
ما الذي يقلق ترمب من تمدد وتنامي دول "بريكس"؟
في مرمى نيران ترمب
بينما يشن الرئيس الأميركي دونالد ترمب حرباً تجارية حول العالم، دخل هدف جديد خلال الأيام القليلة الماضية في مرمى نيرانه، وهو مجموعة "بريكس" للاقتصادات الناشئة الكبرى، إذ كتب ترمب على مواقع التواصل الاجتماعي خلال اجتماع قادة المجموعة في قمة سنوية عقدت في ريو دي جانيرو "أي دولة تتبنى سياسات 'بريكس' المعادية لأميركا ستواجه هذه الرسوم من دون استثناءات". وبعد أيام ذهب إلى أبعد من ذلك، ملمحاً إلى رغبته بتفكيك المجموعة، قائلاً "إذا كانوا أعضاء في 'بريكس'، فسيتعين عليهم دفع رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة، ولن يستمروا في العضوية طويلاً".
وفي حين لم يكشف ترمب سوى عن سبب واحد يتعلق بالدولار الأميركي وراء تهديده لدول المجموعة، إلا أن التصعيد يتزامن مع تمدد "بريكس" وزيادة حصتها من الاقتصاد العالمي والذي بلغ أكثر من ثلث الناتج القومي الإجمالي لدول العالم، بعدما وسعت المجموعة العام الماضي الدول الأعضاء التي أسستها، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، لتشمل مصر والإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا وإيران وإثيوبيا، بينما تنتظر دول أخرى الانضمام، مما يمثل رداً من دول الجنوب العالمي على مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى ذات الاقتصادات المتقدمة بقيادة الولايات المتحدة.
يرى خبراء اقتصاديون أن "بريكس" تضم دولاً متباينة سياسياً وأيديولوجياً بحيث يصعب أن تكون فعالة (أ ف ب)
مخاوف إضعاف الدولار
على رغم أن عدداً من الخبراء الاقتصاديين قللوا من المخاوف المتعلقة بتكتل مجموعة "بريكس" على الدول الصناعية الكبرى، على اعتبار أنها تضم دولاً متباينة سياسياً وأيديولوجياً للغاية بحيث يصعب أن تكون فعالة، إلا أن ما يقلق ترمب تحديداً، وهو ينظر إلى المجموعة بحذر، مجال واحد يراه تهديداً ملحاً وهو وضع الدولار الأميركي كعملة احتياط دولية وعملة التبادل التجاري والمصرفي الأساس حول العالم. فقد أعلن خلال اجتماع لحكومته الثلاثاء الماضي أن مجموعة بريكس أنشئت لإيذاء الولايات المتحدة عبر إضعاف الدولار وسحبه كمعيار دولي.
مخاوف ترمب حيال العملة الأميركية الخضراء لم تكن الأولى من نوعها، فخلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2024، هدد ترمب بصفته رئيساً منتخباً بفرض رسوم جمركية بنسبة 100 في المئة على دول "بريكس" إذا استمرت في إنشاء عملة جديدة لها، أو دعم أية عملة أخرى لتحل محل الدولار الأميركي القوي، ثم كرر تهديده لدول "بريكس" التي عدها "معادية" خلال وقت سابق من هذا العام، وهو ما يعكس القلق الأميركي المتصاعد من مقترح الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا عام 2023 المتمثل في إنشاء عملة "بريكس"، على رغم أن هذا الاقتراح تبين لاحقاً أنه معقد لدرجة أنه قد يكون من المستحيل تنفيذه عملياً، ولهذا لم يكن محور اهتمام المجموعة خلال العامين الماضيين.
بديل العملة الأميركية
مع ذلك، تبدي دول "بريكس" اهتماماً بتوسيع نطاق التجارة بعملاتها الوطنية بدلاً من الاعتماد على الدولار الأميركي، وهو هدف يمكن في حال نجاحه أن يقلل من اعتماد جزء كبير من الاقتصاد العالمي على الدولار، وبخاصة أن بعض التقديرات تشير إلى أن دول "بريكس" تمثل أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي بناءً على القوة الشرائية، بينما حافظ الدولار على مكانته العالمية كشريان حياة للتمويل العالمي من خلال حجم الاقتصاد الأميركي واستقرار العملة الأميركية.
لكن هذا الواقع يتغير بسرعة، فوفقاً لموقع "ستاتستا" الإحصائي الأميركي من المتوقع أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للصين نظيره الأميركي بحلول نهاية العقد الحالي، ليصبح أكبر اقتصاد في العالم، بينما يقدر بعض أيضاً أن تتجاوز الهند الولايات المتحدة بحلول منتصف القرن.
