
عبد الهادي راجي المجالي : الغاليات
قبل أكثر من عشرين عاماً، وحين كانت تندلع المسيرات، لم يكن مشهد المجندات في الأمن العام مألوفاً، لكن الآن وكلما اندلعت مسيرة أو مهرجان أو تجمع تشاهد مجموعات هائلة من الشرطيات في الميدان.
أراقبهن دائما وأراقب (البوريه) وكيف يقمن بارتدائه فوق (المنديل)، أراقب الهندام العسكري الجميل، والانضباط العالي والهيبة، ناهيك عن الحشمة، والأداء العسكري المهيب.
في المسيرات نكتب عن فتاة خرجت على أصول اللباقة، نكتب عن توقيف، الأمن لمجموعة أخلت بالمشهد، عن حرمة الشوارع.. عن أشياء كثيرة، لكن أحدا لم يلتقط أبدا صورة ناصعة ورائعة من صور المرأة الأردنية، لم أشاهد مقالا عن الشرطيات ولا حتى صورة تعبر عن الإقدام، ولا حتى تقريرا تلفزيونيا عن طريقة العمل والمهام.
المجندات في الأمن العام لهن عائلات، لكل مجندة أب تقبل كفه في الصباح والمساء، لهن أمهات وقد تأخذ إحداهن إجازة ولو ليوم واحد فقط من أجل أن تراجع المدينة الطبية، وتصطحب الوالدة معها لإجراء فحص السكري وأخذ العلاج، لهم أقساط تدفع للبنوك، فهن أيضا ساهمن في زواج الشقيق الأصغر، وساهمن في بناء المنزل، بعضهن تخرج من أفضل الجامعات وحصلن على أفضل المعدلات... لهن أزواج وأطفال، فحين يعدن للمنازل يخلعن الرتبة والفوتيك وكل واحدة منهن تقبل أطفالها وتخدم أسرتها كما يجب.
الشرطيات في الأمن العام، لا يحترفن الصراخ في الساحات العامة، بل يحترفن التسديد في (الإم 16)، ويعرفن طريقة فكها وتركيبها، وقد خضعن لدورات مكثفة في الرماية، زحفن في الميادين مثلهن مثل الرجال، تعلمن المسير العسكري.. أتقن التعامل مع استخدام الأسلحة والآليات، اجتزن دورات متقدمة في اللاسلكي... وفي مقر الشرطة النسائية، يوجد لهن مسجد، ويقمن بأداء الصلاة في وقتها، ويحملن المسدس أيضا، بكامل ذخيرته.
أخذ الإعلام مساحة هائلة في تغطية أخبار البنت التي صرخت، ولكنه ترك البنت التي أنهت تخصص العلوم في الجامعة الأردنية والتحقت بالجهاز، ترك البنت التي حققت، والتي نظمت إفادة للمدعي العام، ترك البنت التي تعلمت فنون مكافحة الشغب، وأطلت على المجتمع من نافذة العسكرية الأردنية المجيدة، ولم تطل من نوافذ الجندر.. وندوات الحقوق النسائية التي أرهقونا بها في الفنادق، لم تطل عبر بوابات (التك توك) والإنستجرام، بل أطلت من ميادين الشرف، وميادين الكفاح والبطولة.
الإعلام فقط يبحث عن ظاهر مدانة، ويترك الظواهر التي تعبر عن قوة الشخصية الأردنية وتفردها، يترك الجوانب التي تعبر عن صلابة المؤسسات وصلابة أفرادها... أنا لا أهتم بما يحدث في المسيرات ولكني حين أرى شرطيات الأمن العام، بجانب الرجال أفهم معنى دور المرأة، ومعنى حق المرأة.. وأفهم أن البلد لا تحميه الزنود السمر فقط، بل عيون النساء وقبضاتهن أيضا تحمي البلد.
في مسيرة الرابية الأخيرة، ولأن الطريق مغلق تركت سيارتي ومشيت، وفي درب العودة تعثرت بحفرة وسقطت على ظهري، كان بجانبي مجموعة من الشرطيات، قمن بمساعدتي وواحدة منهن أحضرت لي الماء، وواحدة عرضت عليَّ طلب الإسعاف، لكني استجمعت قواي.. ونهضت، وبكل ود واحترام.. رافقتني إحداهن إلى الجهة الأخرى من الشارع وأوقفت الحركة كي أعبر.
حين عدت لمنزلي كانت صور الفتاة التي صرخت، قد اجتاحت مواقع التواصل.. لكنها لم تعلق في ذهني، ما علق في ذهني صورة الشرطية التي أحضرت لي الماء، وصورة الشرطية التي ساعدتني في عبور الشارع، صورة النشمية المدججة بالوقار...
