logo
حرب غزة ونهاية الحداثة

حرب غزة ونهاية الحداثة

الجزيرةمنذ 5 أيام
ربط عدد هذا الصيف من مجلة "فورين بوليسي" بين نهاية الحداثة وبين التحولات الكبرى في ديناميكيات القوة العالمية والعلاقات الدولية، حيث ننتقل من حقبة ما بعد الحرب الباردة إلى التعددية القطبية، لكن هذه الديناميكيات كانت مصحوبة أيضًا بتفكك المعايير التي تشكلت بعد الحرب الثانية (1939-1945)، وفي مقدمتها حقوق الإنسان.
من المؤكد أن عصر حقوق الإنسان، وخاصة كمبدأ أساسي في السياسة الخارجية لرئاسة الولايات المتحدة، على وشك الانتهاء. ويعزى هذا التحول في المقام الأول إلى الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب، والتي كانت تهدف إلى فك السياسة الخارجية عن حقوق الإنسان، على عكس التقليد الذي استمر خلال الإدارات السابقة، بما في ذلك فترة ولاية ترامب الأولى.
يركز نهج ترامب على العلاقات القائمة على المصالح بين الدول والنظام العالمي القائم على القوة العسكرية والاقتصادية، مع عدم لعب "مجتمع القيم" أي دور.
الجديد الذي تشير إليه المجلة هو أن التزام الولايات المتحدة بحقوق الإنسان العالمية قد لا يستعيد الإجماع السياسي الذي كان يتمتع به ذات يوم، حتى بعد رئاسة ترامب.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الخطاب الأميركي حول الأهداف الأخلاقية غالبًا ما تناقض مع توظيفه الفعلي للقوة والمال في الخارج. وتُعتبر الإجراءات العسكرية التي اتخذها رؤساء مثل جورج دبليو بوش وباراك أوباما وجو بايدن، والتي أدت إلى ضحايا وإصابات كبيرة جدًا (قدّر مشروع جامعة براون عدد ضحايا الحرب على الإرهاب 2001-2021 بأكثر من 4.5 ملايين)، بمثابة تناقض مع فكرة "العصر الذهبي" لحقوق الإنسان.
وبالإضافة إلى هذا كانت حماية حقوق الإنسان للمهاجرين في الولايات المتحدة محدودة بالفعل، وأصبحت أكثر تقييدًا في ظل إدارات مختلفة، مما يشير إلى استمرار المعاملة القاسية بدلًا من تغيير مفاجئ في عهد ترامب وحده.
غزة هي التجسيد الحي لـ"نهاية عصر حقوق الإنسان"، ولا يُعزى هذا إلى حدثٍ فردي، بل إلى مزيجٍ من الخيارات السياسية، وتطبيق معايير مزدوجة، والتلاعب المتعمد باللغة والأطر القانونية، مما جعل مبادئ حقوق الإنسان الأساسية "غير شرعية وغير فعّالة".
إن استعداد الشخصيات السياسية والفكرية الغربية المؤثرة "للموافقة على إبادة غزة ومذبحة سكانها وتجويع أهلها، إلى جانب اضطهاد السكان في الضفة الغربية، قد خلق فجوة هائلة في النظام الأخلاقي العالمي".
يتجلى هذا بوضوح من خلال الاعتقاد بأن حياة المدنيين الفلسطينيين أقل قيمة "بمئات المرات" من حياة الإسرائيليين، ويتم رفض الدعوات لوقف إطلاق النار لحماية الأطفال باعتبارها معاداة للسامية.
نهاية الحداثة
يشير مفهوم "نهاية الحداثة" إلى أزمة توجه، حيث تنهار الأطر التقليدية لفهم التقدم والمجتمع والحكم والعلاقات الدولية، مما يؤدي إلى حالة كبيرة من عدم اليقين ويجعل من الصعب رسم مسار مستقبلي.
يستكشف المؤرخ كريستوفر كلارك مفهوم "نهاية الحداثة"، ويرى أن هناك أزمة تتكشف "أمام أعيننا – وفي رؤوسنا أيضًا"، مما يشير إلى أن الحداثة تتفكك. وفقًا لكلارك، فإن العصر الحديث، الذي استمر من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى حوالي 1989-1990، قد انتهى وبتنا نشهد انهيار الأطر التقليدية.
لكن كيف انهارت الأطر التقليدية لفهم التقدم والمجتمع والحوكمة؟
ميزة العدد أنه جمع في إجابته بين: المداخل الثقافية والتطورات المجتمعية ودورها في تشكيل ديناميكيات القوة الدولية، كما أنه استطاع أن يربط بين المستويات كافة، وطنية وإقليمية ودولية، في صعيد واحد يرسم به التحولات التي تحدث في العلاقات الدولية، وبروز التعددية القطبية، والدور الذي تلعبه القضايا الثقافية والمجتمعية في تشكيل المشهد الجيوسياسي، بالإضافة إلى علاقة هذا كله بالتطورات داخل الكتل الإقليمية والدول الأخرى.
تشير المجلة إلى أن هذا التفكك يؤثر على كيفية إدراك الناس للتاريخ والتنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي والأنظمة السياسية.