وإضافة إلى ذلك تعد مجموعة "بريكس" أكثر من مجرد تكتل اقتصادي أو تجاري، فقد أنشئ بنك التنمية الجديد التابع لها عام 2014 للاستثمار في البنية التحتية المستدامة والطاقة المتجددة في جميع أنحاء العالم. وفي حين كانت العلاقات بين أعضائها متوترة أو أقل أهمية خلال القرن الـ20، إلا أن مبادراتها الحالية منحتها نفوذاً دولياً أكبر، فيما شهدت القوى العظمى التقليدية الممثلة في مجموعة السبع تراجعاً في قوتها الدولية خلال العقود الأخيرة.
ليس هذا فحسب، ففي البيان المشترك الصادر عن قمة "بريكس" الأخيرة في البرازيل، أيد قادة المجموعة المناقشات الجارية حول مبادرة المدفوعات العابرة للحدود بين الدول الأعضاء، وهو نظام يمكن في حال تطويره أن يصبح بديلاً محتملاً لشبكة "سويفت" بين البنوك، باستخدام عملات دول "بريكس" أو ما يعادلها من العملات الرقمية.
أعرب ترمب عن قلقه على وضع الدولار الأميركي كعملة تبادل تجاري ومصرفي أساس حول العالم (أ ف ب)
فوائد وأخطار
من المؤكد أن تجاوز نظام شبكة "سويفت" ونظام التجارة القائم بالدولار له فوائد واضحة لبعض دول "بريكس" مثل روسيا وإيران، إذ يمكنه أن يتيح لها التحايل على العقوبات الغربية الشديدة. كما ترى دول أخرى أيضاً فائدة في عدم الاعتماد على الدولار الأميركي في تجارتها ومن بينها الصين التي سعت طويلاً إلى جعل عملتها الرنمينبي عملة دولية بهدف القضاء على ما تسميه "الهيمنة المالية الأميركية". وعلى سبيل المثال دعا رئيس البنك المركزي الصيني، بان غونغ شنغ في تصريحات له الشهر الماضي خلال منتدى مالي في شنغهاي، إلى تطوير "نظام نقدي دولي متعدد الأقطاب" أو نظام لا تهيمن فيه عملة واحدة.
ولكن حتى مع وجود الإرادة لدى بعض دول "بريكس"، لن يكون الوصول إلى هذه النقطة انتقالاً سريعاً، إذ من المرجح وجود عدد من وجهات النظر المختلفة والمصالح المتنافسة داخل دول "بريكس" حول كيفية تحقيق ذلك، فضلاً عن عدد من التحديات التقنية الأخرى التي لمح إليها الرئيس البرازيلي دا سيلفا عندما كرر وجهة نظره بأن التجارة العالمية تحتاج إلى بدائل للدولار الأميركي، لكنه أوضح أن هذا سيكون أمراً يحدث تدريجاً وبعناية.
كما أن تهديد ترمب لدول المجموعة بفرض مزيد من الرسوم الجمركية عليها قد يشكل أخطاراً من شأنها أن تقوض نطاق التعاون المنتظر بين الدول الـ10 في المجموعة لمواجهة الهيمنة المالية الأميركية.
مواجهة الولايات المتحدة
تأسس التحالف الاقتصادي للأعضاء المؤسسين في "بريكس" الذي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين، عام 2009 في أعقاب الأزمة المالية الأميركية التي أضرت بسمعة الولايات المتحدة المالية، وأعادت الثقة للأسواق الناشئة ومكانتها في الاقتصاد العالمي. ومع انضمام جنوب أفريقيا عام 2010، ثم انضمام خمس دول أخرى من الجنوب العالمي العام الماضي، أصبحت "بريكس" اليوم أكثر تنوعاً من الناحية الجيوسياسية، إذ تضم دولاً غير ديمقراطية يحكمها الحزب الشيوعي ودولاً أخرى ذات توجهات دينية وديمقراطيات نابضة بالحياة ومترامية الأطراف ودولاً أخرى.
وتضم المجموعة شركاء مقربين للولايات المتحدة مثل الهند والإمارات العربية المتحدة، ودولاً أخرى تعد الولايات المتحدة عدواً مثل إيران، كما تضم بلداناً لا تتفق مع واشنطن في الرأي مثل الهند والصين، مما قد يجعل التوصل إلى توافق في الآراء في شأن القضايا المختلفة أمراً صعباً، مما قد يضعف قوة "بريكس" ولا يجعلها قادرة على مواجهة الولايات المتحدة.
عداء أم تنافس
لكن دول "بريكس" توحدها أيضاً رؤية بسيطة وهي أن ميزان القوى العالمي ينحاز بشدة نحو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، بينما يستبعد الاقتصادات الناشئة الآخذة في النمو، وأن النظام في حاجة إلى إصلاح، ولتحقيق هذه الغاية، أنشأت المجموعة بنكها التنموي الخاص عام 2015، وتدعم تطلعات البرازيل والهند للعب دور أكبر في مجلس الأمن الدولي، خلال وقت ينفي فيه أعضاء المجموعة أن تكون "بريكس" معادية للغرب.