شرطيات الأمن العام وكل بناتنا اللواتي يخدمن في هذا الجهاز، هن من يحتجن أن تجتاح نماذجهن المجتمع لأنهن الحقيقة المطلقة، عن تفرد الشخصية الأردنية، ولأنهن نبض البلد وريحانه، ولأنهن الغاليات اللواتي حملن الصعب على أكفهن.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ 2 أيام
- أخبارنا
محمد ابو رمان : تصنيف الجامعات.. بين سوء الفهم وحقيقة التحوّل
أخبارنا : أثارت تصريحات وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، عزمي محافظة، حول تصنيف الجامعات الأردنية، جدلاً واسعاً، لم يكن كله علمياً أو هادئاً، بل انزلق البعض إلى الشخصنة وسوء الفهم، في الوقت الذي استند فيه الوزير إلى ملاحظة واقعية استخدم فيها تعبير «جامعات»، لا للتعميم، بل لوصف ظاهرة موجودة، وتستحق الوقوف عندها بمسؤولية لا بمبالغات، ومن المعروف عن د. عزمي جرأته وصراحته ودقته، بما لا ينسجم مع كثير من الاستنتاجات والتأويلات التي أخرجت تصريحاته بصورة كاملة عن سياقها! هذا الجدل فتح الباب لطرح تساؤلات أعمق وأكثر أهمية حول حال التعليم العالي في الأردن، وهو أمر جيد في ذاته إن أخذ بوعي، لأنّه لا يخفى على أحد أنّ التعليم العالي لدينا ليس في أفضل أحواله، وأنّه شهد تراجعاً ملحوظاً خلال العقود الماضية مقارنة بالبدايات الطموحة التي رافقت تأسيس الجامعات الوطنية. مررنا بمراحل صعبة، سواء على مستوى البنية الأكاديمية أو مخرجات التعليم أو حتى ظواهر مقلقة كالعنف الجامعي، ناهيك عن ضعف البحث العلمي، خصوصاً في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية. في المقابل من غير المنصف تجاهل التحولات الإيجابية التي تشهدها العديد من الجامعات الأردنية اليوم، سواء في تطوير البنية التحتية، أو تجديد أدوات وأساليب التدريس، أو التوسع في الابتعاث الأكاديمي، أو حتى في إعادة الاعتبار لمفاهيم الجودة والاعتمادات الدولية، التي لم تكن من صميم التفكير الجامعي في المراحل السابقة. هنالك يقظة حقيقية في بعض الجامعات، واستفاقة لضرورة الانخراط في معايير الجودة العالمية، بل وتحقيق بعض الإنجازات اللافتة التي يجب أن تُذكر وتُكرّم لا أن تُطمس في خضم الجدل. ولعلّ إحدى أهم هذه النقاط تتمثل في موضوع تصنيف الجامعات، الذي يبدو أنّه لا يزال غير مفهوم بدقة - لدى كثيرين ممن تناولوا تصريحات الوزير- وكأنّه موضوع هامشي أو اختياري أو لا صلة له بجوهر العملية التعليمية. والحقيقة غير ذلك تماماً. فالتصنيفات العالمية، مثل QS وTimes Higher Education، أصبحت اليوم بمثابة «بطاقة الهوية» للجامعات، تحدد سمعتها، وجاذبيتها للطلاب المحليين والدوليين، وتنعكس بشكل مباشر على خريجيها في سوق العمل. الجامعات الغربية والعربية أيضاً باتت تولي هذه التصنيفات اهتماماً بالغاً، لأنها تدرك أن موقعها في هذه القوائم هو أحد أهم مقاييس النجاح في عصر تنافسي مفتوح لا يرحم. تجاوز الجامعة الأردنية لعدد كبير من الجامعات العالمية مؤخراً ليس مجرد «رقم» في قائمة، بل هو حصيلة جهد وتراكم طويل في تطوير المخرجات، وتحسين جودة التعليم، والارتباط بسوق العمل، والدخول في شراكات علمية ومجتمعية حقيقية. من يرى أن التصنيف مجرد ترف أو مظهر خارجي، يغفل أن معاييره تشمل الاقتباسات العلمية، ونسب التوظيف، والبحث العلمي، والتنوع الطلابي، والانخراط المجتمعي، والسمعة الأكاديمية – وهي جميعها مؤشرات نوعية جوهرية. صحيح أنّ بعض المؤشرات في التصنيفات بحاجة إلى مراجعة علمية، وبأنّ هنالك «اقتصاداً» كاملاً يقوم اليوم على هذه التصنيفات من قبل بعض الشركات العالمية، لكن هذا لا ينفي أهمية أن نخضع لها، ونحاول فهمها، وأن نطوّر أداءنا بناءً عليها، لا أن ننكر وجودها أو نقلل من أثرها. بل إنّ النقد الحقيقي يجب أن يأتي من داخل الحقل الأكاديمي نفسه، من المتخصصين والخبراء، لا من ردود فعل انفعالية أو غير دقيقة. ما هو مشجّع اليوم أنّ بعض الجامعات، بخاصة الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا، بدأت فعلًا تتحرّك في الاتجاه الصحيح: برامج للإعداد الوظيفي، تطوير في البنية الرقمية، قاعات تدريس حديثة، تقليص ظواهر العنف، شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وتشبيك فعّال مع سوق العمل، تقدم مدهش في التصنيف الدولي للجامعات، ابتعاث أعداد كبيرة من طلاب الدراسات العليا للدراسة في أفضل الجامعات العالمية، والدخول بقوة إلى مجال الاعتمادات الدولية لتخصصات الجامعة،بما يجعلها مركزاً إقليمياً للتعليم العالي في المنطقة، فهذه المؤشرات يجب أن تُدعم وتُعزّز، لأنّها تشكّل الملامح الأولى لمسار تصحيحي طال انتظاره. في النهاية، لا أحد يعترض على أن يكون هناك نقد لمسيرة التعليم العالي، بل هو ضروري، لكن النقد الحقيقي لا يجب أن يكون إنكاراً للإنجازات، أو تقليلاً من الجهود، بل تفعيلاً للعقلية النقدية من داخل المنظومة نفسها، ومراكمة على ما تحقق، لتستعيد الجامعات الأردنية مكانتها التي تستحقها – لا فقط في الذاكرة، بل على أرض الواقع.

الدستور
منذ 2 أيام
- الدستور
تصنيف الجامعات.. بين سوء الفهم وحقيقة التحوّل
أثارت تصريحات وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، عزمي محافظة، حول تصنيف الجامعات الأردنية، جدلاً واسعاً، لم يكن كله علمياً أو هادئاً، بل انزلق البعض إلى الشخصنة وسوء الفهم، في الوقت الذي استند فيه الوزير إلى ملاحظة واقعية استخدم فيها تعبير «جامعات»، لا للتعميم، بل لوصف ظاهرة موجودة، وتستحق الوقوف عندها بمسؤولية لا بمبالغات، ومن المعروف عن د. عزمي جرأته وصراحته ودقته، بما لا ينسجم مع كثير من الاستنتاجات والتأويلات التي أخرجت تصريحاته بصورة كاملة عن سياقها!هذا الجدل فتح الباب لطرح تساؤلات أعمق وأكثر أهمية حول حال التعليم العالي في الأردن، وهو أمر جيد في ذاته إن أخذ بوعي، لأنّه لا يخفى على أحد أنّ التعليم العالي لدينا ليس في أفضل أحواله، وأنّه شهد تراجعاً ملحوظاً خلال العقود الماضية مقارنة بالبدايات الطموحة التي رافقت تأسيس الجامعات الوطنية. مررنا بمراحل صعبة، سواء على مستوى البنية الأكاديمية أو مخرجات التعليم أو حتى ظواهر مقلقة كالعنف الجامعي، ناهيك عن ضعف البحث العلمي، خصوصاً في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية.في المقابل من غير المنصف تجاهل التحولات الإيجابية التي تشهدها العديد من الجامعات الأردنية اليوم، سواء في تطوير البنية التحتية، أو تجديد أدوات وأساليب التدريس، أو التوسع في الابتعاث الأكاديمي، أو حتى في إعادة الاعتبار لمفاهيم الجودة والاعتمادات الدولية، التي لم تكن من صميم التفكير الجامعي في المراحل السابقة. هنالك يقظة حقيقية في بعض الجامعات، واستفاقة لضرورة الانخراط في معايير الجودة العالمية، بل وتحقيق بعض الإنجازات اللافتة التي يجب أن تُذكر وتُكرّم لا أن تُطمس في خضم الجدل.ولعلّ إحدى أهم هذه النقاط تتمثل في موضوع تصنيف الجامعات، الذي يبدو أنّه لا يزال غير مفهوم بدقة - لدى كثيرين ممن تناولوا تصريحات الوزير- وكأنّه موضوع هامشي أو اختياري أو لا صلة له بجوهر العملية التعليمية. والحقيقة غير ذلك تماماً.فالتصنيفات العالمية، مثل QS وTimes Higher Education، أصبحت اليوم بمثابة «بطاقة الهوية» للجامعات، تحدد سمعتها، وجاذبيتها للطلاب المحليين والدوليين، وتنعكس بشكل مباشر على خريجيها في سوق العمل. الجامعات الغربية والعربية أيضاً باتت تولي هذه التصنيفات اهتماماً بالغاً، لأنها تدرك أن موقعها في هذه القوائم هو أحد أهم مقاييس النجاح في عصر تنافسي مفتوح لا يرحم.تجاوز الجامعة الأردنية لعدد كبير من الجامعات العالمية مؤخراً ليس مجرد «رقم» في قائمة، بل هو حصيلة جهد وتراكم طويل في تطوير المخرجات، وتحسين جودة التعليم، والارتباط بسوق العمل، والدخول في شراكات علمية ومجتمعية حقيقية. من يرى أن التصنيف مجرد ترف أو مظهر خارجي، يغفل أن معاييره تشمل الاقتباسات العلمية، ونسب التوظيف، والبحث العلمي، والتنوع الطلابي، والانخراط المجتمعي، والسمعة الأكاديمية – وهي جميعها مؤشرات نوعية جوهرية.صحيح أنّ بعض المؤشرات في التصنيفات بحاجة إلى مراجعة علمية، وبأنّ هنالك «اقتصاداً» كاملاً يقوم اليوم على هذه التصنيفات من قبل بعض الشركات العالمية، لكن هذا لا ينفي أهمية أن نخضع لها، ونحاول فهمها، وأن نطوّر أداءنا بناءً عليها، لا أن ننكر وجودها أو نقلل من أثرها. بل إنّ النقد الحقيقي يجب أن يأتي من داخل الحقل الأكاديمي نفسه، من المتخصصين والخبراء، لا من ردود فعل انفعالية أو غير دقيقة.ما هو مشجّع اليوم أنّ بعض الجامعات، بخاصة الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا، بدأت فعلًا تتحرّك في الاتجاه الصحيح: برامج للإعداد الوظيفي، تطوير في البنية الرقمية، قاعات تدريس حديثة، تقليص ظواهر العنف، شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وتشبيك فعّال مع سوق العمل، تقدم مدهش في التصنيف الدولي للجامعات، ابتعاث أعداد كبيرة من طلاب الدراسات العليا للدراسة في أفضل الجامعات العالمية، والدخول بقوة إلى مجال الاعتمادات الدولية لتخصصات الجامعة،بما يجعلها مركزاً إقليمياً للتعليم العالي في المنطقة، فهذه المؤشرات يجب أن تُدعم وتُعزّز، لأنّها تشكّل الملامح الأولى لمسار تصحيحي طال انتظاره.في النهاية، لا أحد يعترض على أن يكون هناك نقد لمسيرة التعليم العالي، بل هو ضروري، لكن النقد الحقيقي لا يجب أن يكون إنكاراً للإنجازات، أو تقليلاً من الجهود، بل تفعيلاً للعقلية النقدية من داخل المنظومة نفسها، ومراكمة على ما تحقق، لتستعيد الجامعات الأردنية مكانتها التي تستحقها – لا فقط في الذاكرة، بل على أرض الواقع.


سواليف احمد الزعبي
منذ 4 أيام
- سواليف احمد الزعبي
حين يُقال للحق: قف!
حين يُقال للحق: قف! بقلم: الأستاذ #الدكتور_عزام_عنانزة أستاذ الإعلام في #جامعة_اليرموك في خضم الجدل الذي أثارته تصريحات معالي وزير التربية والتعليم والتعليم العالي الدكتور عزمي محافظة، وجدنا أنفسنا أمام لحظة مفصلية من تاريخ التعليم العالي في الأردن. لحظة لا تُمتحن فيها صدقية المؤسسات فحسب، بل أيضاً أخلاقياتنا الأكاديمية وقدرتنا على مواجهة ذواتنا بالحقيقة، لا تجميلها. إن ما طرحه الوزير لم يكن زلّة لسان، ولا نزوة سياسية، ولا انتقاصاً من مكانة جامعاتنا العريقة، بل كان صوتاً صريحاً شجاعاً يُعبّر عن قراءة موضوعية، تستند إلى بيانات ومؤشرات وتغذية راجعة متراكمة من جهات رقابية ومؤسسات تقييم دولية. الصدمة التي أحدثها هذا التصريح مردّها أن الرجل قال ما لم يجرؤ عليه كثيرون. وضع إصبعه على الجرح النازف في منظومة التعليم العالي، وقالها بوضوح: هناك فساد أكاديمي، هناك عبث بمنظومة النشر والترقيات، وهناك تلاعب بالمجلات والتصنيفات. ومَن يملك الشجاعة ليقول ذلك من على كرسي المسؤولية؟ القليل فقط. إن الاعتراف بالخلل هو الخطوة الأولى في طريق الإصلاح. هذا ما تعلمناه من أعظم تجارب الجامعات العالمية التي لا تعتبر النقد مؤامرة، بل علاجاً مبكراً قبل استفحال المرض. أما نحن، فما زلنا نُصدم من الحقيقة، ونُجيد دفن رؤوسنا في رمال المجاملات. الوزير لم يهاجم الجامعات الأردنية كافة، ولم ينكر منجزات الرائدتين: الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، وهما مؤسستان تتمتعان بتاريخ مشرف وعطاء أكاديمي لا يُشكك فيه عاقل. لكنه تحدث عن منظومة فيها الكثير من الفجوات التي تُستغل، وعن فساد فكري ومنهجي لا يُمكن السكوت عنه بعد اليوم. الغريب في حملة التشويه التي طالت الوزير أن غالبية من هاجموه، لا يميزون بين 'معامل التأثير' و'معامل الاقتباس'، ولم يفتحوا يوماً بوابة البحث العلمي، ولا يدركوا معنى 'Scopus' أو 'Web of Science'، ولا يعرفون كيف تُصنّف المجلات أو تُقوَّم الأبحاث. فكيف يُسمح لهم بالتصدي لحوار علمي، في ساحة ينبغي أن يكون النقاش فيها للخبراء والمختصين؟ للأسف، تحوّل النقاش إلى جدل شعبوي، تسلّق فيه كثير من غير المختصين المنبر الإعلامي والبرلماني، فشوّهوا الرسالة، وابتعدوا عن جوهر التصريح. فهل أصبحت الحقيقة تُقابل بالتحريض؟ وهل كل من دعا للإصلاح أصبح خائناً للمنظومة؟ الوزير لم يهدم صرحاً، بل قرع الجرس. هو لم يطالب بإغلاق الجامعات، بل بإصلاحها. لم يشكك في مكانة الأكاديميين المخلصين، بل طالب بتطهير البيئة من الانتهازيين والمزوّرين والانتهاكات التي تُقترف تحت عباءة البحث العلمي. إنَّ رفضنا لمكاشفة الواقع هو ما أوصل بعض جامعاتنا إلى تراجع خطير في التصنيفات الدولية، وما أنتج خريجين لا يملكون المهارات الأساسية، وأساتذة ينشرون أبحاثاً في مجلات 'مفبركة'، لا يسمع بها سوى مواقع النصب الأكاديمي. دعوتي هنا صريحة إلى الإعلاميين، وأعضاء مجلس النواب، ورئيس الوزراء، وسائر المسؤولين: دعوا هذا الشأن للخبراء، دعوه لأهل الجامعة. لا تجعلوا من التعليم العالي ساحة للتجاذبات السياسية، ولا تصفوا حساباتكم على حساب مؤسسة وطنية كان يفترض أن تكون محمية من العبث. نحن في لحظة تاريخية يُعاد فيها تقييم رؤساء الجامعات، وتُرسم فيها سياسات للمرحلة القادمة. فهل من المعقول أن نُقصي من يجرؤ على طرح الأسئلة؟ أم أن المطلوب هو وزير يُجيد التصفيق، لا المحاسبة؟ كل من يُهاجم الوزير اليوم، دون فهم لما قال، هو إما خائف من المحاسبة، أو منتفع من بقاء الخلل، أو عاجز عن فهم حقيقة ما يجري. أما من يدرك حجم الأزمة، ويُدرك خطر الصمت، فسيعلم أن ما قاله الوزير هو موقف شجاع، لا يُقابل بالتشويه، بل بالدعم والمساندة. نُريد جامعاتنا أن تُنافس لا أن تُنافَق، نُريد باحثينا أن ينشروا علماً لا حشواً، نُريد وزراءً يُواجهون الخلل لا يُسايرونه. وهذا ما فعله معالي الدكتور عزمي محافظة. فليحفظ الله الأردن، وليحمِ مؤسساته العلمية، ولتبقَ جامعاتنا مناراتٍ للعلم لا مسارحَ للمصالح. وليُكتَب لهذا الوطن أن يتقدم، بصدق القول ونقاء الضمير. والله من وراء القصد.