
الدعم السريع في الرمق الأخير
وقد أتبعت مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي القول بالفعل، عندما رفضت قيادة الجيش والقوى المدنية المناوئة للمليشيا التوقيع على الاتفاق الإطاري، فنفذت وعيدها وتهديدها بالحرب فجر الخامس عشر من شهر أبريل/ نيسان 2023، حيث هاجمت المليشيا مقرات القيادة العامة للجيش مستهدفة بشكل أساسي مقر قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لاعتقاله أو قتله حسب ما صرح به في ذلك الوقت قائد مليشيا الدعم السريع حميدتي.
ولم يعد خافيا بعد دخول الحرب عامها الثالث في أبريل/ نيسان الماضي أنها كانت محاولة انقلابية من قبل مليشيا الدعم السريع للاستيلاء على السلطة بقوة السلاح، ومن ثم تطبيق مشروع سياسي متعدد الأبعاد يتضمن مشاريع سياسية فرعية ترمي إلى تحقيق عدة أهداف أبرزها، إجراء تغيير ديمغرافي شامل في السودان، بإزاحة المكونات الإثنية التاريخية الأصيلة، وإحلال مكونات إثنية بديلة من خارج الحدود الجغرافية للسودان، هي في حقيقة الأمر امتداد للمكونات الإثنية الداخلية التي تشكل لحمة وقوام مليشيا الدعم السريع، ومن ثم إخضاع الدولة السودانية كلها لهيمنة وسيطرة هذه المكونات.
هدف آخر أكثر أهمية ويمثل مرتكزا أساسيا لمشروع مليشيا الدعم السريع لحكم السودان وهو هدف اقتصادي يتمثل في السيطرة على الموارد الطبيعية المعدنية والزراعية والحيوانية التي يزخر بها السودان، بالإضافة إلى المنفذ البحري المميز على البحر الأحمر الذي يمتد على حوالي 750 كيلو مترا في موقع إستراتيجي جيوسياسي شديد الأهمية إقليميا ودوليا.
حيث يشكل هذا الموقع أهمية خاصة في أجندة القوى الإقليمية الداعمة للمليشيا ولمشروعها السياسي، بما يمكن وصفه أنه أحد أهم أطماع هذه القوى في السودان.
وهدف ثالث ذو طبيعة مزدوجة، فهو هدف وفي نفس الوقت وسيلة توطد بها مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي أركان ودعائم مشروعها لحكم السودان، وهو السيطرة على طرق ومنافذ الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وتجارة البشر والتهريب بكافة أنواعه.
فهذه السيطرة تعتبر هدفا يمكنها من السيطرة على الحدود، ووسيلة في نفس الوقت لتمتين العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي التي تمثل الهجرة غير الشرعية لها واحدة من أمهات قضايا أمنها القومي.
وتمتين علاقات التعاون في هذا المجال مع الاتحاد الأوروبي، يوفر شرعية للدولة الجديدة واعترافا بها، وبالتالي يمحو إلى حد كبير تلك المآخذ والآثار السالبة التي رانت على العلاقة بين الجانبين؛ بسبب الجرائم التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في وقت سابق في دارفور قبل أكثر من عقدين من الزمان.
كانت هذه هي أهم معالم وأهداف وملامح مشروع دولة آل دقلو لحكم السودان، حيث رجحت أنها يمكن إقامتها عن طريق الحرب وقوة السلاح.
لكن، وكما تابع العالم كله، فقد فشلت مليشيا الدعم السريع في الوصول إلى الحكم عن طريق القوة العسكرية، حيث أعدت له العدة والعتاد اللازمين، وخططت لذلك بطريقة محكمة، لكن رغم ذلك كان الفشل هو الحصاد، والنتيجة التي أصبحت واقعا ملموسا لا يحتمل الإنكار.