ومع الخلافات بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين خلال العقد الماضي بسبب تنامي نفوذ الصين على الساحة العالمية والهجوم الروسي على أوكرانيا، سعت بكين وموسكو إلى توسيع المجموعة لتكون أداة أكثر فاعلية لمواجهة النفوذ الأميركي.
لكن ليس الجميع متفقاً على هذا الرأي، فقد حذر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الأعضاء الآخرين في قمة "بريكس" العام الماضي من أن تكتسب هذه المجموعة صورة منظمة تسعى إلى استبدال المؤسسات العالمية، كما أن هناك دليلاً آخر على أن بعض دول المجموعة لديها حساباتها الخاصة ولا تضع المجموعة على رأس جدول أعمالها الحيوي، حيث غاب عن اجتماع هذا العام قادة دول عدة من بينها الصين ومصر والإمارات العربية المتحدة.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نقطة تجمع حذرة
ومع ذلك، شكلت حرب ترمب الجمركية ضد غالبية دول العالم نقطة تجمع لمجموعة "بريكس"، فخلال قمتهم في ريو دي جانيرو أصدر القادة إعلاناً مشتركاً أعربوا فيه عن مخاوف جدية إزاء تصاعد الإجراءات الجمركية وغير الجمركية الأحادية الجانب في "استهزاء" واضح بسياسة إدارة ترمب التجارية، ووجد الأعضاء أرضية مشتركة في نقاط معاكسة للولايات المتحدة خارج نطاق الاقتصاد، وإن كانوا عبروا عنها بحذر.
على سبيل المثال، أشار إعلانهم في القمة إلى الصراع الذي استمر 12 يوماً بين إسرائيل وإيران (الدولة العضو في "بريكس")، من خلال إدانة الضربات العسكرية الأخيرة على إيران والتعبير عن قلق بالغ إزاء الهجمات المتعمدة على البنية التحتية المدنية والمنشآت النووية السلمية.
ومع ذلك، لم يحدد البيان اسم إسرائيل في هذه النقطة بعدما نفذت تل أبيب ضربات جوية استمرت أياماً ضد إيران الشهر الماضي، كما لم يذكر البيان أيضاً الولايات المتحدة بالاسم، والتي قصفت ثلاث منشآت نووية إيرانية كجزء من الهجوم نفسه.
أجندة عالمية مختلفة
وإذا كان الاقتصادي في مؤسسة "غولدمان ساكس" جيم أونيل الذي صاغ تسمية "بريك" للإشارة إلى أربع دول هي البرازيل وروسيا والهند والصين قبل أن تصبح "بريكس" بعد انضمام جنوب أفريقيا، وصف المجموعة بأنها رمز للأمل الاقتصادي والتفاؤل للبلدان النامية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية المعروفة أيضاً باسم الجنوب العالمي، إلا أن هذا التحالف الاقتصادي تطور ببطء إلى تحالف جيوسياسي إلى حد كبير يهدف إلى دفع أجندة للشؤون العالمية تختلف عن مجموعة "السبع" التي يهيمن عليها الغرب، وهو ما تجلى بصورة واضحة بعد حرب روسيا في أوكرانيا بعدم تأييد أي من أعضاء مجموعة "بريكس" فرض عقوبات على روسيا، وفقاً للرئيس السابق لمركز "ويلسون" في واشنطن السفير مارك غرين.
غير أنه مع مرور الأعوام أصبحت مجموعة "بريكس" هائلة من جهة الناتج المحلي الإجمالي والتجارة العالمية، بالتالي أصبح لديها قدر كبير من القدرة على المساومة إذا عملت بلدان المجموعة معاً وهو ما تفعله بصورة متزايدة، مثلما حدث خلال حرب أوكرانيا، إذ ضمن شركاء موسكو في "بريكس" البقاء الاقتصادي والدبلوماسي لروسيا في مواجهة المحاولات الغربية لعزلها دولياً، وشاركت البرازيل والهند والصين وجنوب أفريقيا مع روسيا في 166 حدثاً من أحداث مجموعة "بريكس" عام 2022، وأصبح بعض الأعضاء أسواق تصدير مهمة لموسكو.
وعلى رغم الاختلافات الهائلة بين دول "بريكس" فإن التطور السياسي للمجموعة والذي أضيفت من خلاله مجالات جديدة للتعاون وهيئات إضافية أصبح مثيراً للإعجاب، إذ يوضح مؤشر جامعة "تافتس" لقياس كيفية تقارب دول "بريكس" بين عامي 2009 و2021 أن تقارباً وتعاوناً عميقاً استمر يتنامى في 47 سياسة محددة، بدءاً من الاقتصاد والأمن إلى التنمية المستدامة، وبخاصة ما يتعلق بالتنمية الصناعية والتمويل.
