
لماذا على باريس تسديد فاتورة قرنٍ من الاستعمار؟
هذا واحدٌ من الأصوات الإفريقية التي ارتفعت لتطالب باعترافٍ رسمي بالجرائم الاستعمارية وبآلية جبرٍ تُعيد للأجيال المظلومة بعض ما فقدته.
يصعب اليوم على أي مراقب إنكار أن القارة لا تزال تُعاني آثار سياسة «فرنسا- إفريقيا» التي ربطت الاقتصادات والمؤسسات العسكرية والنقدية في غرب إفريقيا ووسطها بباريس حتى بعد انسحاب آخر جندي فرنسي من مالي عام 2022.
التاريخ الدامي يبدأ من أواخر القرن التاسع عشر، حين أخضعت فرنسا نحو عشرين دولة إفريقية لحكمٍ قائم على السُّخرة والمصادرة والقمع. أمّا حرب استقلال الجزائر (1954-1962) وحدها فخلّفت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد، ولا تزال حقول الألغام والتجارب النووية في رقان وتمنراست شاهدا حيّا على حجم الانتهاكات. تلك الجرائم لم يُقابلها اعتذار رسمي قط، بل قوبلت على مدى عقود بخطابٍ فرنسي يُمجّد «مآثر الحضارة» متجاهلاً الدماء والموارد التي أُزهقت ونهبت.
وتستمر جرائم الحقبة الاستعمارية الفرنسية في التأثير على المجتمعات الإفريقية حتى اليوم. في 5 مايو الماضي، صرح محمد عمران وهو رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الأمة الجزائري، قائلاً إن «الأراضي الجزائرية نُهبت، وإرث الاستعمار لا يزال حاضرًا، من حقول الألغام على الحدود إلى آثار التجارب النووية الفرنسية، من غير المقبول أن تقلل فرنسا من حجم هذه الجرائم أو تطلب منا نسيان تاريخنا».
وأضاف أيضا أنه «ما دامت النخبة الفرنسية تمجّد الاستعمار، فسنُواصل المطالبة بالاعتراف بالجرائم ودفع التعويضات».
اليوم، تتبنّى الدول الإفريقية خطاباً أكثر تنظيماً؛ ففي قمّة الاتحاد الإفريقي التي عقدت بأديس أبابا بين 12 و16 فبراير 2025، أُعلن عام 2025 «عام العدالة لجذور إفريقيا وشتاتها عبر التعويضات»، وهو قرار غير مسبوق يعكس إجماعاً نادراً بين قادة القارة.
تقديرات منصة Espace Manager التونسية قدّرت خسائر ثماني دول تعرّضت للاستعمار، وهي الجزائر، وتونس، ومصر، ومالي، وبوركينا فاسو، وغينيا، وتشاد، والمغرب، بأكثر من أربعة تريليونات دولار (4 آلاف مليار دولار)، بينما رفعت حركات شبابية مثل «كوكب الشباب الوحدويين» في بوركينا فاسو سقف المطالب إلى خمسين تريليون يورو، ورصد «التكتل من أجل إعادة تأسيس مالي» وحده ثلاث مئة مليار دولار خسائر لبلده.
إن مسألة التعويضات تُعدّ من بين القضايا القليلة التي تحظى بإجماع واسع في الأوساط الإفريقية؛ ففي السنوات الأخيرة، ازداد علنًا وعلوًّا صوت النشطاء والزعماء السياسيين الذين يطالبون فرنسا بتعويضات عن الجرائم الاستعمارية والاستغلال الاقتصادي، ويمكنني هنا الإشارة إلى عدد من التصريحات اللافتة لمختلف المسؤولين في القارة.
في 5 ديسمبر 2024، شدّدت لوسيا دوس باسو، النائبة الثالثة لرئيس برلمان عموم إفريقيا، على أن: «التعويضات لا تقتصر على الجانب المادي أو المالي، بل تمثل فعل اعتراف، والتزامًا بتصحيح الاختلالات الهيكلية، ووعدًا ببناء مستقبل أكثر عدلا للأجيال القادمة».