فبعد أن كانت المليشيا تسيطر على العاصمة الخرطوم وولايات الجزيرة وأجزاء واسعة من ولايات سنار والنيل الأبيض واقتربت من حدود ولاية القضارف بشرق السودان وتخوم ولايتي نهر النيل والشمالية بشمال السودان، تراجعت بفعل الحملات العسكرية المتتابعة التي شنها عليها الجيش السوداني والقوات المساندة له والمقاومة الشعبية، حيث استطاعت هذه القوات تحرير كل تلك المناطق المذكورة، واضطرت مليشيا الدعم السريع إلى الهروب إلى دارفور وغرب كردفان.
وفي خضم هذه الحملات التي يشنها الجيش فقدت المليشيا الكثير من قواتها وعتادها وتعرضت لهزائم كبيرة، وانكسرت قوتها الصلبة المتمثلة في القوة المحترفة والمدربة، ولجأت لتعويض هذا الفقد بالاستعانة بمقاتلين مرتزقة من عدد من الدول المجاورة وغير المجاورة، وكذلك لجأت المليشيا إلى التجنيد القسري للأطفال والشباب في وقت وجيز والدفع بهم إلى أتون المعارك.
ونتيجة لذلك ولأسباب أخرى تتعلق بخلافات حول المستحقات المالية، للجنود والضباط، وشح الموارد المالية للمليشيا، وغياب الرعاية الطبية والعلاجية للجرحى والمصابين والتمييز فيها بين المكونات المختلفة للمليشيا، والتعامل الفظ الذي تنتهجه المليشيا إزاء المواطنين في المناطق التي تسيطر عليها، والحصار الذي تفرضه على الفاشر، وهجماتها المتكررة على مخيمات النازحين، وقصف الأحياء والقرى في شمال دارفور، ورفضها التعاون مع المنظمات الإنسانية الدولية؛ لفتح مسارات لإيصال المساعدات والأغذية للمدنيين المحاصرين، تصاعدت أصوات السخط والاحتجاج من داخل هذه المكونات، وبالتالي أصبحت المليشيا عبئا ثقيلا ومصدرا للمعاناة لمواطني وأهالي دارفور.
وأمام هذا الواقع المأزوم، مضافا إليه التجهيزات الضخمة للجيش والقوات المساندة له لمعركة فك الحصار عن الفاشر، وتحرير بقية مدن دارفور والتي يعتبرها الجيش (أم المعارك)، وخاتمة حملاته العسكرية الناجحة ضد المليشيا، فقد جعل هذا الوضع مليشيا الدعم السريع على المحك، وأمام خيارات صعبة للغاية عليها الاختيار من بينها في نطاق زمني ضيق.
فإما أن تصمد وتخوض المعركة ببقايا قوات فارة من ميادين القتال وقابعة في آخر معاقلها، ومثخنة بالجراح والهزائم والخلافات وبمعنويات متدنية، في مواجهة قوات مجهزة بصورة احترافية، وأعدت للمعركة عدتها وعتادها بكافة التشكيلات العسكرية بما فيها الطيران، وبالتالي فالنتيجة الراجحة هي الخسارة والهزيمة، وهذا هو الخيار الأول، وهو خيار يتسم بالمغامرة غير المحسوبة، بل هو خيار انتحاري.
والخيار الثاني أمام مليشيا الدعم السريع، هو الاستسلام حفاظا على ما تبقى من قواتها وتفاديا لمصير قاتم محتوم، غير أن هذا الخيار يضع النهاية لها ويقضي على مستقبلها ويضعها تحت طائلة القانون الداخلي والدولي؛ بسبب جرائمها وانتهاكاتها طوال فترة الحرب.
والخيار الثالث ذو طبيعة سياسية، وهو خيار لا يقل صعوبة ومرارة عن سابقيه، رغم كونه يمثل مخرجا نظريا للمليشيا من مأزقها ووضعها المأزوم، إلا أنه في جوهره يلامس المستحيل، لكنه يظل نافذة الأمل الوحيدة، ونقطة الضوء الخافتة التي تُرى بالكاد في نهاية نفق أزمة المليشيا، وهو خيار عقد تحالف مع خصومها من القوى الدارفورية التي تناصبها العداء تاريخيا والتي تقاتل ضدها في صف الجيش.