بين الموازنة والانحياز
مع تزايد وضوح اتجاهات صعود الجنوب وتراجع النظام العالمي القديم، تشجعت بعض دول "بريكس" ودول أخرى حول العالم على إعادة تقييم علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة والصين. فعلى مدى عقود ظلت أدبيات العلاقات الدولية التقليدية تشير إلى أنه في العلاقات بين الدول يمكن الاختيار بين "الموازنة"، أي اتخاذ موقف قوي ضد القوى الفاعلة الأخرى لإحداث التوازن، أو "الانحياز" أي مجاراة رغبات تلك القوة. وكانت الفكرة السائدة أن الدول الأضعف لا تستطيع تحقيق التوازن في مواجهة القوى العظمى، لأنها لا تمتلك القوة العسكرية اللازمة لذلك، لذا اضطرت إلى مجاراة تلك القوى.
لكن في ظل احتدام الصراع بين الولايات المتحدة التي تقود الدول السبع الصناعية الكبرى من الدول الغربية، والصين التي تقود مجموعة "بريكس" التي تمثل دول الجنوب العالمي، بدأ مفهوم عدم الانحياز النشط في الظهور، وهو نهج في السياسة الخارجية تضع فيه الدول مصالحها الخاصة في مقدمة أولوياتها، وترفض الانحياز إلى أي طرف في صراع القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين.
عدم الانحياز النشط
يستمد هذا النهج إلهامه من حركة عدم الانحياز خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ولكن مع تحديثه ليواكب واقع القرن الـ21، إذ يختلف الجنوب العالمي الصاعد اليوم اختلافاً كبيراً عن "العالم الثالث" الذي شكل حركة عدم الانحياز، باتت دول مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا تتمتع بثقل اقتصادي وموارد مالية أكبر مما كانت عليه في الماضي، بالتالي لديها خيارات أوسع مقارنة بالعقود السابقة، ومن ثم يمكنها اختيار سياساتها بما يتوافق مع مصالحها الوطنية. ونظراً إلى التنافس بين واشنطن وبكين على كسب قلوب وعقول هذه الدول، فإن من يسعى إلى الترويج لأجندة عدم الانحياز النشط يتمتع بنفوذ أكبر.
ووفقاً لمدير مركز "فريدريك باردي" لدراسة المستقبل في جامعة بوسطن، جورجي هاينه، فإن هناك دائماً نهجاً وسطياً يمكن وصفه بالتحوط، إذ يمكن للدول أن تحوط رهاناتها أو أن تستغل قوة ضد أخرى، وفي بعض القضايا يمكن أن تنحاز إلى الولايات المتحدة، وفي قضايا أخرى تنحاز إلى الصين.
وهكذا، فإن الاستراتيجية الكبرى لعدم الانحياز النشط هي "اللعب على أرض الملعب"، أو البحث عن الفرص المتاحة في البيئة الدولية، مما يعني البحث المستمر عن المزايا المحتملة والموارد المتاحة بصورة فاعلة من دون سلبية.
اتخذت دول مثل الهند وباكستان وجنوب أفريقيا وإندونيسيا مواقف متعارضة مع الغرب في شأن أوكرانيا (أ ف ب)
وعلى سبيل المثال، اتخذت دول مثل الهند وباكستان وجنوب أفريقيا وإندونيسيا، من بين دول أخرى، مواقف متعارضة مع الغرب في شأن أوكرانيا، إذ دانت دول عدة، وإن لم يكن جميعها، الهجوم الروسي، لكنها رفضت أيضاً المشاركة في عقوبات الغرب على موسكو والتي عدتها عقوبات غير مبررة، تعبر عن ازدواجية المعايير الغربية لأنه لم تفرض أية عقوبات على الولايات المتحدة حين غزت العراق عام 2003.
ثم جاءت هجمات "حماس" على إسرائيل خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وما نتج منها من حرب داخل قطاع غزة، إذ دانت دول الجنوب العالمي بشدة هجمات "حماس"، لكن رد فعل الغرب على مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين لاحقاً أبرز مفهوم ازدواجية المعايير في ما يتعلق بحقوق الإنسان الدولية. فقد أثيرت تساؤلات حول سبب عدم كسب الفلسطينيين نفس التعاطف الذي يحظى به الأوكرانيون، وما إذا كانت حقوق الإنسان تقتصر على الأوروبيين ومن يشبهونهم، وهكذا، رفعت جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية متهمة إياها بارتكاب إبادة جماعية، وقادت البرازيل جهود وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة.
كيف تستجيب الصين وأميركا؟
من الأمثلة البارزة على نجاعة سياسة عدم الانحياز النشط ما اتبعته أنغولا والأرجنتين، ففي أنغولا الدولة الأفريقية التي حظيت بأكبر قدر من التعاون الصيني بلغ 45 مليار دولار أميركي، تمول الولايات المتحدة الآن ما يعرف بممر لوبيتو وهو خط سكة حديد يمتد من الحدود الشرقية لجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى ساحل أنغولا الأطلسي، وهو ما كان يعد ضرباً من الخيال في الماضي بعدما دانت الولايات المتحدة مشاريع البنية التحتية الممولة من الصين عبر "مبادرة الحزام والطريق"، باعتبارها "دبلوماسية فخ الديون" المصممة لإثقال كاهل الدول النامية، ثم أدركت الولايات المتحدة وجود عجز كبير في البنية التحتية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وأن الصين كانت تتدخل لتقليصه.