وفي 15 فبراير 2025، أي بعد شهرين، أيَّد الرئيس الليبيري جوزيف ن. بوكاي هذا الموقف، قائلًا إن بلاده «تؤمن بشدة بأهمية التعويضات كخطوة أولى أساسية لمعالجة الإرث والتأثيرات المستمرة لتلك المظالم التاريخية». كما عبّر آبي أحمد، رئيس وزراء إثيوبيا، عن موقف مماثل في اليوم التالي، 16 فبراير 2025، قائلاً إن «المطالبة بالتعويض ليست صدقة أو مساعدات مالية، بل هي دعوة للعدالة. هي محاولة لاستعادة كرامة ملايين البشر وشفاء الجروح العميقة للفقر وعدم المساواة والتمييز».
تقديرات منصة Espace Manager التونسية قدّرت خسائر ثماني دول تعرّضت للاستعمار، وهي الجزائر، وتونس، ومصر، ومالي، وبوركينا فاسو، وغينيا، وتشاد، والمغرب، بأكثر من أربعة تريليونات دولار (4 آلاف مليار دولار)، بينما رفعت حركات شبابية مثل «كوكب الشباب الوحدويين» في بوركينا فاسو سقف المطالب إلى خمسين تريليون يورو، ورصد «التكتل من أجل إعادة تأسيس مالي» وحده ثلاث مئة مليار دولار خسائر لبلده.
وتردد صدى هذا الخطاب في 22 أبريل 2025، عندما قدّر حسيني واتارا، رئيس «التكتل من أجل إعادة تأسيس مالي»، أن الأضرار التي لحقت ببلاده وحدها تفوق 300 مليار دولار، مؤكدًا أن هذا الرقم لا يمثل سوى «جزء صغير ظاهر» من الدين الحقيقي. وفي اليوم نفسه، استحضر الباحث والناشط عيسى سيسي، صاحب عريضة دولية للتعويضات «138 سنة من الوحشية والاحتلال غير الشرعي» من قبل فرنسا، قائلاً: «حين نطالب بهذه التعويضات، لا نطلب من فرنسا معروفًا، بل نضعها أمام أمر واقع».
وفي الحقيقة إن ما تُوصَف أحياناً في باريس بأنها «مطالب فلكية» ليست، في نظر الأفارقة، سوى محاولات أوليّة لتقدير ثمن اليد العاملة المجانية، والموارد المنهوبة، والبيئة المُدمَّرة، ويؤكد الدكتور الطيب عبد الجليل، المحامي السوداني المتخصص في القانون الدولي أن «الاستعمار سرق مستقبل شعوبنا. التعويضاتُ ليست ثمناً للمعاناة، بل أداة لاسترداد الحقوق».
لا تنطلق هذه الدعوات من فراغ قانوني بالنظر إلى قضايا مماثلة، وهنا أشير إلى اعتراف البريطانيين عام 2013 بمسؤوليتهم عن قمع ثورة «ماو ماو» في كينيا وخصّصوا تعويضات لضحاياها، كما اعترفت ألمانيا في 2021 بإبادة شعبي الهيريرو والناما في ناميبيا ودفعت أكثر من مليار يورو.
هذه السوابق تجعل موقف باريس القائم على التملّص أكثر انكشافاً أمام المحاكم الدولية والرأي العام العالمي، وتُحاصر خطابها عن «قيم حقوق الإنسان» بتهمة الازدواجية.
ويمكن تلخيص الإستراتيجية الفرنسية الراهنة في ثلاثة عناصر:
أوّلاً: انتقاء ملفات رمزية، كإعادة جماجم مقاومين جزائريين أو زيارة ماكرون لكيغالي، لتجميل صورة الماضي من دون المساس بالبنية الاقتصادية التي تُبقي 14 دولة مربوطة بفرنك CFA وبمصرف فرنسا المركزي.
ثانياً: خطاب مزدوج يَعد بـ'شراكة متوازنة' بينما يحتفظ بقواعد عسكرية جديدة في جيبوتي والغابون ويمنح الشركات الفرنسية العملاقة امتيازات استغلال الموارد.
ثالثا: رهانٌ على عامل الوقت، أملاً بتراجع الزخم الشعبي أو تغيّر الأنظمة الإفريقية. غير أن الانقلابات الأخيرة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر بيّنت أنّ المزاج الشعبي يسير في اتجاه معاكس تماماً.
ما العمل إذاً؟ هو سؤال يتكرر في هذه العلاقة بين فرنسا ودول إفريقيا، وهنا يمكننا التنبيه إلى ثلاثة أمور رئيسية من الضرورة بمكان لإصلاح هذا الخلل:
بدايةً، إعداد لجنة «حقيقة وعدالة» مشتركة بين فرنسا والاتحاد الإفريقي خطوة ضرورية لوضع سجلّ موثّق للجرائم وتقدير الخسائر، يليها إنشاء صندوق تعويضات وتنمية بإدارة ثنائية يموّل البنية التحتية والصحة والتعليم بعيداً عن إملاءات المانحين التقليديين.
