شاب تتراوح أعمارهم بين 20 و25 عاما، مما يدفع عددا كبيرا منهم للهجرة من أجل التعليم. وأوضح أن الفئة العمرية بين 15 و45 عاما ستشكل نحو 65% من سكان الهند بحلول 2030، وهو ما يعجز سوق العمل الداخلي عن استيعابه، ويرى أن تشجيع الهجرة جزء من إستراتيجية هندية مدروسة للتعامل مع هذا التحدي. ونقل التقرير عن أليكسي كوبريانوف، مدير مركز دراسات المحيط الهندي في موسكو، أن 90% من خريجي الهندسة والتكنولوجيا الحيوية في الهند يتجهون إلى الولايات المتحدة، وهو ما يفسر الحضور القوي للهنود في عالم ريادة الأعمال. ديموغرافية الشتات ورغم التشتت الجغرافي، تحافظ الجاليات الهندية على ترابط داخلي، وتبقي على النظام الطبقي التقليدي داخليا، في حين تندمج في الوقت نفسه ضمن المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية للدولة المضيفة، وفق كوبريانوف. وحسب كوبريانوف تنقسم الجالية الهندية في الخارج أيضا إلى مجموعات بناء على المناطق التي ينحدرون منها في الهند. وعلى سبيل المثال، يحافظ المهاجرون من ولاية غوجارات والبنجاب على روابط قوية بمناطقهم الأصلية، ويحصلون على دعم مالي مستمر من الداخل الهندي، مع التزامهم بمساعدة أفراد جالياتهم. ويلفت كوبريانوف إلى أن معظم الشخصيات الهندية الناجحة عالميا -مثل ناديلا وبيتشاي وهاريس- ينحدرون من طبقة البراهمة، وهي الأعلى في النظام الطبقي الهندي. الهجرة إستراتيجية للنفوذ وتشجّع الحكومة الهندية سياسة "الهجرة مع العودة"، حيث يعود المهاجرون لاحقا إلى الهند ومعهم الخبرة ورأس المال. وتم لهذا الغرض استحداث صفتين قانونيتين تمنحان حامليهما تسهيلات خاصة، وهما "مواطن مقيم في الخارج" و"شخص من أصل هندي"، حسب التقرير. كما طوّرت نيودلهي آليات مالية لتيسير تحويل الأموال إلى الهند، ورغم أن غالبية التحويلات تأتي حاليا من العمالة في الخليج، فإن الحكومة تركز على استثمار الجاليات المتعلمة في الغرب ضمن رؤية طويلة المدى، وفق التقرير.


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
محمود خليل بعد الإفراج عنه بأميركا: لست نادما على وقوفي ضد الإبادة بغزة
جدد الطالب والناشط الفلسطيني محمود خليل دعمه لفلسطين ضد الإبادة الجماعية التي يتعرض لها فطاع غزة، وذلك في أول مقابلة صحفية له بعد أقل من أسبوعين على الإفراج عنه بكفالة ريثما تنتهي إجراءات إلغاء الإقامة الدائمة القانونية الحاصل عليها في الولايات المتحدة بهدف ترحيله. ولم يكن قد مضى على بدء معركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع جامعات النخبة سوى أيام قليلة عندما اعتقل مسؤولو الهجرة الاتحاديون محمود خليل في مسكنه بجامعة كولومبيا في نيويورك في مارس/آذار الماضي. وأودِع الطالب الفلسطيني على مدى أكثر من 3 أشهر في منشأة احتجاز للمهاجرين في ريف لويزيانا (وسط جنوب)، فيما صعّدت إدارة ترامب معركتها ضد الطلاب الأجانب الداعمين لفلسطين. وألغت إدارة ترامب منحا بمليارات الدولارات للأبحاث كانت مخصصة لجامعتي كولومبيا وهارفارد وغيرهما من المؤسسات التعليمية الخاصة التي شهدت حركة احتجاجات طلابية مؤيدة