وفي الأرجنتين انتخب خافيير ميلي عام 2023 رئيساً للبلاد ببرنامج سياسي قوي مناهض للصين، وصرح بأن حكومته لن تتعامل مع بكين على الإطلاق، لكن بعد عامين فحسب، أعلن ميلي في مقابلة مع مجلة "إيكونوميست" أنه معجب كبير ببكين، لأن الأرجنتين مثقلة بديون خارجية كبيرة، وكان ميلي يعلم أن استمرار موقفه المناهض للصين يعني على الأرجح عدم تجديد خط ائتمان من بكين.
كان الرئيس الأرجنتيني تحت ضغط من صندوق النقد الدولي وواشنطن لإلغاء خط الائتمان مع الصين، لكن ميلي رفض ذلك وتمكن من الصمود، مستغلاً كلا الجانبين ضد بعضهما بعضاً.
نهاية النظام الليبرالي
ووفقاً للأستاذ في جامعة بوسطن جورجي هاينه يبدو أن النظام الدولي الليبرالي الذي أطر السياسة العالمية من عام 1945 إلى عام 2016 انتهى مع تقويض بعض مبادئه الأساس، مثل التعددية والتجارة الحرة واحترام القانون الدولي والمعاهدات الدولية القائمة، مما يعني أن العالم دخل في مرحلة انتقالية اندثر فيها مفهوم الغرب ككيان جيوسياسي، كما عرفناه، إذ تتلقى القوى غير الليبرالية في المجر وألمانيا وبولندا دعماً من أصحاب السلطة في كل من واشنطن وموسكو.
ولم يأت هذا التراجع للغرب بسبب أية مشكلة اقتصادية، فلا تزال الولايات المتحدة تمثل نحو 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما كانت خلال عام 1970، ولكن بسبب انهيار التحالف عبر المحيط الأطلسي.
وإذا كان مفهوم عدم الانحياز النشط نشأ نتيجة لضغوط إدارة ترمب الأولى على دول أميركا اللاتينية، فإن الضغوط الأميركية على دول الجنوب العالمي شديدة للغاية، وهناك إغراء للرضوخ لترمب والانحياز إلى الولايات المتحدة.
ومع ذلك، تشير جميع المؤشرات إلى أن مجرد الرضوخ لمطالب ترمب ليس وصفة للنجاح، فالدول التي سلكت طريق الرضوخ لمطالب ترمب، لم تشهد سوى مزيد من المطالب بعد ذلك، ولهذا تحتاج الدول إلى نهج مختلف يمكن إيجاده في عدم الانحياز النشط.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الاقتصادية
منذ 12 دقائق
- الاقتصادية
واشنطن تخطط لفرض رسوم جمركية بنسبة 500% على حلفاء روسيا
تسعى الولايات المتحدة لفرض رسوم جمركية بنسبة 500% على الدول التي تشتري السلع الروسية، وذلك ضمن حزمة جديدة من العقوبات تسعى واشنطن لإقرارها. السناتور الجمهوري ليندسي غراهام قال في تصريحات اليوم إن الغالبية في مجلس الشيوخ تدعم مشروع قانون العقوبات الذي أعده وأخذ يكتسب الزخم في ظل تعثر جهود السلام التي تقودها واشنطن. وأوضح أن "هذه الحزمة من الكونغرس التي ندرسها ستمنح الرئيس ترمب القدرة على فرض مزيدا من الرسوم جمركية وستشمل اقتصادات تشتري سلعا روسية مثل الصين والهند والبرازيل، ووصف العقوبات المقترحة بأنها "مطرقة ثقيلة في متناول يد الرئيس لإنهاء هذه الحرب". يشار إلى أن أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي أعلنوا أمس عزمهم طرح مشروع قانون مشترك بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري يتيح فرض عقوبات صارمة على روسيا، وذلك قبيل زيارة المبعوث الأمريكي الخاص إلى أوكرانيا. ومن المقرر أن يبدأ المبعوث الأمريكي الخاص كيث كيلوغ أحدث زياراته إلى أوكرانيا، في حين قال ترمب إنه سيدلي ببيان هام بشأن روسيا اليوم. وألمح ترمب الذي أعرب مرارا عن خيبة أمله في مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا بعد تكثيف موسكو قصفها لكييف بالصواريخ والطائرات المسيرة، إلى استعداده أخيرا لتشديد العقوبات على موسكو. وصرح غراهام لشبكة "سي بي اس" الإخبارية أن مشروع القانون سيتيح لترمب "ملاحقة الاقتصاد الروسي، وجميع تلك الدول التي تدعمه". والأسبوع الماضي، وافق ترمب أيضا على إرسال المزيد من الأسلحة إلى زيلينسكي، وأيضا على صفقة تتيح لحلف شمال الأطلسي شراء أسلحة أمريكية وإرسالها إلى أوكرانيا. ومن المقرر أن يلتقي غراهام والسناتور الديموقراطي ريتشارد بلومنثال بالأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته مساء اليوم الاثنين. وصرح بلومنثال لشبكة "سي بي اس" الإخبارية بأنهما سيناقشان أيضا قضية الإفراج عن الأصول الروسية المجمدة في أوروبا والولايات المتحدة ومنحها لأوكرانيا. وأضاف بلومنثال "الـ 5 مليارات دولار التي تجمدها الولايات المتحدة يمكن ايضا الوصول إليها، وأعتقد أن الوقت قد حان للقيام بذلك".


قاسيون
منذ ساعة واحدة
- قاسيون
ما سر الهوس الأمريكي-«الإسرائيلي» في الحديث عن تطبيعٍ مع سورية؟
ويمكن أن يلحظ المتابع أن التحليلات والإشاعات ذهبت بعيداً في الحديث عن «التطبيع» وكأنه بات أمراً واقعاً، وأن المتبقي فقط هو تحديد بعض التفاصيل الصغيرة المتبقية، في حين إن المؤشرات المختلفة تدل على أن المسألة ما تزال بعيدة جداً عن أن تكون ناضجة، وأن أقصى ما يمكن الحديث عنه، ضمن المعطيات الموجودة، هو شكل من أشكال الاتفاق يكون جوهره هو العودة إلى اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974... ما يطرح سؤالاً عن الغاية من وراء الإصرار الأمريكي- «الإسرائيلي» على تصوير الموضوع وكأنما قد تم بالفعل الوصول إلى اتفاق. ما هو جوهر المسألة؟ كي لا يضيع المرء بالتفاصيل التي يتم إغراق الناس فيها إعلامياً، ينبغي أن يوسع منظار الرؤية زمنياً وجغرافياً، ليضع الأمور في سياقها الصحيح. خلال العامين الماضيين، كانت الخطة الأمريكية /«الإسرائيلية» المعلنة والمطبقة على الأرض، هي سلسلة من الحروب على عدة جبهات، من غزة إلى لبنان فاليمن فإيران، وكان الهدف المعلن هو «شرق أوسط جديد إسرائيلي» يكون تحت السيادة «الإسرائيلية» ويتم وفقه إضعاف كل دول المنطقة، وتفتيت ما يمكن تفتيه منها على أسس قومية وطائفية ودينية... وفجأة، بعد حرب الـ 12 يوماً، بدأنا نرى سعياً محموماً وهستيرياً لتثبيت اتفاقات سياسية ضمن إطار «اتفاقات أبراهام» أو ما يشابهها. المسألة ببساطة تتلخص في النقاط التالية: أولاً: لم تنجح «إسرائيل» ومعها الولايات المتحدة في فرض مشروعهما بالأدوات العسكرية، ولم تنجحا في الوصول إلى الأهداف السياسية المعلنة، لا في غزة ولا في لبنان ولا في اليمن ولا في إيران، وبطبيعة الحال أيضاً لم تتحقق الأهداف المرسومة لتركيا ومصر والسعودية، والتي لا تختلف كثيراً عن تلك المرسومة لإيران أو لسورية. ثانياً: شكلت حرب الـ 12 يوماً، وقبلها الاضطرار الأمريكي لإنهاء الحرب على اليمن من طرف واحد، مفصلاً مهماً في الحملة الهمجية «الإسرائيلية» على بلدان المنطقة وشعوبها؛ فبعد هاتين المعركتين، بات من الواضح أن التكاليف أعلى بكثير مما يمكن احتماله، ناهيك عن أن الوصول إلى تحقيق الأهداف النهائية عسكرياً، بات ضرباً من الخيال غير العلمي. ثالثاً: عملية الاستنزاف تتسارع وتصبح أشد تأثيراً بالنسبة للأمريكي و«الإسرائيلي»، خاصة أنها تأتي على خلفية تراجع شامل على المستوى العالمي. وحين تعرف قوة عظمى أنها في حالة تراجع، فهي تعرف ضمناً أن قوتها غداً أضعف منها اليوم، وقدرتها على تمرير ما تريد غداً أضعف من قدرتها اليوم، ولذا تحاول استخدام كل الأدوات المتبقية بين يديها لتثبيت وقائع جديدة، تحاول من خلالها وضع حد لعملية التراجع... فلننظر إلى استخدام الأمريكان لأداة العقوبات الاقتصادية مثالاً (ألا يعرف الأمريكان أن استخدام هذه الأداة يضرهم على المدى المتوسط والبعيد ويضعف موقع الدولار عالمياً؟ يعرفون ولكن لا بديل لديهم عن استخدام هذه الأداة ما دام ذلك ممكناً). الأمر نفسه ينطبق على موضوع الرسوم الجمركية؛ فهم يعرفون أيضاً أن استخدامها مضر على المستوى المتوسط، بل وحتى على المستوى القريب، ولكنها تنفع في إعاقة وترهيب الحلفاء والخصوم وإعاقة تقدمهم ولو مؤقتاً. الأمر نفسه ينطبق أيضاً على استخدام الأدوات العسكرية بمختلف أشكالها، والتي ستكون يوم غد أضعف منها اليوم مع انتقال مركز الإنتاج والتكنولوجيا العالمي نحو الشرق. ضمن هذا الفهم، من الممكن أن نفسر الهوس الأمريكي- «الإسرائيلي» في تقديم صورة إعلامية عن اتفاقات وعمليات تطبيع، بأنه سعي حثيث لتثبيت وقائع جديدة باستخدام ما تبقى من أدوات، وضمن آجال زمنية محدودة وضيقة... هل يعني هذا أن الاتفاقات لن تتم؟ ليس بالضرورة؛ فإذا كانت الوقائع تشير اليوم بشكل ملموس إلى أن النصر صبر ساعة، فهنالك من لا يرى في نفسه طاقة كافية لاحتمال هذا الصبر. ولكن الأكيد، هو أن من لن يصبر هذه الساعة المتبقية، ومن سيخضع للأمريكان في تثبيت «وقائع جديدة»، لن يطول به الوقت حتى يذهب هو وهذه «الوقائع» أدراج الرياح؛ لأن الوقائع لا تثبتها صفقات فوق الطاولة أو تحتها، بل موازين القوى الحقيقية، وإرادات الشعوب...


قاسيون
منذ ساعة واحدة
- قاسيون
«بريكس» وحرب النقاط في العالم!
أنهت القمة أعمالها بعد يومين من العمل في 6 و7 تموز الجاري، ومع أن البيان الختامي نُشر، إلا أن التساؤلات حول القمة كثيرة ومتعددة، منها ما يرتبط بالحضور، ومنها بانضمام دول جديدة، ويبدو أن المشكلة الأساسية في فهم «ظاهرة بريكس» تُرد إلى المحاولات الغربية المتكررة لحشر التجربة الجدية ضمن القوالب الغربية التقليدية، لكن ربما تكون نقطة البداية المناسبة للموضوع، هي من تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. «إنه لتهديد حقيقي»! في يوم الأحد 6 تموز، خرج ترامب في تصريح على منصته الخاصة، ليقول: «أي دولة تنحاز إلى السياسات المعادية للولايات المتحدة الأميركية لمجموعة بريكس ستُفرض عليها رسوم جمركية إضافية بنسبة 10%، لن يكون هناك أي استثناءات لهذه السياسة. شكرا لكم على اهتمامكم بهذا الأمر!». بدا واضحاً أن الرئيس الأمريكي لم يكلّف نفسه عناء الاعتماد على الدبلوماسية، بل أراد أن يُفهم تصريحه بوصفه تهديداً صريحاً، ولا مجال لتفسيره بأي شكلٍ آخر، لكنّه ينسى مسألة ليست هامشية أو ثانوية على الإطلاق! فالسلاح الذي أشهره ترامب في وجه بريكس «التعريفات الجمركية» هو بالتحديد ما بإمكانه أن يوحد هذه المجموعة، فبالنسبة لدول الجنوب العالمي تبدو بريكس وقبل الخوض في تفاصيلها وأهدافها، حاجة حقيقية كإطار فعال لتقليل التأثيرات الغربية على اقتصاد هؤلاء، أي أن بريكس هي واحدة من الأطر التي نشأت موضوعياً بوصفها تعبيراً عن مصالح دول الجنوب، وضرورة التنسيق فيما بينهم لدرء الخطر المشترك. من هذه الزاوية لا يمكن النظر إلى المجموعة بوصفها تحالفاً بالمعنى الغربي، ولا يشبه أيّاً من النماذج الموجودة سابقاً، فالنموذج الوحيد المألوف هو ذاك الذي تقوده الولايات المتحدة وتحدد أهدافه، وتفرضها على كل الأطراف، لكن هذا لا يشبه بريكس، فالدول الأعضاء في المجموعة لديها مواقف متباينة في عددٍ من المسائل، وقد لا تتفق على كثير من الملفات، لكنّ ما يجمعها هو أنّها ترى أن العالم أحادي القطب قد انتهى، ويقع على عاتقها قبل غيرها أن تضع الأساس لعالم جديد مختلف، يقوم على توزيع المشاركة بالقرار العالمي بحسب حجم إسهام كل طرف بالإنتاج والسكان وغيرها من المعايير. يبدو قلق ترامب مبرراً، وتحديداً كونه رئيس الولايات المتحدة في هذا الوقت العصيب الذي تعيشه، فالمسائل التي تتفق عليها دول بريكس وتسعى لتحقيقها ستحرم الولايات المتحدة من كل ميزاتها المطلقة التي فرضت سواء بالقوة الناعمة أو الخشنة على مر عقود، والتي ضمنت لها هذا الموقع العالمي. والمثير