وهو خيار تحفه عقبات كبيرة وكثيرة وشائكة، فالجرائم البشعة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في حق هذه القوى وحواضنها المجتمعية والأهلية لا يمكن غفرانها وتناسيها بسهولة، ذلك أن القبول بمثل هذا الخيار من قبل هذه القوى يمثل خسارة كبيرة واستسلاما غير مبرر وهي في أوج قوتها، وعلى مقربة من تحقيق نصر كبير على خصم يعيش أضعف حالاته، وعلى مرمى حجر من هزيمة محققة.
غير أن هذا الخيار الأخير هو الآن في موضع بحث ونظر لدى جهات إقليمية ساندت مليشيا الدعم السريع، وأخرى دولية، لا تريد للجيش السوداني أن ينهي الحرب لصالحه بنصر مشهود وأداء احترافي كان محل ثناء الرئيس ترامب نفسه، فالقوى الإقليمية المساندة للمليشيا ترى في انتصار الجيش على هذا النحو هزيمة لها، ونهاية لأطماعها في السودان، وخروجها من المعادلة كلية.
ومن ناحية أخرى، فإن القوى الدولية وتحديدا القوى الغربية، ورغم أنها حليفة للقوى الإقليمية المنحازة للمليشيا ولديها مصالح مشتركة معها، إلا أنها تقع تحت وطأة ضغوط أخلاقية وإنسانية، وأيديولوجية والتزامات سياسية تتعلق بإستراتيجياتها ومصالحها المرتبطة بالأمن في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، تجعلها غير راغبة في مسايرة حلفائها الإقليميين، والتوغل معهم داخل نفق الأزمة السودانية إلى ما لا نهاية.
أضف إلى ذلك أن السياسة الغربية تجاه المنطقة العربية ظلت وما تزال تقوم على دعم ومساندة وتمكين ما تعتبرهم أقليات مستضعفة داخل دول هذه المنطقة، وأنه من مسلمات هذه السياسة الغربية في حالة وجود نزاع داخلي في هذه الدول، مناصرة الطرف الذي يمثل بنظرها أقلية، ويأتي هذا تقوية لدعائم ما يعتبرونه حفظا لأمنهم القومي في إطاره الشامل.
وبالنظر إلى هذه الحقيقة المعلومة وإذا أنزلناها على الوضع في السودان بصورة عامة، ودارفور بصورة خاصة، نجد أنه من المرجح أن تميل القوى الغربية لترجيح كفة من تعتبرهم أقليات يتوجب عليها نصرتهم ومساندتهم.
وبناء على ما تقدم من حيثيات وفرضيات، مضافا إليها الفشل العسكري للمليشيا على الأرض وهزائمها المتكررة، والفشل السياسي للجناح السياسي لها المسمى حاليا تحالف "صمود"، وآخرها عجزها عن استقطاب الاعتراف والدعم الدولي والإقليمي لحكومتها الموازية التي أعلنت عنها مؤخرا، فإن مصير مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي سيكون إلى فناء وتلاشٍ في الأجل القريب.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الأمم المتحدة تحذر من كارثة إنسانية في أوغندا بسبب نقص التمويل للاجئين
حذّرت وكالة تابعة للأمم المتحدة من خطورة نقص التمويل لمساعدة مئات الآلاف من اللاجئين في أوغندا ، مؤكدة أنه سينفد في الشهر المقبل ما لم يتم تدخل عاجل وتقديم المزيد من الدعم. وقالت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن أزمة التمويل تهدّد المشاريع والبرامج المخصصة لمساعدة الأشخاص الفارين من مناطق الصراع، بما في ذلك السودان، وجنوب السودان، وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وفي