الأمر الآخر، هو ضرورة تحرّر الاقتصادات من فرنك CFA والذي يعدّ شرطا حاسما لاكتمال السيادة النقدية، وإلا ظلّت باريس تتحكّم بسعر صرف عملات سبعٍ من جمهوريات الساحل.
وأخيرا لا تكتمل المصالحة من دون اعتذار رئاسي رسمي أمام البرلمان الفرنسي وفي قمة استثنائية للاتحاد الإفريقي، يليه إدراجُ تاريخ الاستعمار في المناهج الدراسية الفرنسية لإنهاء إنكار المجتمع نفسه.
قد تبدو هذه الخطوات مكلفة لفرنسا، لكنها في الواقع هي استثمار بعيد المدى: اعتراف شجاع يُعزّز مكانة باريس الدولية في مواجهة نفوذ بكين وموسكو المتصاعد، ويُمهّد لشراكات تجارية طوعية بدل العقود غير المتكافئة، أما الاستمرار في الإنكار فلن يؤدي إلا إلى اتساع الهوّة، وتزايد حملات طرد القوات والشركات الفرنسية من القارة.
خلاصة القول إنّ إفريقيا لا تسعى إلى «صدقة» ولا ثأر؛ بل إلى تصحيح ميزانٍ تاريخي مضطرب وإعادة تعريف العلاقة على أساس الندية. وإذا كانت الجمهورية الخامسة تطمح إلى البقاء ضمن دائرة قوة «قانون وحقوق الإنسان»، فعليها أن تُثبت ذلك بالانضمام إلى ركب الدول التي واجهت ماضيها بشجاعة، فالتاريخ لا يُمحى، لكن يُعاد كتابته أحياناً بلغة العدل بدل لغة الدم، والكرة الآن في ملعب باريس.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشروق
منذ 10 ساعات
- الشروق
انطلاق الدورة الـ 13 للجنة التوجيهية لـ'أفريبول' بالجزائر
انطلقت اليوم الإثنين، بالجزائر العاصمة، فعاليات الدورة الـ13 لاجتماع اللجنة التوجيهية لآلية الاتحاد الإفريقي للتعاون الشرطي 'أفريبول'. وأشرف المدير العام للأمن الوطني، علي بداوي، على افتتاح هذا الاجتماع الذي عرف حضور ممثل مفوض الاتحاد الإفريقي للسلم والأمن، إلى جانب أعضاء المكتب التنفيذي لآلية 'أفريبول' وممثلين عن المنظمات الإقليمية الشريكة. ويتطرق الاجتماع إلى تقييم واقع تطبيق استراتيجيات «أفريبول» واستعراض تجارب وطنية في تبادل البيانات الشرطية إلى جانب بحث سبل مكافحة المخدرات وتعزيز الأمن السيبراني من خلال إنشاء قاعدة بيانات موحدة لتتبع الجرائم الإلكترونية وتبادل الخبرات وتدعيم القدرات التقنية للدول الأعضاء. واكد المدير العام للأمن الوطني في كلمته بالمناسبة على ضرورة اتخاذ كافة الإجراءات وتنسيق الجهود لتعزيز الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي في ظل تفشي الجريمة السيبرانية داعيًا إلى وضع برامج إصلاحية وتجفيف منابع الجريمة والعمل على تعزيز القدرات التقنية وتكوين العنصر البشري. ونوه بداوي بأهمية دعم آليات التعاون الإفريقي وإيجاد ميكانزمات فعّالة للتكوين المشترك بين مختلف المؤسسات الأمنية في القارة بما يسهم في بناء قدرات شرطية متكاملة قادرة على مواجهة التحديات الأمنية الراهنة والمستقبلية. ويأتي الاجتماع في سياق إقليمي ودولي متسم بتعقيدات أمنية متزايدة تفرض ضرورة تكثيف العمل المشترك لمواجهة التحديات الراهنة وعلى رأسها مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والاتجار غير المشروع بمختلف أشكاله.