للاهتمام أن التهديد الذي أطلقه ترامب لم يكن رادعاً ودفع عدد من الدول للرد كان أبرزها ردّ الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الذي قال: «نحن دول ذات سيادة لا يلزمنا إمبراطور» وأضاف: «إذا كان يعتقد أنه يستطيع فرض ضرائب، فمن حق الدول الأخرى أن تفرضها أيضاً. هناك قانون المعاملة بالمثل». ورغم التهديد، أشار البيان في عدد من المواضع إلى قضايا لا تسر الولايات المتحدة، مثل: الإشارة الواضحة إلى ضرورة «إصلاح مؤسسات بريتون وودز» لتكون أكثر مصداقية وملائمة للغرض من إنشائها، وضرورة أن تكون خاضعة للمسائلة والتمثيل العادل، ويقول البيان أيضاً: إنّه من الضروري زيادة صوت وتمثيل الأسواق الناشئة والدول النامية في صندوق النقد الدولي، ومجموعة البنك الدولي، التي تحتل ضمنها واشنطن موقع مهيمن إذ تملك حاولي 16% من إجمالي الأصوات العالمية في صندوق النقد، بينما تحصل الصين على حوالي 6% والهند وروسيا أقل من 3% لكلً منهما، البرازيل وجنوب أفريقيا أقل من 1%! المسألة تتجاوز الإصلاح إن مراقبة سلوك ونشاطات مجموعة بريكس تبدو مسألة معقدة، وليس من السهل الإلمام بكل الجوانب التقنية، لكن ما يبدو بوضوح، هو أن دول المجموعة تعمل على اتجاهين متوازيين، الأول: يقوم على خلق بديل كامل ومتطور عن كل البنية المالية الغربية. الثاني: هو خلق إطار حيوي يجمع دول الجنوب الأساسية، ويعمق الشراكة والتعاون فيما بينهم. وعند الحديث عن البنية المالية الغربية، قد يحصرها البعض بنظام SWIFT أو البنك الدولي وصندوق النقد، بينما تبدو المسألة أشد تعقيداً في الواقع، فهناك أيضاً شبكات المقاصة والتسوية ومؤسسات الحفظ والتوديع، وبنك التسويات الدولية «BIS» وأسواق الأوراق المالية، والتأمين الدولية، وأيضاً جوانب أخرى مرتبطة بالمعايير والإشراف وغيرها، وإذا ما أردنا تحديد كل الأسس التي يقوم عليها النظام المالي الغربي، وتفرعاته نجد أن مجموعة بريكس مع كل عام تخطو خطوة للأمام، ونحن نعلم اليوم أنهم شارفوا على إنشاء البنية البديلة الكاملة وقد تكون جاهزة للتشغيل خلال سنة، أو بضع سنوات كحد أقصى، ففي القمة الأخيرة مثلاً، أُعلن عن إطلاق «BRICS Pay» كبديل عن نظام SWIFT وأعلن المجتمعون أن بريكس بدأت الدراسة التقنية لإنشاء بنية «BRICS Clear» التي تعد الإطار الأوسع الذي يضم كل أعمدة النظام المالي الجديد، هذا إلى جانب توسيع عضوية بنك التنمية «NDB» وغير ذلك من الخطوات الملموسة التي أنجز الكثير منها سابقاً، وخصوصاً تلك التي ترتبط بتسهيلات التبادل بالعملات المحلية، وصناديق الطوارئ الجماعية...إلخ. في الختام من يراقب نشاط مجموعة بريكس يعلم يقيناً أنّها لن تخرج بإعلان مفاجئ وغير متوقع، بل إن المجموعة تعمل بشكلٍ دؤوب على تحضير كل ما يلزم لعالم ما بعد الأحادية القطبية، ونظراً لكونها مركز الإنتاج العالمي اليوم فهي الأقدر على صوغ الملامح العامة للمرحلة القادمة، إن المشهد العام لبريكس يبدو من بعيد كما لو أنّه كتلة بشرية نشطة مسلّحة بكل ما تحتاجه من تكنولوجيا متطورة، وتجمع قواها، وتستعد لاستلام دفّة القيادة، قد يظن البعض أن البريكس قادرة الآن على توجيه «ضربة قاضية» للدولار والمؤسسات المالية الغربية، لكن جوهر المسألة يكمن في أن العالم كان غارقاً في المؤسسات الغربية وفي الدولار، وإن أي اتجاه معاكس يجب أن يكون تدريجياً ومدروساً، بدلاً من أن يتحول إلى كارثة يتضرر منها الجميع!