السياق، قال مدير العلاقات الخارجية في المفوضية دومنيك هايد إن التمويل الطارئ سينفد في سبتمبر/أيلول القادم، الأمر الذي سيؤدي إلى موت المزيد من الأطفال بسبب سوء التغذية. وأضاف دومنيك أن هذا الوضعية ستجعل المزيد من الفتيات ضحية للعنف الجنسي، كما ستجعل الأسر والعائلات من دون مأوى أو حماية إذا لم يتحرك العالم بسرعة من أجل الإنقاذ. وتواجه مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وغيرها من الوكالات الأممية المعنية بالإغاثة والشؤون الإنسانية واحدة من أسوأ الأزمات التمويل منذ عقود، نتيجة لقرار الولايات المتحدة ، ودول مانحة أخرى، خفض التمويلات المخصصة للمساعدات الخارجية. وحسب الأرقام الصادرة من مفوضية الأمم المتحدة، فإن أوغندا تستضيف حاليا 1.93 مليون لاجئ، أكثر من مليون منهم دون سن الـ18. ووفقا للإحصائيات ذاتها فإن هذا الرقم يعدّ الأكبر في أفريقيا ، ويتوقع أن يرتفع في نهاية العام إلى مليوني لاجئ. وأشارت المفوضية إلى أنها لن تتمكن من تغطية سوى ثلث التكاليف المتعلقة باللاجئين السودانيين في أوغندا، وأنها ستضطر إلى تقليص الدعم الشهري من 16 دولارا إلى 5 دولارات ما لم يتم العثور على تمويل جديد.


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
أكثر من 600 صحفي ومراسل حربي يطالبون بدخول الإعلام العالمي غزة
طالب أكثر من 600 صحفي ومراسل حربي بالسماح للصحافة الأجنبية بالدخول الفوري -ومن دون قيود- إلى قطاع غزة. ووقع الصحفيون على عريضة مفتوحة ضمن مبادرة " حرية التغطية" التي أطلقها أندريه ليوهن المصور الحربي الحائز على جوائز عالمية. وقام مجموعة من كبار الصحفيين في جميع أنحاء العالم بصياغة هذه الوثيقة، من بينهم المذيعة الأميركية في شبكة "سي إن إن" كريستيان أمانبور، والصحفية ليندسي هيلسوم، والكاتب ومقدم البرامج أندرسون كوبر، والصحفية كلاريسا وارد، والصحفية البريطانية في "سكاي نيوز" أليكس كروفورد، والصحفي البريطاني كريشنان غورو مورثي، والكاتب في صحيفة غارديان مهدي حسن، والمصور الحربي الشهير دون ماكولين. واعتبرت العريضة -التي وقعها في البداية 100 صحفي ومراسل حربي- أن ما يجري في قطاع غزة يعدّ حدثا طارئا على نحو غير مسبوق، فقد قُتل أكثر من 60 ألف شخص، معظمهم من المدنيين، مؤكدة أن الصحفيين الأجانب ما زالوا ممنوعين تماما من دخول غزة بسبب القيود التي تفرضها إسرائيل. وتساءل الصحفيون في العريضة التي انضم إليها لاحقا أكثر من 500 صحفي "لماذا لا تريد إسرائيل أن يغطي الصحفيون الأجانب ما يحدث في غزة؟" معتبرة أن ذلك يشكل أسوأ حجب إعلامي في الصراعات الحديثة، كما يشكل سابقة عالمية خطيرة. أشادت العريضة بالشجاعة الاستثنائية للصحفيين الفلسطينيين الذين يغطون الأحداث تحت الحصار، مشددة على أن وصول الصحفيين الدوليين يعد أمرا بالغ الأهمية لتقديم تغطية كاملة ومستقلة للحرب، ودعم الصحفيين الذين يخاطرون بكل شيء لتغطية الأحداث من الداخل بواسطة مذكرة حرية التغطية وأشادت العريضة بالشجاعة الاستثنائية