لعدة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة في أوروبا، شهدت فترة من "السلام الدائم" و"النمو الاقتصادي"، بدعم من الولايات المتحدة. لقد عزز هذا العصر الشعور بالوصول إلى "نقطة الذروة في تطور تاريخي طويل"، والوقوف على "أرض الحداثة المرتفعة". وقد تجسد هذا المنظور في مفاهيم مثل "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما، مما يشير إلى أن التقدم التاريخي قد وصل إلى نهايته.
كانت الحداثة، خلال هذا الوقت، مدعومة بـ"أسطورة" محددة و"سرد عظيم" يضع الناس في الوقت المناسب ويوفر إحساسًا بالاتجاه. وقد تضمنت هذه الرواية عددًا من المكونات منها:
التقدم: الاعتقاد بأن المجتمع يتجه نحو زيادة الديمقراطية، والمساواة الكبرى، وظهور الأسرة النووية، وتراجع التدين، وتغلغل قانوني أعمق، ودول دستورية تحرر الأفراد من علاقات القوة الشخصية.
نشر المعلومات: حيث يتم نشرها في المقام الأول من خلال "قنوات الإعلام المؤثرة" و"الصحفيين المدربين"، بدلًا من الكلام الشفهي ومروجي الشائعات.
الرخاء الاقتصادي: حيث يوجد رابط مباشر بين زيادة الرخاء والنمو الاقتصادي.
القيم العالمية: تم اعتبار عالمية حقوق الإنسان والمزايا الجوهرية لنموذج مجتمعي ليبرالي ديمقراطي محدد أمرًا لا غنى عنه.
كان التفاؤل الذي أعقب تفكك الكتلة الشرقية وإنشاء دولة ألمانية جديدة سلميًا 1989 و1990 قصير الأجل. أدت سلسلة من "الكوارث" اللاحقة، بما في ذلك انهيار الاتحاد السوفياتي، والحروب المختلفة، والأزمات المالية وأزمة الهجرة العالمية، إلى تحول عميق، كما أن "النمو المذهل" غير المتوقع للصين في ظل نظام الحزب الواحد تحدى أيضًا الافتراضات السائدة حول النظام العالمي.
إعلان
وقد أدى هذا إلى نهاية "عصر ما بعد الحرب الباردة" وظهور "التعددية القطبية"، و"تفكك الحداثة" أمام أعيننا – وفق ما أشار إليه كلارك.
تتلاشى الهياكل التقليدية مثل وسائل الإعلام الوطنية، والأحزاب السياسية كمرسيات للهوية، والنمو كمبدأ أساسي. الأحزاب السياسية القديمة تتفكك إلى "فصائل محاصرة"، وتتنازل عن نفوذها للشعبويين، ويكافح "الوسط السياسي الضعيف ضد اليسار الراديكالي واليمين المتطرف".
ولم تعد "سردية التنمية" (التاريخ العالمي كرواية تكوينية) توفر الرفاهية. ينظر الآن على نطاق واسع إلى النمو الاقتصادي على أنه "كارثي بيئيًا".
إن التهديد الوشيك لتغير المناخ "يثير تساؤلات حول طبيعة المستقبل". ويُنظر إلى الرأسمالية نفسها على أنها "تهديد للتماسك الاجتماعي"، وأدت إلى تفاوتات في الفرص والدخول والثروات بين الدول وفي داخل الدول أيضًا.
وأدت الأزمات الأخيرة، مثل الأزمة المالية العالمية وجائحة كوفيد-19، إلى "تقويض الثقة" بشكل خطير في المؤسسات المالية والهيئات الحكومية والخبرة العلمية ووسائل الإعلام التقليدية. كما أدت الإبادة الجماعية في غزة إلى تقويض الثقة في التنظيم الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وما صاحبه من قواعد وتقاليد.
وهناك انقلاب في الإعلام، حيث استولى "مروجو الشائعات"- على الإنترنت- على زمام المبادرة من الصحفيين المحترفين، مما أدى إلى "تشظي المعرفة والآراء" و"الاستقطاب المتعمد"، كما أدى الذكاء الاصطناعي إلى موت المؤلف. هذه الأزمة "داخل عقولنا أيضًا"، مما يجعل "التأمل الهادئ" صعبًا وسط "صرخات المعركة وحجج الديماغوجيين المتوحشين".
وفي الولايات المتحدة، هناك ما يُتصور أنه "نشر عدواني للسلطة الرئاسية"، ويُخشى أن يشبه النظام الملكي، وهو انحراف عن نيّة المؤسسين في فصل السلطات.
إن تصرفات الرئيس ترامب، مثل تهديد المعارضين، وتسليح الأموال الفدرالية، وتحدي الأوامر القضائية، والتشكيك في الدستور، تشير إلى انحراف عن الأعراف التاريخية والبنية الدستورية الأساسية. إن "الكونغرس ذا الأغلبية الجمهورية شديدة التحيز الحزبي" والذي يُظهر ولاءً شديدًا لترامب، يُفاقم مخاطر هذه "الرئاسة الإمبراطورية".
توضح المقارنات التاريخية، مثل قرار ريتشارد نيكسون عام 1971 بتعليق تحويل الدولار إلى ذهب، كيف يمكن لأفعال زعيم أن "تقلب النظام النقدي العالمي رأسًا على عقب"، مما يؤدي إلى فترات من التضخم المرتفع وعدم الاستقرار الاقتصادي. وتوجد مخاوف أيضًا من أن سياسات ترامب المتعلقة بالرسوم الجمركية قد تُحدث ديناميكيات سلبية مماثلة.
إن العصر الحالي يتميز بالتعددية القطبية، بدلًا من الاستقرار ثنائي القطب في فترة الحرب الباردة أو القطبية الواحدة بعدها، ويشمل ذلك انسحاب الولايات المتحدة من الالتزامات الدولية والعلاقات المتوترة مع الشركاء التقليديين، مما يؤدي إلى اتباع نهج قائم على المصالح في التعامل مع العلاقات بين الدول بدلًا من نهج قائم على القيم المشتركة. لقد ظهرت قوى إقليمية جديدة، تؤكد هيمنتها في مجالات اهتمامها، وهو ما يذكرنا بالقرن التاسع عشر الذي لم يكن يمكن التنبؤ بأحداثه.
ومع حالة عدم اليقين التي تسود حال التغيرات الكبرى، عادة ما نلجأ لمقارنة الحاضر بالماضي، أو نستخدم القياس التاريخي لعله يساعدنا في فهم ما نتعرض له من تغيرات في أوقات الاضطرابات والتغيير.
عندما لا يكون هناك إحساس واضح بالاتجاه، تساعدنا القياسات التاريخية على مواجهة القلق الحالي والتغلب على "أزمة التوجيه". إنها توفر طريقة لفهم العالم، وربط الحاضر بالماضي وجعل المواقف غير المألوفة تبدو أكثر ألفة.
على سبيل المثال، تم استدعاء الحروب الصليبية، أو ما أطلق عليه مؤرخونا حروب الفرنجة، بالإضافة إلى الحقبة الاستعمارية الغربية لفهم التوحش الإسرائيلي المدعوم غربيًا.
وعلى الرغم من أهمية هذه التشبيهات التاريخية، فإنها لم تسعفنا في فهم طبيعة هذه الهجمة المعاصرة التي تكتسب طبيعتها من عوامل وهياكل جديدة، ولها تأثيرات مختلفة.
يشير أحد مقالات العدد إلى أن القياسات التاريخية تعتبر أدوات فكرية قيمة يمكنها المساعدة في رسم خريطة الخيارات التي يواجهها صناع السياسات. إنهم يملؤُون عالم صنع القرار بشخصيات وتفاصيل تاريخية، مما يجعل الخلافات المعقدة أكثر وضوحًا للعامة. ومع ذلك، هناك خطر يتمثل في أن صناع السياسات قد يختارون بشكل انتقائي القياسات التي تتناسب مع معتقداتهم الحالية، مما قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات خاطئة.
أحد أدوار القياسات التاريخية هو خلق شعور بالهوية والاتجاه. لقد خلق "العصر الحديث" أساطيره الخاصة، وهي قصة ساعدت الناس على تحديد موقعهم في الوقت المناسب، وفهم من أين أتوا وإلى أين يتجهون. إن النظر إلى الماضي يمكن أن يساعد في رسم مسار نحو المستقبل، فهو بمثابة إطار معرفي لفهم التحولات الجارية، لكنه لا يكفي وحده لرسم إستراتيجيات التأهب الممكنة للتعامل معها. خطورة النظر التاريخي وحده أنه قد يتحول إلى نبوءات مستقبلية تستدعي التاريخ بالرغم من أن التاريخ لا يكرر نفسه.
في الواقع الجيوسياسي الحالي، الخوف أن تحل فينا القياسات التاريخية محل رؤى المستقبل باعتبارها الوسيلة الأساسية لمواجهة هذا التوحش غير المسبوق. يختار صناع السياسات وكثير من مثقفينا هذه القياسات بشكل انتقائي، مما قد يشكل فهمهم للأزمات ويؤثر على القرارات ومنظور التحليل، وأحيانًا ما تكون له "عواقب وخيمة".
في المقابل، فلا يزال عدد من مثقفينا عالقين في حقبة الحداثة، يبشرون بصبحها الذي لم يتنفس على أوطاننا، ومتماهين مع أسئلتها وقضاياها، ولم يستطيعوا أن يتقدموا خطوات ليتحرروا من طريقة التفكير التي هيمنت عليهم لعقود.
وعلى الرغم من أن منطق القياسات التاريخية يقلل إلى حد كبير من المركزية الغربية حين يجعلها أكثر تجذرًا في مجموعة متنوعة من التواريخ الوطنية، فإن هؤلاء المثقفين تسيطر عليهم هذه المركزية، ولا يرون مستقبل أوطانهم إلا فيها ومنها.
على سبيل المثال، بينما قد ينظر البعض في الغرب إلى أزمة النظام الدولي الحالية على أنها عودة إلى الفاشية، قد يُنظر إليها في الصين على أنها النهاية الحاسمة لـ"قرن الإذلال" الذي عاشوه، بينما هؤلاء المثقفون ينظرون إلى سبب هزيمتنا أو نكبتنا الثانية أننا لم نحقق الحداثة التي تفككت.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الكرملين لا يستبعد لقاء بوتين وترامب في الصين خلال سبتمبر
الكرملين لا يستبعد لقاء بوتين وترامب في الصين خلال سبتمبر

الجزيرة

timeمنذ 5 دقائق

  • الجزيرة

الكرملين لا يستبعد لقاء بوتين وترامب في الصين خلال سبتمبر

أعلن الكرملين، اليوم الاثنين، أنه لا يمكن استبعاد عقد لقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترامب في الصين مطلع أيلول/سبتمبر المقبل، في حال قرر الأخير حضور الاحتفالات المقامة هناك. وقال المتحدث باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، في تصريح للصحافيين "إذا قرر الرئيس الأميركي في النهاية زيارة الصين في هذه الأيام، فبالطبع لا يمكن نظريا استبعاد انعقاد اجتماع من هذا النوع". ومن المرتقب أن يزور بوتين الصين للمشاركة في احتفالات الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي ستتخللها عروض عسكرية ضخمة في ساحة تيان أنمين، تشمل استعراضا للقوات والطائرات والأسلحة المتطورة، وفق ما أعلنته السلطات الصينية. وأكد الكرملين مشاركة بوتين في هذه المناسبة، التي يتوقع حضورها من جانب عدد من قادة العالم، بناء على ما كشفته بكين في وقت سابق. ويشار إلى أن بوتين وترامب لم يعقدا أي لقاء مباشر منذ تولي ترامب ولايته الثانية، إلا أنهما أجريا محادثات هاتفية في مناسبات متعددة، كان أبرزها حول الحرب في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير/شباط 2022.

الرئيس الأميركي: نريد وقف إطلاق النار في غزة ونتطلع إلى إطعام الناس هناك
الرئيس الأميركي: نريد وقف إطلاق النار في غزة ونتطلع إلى إطعام الناس هناك

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

الرئيس الأميركي: نريد وقف إطلاق النار في غزة ونتطلع إلى إطعام الناس هناك

الرئيس الأميركي دونالد ترامب: نريد وقف إطلاق النار في غزة ونتطلع إلى إطعام الناس هناك قدمنا كثيرا من الأموال لغزة ولم يقل لنا أحد كلمة شكر يجب أن ينعم الأطفال في قطاع غزة بالغذاء والأمان فورا أخرجنا عددا كبيرا من الرهائن الإسرائيليين في قطاع غزة وكثير منهم زاروا البيت الأبيض الرهائن المتبقون في غزة سيكون إخراجهم صعبا أخبرت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن عليه اعتماد مقاربة أخرى بشأن قطاع غزة سأتحدث مع رئيس الوزراء البريطاني عن وقف إطلاق النار في غزة التفاصيل بعد قليل.. المصدر: الجزيرة

ترامب.. رقصة النهاية أم تأكيد الهيمنة؟ (2)
ترامب.. رقصة النهاية أم تأكيد الهيمنة؟ (2)

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

ترامب.. رقصة النهاية أم تأكيد الهيمنة؟ (2)

في الجزء الأول من المقال، استعرضنا واقع التحديات التي تواجه ترامب في الغرب (داخل الولايات المتحدة، وفي أوربا).. لكن، ماذا عن الشرق؟ برزت إسرائيل كحلٍّ مثالي للغرب، وللولايات المتحدة الأميركية التي تبنّتها بالكامل، وليس المجال هنا للخوض في تفاصيل قيامها، فقد وُلدت إسرائيل في محيط جغرافي وديمغرافي معادٍ، ما عزز حاجتها المستمرة للحماية، وقدمت لها واشنطن هذا الغطاء بسخاء الشرق كمصنع والغرب كمركز قرار لضمان استمرار تفوقها، دعمت أميركا قيام نمط اقتصادي عالمي جديد، يحتاج إلى طاقة من الشرق الأوسط، وصناعة منخفضة التكلفة من شرقي آسيا. وضمن هذا النظام، احتفظت الولايات المتحدة لنفسها بالموقع التكنولوجي والإداري والمالي، مما أبقى على هيمنتها المركزية. أدى هذا الترتيب إلى اعتماد عالمي على منظومة تقودها واشنطن، واستخدمت فيه مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية كأذرع ناعمة لترسيخ النفوذ. لاحقًا، لعبت دول كاليابان وكوريا الجنوبية دورًا في تحقيق توازن صناعي يخدم الرؤية الأميركية الشاملة، بينما بقي الشرق الأوسط مركزًا للطاقة، وميدانًا دائمًا للصراعات التي تضمن الحاجة إلى الهيمنة الغربية. الشرق الأوسط مصدر الطاقة منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية، بُنيت الدول الحديثة في الشرق الأوسط على أساس جغرافي هش، ودون خبرة حقيقية في إدارة الدولة الحديثة. لم تكن المنطقة تمثل تهديدًا مباشرًا للغرب في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكنها سرعان ما تحولت إلى رقعة إستراتيجية لا غنى عنها بعد اكتشاف النفط، وأصبح الشرق الأوسط مركزًا حيويًّا للطاقة التي يتطلبها النظام العالمي الجديد. من هنا، نشأ صراع غير مباشر على النفوذ، لعبت فيه أميركا دور الراعي الذي يوفّر الحماية مقابل الولاء، واتبعت سياسة العصا والجزرة. فقد تبنت دول الخليج الثرية والضعيفة سكانيًّا وعسكريًّا خيار التحالف مع الولايات المتحدة، وتلقّت في المقابل ضمانات أمنية واقتصادية، في ظل حاجتها للحماية من أطراف إقليمية طامعة. ظهرت في هذه البيئة الحاجة الدائمة لـ"فزاعة" تبرر الوجود العسكري والسياسي الأميركي، سواء كانت هذه الفزاعة مصطنعة أو ناتجة عن طموحات إقليمية حقيقية؛ فبرز صدام حسين ثم النظام الإيراني كخصمين يخدمان هذا التوازن. أما إسرائيل، فكانت العنصر الثابت في هذه المعادلة، فهي الحليف الأوثق والأكثر حاجة للدعم الغربي، وتقوم بدور هندسة الصراع في المنطقة. ومع الوقت، ومع تراكم ثروات وخبرات بعض دول المنطقة من خلال الاستثمار في الطاقة والاقتصاد العالمي، بدأت هذه الدول- مثل الإمارات والسعودية وتركيا وقطر- تطمح للعب أدوار سياسية تتناسب مع مكانتها الاقتصادية. هذه الدول تسعى اليوم إلى إعادة صياغة مكانتها في المعادلة الدولية، وهو ما يدفع واشنطن لإعادة تقييم العلاقة معها.. لم تعد هذه الدول راضية بدور الحليف الصامت، بل باتت تمتلك أدوات ضغط وخيارات إستراتيجية قد تبعدها جزئيًّا عن العباءة الأميركية. وبما أن السياسة لا تعترف بالتنازلات المجانية، فإن واشنطن تحاول توظيف هذه الطموحات لإعادة بناء نفوذها، من خلال تحفيز تنافس محسوب بين القوى الصاعدة في المنطقة، وطرد قوى أخرى منافسة كروسيا، واحتواء إيران بعد أن أصبحت كلفة الاعتماد على فزاعة طهران مرتفعة وغير مجدية في ظل تغيرات توازن القوى. تحاول أميركا اليوم أن تستبدل بسياسة "الحماية" سياسة "إدارة التنافس" بين هذه الدول، لضمان بقائها فاعلًا محوريًّا في تشكيل الشرق الأوسط، حيث يتم التحكم في ميزان القوى من الداخل بدلًا من فرض السيطرة المباشرة. إسرائيل: أداة هندسة الصراع برزت إسرائيل كحلٍّ مثالي للغرب، وللولايات المتحدة الأميركية التي تبنّتها بالكامل، وليس المجال هنا للخوض في تفاصيل قيامها، فقد وُلدت إسرائيل في محيط جغرافي وديمغرافي معادٍ، ما عزز حاجتها المستمرة للحماية، وقدمت لها واشنطن هذا الغطاء بسخاء. تغذّت هذه الدولة على الخوف، وتحولت إلى قاعدة عسكرية مقنّعة، تلعب أدوارًا إستراتيجية معقدة: استنزاف دائم للمنطقة، منع نشوء أي قوة موازية، وتوفير ذريعة دائمة للوجود العسكري والسياسي الغربي. ومع تعاظم أهمية الشرق الأوسط في النظام العالمي الجديد، زادت الحاجة إلى أدوات تحكم متقدمة، وكانت إسرائيل هي الأكثر فاعلية.. لم تكن مجرد حليف، بل عنصر ضغط مستمر، ورافعة لإستراتيجيات التفتيت والسيطرة. علاقتها المتوترة مع الشعوب المحيطة بها ساعدت على تعطيل إمكانيات الوحدة أو النهوض الذاتي في المنطقة، خاصةً أن معظم سكان المنطقة من المسلمين، الذين ما زالوا يستحضرون تاريخ الهيمنة الغربية المسيحية على العالم الإسلامي. استثمرت إسرائيل بذكاء في هذا التوتر، لتبقى في موقع القاعدة المتقدمة التي تثير دائمًا ردود فعل شعبية، كما في كل تصعيد ضد الفلسطينيين، مما يؤدي إلى تشتيت الرأي العام والجهد السياسي في المنطقة. إنها ليست فقط أداة سيطرة، بل أداة استنزاف ذكية تُفرغ المنطقة من فرصتها في التحول إلى قوة اقتصادية أو سياسية كبرى، رغم تدفّق موارد الطاقة فيها. وهكذا، تبقى إسرائيل في قلب التخطيط الإستراتيجي الغربي كأداة ضرورية لإخضاع الشرق الأوسط، ليس فقط عبر الردع العسكري، بل كوسيلة هندسة دائمة للصراع، في منطقة هي الأكثر حيوية على الخريطة الجيوسياسية العالمية. الصين كنموذج جديد ومنافس إستراتيجي للولايات المتحدة لقد أثبت النموذج الصيني قدرته على تحقيق التنمية الاقتصادية السريعة والفعالة، دون الحاجة إلى تبني الديمقراطية الغربية. هذا الطرح يُمثل تحديًا جوهريًّا للأسس الفكرية والسياسية التي قامت عليها الهيمنة الغربية، لأنه يُقوّض الثقة بأن الرأسمالية والازدهار مرتبطان حتمًا بالنموذج الديمقراطي الليبرالي. الصين بهذا تُقدم بديلًا مغريًا للعديد من الدول النامية التي تسعى إلى التطور السريع دون الخضوع لتكاليف التحول الديمقراطي. فببراعتها في استغلال حاجة الرأسمالية العالمية إلى التكاليف المنخفضة، أصبحت الصين اليوم اللاعب الأكثر تهديدًا للمكانة الأميركية؛ فهي لا تنافس الولايات المتحدة من خارج النظام العالمي، كما فعل الاتحاد السوفيتي سابقًا، بل من داخله، مُسخّرة آلياته لتحقيق صعودها الخاص. والأخطر من ذلك، أن الصين قد تحولت من مجرد "مصنع العالم" إلى منافس جاد في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الصناعي، والفضاء، والابتكار الرقمي، مما يُزعزع التفوق التاريخي للولايات المتحدة في هذه الميادين، وهذا يشكل خطرًا كبيرًا على الهيمنة الغربية الأميركية على العالم ككل، وليس فقط على المجالات الاقتصادية أو التقنية المحددة. وهي لا تستنزف نفسها في الحروب والصراعات العسكرية المباشرة. بدلاً من ذلك، تُراكم قوتها بهدوء عبر النمو الاقتصادي، ومبادرات مثل "الحزام والطريق"، وبناء شبكة واسعة من الشراكات العالمية التي تمتد إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية، مؤسسة بذلك لنظام عالمي موازٍ ونفوذ متنامٍ. تايوان: ورقة إستراتيجية أميركية في صراع الهيمنة عندما اعترفت الولايات المتحدة بجمهورية الصين الشعبية في عام 1979، لم تتخل واشنطن عن تايوان بشكل كامل، رغم التخلي عن الاعتراف الدبلوماسي الرسمي بجمهورية الصين في تايوان. على العكس، فقد أسس "قانون العلاقات مع تايوان" أرضية لعلاقات غير رسمية قوية، ودعمًا دفاعيًّا مستمرًّا لتايوان. هذا القرار، الذي جاء في سياق الحرب الباردة، كان يهدف في المقام الأول إلى استغلال الانقسام الصيني-السوفيتي والتقارب مع الصين لمواجهة الاتحاد السوفيتي. لكن في الوقت نفسه، احتفظت الولايات المتحدة بـ"ورقة تايوان" لخدمة أهداف إستراتيجية مستقبلية. تُدرك واشنطن جيدًا حجم الإمكانات التي تتمتع بها الصين كقوة صاعدة في منطقة حيوية للمصالح الأميركية. هنا، نجد أنفسنا أمام وضع يمكن مقارنته- من حيث المبدأ على الأقل -بوضع إسرائيل في الشرق الأوسط؛ فتايوان- التي تتمتع بنظام يشبه الغرب- تشعر بتهديد مستمر من الصين، وهذا يضعها كـ"ورقة ضغط" أو "كرت إستراتيجي حيوي" بيد الولايات المتحدة. تسمح هذه الورقة لواشنطن بالحفاظ على نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وردع أي عدوان صيني محتمل، والتأثير على سلوك بكين في قضايا أوسع. كما أنها تمثل نقطة استنزاف محتملة للصين، وبؤرة صراع يمكن جر الجانب الصيني إليها إذا دعت الضرورة؛ فالصين- لا محالة- سوف ترغب في التخلص من "عار" وجود كيان يدعي الاستقلال عن أراضيها. وعند حدوث ذلك، يمكن أن تتحول تايوان إلى "أوكرانيا أخرى"، مما يعني أن معركة تايوان هي معركة مؤجلة يحشد لها الطرفان. حسابات المعركة الكبرى وتغيير شكل العالم بما أن الصين تمثل المنافس الحقيقي والأكثر جدية في الصراع العالمي على الهيمنة، فإن الولايات المتحدة تسعى على الأرجح إلى حسم الصراعات في مناطق أخرى قبل خوض هذه المعركة الكبرى في تايوان. إن المواجهة الشاملة في تايوان- لا محالة- ستغير شكل العالم كله، وهذا ما يدفع الولايات المتحدة إلى إدارة التوترات بحذر، مع الإبقاء على تايوان كأداة إستراتيجية في حرب النفوذ الدائرة. أيمثل ترامب خاتمة مرحلة تآكل النفوذ الأميركي، أم إنه تعبير عن محاولة شرسة -وربما يائسة- لإعادة تأكيد الهيمنة في زمن تتغيّر فيه موازين القوة؟ ترامب: رجل المرحلة؟ لا يُخفي دونالد ترامب إعجابه بشخصيات قوية ذات طابع دكتاتوري، لأنه يريد أن يصدّر فكرة أن استعادة مجد أميركا تتطلب وجود قائد قوي يتمتع بصلاحيات واسعة، وغير مقيد ببيروقراطية الديمقراطية. إنه يطرح نفسه كمخلّص مقابل أن يقدّم له الجميع التنازلات، ويخوض حربًا مفتوحة ضد الليبراليين، مستندًا إلى قاعدته المحافظة داخل أمريكا. هذه القاعدة ترى في الليبراليين تهديدًا ثقافيًّا حقيقيًّا، خاصة في قضايا مثل زواج المثليين والجندر، وهو ما يجعلهم خصمًا سهلًا أمام ترامب يمكن مهاجمتهم بالتعميم. بهذا الخطاب، يعزز صورته كقائد منضبط يريد فرض النظام داخليًّا وإعادة الهيبة خارجيًّا. خارجيًّا، يرى ترامب أن هذه التهديدات تتطلب ردًّا حازمًا، قائمًا على استخدام القوة العسكرية عند الضرورة، والإرهاب النفسي قدر الإمكان، والتدخل الذكي بتكلفة منخفضة. كل ذلك يجب أن يتم مع تعبئة الحلفاء للمشاركة في المعركة، واستغلال قوة الداخل الأميركي لتحقيق النهوض الصناعي والاقتصادي. لكن هذه الرؤية تتطلب حسمًا داخليًّا أيضًا في مواجهة الديمقراطيين ووسائل الإعلام والمؤسسات العميقة؛ وهذه معركة لا تقل شراسة عن المعركة الجيوسياسية، وقد تكون نقطة ضعفه الكبرى. فالحشد الداخلي يتطلب استقطابًا عنيفًا، وتحميل بعض الطبقات عبء التحول، وهو ما يولّد مقاومة قد تستغلها المعارضة. ويبقى السؤال: أيمثل ترامب خاتمة مرحلة تآكل النفوذ الأميركي، أم إنه تعبير عن محاولة شرسة -وربما يائسة- لإعادة تأكيد الهيمنة في زمن تتغيّر فيه موازين القوة؟ مثل ترامب، بسياساته الحادة وخطابه الصدامي، محاولة لإعادة تعريف الهيمنة الأميركية عبر الواقعية القومية، وتقليص أعباء التحالفات القديمة، والتركيز على الداخل الأميركي كبوابة لاستعادة المجد إن دونالد ترامب ليس مجرد رئيس مثير للجدل، بل هو انعكاس حاد لتحولات أعمق تشهدها الولايات المتحدة والعالم من حولها؛ فظهوره السياسي، وعودته إلى الحكم، لا يمكن قراءتهما بمعزل عن السياقات الدولية المعقدة، التي تواجه فيها واشنطن تحديات داخلية وخارجية، تهدد بإعادة تشكيل ملامح النظام العالمي الذي قادته منذ الحرب العالمية الثانية. إن ما نراه من انقسام داخلي أميركي حاد، وصراعات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، ليس سوى أحد أوجه أزمة القيادة والنموذج، في وقت باتت فيه قوى دولية كالصين وروسيا، ودول إقليمية صاعدة في الشرق الأوسط وآسيا، تسعى لانتزاع موقع في منظومة النفوذ العالمي، عبر أدوات سياسية واقتصادية وتكنولوجية وإستراتيجية متجددة. لقد مثل ترامب، بسياساته الحادة وخطابه الصدامي، محاولة لإعادة تعريف الهيمنة الأميركية عبر الواقعية القومية، وتقليص أعباء التحالفات القديمة، والتركيز على الداخل الأميركي كبوابة لاستعادة المجد. وهو في ذلك لا يواجه فقط القوى الخارجية الصاعدة، بل يخوض صراعًا داخليًّا شرسًا مع مؤسسات، وأفكار، وتيارات، ترى مستقبلًا مختلفًا لأميركا. يظهر أن معركة ترامب ليست فقط حول رئاسة أو حزب، بل حول هوية دولة ودور عالمي.. إننا أمام مفترق طرق تاريخي: إما أن تكون هذه اللحظة بداية نهاية الحقبة الأميركية بصورتها القديمة، أو بداية إعادة تموضع عنيف تحاول فيه واشنطن، عبر شخصية ترامب أو غيره، إعادة رسم قواعد اللعبة الدولية على أسس جديدة أكثر قسوة وأقل تسامحًا. أفتكون رئاسته رقصة النهاية لإمبراطورية آيلة للسقوط، أم بداية لحقبة جديدة من السيطرة، بأدوات أكثر خشونة وأقل نفاقًا؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store