
الضَّيف… قائد الظِّل الذي أرهق العدوَّ ثلاثين عاماً
في الذكرى الأولى لاستشهاده، يظلّ الرجل الحاضر الغائب، رمزاً لمقاومة أرهقت العدو وهزّت أركانه، وألهمت أجيال الفلسطينيين والأمة العربية والإسلامية.
«مهما حاول الطغاة قلعنا ستنبت البذور، أنا هنا في أرضي الحبيبة الكثيرة العطاء، ومثلها عطاؤنا يواصل الطريق لا يُخفي المسير».. هكذا خطّ الضيف آخر كلماته، واضعاً اللمسات الأخيرة على أعظم معركة في تاريخ المقاومة الفلسطينية: «طوفان الأقصى».
مع ارتقائه شهيداً، طُوي بعض الستار عن ذلك الغموض الكثيف الذي غلّف مسيرته. شخصيته العسكرية الرفيعة، وحنكته الأمنية الفائقة، جعلتا منه المطلوب الأول للاحتلال الصهيوني، الذي أفنى سنوات يفتّش عن أثره، أو صورة جديدة له، أو خيط يقوده إلى مكانه.
صوت الطوفان
في صباح السابع من أكتوبر 2023، خرج الضيف بصوته الجهوري في تسجيل دوّى في الآفاق، معلناً انطلاق معركة «طوفان الأقصى». قال إن الضربة الأولى استهدفت مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية صهيونية، وإن المقاومة أطلقت خلالها خمسة آلاف صاروخ وقذيفة في الدقائق العشرين الأولى وحدها.
أكد الضيف أن «طوفان الأقصى» جاء رداً على جرائم الاحتلال المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، والتنكر للقوانين الدولية، والدعم الغربي للعدو الصهيوني، مؤكداً: «لقد انتهى زمن عربدة الاحتلال دون محاسب».
رجل الظل
قلّ أن شهد التاريخ قائداً توارى عن الأعين كما توارى الضيف. قليلون رأوه وجهاً لوجه، وكثيرون سمعوا صوته يقضّ مضاجع العدو. حياته كانت ساحة دائمة للحيطة والحذر، محصّنة بإجراءات أمنية بالغة التعقيد، جعلت اغتياله أمنية عصيّة على الاحتلال لعقود طويلة.
وحتى استشهاده لم يعرف العالم عنه سوى ثلاث صور: إحداها التقطت له شاباً يافعاً، والثانية وهو ملثّم، والثالثة ظله فقط في تسجيلات مصوّرة، ليبقى الرجل لغزاً يتردد بين الظلال والصدى.
ويؤكد الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام أبو عبيدة، في تغريدة له في ذكرى استشهاد القائد الكبير محمد الضيف 'أبو خالد' بأن إخوان الضيف وأبناؤه ومحبوه في كل بقاع العالم يواصلون طريقه، ويكبّدون الاحتلال كل يومٍ مزيداً من الخسائر الاستراتيجية، وسيبقى طيفه كابوساً يؤرق مجرمي الحرب واللصوص؛ الذين لن يهنؤوا بعيشٍ في أرض فلسطين بعد أن خطّ الضيف وإخوانه بدمهم الفصل الأخير في سِفْر تحرير فلسطين.
بصمة أفعال
لم يكن الضيف رجلاً كثير الكلام، بل كان رجلاً تصنع أفعاله المجد. بصمته ظاهرة في تطوير أداء كتائب القسام، وفي استراتيجياتها وأساليبها التي أربكت العدو الصهيوني، وأذلّت جيشها المدجج بالسلاح.
اعتمد «أسلوب الإعداد الصامت»، فكانت معاركه تأتي مباغتة، موجعة، حاملة مفاجآت تكسر حسابات العدو. تجلّى ذلك بأوضح صورة في «طوفان الأقصى»، التي كشفت للعالم كيف ارتقى العمل الاستخباري والعسكري للقسام إلى مستوى غير مسبوق، ودوّى وقعها في أروقة قيادة الجيش الصهيوني.
الجذور الأولى
وُلد محمد ذياب المصري «أبو خالد» في غزة عام 1965، لعائلة هجّرها الاحتلال من قرية كوكبا. نشأ في خان يونس جنوب القطاع، وتلقى تعليمه في مدارسه، قبل أن يتخرج في الجامعة الإسلامية بغزة حاملاً شهادة البكالوريوس في الأحياء.
تزوج عام 2001 من غدير صيام ولم يُرزق منها بأطفال، ثم تزوج عام 2007 من وداد عصفور ورُزق منها بأربعة أبناء. وقدّر الله أن تحمل زوجته الأولى لاحقاً بثلاثة توائم.
تربّى الضيف في مساجد خان يونس، وانخرط مبكراً في العمل الدعوي، ثم في صفوف الكتلة الإسلامية بالجامعة، قبل أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومنها إلى حركة حماس مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987.
اعتقلته سلطات الاحتلال عام 1989 لنشاطه العسكري، وأُفرج عنه بعد ستة عشر شهراً في صفقة تبادل أسرى.
ميلاد القسام
بعد خروجه من السجن، ساهم الضيف في تأسيس كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس، وأشرف مع رفاقه على العمليات النوعية ضد الاحتلال ومستوطنيه.
تسلّم قيادة الكتائب بعد اغتيال القائد العام صلاح شحادة في يوليو 2002، لكنه اضطر للابتعاد جزئياً عن القيادة بين 2006 و2012 بسبب إصابات بالغة أُصيب بها في محاولات اغتيال، فتولى نائبه الشهيد أحمد الجعبري القيادة الفعلية للكتائب في تلك الفترة.
سبع محاولات
سعى الاحتلال لاغتياله سبع مرات بين 2001 و2014. آخرها كانت في أغسطس 2014، حين أغارت طائرات الاحتلال على منزل بحي الشيخ رضوان بغزة، فاستشهدت زوجته الثانية واثنان من أطفاله.
أصيب الضيف إصابتين بالغتين؛ الأولى عام 2002 في شارع الجلاء وسط غزة وفقد فيها عينه اليسرى، والثانية عام 2006 حين استُهدف منزله، فأصيب بحروق وكسور أثّرت على قدرته على المشي.
استُشهد شقيقه عبد الفتاح المصري، ونجله مدحت، وأحد أحفاده، وزوجة أحد أبنائه في غارة صهيونية على منزل العائلة في خان يونس في 11 أكتوبر 2023.
حضور الصوت
ظهر الضيف أول مرة في تسجيل مصوّر عام 1994، معلناً أسر الجندي الصهيوني ناحشون فاكسمان، كاشفاً هويته وسلاحه، ومطالباً بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وأسرى آخرين.
توالت تسجيلاته لاحقاً، فأعلن في معركة «حجارة السجيل» عام 2012 أن المقاومة جاهزة للرد بعد اغتيال أحمد الجعبري. وفي يوليو 2014، ظهر في معركة «العصف المأكول» قائلاً إن «موازين المعركة تغيّرت لصالح شعبنا».
وفي 2021، حذّر الاحتلال من استمرار الاعتداءات في حي الشيخ جراح، وأطلق معركة «سيف القدس» دفاعاً عن القدس والأقصى.
وكان ظهوره الأشد وقعاً في صبيحة السابع من أكتوبر 2023، حين أعلن انطلاق «طوفان الأقصى»، ثم عاد في تسجيل آخر يدعو الشعوب العربية والإسلامية للزحف نحو فلسطين.
الشهادة والإعلان
نال الضيف الشرف الذي أفنى عمره لأجله، إذ استُشهد خلال معركة «طوفان الأقصى» جراء غارات صهيونية في الثالث عشر من يوليو 2024. غير أن كتائب القسام آثرت إبقاء استشهاده طيّ الكتمان لأسباب أمنية وعسكرية، حتى أعلنت عنه رسمياً في الثلاثين من يناير 2025 عبر المتحدث العسكري باسمها، أبو عبيدة، الذي زفّ نبأ استشهاد قائد هيئة أركان الكتائب محمد الضيف وعدد من رفاقه.
رحل محمد الضيف، لكن ظله ما يزال مخيماً على سماء فلسطين. اسمه يتردّد في كل خلية للمقاومة، وفي كل حسابات العدو. سيظل قائد الظل رمزاً لعصر من الصمود والدهاء، حاضراً في الذاكرة، وفي ساحات المواجهة القادمة، شاهداً على أن للحرية رجالاً لا يُهزمون حتى وهم في رحيلهم، لتعبّد حماس بدماء قادتها العظام الطريق نحو حرية فلسطين كل فلسطين.
المصدر / فلسطين أون لاين

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 3 ساعات
- معا الاخبارية
خذوا احتلالكم واجرامكم وانصرفوا واتركوا حمير غزة
ان من قتل ما يقارب مئة ألف فلسطيني جلهم من النساء والأطفال ومن جرح عشرات الآلاف من الغزيين، ومن دمر قطاع غزة بما في ذلك تحويله الى مكان غير قابل للحياة الحيوانية والبشرية لا يمكن ان يكون رئيف باي كائن، لقد كان نصيب الفرد بغض النظر ان كان انسان ام حيوان من القنابل والمتفجرات ما يزيد على 200 كغم، ورغم كل التقدير للمؤسسات الدولية التي تٌعنى بالرفق بالحيوان الا ان السيدة شارون لا يمكن ان تقنع أحد انها ترأف بحمير غزة خاصة وأن مئة ألف شهيد وضعفهم من الجرحى لم يحرك ضميرها ان كان لديها بقية من ضمير. والحقيقة انها تتستر خلف نصوص تلموديه مزورة لم يستطع احد اثبات صحتها رغم مرور قرون على كتابتها فوفقا للنصوص التلمودية والكتابات الدينية اليهودية فان التلمود يعتبر الامميين (الغويم) بمثابة حيوانات بشريه او كائنات أدنى مرتبة من اليهود، فالتلمود يرى في غير اليهود حيوانات في صورة انسان، ويوصفون بالحمير والكلاب والخنازير، وقد ورد في أحد النصوص ان الاغيار خلقوا من نطفة حصان، وفي نص اخر ورد ان الفرق بين درجة الانسان والحيوان هو بقد الفرق الموجود بين اليهود وباقي الشعوب، ففي مقولة للحاخام إسحاق بن يهوذا اباربانيل ان الشعب المختار فقط هو من يستحق الحياة الابدية اما باقي الشعوب فمثلهم مثل الحمير. اما في الممارسات العملية فانه من المحظور على اليهود اطعام الاغيار اثناء الأعياد لكنه مسموح اطعام الكلاب والحمير لأنها أفضل من الاغيار، كما ان التلمود يعتبر بيوت غير اليهود زرائب للحيوانات ولا صلة بينهم وبين اليهود، ووفقا للحاخام إسحاق بن يهوذا اباربانيل فان المرأة غير اليهودية هي من الحيوانات ويعامل الزاني بغير يهودية كمن يمارس الفاحشة مع الدواب، ويرى ذات الحاخام ان موت مسيحي يخدم يهودي لا يعتبر فقدانا لإنسان بل فقدان لحيوان مسخر. في مواضع أخرى من التلمود ابيح قتل الاغيار في حالات عديدة منها حالة الحرب وذلك لأنهم حيوانات بشرية، ومن هنا يمكن فهم تصريح وزير الحرب الصهيوني يوءاف غالانت في العاشر من أكتوبر 2023 حين صرح بان سكان غزة حيوانات بشرية ولذلك فرضنا عليهم حصارا، لن يحصلوا على الماء ولا الغذاء ولا الدواء ولا الكهرباء ولا الوقود. كما ورد في التلمود ان سفك دم الغويم يعتبر قربانا يقدمه اليهودي الى الله، اما ان ضرب يهودي ليهودي اخر فحسب الحاخام اباربانيل كأنما ضرب الله نفسه لان اليهود جزء من الله، وفي مواضع أخرى قال ذات الحاخام إسحاق بن يهوذا اباربانيل ان الله خلق الاغيار على هيئة انسان ليكونوا لائقين لخدمة اليهود. اما الحيوانات الحقيقية فلها مرتبة أفضل من الاغيار وهذا يبرر ما قام به مؤخرا الجيش الإسرائيلي من نقل حمير غزة الى مزرعة داخل إسرائيل تديرها جمعية تدعى لنبدأ من جديد تشرف عليها ناشطة تدعى شارون كوهين وتقع المزرعة في موشاف حروت جنوب تل ابيب، وقد جمع الجيش عشرات الحمير من عدة مناطق في غزة بحجة ان هذه الحمير تعاني من امراض واهمال (الهدف الحقيقي حرمان الفلسطينيين من الحمير كوسيلة نقل في غياب كل وسائل النقل الأخرى). لقد اشارت شارون كوهين مديرة الجمعية إن الحمير كانت تعاني 'وضعاً نفسياً وجسدياً صعباً'، مضيفة أنها كانت تُستخدم في 'أعمال شاقة تشبه العبودية في غزة'، كحمل الرمل والبلوك، وفي أعقاب الحرب باتت تُستخدم لنقل الأثاث والمدنيين وأوضحت: 'لن نسمح بإعادة الحمير إلى قطاع غزة، ونسعى لإخراج ما تبقى منها هناك حتى لا تُستغل في عمليات إعادة الإعمار. في خطوة لاحقة نقلت الجمعية الدفعة الأولى من حمير قطاع غزة وعددها 58 الى بلجيكا بالتعاون مع منظمة شبكة من اجل الحيوانات (network for animals) كما اُرسل عدد اخر منها الى فرنسا حيث تم استقبالها في محمية تدعى (la taniere zoo refuge) على اعتبار انها ناجية من الجحيم، وحسب المحللين فان شارون كوهين تمثل واجهة لمشروع يثير جدلا أخلاقيا وقانونيا حيث ينظر الى العملية على انها تجريد للفلسطينيين من مواردهم الحيوية تحت غطاء القيم الإنسانية التي تنادي بالرفق بالحيوانات. على السيدة شارون كوهين وجيس الاحتلال ان يرحلوا هم وان يعودوا من حيث أتوا اما حميرنا فنحن أولى بها من أي أحد، وكما قال شاعرنا الكبير محمود درويش أيها المارون بين الكلمات العابرة، احملوا أسماءكم وانصرفوا، واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا، وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة، وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا انكم لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء، أيها المارون بين الكلمات العابرة، منكم السيف - ومنا دمنا، منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا، منكم دبابة أخرى- ومنا حجر، منكم قنبلة الغاز ومنا المطر، اقيموا أينما شئتم لكن لا تقيموا بيننا، موتوا أينما شئتم لكن لا تموتوا بيننا.


فلسطين أون لاين
منذ 12 ساعات
- فلسطين أون لاين
حماس تنعى الشَّهيد القائد محمد فرج الغول وتؤكد: اغتيال قادتنا وعلمائنا لن يزيدنا إلا تمسكًا بنهج المقاومة
نعت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الشهيد محمد فرج الغول، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني ورئيس اللجنة القانونية فيه، ووزير العدل الأسبق في الحكومة الفلسطينية التي ترأسها الشهيد القائد إسماعيل هنية "رحمه الله"، وأحد أعلام الدعوة والجهاد والعمل الوطني والقانوني، والذي ارتقى إلى علياء المجد والخلود، شهيدًا في جريمة اغتيال صهيونية جبانة استهدفته صباح اليوم الثلاثاء، وهو على طريق الدعوة وخدمة شعبه وقضيته، ضمن سلسلة جرائم الاحتلال المتواصلة بحق أبناء شعبنا. وقالت "حماس" في تصريح صحفي، إن "استشهاد القائد محمد فرج الغول يُشكّل خسارة جسيمة لفلسطين، ولمشروع المقاومة، ولحركة 'حماس' التي فقدت اليوم أحد أبنائها البررة، ورجالاتها الأفذاذ الذين نذروا حياتهم لله، وكرّسوا أعمارهم في سبيل تحرير الأرض والإنسان، ورفع المظلمة التاريخية عن شعبنا المجاهد". وأضافت، "لقد كان الشهيد محمد فرج الغول مثالًا للعالم الملتزم، والسياسي الثابت على المبادئ والمواقف، والمقاوم الصلب، حمل همّ قضيته منذ صباه، وتشرّف بانتمائه إلى صفوف الحركة الاسلامية ، فكان من الرعيل الأول المؤسس للعمل الإسلامي في قطاع غزة، وارتقى في المواقع التنظيمية والسياسية والتشريعية، وكان دومًا صوت الحق، ولسان المظلوم، ومدافعًا جسورًا عن الثوابت والحقوق، لا تلين له قناة، ولا تنكسر له عزيمة". وتابعت، "اعتُقل الشهيد الغول على أيدي الاحتلال الصهيوني مرات عديدة، لكنه ظلّ صامدًا، رابط الجأش، لا يحيد عن مواقفه، ولا يتراجع عن مبادئه. وكان خلال عضويته في المجلس التشريعي نموذجًا للبرلماني الوطني الحر، وكان في وزارة العدل عنوانًا للعدالة، وضميرًا حيًّا للمقاومة، وسيفًا مشرعًا بوجه كل محاولات التطبيع والتفريط، وفي ميادين الدعوة والإصلاح، عرفه الناس خطيبًا مفوهًا،، ومرشدًا حكيمًا، لا يُذكر اسمه إلا مقرونًا بالحق والخير والوحدة، وقد كرّس حياته لخدمة أبناء شعبه". وأكدت "حماس" أنّ دماء الشهداء لن تذهب هدرًا، وأنّ اغتيال قادتنا وعلمائنا لن يزيدنا إلا تمسكًا بنهج المقاومة، ووفاءً لدماء الشهداء، وعزمًا على مواصلة الطريق حتى التحرير والعودة. المصدر / فلسطين أون لاين


فلسطين أون لاين
منذ 16 ساعات
- فلسطين أون لاين
أبو حازم.. رجل الإصلاح الذي ختم سيرته بالشهادة
غزة/ عبد الرحمن يونس في كلّ حارة من حارات مخيم الشاطئ كان اسمه كفيلًا بأن تُطفأ فتنة قبل أن تكبر، وأن تُحلّ عقدة قبل أن تتشابك. كان رجلًا يمشي بخُطى ثابتة بين البيوت والقلوب، يحمل هموم الناس في جيبه كما يحمل مسبحته القديمة التي لا تفارق يده. إنه أبو حازم يونس (جودة)، رجل الإصلاح السبعيني الذي ارتقى شهيدًا قبل أيام، تاركًا خلفه سيرة طيّبة، وبيوتًا تتحدّث عن فضله حتى وهو يوارى الثرى. في تلك الليلة، كان البيت الذي اعتاد أن يجمع المتخاصمين، شاهداً على واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبها الاحتلال في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة. قُصف المنزل الكبير، الذي كان يكتظّ بالأطفال والنساء وكبار السن، ليهوي سقفه الثقيل على رؤوس أكثر من خمسين فردًا من العائلة الممتدّة. يقول باسل، أحد أبناء الشهيد، وهو يضمّد جرحه الذي لم يلتئم بعد: «هذه ليست المرة الأولى التي يُقصف فيها بيتنا خلال الحرب، لكن هذه المرة كانت أشدّ رعبًا. في البداية، ظننا أنّ الجميع قد استشهد تحت الركام، من شدّة الدمار وتكدّس الأنقاض فوق بعضنا. ما من غرفة ولا زاوية إلا وانهارت فوق رؤوسنا». كانت نيّة الاحتلال واضحة في تلك الليلة؛ مجزرة جديدة تُضاف إلى عشرات المجازر التي يشهدها المخيم منذ أكثر من عشرة أيام. لم يفرّق القصف الغادر بين شيخٍ مسنّ ولا امرأة ولا طفل، كلّهم تحت القصف سواء. يضيف باسل بصوتٍ مختنق لـ "فلسطين أون لاين": «عائلتنا كبيرة جدًا، أكثر من خمسين فردًا بين أب وأم وأبناء وأحفاد. لكنّ رحمة الله كانت أكبر من حقد