للصحفيين الفلسطينيين الذين يغطون الأحداث تحت الحصار، مشددة على أن وصول الصحفيين الدوليين يعد أمرا بالغ الأهمية لتقديم تغطية كاملة ومستقلة للحرب، ودعم الصحفيين الذين يخاطرون بكل شيء لتغطية الأحداث من الداخل. وطالب الصحفيون المشاركون في المبادرة باحترام الوضع المحمي للصحفيين بموجب القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف ، كما أشاروا إلى أن ما يحدث في غزة يكشف عن أزمة أوسع نطاقا تتمثل بتآكل حرية الصحافة كركيزة للديمقراطية. وأشار الصحفيون إلى أن الأشخاص الأكثر تضررا ليسوا فقط ملايين المدنيين في غزة الذين يعانون من حرب خارج نطاق الرقابة العامة، بل أيضا المواطنون في جميع أنحاء العالم الذين يُحرمون من حقهم في الحصول على معلومات حرة ومستقلة. وحذروا -من خلال عريضتهم- من أن استمرار ما وصفوه بالتعتيم الإعلامي سيشكل سابقة خطيرة تؤكد أن الحكومات والجهات العسكرية، من خلال الرقابة والعرقلة والقوة، يمكنها منع الوصول إلى الحقيقة أوقات الحرب. وأضافوا "هذا هو بالضبط أسلوب الاستبداد: السيطرة على الرواية، وإسكات الأصوات المستقلة، وقطع الصلة بين الواقع وفهم الجمهور".


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
طلحة جبريل.. سوداني ترأس 5 صحف مغربية وحاور 29 رئيسا
هناك، حيث ألواح الخشب وزوايا ورش النجارة الصغيرة في ضواحي مدينة مروي (وسط السودان)، نشأ الطفل طلحة جبريل في بيئة لم تمنحه الكثير من التقدير الاجتماعي الذي يصبو إليه، فركب أول عربة رحيل في قطار الابتعاث، ولم يحمل معه إلا حنين الهوية وروحا قلقة، ليختار المغرب ويضرب حول نفسه سياجا ممتدا من الاغتراب الاختياري. وفي المغرب، فتح القدر بوابات ما كان يحلم بها ذلك الغريب، فوجد الكاتب وأستاذ الصحافة الاستقصائية في أرضها تجربة إنسانية ومهنية مثمرة امتدت عقودا، فصار فيها من صناع الكلمة ورجال الرأي، وأصبح رئيس تحرير لـ5 صحف مغربية، وأجرى مقابلات مع 29 رئيس دولة وملكا، وكان له نصيب من الثقة الملكية في المغرب حتى عهد إليه الملك الراحل بمراجعة وطباعة مذكراته "ذاكرة ملك". وفي مقابلة مع الجزيرة نت، ظل الأكاديمي السوداني يتنقل بين عربات قطار سافر فيه إلى قارات العالم، واحتكّ فيه بنجوم الصحافة العربية، فبيّن حقيقة لقائه الوحيد مع محمد حسنين هيكل في لندن، ووجه نقدا للإعلام العربي، خاصة في ما يتعلق بتغطية العدوان الإسرائيلي على غزة. ولد طلحة جبريل ونشأ في مدينة مروي، حيث عاش ظروفا متعبة لم تمنحه الكثير من التقدير الاجتماعي، وعُرف وسط مجتمعه بمهنة النجارة، متطلعا إلى مكانة أكبر في بيئة تفرز وتقيم أفرادها بمهنتهم، وكان عليه أن يقطع المسافات فجرا وصولا إلى ورشة العمل. وعلى هامش هذا الكدح، استطاع أن ينجح في امتحان الثانوية السودانية من المنازل، مؤهلا نفسه لدخول الجامعة. وخلال فترة حكم الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري (1930 – 2009) واتته فرصة الدراسة بالخارج. وفتح القدر بابا لم يكن يحلم به طلحة جبريل، حين عُرضت عليه فرصة الابتعاث للدراسة خارج السودان، فاختار المغرب بدافع الرغبة في الوصول إلى أبعد نقطة جغرافية ممكنة، فكان أن اختار هذه البقعة. لماذا المغرب؟ في المغرب، بدأت حكاية التحول الكبرى، ولم يكن في نية جبريل أن ينخرط في الصحافة عندما كان يدرس في الجامعة تخصص الفلسفة، لكن الأقدار دفعته إلى هذا المسار، فعمل بداية مترجما في الصحافة، وسرعان ما تحول إلى أحد محرري صحيفة الشرق الأوسط. إعلان وبدأت الأبواب تُفتح أمامه خلال فترة قصيرة، حتى صار مدير مكتب الصحيفة في المغرب عام 1983 بعد عامين فقط من دخوله الميدان الصحفي، وسرعان ما أصبح رئيس تحرير لعدد من الصحف المغربية المرموقة. ويذكر جبريل أنه تولى منصب رئاسة التحرير في 5 صحف بالمغرب، 3 منها (الصباح، والجمهور، والعاصمة بوست) قام بالإشراف على تأسيسها، وبعضها لا يزال يصدر بعد نحو ربع قرن. وخلال حديثه مع الجزيرة نت، استفاض أستاذ الإعلام في الحديث عن سجايا أهل المغرب، فعبر سنين من عمره قضاها بينهم فإنه لم يواجه قط موقفا عنصريا أو انتقاصا نتيجة كونه سودانيا غريبا يعيش بينهم ويترأس مؤسساتهم، ويتقدمهم في المجالس أيضا. فالبيئة المغربية رحبت به واحتضنته، حتى كأن المجتمع تبناه ابنا له، وأصبح له أبناء مغاربة بحكم زواجه من مغربية. ومع ذلك يؤكد أنه ما زال يحمل جواز سفره السوداني وحده، فالجواز بالنسبة له "هوية لا يمكن المساومة عليها، والوطن حتى وإن قسا فإنه لا يُخون". والمغرب "كان بلده الذي يحنو عليه ويمنحه شعور الانتماء والنجاح". العلاقة مع ملك المغرب تمثل علاقة طلحة جبريل بالملك الحسن الثاني منعطفا خاصا في مسيرته المهنية وحياة عامة، فالحكاية بدأت بلقاء صحفي في يناير/كانون الثاني 1985، حين نال فرصة إجراء حوار مع الملك بناء على طلب منه شخصيا. وتطورت العلاقة لاحقا إلى ثقة متبادلة منحته امتيازات مهنية، لا سيما حضوره المتكرر للندوات الصحفية ومنحه فرصة دائمة بإلقاء السؤال الأول الموجّه للملك. هذه الثقة أخذت بعدا أكثر تقدما عندما كلّفه الملك بمراجعة النسخة العربية لمذكراته "ذاكرة ملك"، كما أنه أشرف بنفسه على طباعة الكتاب خارج المغرب. وهذه المهمة ربطته أكثر بالحلقات العليا في الدولة ودوائرها، لكنه بقي متمسكا بصفته المهنية بوصفه صحفيا مستقلا، حسب تعبيره. حقيقة اللقاء مع هيكل من المحطات اللافتة في مسيرة طلحة جبريل، ذلك اللقاء الذي جمعه مع الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في لندن، والذي راجت حوله إشاعات عدة بأنه لم يتعد دقيقة واحدة، وأن الهدف منه كان مناقشة بعض النقاط المتعلقة بسيرة ملك المغرب الراحل. لكن طلحة جبريل نفسه ينفي هذه الإشاعات في حديثه للجزيرة نت، ويقول إن اللقاء دام أكثر من نصف ساعة، وتناقش مع هيكل تفاصيل وردت في مذكرات الملك الحسن الثاني التي أشرف جبريل على تحريرها بالعربية. وبيّن جبريل أن محمد حسنين هيكل كعادته في تقصي الحقائق والوقائع كان يتساءل عن جوانب مما ورد في كتاب "ذاكرة ملك"، وهو ما انعكس لاحقا في مقالات هيكل عن المغرب. ومع ذلك، أشار الصحفي