لفلسطين، وكان خليل من أبرز الناشطين فيها. وفي مقابلة أجريت معه بشقته في مانهاتن، قال خليل (30 عاما) "لست نادما مطلقا على الوقوف ضد الإبادة الجماعية"، مضيفا "لست نادما على الدفاع عن الحق، وهو معارضة الحرب والدعوة إلى إنهاء العنف". وندد خليل في المقابلة بمعاداة السامية ووصف الطلاب اليهود بأنهم "جزء لا يتجزأ" من حركة الاحتجاج. وقال إن الحكومة تستخدم معاداة السامية ذريعة لإعادة تشكيل التعليم العالي الأميركي الذي قال ترامب إن أيديولوجيات معادية لأميركا والماركسية و"اليسار الراديكالي" تسيطر عليه. نجم مسيرة ولدى عودته إلى نيويورك بعد إطلاق سراحه، استقبلته في المطار النائبة الأميركية ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، وهي خصم سياسي لترامب، ولوح أنصاره بالأعلام الفلسطينية بينما التقى مع زوجته وابنه الرضيع الذي لم يحضر ولادته بسبب احتجازه. إعلان وبعدها بيومين، كان نجمَ مسيرة حاشدة على درج كاتدرائية بالقرب من حرم جامعة كولومبيا في مانهاتن حيث انتقد مسؤولي الجامعة. كما ظهر الأسبوع الماضي أمام حشود مبتهجة إلى جانب زهران ممداني، النائب المؤيد للفلسطينيين في الولاية والذي فاز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في يونيو/حزيران قبل انتخابات بلدية مدينة نيويورك لعام 2025. وقال خليل "لست أنا من اختار أن يكون في هذا الموقف بل هي وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الأميركية، كان لذلك بالطبع تأثير كبير على حياتي. ما زلت بصراحة أحاول التأمل في واقعي الجديد". ولم يتمكن من حضور حفل تخرجه في مايو/أيار وخرج من الاحتجاز عاطلا عن العمل. وقال إن مؤسسة خيرية دولية سحبت عرضها له للعمل مستشارا سياسيا. وقد تكسب الحكومة استئنافها وتحتجزه مجددا، لذا قال خليل إن أولويته هي قضاء أطول وقت ممكن مع ابنه وزوجته نور عبد الله، وهي طبيبة أسنان ومواطنة أميركية. ولد بمخيّم وُلد خليل في مخيم للاجئين الفلسطينيين في سوريا، ونال الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة العام الماضي. انتقل إلى نيويورك عام 2022 كطالب دراسات عليا. أصبح أحد المفاوضين الرئيسيين من الطلاب بين إدارة جامعة كولومبيا والمحتجين الذين اعتصموا في حديقة الحرم الجامعي وطالبوا بإنهاء استثمارات الجامعة في شركات تصنيع الأسلحة وغيرها من التي تدعم جيش الاحتلال. خليل ليس متهما بأي جريمة، لكن الحكومة الأميركية استندت إلى قانون هجرة فضفاض لتدفع بضرورة ترحيله هو وعدد من الطلاب الأجانب الآخرين المؤيدين ل فلسطين بدعوى أن خطابهم "القانوني لكن المثير للجدل" قد يضر بمصالح السياسة الخارجية الأميركية. وحكم القاضي الاتحادي بأن الأساس المنطقي الرئيسي لإدارة ترامب لترحيل خليل هو على الأرجح انتهاك غير دستوري لحقوق حرية التعبير، لكن الحكومة ستستأنف الحكم. وكتبت المتحدثة باسم البيت الأبيض أبيغيل جاكسون "لا يتعلق الأمر بحرية التعبير، بل بأفراد لا يحق لهم البقاء في الولايات المتحدة لدعم إرهابيي حماس وتنظيم احتجاجات جماعية جعلت الجامعات غير آمنة وضايقت الطلاب اليهود".