القذائف. استشهد أبي أبو حازم، وزوجة أخي، وأطفالها الخمسة الذين لم يعرفوا من الدنيا إلا حبّ جدّهم لهم. نُقلنا جميعًا إلى المستشفى وبعضنا بين الحياة والموت، إصابات متوسطة وخطيرة. كانت مجزرة حقيقية». ليس سهلاً أن يكتب الناس عن رجلٍ عاش طيّبًا ومات كريمًا، ففي كلّ تفاصيل سيرته، حكايات تسبق الحروف. أبو حازم، الذي كان بيته بمثابة «ديوان صغير» للجيران، لم يكن يومًا طرفًا في خلاف، بل ظلّ يجمع المتخاصمين على كلمة سواء، يحنو على هذا ويطيب خاطر ذاك. يقول باسل، وهو يستعيد سيرة والده التي سبقت رائحة البارود: «كان أبي رجل إصلاح معروفًا. الناس تلجأ إليه من كلّ مكان. لم يكن يردّ أحدًا، وبيته كان مفتوحًا. تخيّل أن الليلة التي سبقت المجزرة، كان عندنا بعض الجيران يجلسون في حضرته يحاولون حلّ مشكلة نشبت بينهم. كان حريصًا على أن ينهي أي خلاف قبل أن ينفلت». كبر أبو حازم بين الأزقة الضيّقة للمخيم، وكبرت معه سيرته التي صارت جزءًا من ذاكرة المكان. لم يكن يملك من الدنيا إلا كلمته الطيبة، وهي كانت تكفيه. رحل شهيدًا، بعد عمر طويل أمضاه حاملًا هموم الناس بين يديه. لم تتوقّف آلة القتل عند جدران البيت المنهار. الحاجة أم حازم، رفيقة دربه التي عاشت معه عمرًا طويلًا من الإصلاح والحياة البسيطة، خرجت من تحت الركام وهي بين الحياة والموت، إذ أصيبت إصابة خطيرة لتكمل صورة الوجع الذي يعيشه الناجون من تحت الأنقاض. يقول باسل: «أمي اليوم في المستشفى، جرحها شاهد على أن الاحتلال لم يفرّق يومًا بين رجلٍ مسنّ ولا امرأة ولا رضيع. نحن تحت القصف جميعًا، لا استثناءات هنا». في الممرات الضيقة لمخيم الشاطئ، يهمس الجيران في ما بينهم أنّ بيت أبو حازم الذي كان بيت إصلاح وسلام، صار حطامًا يحكي للعالم وجه الاحتلال العاري من أي إنسانية. إنه بيتٌ تهدّم ليُبقي حكاية الرجل حيّة في أفواه الناس. عائلة الشهيد أبو حازم اليوم بلا سقف ولا مأوى، إذ دُمرت جدران البيت كلها ولم يبقَ لهم سوى خيمة صغيرة نصبوها عند أطراف المخيم بانتظار أن يلتئم جرح الناجين. لكنّ الذاكرة المليئة بضحكات الجدّ وجلساته بين أولاده وأحفاده أكبر من أن يزيلها ركام أو حرب. يقول أحد الجيران وقد ربت بيده على كتف باسل: «أبو حازم رحل بجسده، لكن بقي اسمه علامة خير. كلّ بيت في المخيم فيه ذكرى لرجلٍ أطفأ نار فتنة أو أصلح بين إخوة أو أعاد المياه إلى مجاريها». أما باسل فيردّ عليه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ممزوجة بدموع: «نحن فخورون بأبي. عاش عمره كله يجمع الناس، وختمه الله بالشهادة. هذه نهاية مشرّفة بعد سيرة طيّبة. وما حدث معنا يحدث كل يوم في غزة، عشرات البيوت تحوّلت إلى مقابر جماعية تحت القصف». ليست مجزرة أبو حازم يونس إلا واحدة من عشرات المجازر التي يرتكبها الاحتلال في مخيم الشاطئ خلال الأيام الأخيرة. يرحل الشهداء تباعًا، ويُدفنون تحت الركام دون أن يجد العالم متسعًا للإنصات إلى قصصهم. لكن بين الركام، تبقى السيرة. رجل الإصلاح الذي لم يعرف يومًا حدودًا للخير، ارتقى شهيدًا، تاركًا لجيرانه حكاية سيحكونها طويلًا: «كان بيته مأوى للصلح والسلام.. حتى صار قبرًا كبيرًا». المصدر / فلسطين أون لاين