السوداني إلى أنه لاحظ على هيكل أنه يتمتع بقدرة فائقة على تذكر الوقائع، ويلح كثيرا في طرح الأسئلة التي يريد أجوبة عنها، ويجيد الإصغاء جدا لدرجة أنه لم يدون حرفا طوال لقائه مع جبريل. الحرب على غزة محطة مهمة توقف عندها طلحة جبريل تتعلق بدور الإعلام العربي في تغطية الحرب على غزة، فقد استطاع هذه المرة أن يتخذ مسارا مختلفا، وللمرة الأولى تمكن من أن يفرض حقيقة مغايرة للسردية الإسرائيلية الطاغية في الإعلام الدولي على مدى عقود، حسب ما قاله. وذهب إلى أن طبيعة التغطية الميدانية أو التضحيات الجسام التي قدمها الصحفيون العرب في الميدان تمثل علامات فارقة أبرزت حجم الاهتمام والالتزام بالقضية الفلسطينية. ويعود أستاذ الإعلام إلى المغرب ليضرب مثلا بما شهده من تعبئة شعبية وإعلامية استثنائية، مثل المسيرات الحاشدة وقصص التضامن، التي غذّاها الإعلام بجرعات حقيقية مكثفة جعلت تفاعل الناس أكبر وأكثر صدقا. ورغم هيمنة أجندات القوى الكبرى عالميا، فإن جبريل يعتقد أن السردية الفلسطينية وجدت لنفسها مكانا وحضورا قويين في إعلام المنطقة بفضل هذا العمل الميداني، وعدد الشهداء من الصحفيين الذين ارتقوا أثناء ممارسة عملهم الصحفي في الميدان. واقع الإعلام العربي ورغم نظرة الإجلال التي يحملها جبريل لدور الإعلام العربي في مناصرة القضية الفلسطينية ومواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة، فإنه في الوقت نفسه ينظر بواقعية ناقدة إلى حال الإعلام العربي اليوم، ويرى أنه بات في معظمه يسعى وراء تشوهات المجتمع وأخبار الإثارة والغريب من القصص، متأثرا بسطوة الشبكات الاجتماعية التي أفرزت مفهوم "المواطن الصحفي"، على حساب الصحافة المهنية القائمة على البحث والتحقق. وبوصفه أستاذا جامعيا في الأجناس الصحفية، فإنه يؤكد أن الصحافة الاستقصائية عادت بقوة في الغرب بعد تراجع مؤقت، إذ ظهرت الحاجة مجددا إلى المهنية والبحث عن الحقيقة، عكس ما حدث عند بروز شبكات التواصل التي بدت كأنها ستنهي دور الصحافة التقليدية. ويضرب جبريل مثالا على ذلك بالحالة السودانية، إذ ينتقد جبريل انصراف الإعلام العربي عن تغطية الأزمات بعمق، ويأسف لضياع الصوت الحر الميداني لصالح التغطيات السطحية أو الآراء الجاهزة. وينادي طلحة جبريل بضرورة أن تظل الصحافة باحثة عن الحقيقة، وأن الصحفي لا يملك الحقيقة لكنه يقترب منها كلما التزم بالقيم والأخلاق، ولو خسر مناصب أو امتيازات نتيجة ذلك، مبينا أن الكتابة الميدانية هي التعبير الأصدق عن الحقائق، "فالصحفي يجب أن يكون هناك ليكتب عن هناك". إن مسيرة طلحة جبريل ليست فريدة في تفاصيلها، لكنها تتشابك مع العديد من القصص المهنية وتتشابه معها، وتلخص رحلة صعود الإنسان من هامش الحياة إلى قلب صناعة القرار الصحفي العربي، وتمثل مسيرة قلم ظل وفيا للأمانة وهوية وطنه، رافضا أن تكون النجاحات المهنية سببا في التخلي عن جذوره، أو التنازل عن قيم الصحافة الأخلاقية التي جعلت منه شاهدا حيّا على عصر التحولات والاختبارات الكبرى في المهنة وفي قضايا الأمة.