الخبر
منذ 11 ساعات
- الخبر
الكاف "تصفع" المغرب
وجهت الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم صفعة قوية للمغرب بإعلانها رسميا بأن أراضي جمهورية الصحراء الغربية ليست مغربية. وأقرت الهيئة الكروية الإفريقية، أخيرا، بأنها بدأت تتخلص تدريجيا من "اليد" المغربية المهيمنة على دواليب صنع القرار على مستواها، بفعل الموقف الجزائري الثابت بشأن هذه القضية والمترجم عمليا على أرض الواقع قبل أشهر حين احتكم الطرف الجزائري، بواسطة اتحاد كرته إلى محكمة التحكيم الرياضي بلوزان لإحقاق الحق بافتكاك قرار رسمي من "التاس" يؤكد فيه عدم مغربية الأراضي الصحراوية، حيث كسبت الجزائر القضية أمام الكاف التي تورطت في قضية قمصان الخريطة الوهمية لنادي نهضة بركان المغربي. ومنذ ذلك المكسب الذي عرى المغرب سياسيا، حرصت الكاف على عدم التورط من جديد في قضية "التعدي" على أراضي بلد (الصحراء الغربية) يعتبر أحد مؤسسي الاتحاد الإفريقي، بدليل اعتماد الهيئة الكروية القارية، رسميا، لومضة ترويجية لنهائيات كأس أمم إفريقيا لكرة القدم للسيدات، تجري حاليا بالمغرب، تحمل الخريطة الحقيقة للمغرب الخالية من الأراضي الصحراوية المغتصبة عنوة من المغرب. واللافت للانتباه أن الطرف المغربي لم يجرؤ على منع بث الومضة الترويجية، بل إن قناة "الرياضية" المغربية الناقلة لمباريات كأس إفريقيا للأمم سيدات، اضطرت لبث الومضة بالشكل المعتمد من الكاف، ما جعل "البعض" في المغرب ينتفض أمام هول صدمة الحقيقة الثابتة. والأكثر من كل ذلك، والمغرب يبث، رغما عنه، وعلى قنواته، الومضة الترويجية الخالية من الأراضي الصحراوية المغتصبة، راحت إدارة قناة "الرياضية" المغربية ترد على الانتقادات بتوضيح دون إلغاء بث الومضة، وذكرت إدارة القناة على صفحتها على الفايسبوك بأن "الوصلة الإشهارية لا تحمل توقيع القناة، وإنما هي جزء من "الإشارة الدولية الرسمية" التي تبثها الكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم(كاف) ضمن التغطية المباشرة لمباريات كأس إفريقيا للأمم للسيدات"، موضحة في السياق بأن دورها "يقتصر على نقل البث كما يوفره المنظم دون أي تدخل في المحتوى"، مشددة أيضا على أنها "مجرد ناقل تقني" لما تنتجه وتوزيعه "الكاف" على كافة المحطات الناقلة للحدث". وأمام قبول المغرب، وهو يحتضن بأرضه الحدث الكروي القاري، بحدوده الحقيقية المبتورة من الأراضي المغتصبة، فإنه يعترف وبصفة رسمية بأنه حقا بلد محتل، ويقر أيضا بأنه رفع الراية البيضاء أمام الموقف الجزائري الثابت، وهو موقف فضح ألاعيب المغرب أمام الرأي العام العالمي، الذي ينتظر من هيئة الأمم المتحدة اتخاذ القرار المناسب في قضية أضحت أكثر وضوحا على أن الأمر يتعلق بآخر مستعمرة إفريقية وجب تخليصها من المستعمر المغربي المعترف رسميا بجريمة اغتصابه للأراضي الصحراوية.


النهار
منذ 13 ساعات
- النهار
انطلاق الدورة الـ 13 لاجتماع اللجنة التوجيهية لـ 'أفريبول' بالعاصمة
انطلقت صباح اليوم الإثنين، فعاليات الدورة الـ 13 لاجتماع اللجنة التوجيهية لآلية الاتحاد الإفريقي للتعاون الشرطي 'أفريبول' بالجزائر العاصمة. ويأتي هذا الاجتماع في إطار تعزيز التعاون الأمني بين الدول الإفريقية واستمرارا للجهود الرامية إلى دعم التنسيق الشرطي على مستوى القارة الإفريقية. وأشرف على افتتاح هذا الإجتماع المدير العام للأمن الوطني، علي بداوي. حيث شهد حضور ممثل مفوض الاتحاد الإفريقي للسلم والأمن إلى جانب أعضاء المكتب التنفيذي والمنظمات الإقليمية الشريكة. إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور