logo
الوطن بين خطر الطائفية وتبعاتٍ أيديولوجية موقوتة

الوطن بين خطر الطائفية وتبعاتٍ أيديولوجية موقوتة

الجزيرةمنذ 2 أيام
لم تعد الأوطان حاضنة للقضايا المصيرية، بل انكمشت جغرافيتها بين حدود وضعية وتأطير روحي يُختزل فيه الوطن بين خطوط طولية ودوائر عرضية، مفرغًا تمامًا من قضيته الوجودية، خاضعًا ومكبلًا بسلاح الطائفية الناعمة كقنبلة مؤجلة، تعمل القوى الكبرى على إعادة برمجتها وتشغيلها عند كل مفترق تاريخي.
لقد شكلت قوة النفوذ والهيمنة "البراغماتية" معايير بناء الأوطان وتصميم ملامحها، وتقاطعت الجغرافيا مع الهوية ليتأجج السؤال برواية حارقة: أما زال الوطن هو الحاضن، أم إن ساحاته "المهلهلة" تحولت إلى أوكار تُصنع فيها فكرة الطائفية دون مصالح مشتركة؟
النفوذ الغربي يرسم رقصاته على وقع لحن الدمار، ويعيد قرع نُذر الحرب تارة ويرممها بندوب السلام تارة أخرى، والمشهد يطول، والواقع يتأرجح على حد السيف، والوجهة على صفيح ملتهب.
لقد تجاوزت الطائفية فكرة ومصطلح الاختلاف الطبيعي في أنماط التدين والتفكير، لتبرز بشكل "سافر" وتكون مشروعًا تدميريًّا يقاد من قبل أجهزة الاستخبارات
لذلك، ومن بين قعقعة السلاح "الطائر"، وقوة الاقتصاد الغارق في رأسمالية الاحتكار والتملك والاستحواذ، واشتداد بروز "شوفينية" الرموز وعنجهيتها، وتقاطع وازدواجية المصالح؛ تبرز لديّ تساؤلات مرهقة: وماذا بعد؟ هل تبقّى شيء لم يجرَّب؟ ألا يوجد رأي رشيد حصيف؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ وبمن نحتمي؟
لم يعد هناك ما يُخفى، ولن يتبلور ما يُرى ويُرتجى، فهنا من يرى ما لا نرى؛ وعلى مد البصر وفي وضح النهار تشتعل الجبهات، ويشتد وطيس المعارك، ويتعمق شتات الأمر من قضايا كانت هامشية وتعود إلى السطح وفق تمكّن القوى العظمى من تحريك وتوجيه البوصلة.
فهذا الواقع يرزخ تحت وطأة التعددية الإثنية، وعلو كعب الجماعات غير المتجانسة التي انفصلت عن الواقع وفق مجريات الأولويات والانتماءات الدينية، وممارسة السادية السياسية على شعوب تبحث عن معنى الاستقرار، فلا هم في العير ولا في النفير.
إن الانحراف عن الفطرة يولّد ثقافة القطيع، ويدفع إلى تبني حالات الولاء الأعمى، وطغيان القوة على شعوب غُلبت في أمرها؛ فانتقلت من سمو تأليه الخالق إلى سطحية وانحدار تأليه البشر، الذين طفقوا ضربًا واضطهادًا بما يخالف المصالح.
في الأندلس، تفرقت الطوائف وتناحرت فدخل العدو من الباب مع هتافات "النصر"، وفي العراق العباسي برزت العصبيات العمياء فأحرق المغول بغداد، وفي القرن العشرين أفل نجم الدولة العثمانية، ليس من ضعف عسكري بل لانشغالها بالداخل المقسم والمجزأ. التاريخ لم ينسَ تلك اللحظات، وها هي الكرة تعاد من جديد وعلى ذات البرمجة في هذا العصر.
لقد تجاوزت الطائفية فكرة ومصطلح الاختلاف الطبيعي في أنماط التدين والتفكير، لتبرز بشكل "سافر" وتكون مشروعًا تدميريًّا يقاد من قبل أجهزة الاستخبارات، ويكبُر ويتوسع بين حضانات الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وتحفظه عن ظهر قلب أصوات مأجورة تبحث عن الاختلاف وذاتيتها المطحونة.
فمنذ عام 2003 تفكك العراق على أسس طائفية، وفي لبنان تأخر "الوطن" وتبعثر الأمل وسط مجموعة طوائف تبحث عن دولة، وهناك في المربط الأموي، وفي قلب الشام، ها هي الطائفية تعود كجواز سفر للحياة والموت في آن واحد، لتبحث عن حماية أممية تبيح للكيان الإسرائيلي العبث بها؛ فالقنبلة الطائفية طويلة الأمد لا تنفجر دفعة واحدة، وإنما تبرمج وفق مصلحة المستحوِذ والمتحكم.
الطائفية الافتراضية
لقد أصبح من السهولة بمكان إحداث الفوضى وتوجيه الرأي العام نحو غوغائية التبعية بكبسة زر واحدة؛ وذلك من خلال منصات "التناحر" الاجتماعي، التي شكّلت الرأي وضده، في حلبة صراع سريعة الاشتعال، بل أصبحت هي الموجه للأنظمة، وهي بقعة الرضا والشعور بالانتماء، وهي نمط من أنماط الطائفية العصرية.
تلك الطائفية الجديدة تفننت في استخدام منابر التراشق وإشعال فتيل الصراع؛ فساهمت في تحوير حقائق الفكر "المقاوم" بمختلف هوامشه ومتونه، فتغذت على الانحرافات الفكرية والانفصام السلوكي المغيب للقيم الإنسانية، وبُنيت على فكرة الفوضى المنظمة التي تبررها نظريات "الردع الاستباقي" والأمن القومي.
إننا نسير بطوق من الأسلاك الشائكة وكاميرات رقابية كثيرة الحساسية، من أجل محاصرة الفكر وتقييد حرية العقل، للدخول في "زريبة" إذعان الوعي المؤمم والمطلق، أو ما يسمى "اللافكر" أو العدم العقلي، وهذا ما تقوم عليه الأنظمة القمعية التي تقيد حرية التعبير، وتدفع المواطن إلى الصمت فيعتبره أمانًا.
إن النهج القمعي الموجه ولّد الاختلاف بين اهتمامات الشعوب، وجعلها رهينة فكر واحد ضمن نطاق جغرافي محدود بعيدًا عن الولاء الديني، فما يتحدث به الآخر ويطالب به ويتبناه، من حيث حقه في الدفاع عن نفسه وعرضه ووطنه، يراه الآخر في الجوار بأنه هلاك ودمار للبنى الأساسية، وعليه الرضوخ والرضا بواقعه، وأن يتعايش معه، فيما يرى هو ذاته ضمن نطاقه الجغرافي بأنه "خط أحمر" لا يمكن أن يُتهم تصريحًا أو تلميحًا بشيء من الواقع في ظواهره المجتمعية، ولا يمكن أن يسمح لأحد أن ينال منه، وما خالف الإيجابيات فهو خطأ لا يمكن أن يقع البتة في ذلك الحيز.
وهذه هي النظرة الشوفينية التي تدعو إلى التحزب والتعصب تجاه النفس والانتماء، مع تعزيز وتكريس الأفكار بالتقليل من شأن الآخرين والتحامل عليهم، بل وشن الحملات التكفيرية ضدهم.
وبذلك، فإن وطننا الإسلامي المترامي بطوائفه وقومياته تحوّل إلى ساحة للحفلات، يكثر فيها "نبيب التيوس وثُغاء المعزات"، خاصة عندما تكون الوجهة نحو التحرر في الشكل على حساب المضمون الذي كُبّل بالقيود القمعية.
أيديولوجيًّا؛ تمادت الطائفية لإضعاف المشروعات الدينية، ولتعويض الغياب السياسي في حالة الفوضى، خاصة مع بروز "المحاصصة الطائفية" التي أفرغت الفكر من مضامينه الوطنية، واستبدلت بسردية الوطن العادل الطائفة المنتصرة
تلك هي الساحة التي أشغلت الشعوب عن مصائرها، وساهمت بالسير إلى الابتذال في التعري، ناهيك عن التصيّد الذي لعبت به خوارزميات الواقع الافتراضي، وحولته إلى أجندة سياسية تهاجم بها الشعوب نفسها وتتصادم مع ذواتها، في وضع يشير إلى حالة الإلهاء عن الأولويات، والدفع باتجاهات الرأي وحشده تجاه قضايا هامشية وربما وهمية، لنكون أمام نمط الطائفية الجديدة.
إن الخطر الأكبر الذي يهدد التمازج البشري في بقعة جغرافية هي التشكلات النمطية وفق المتطلبات الراهنة، وهي "الطائفية الجديدة" التي لا تتطلب مؤسسة دينية تقليدية، بل تعمل تحت ستار الحرية وتعدد الرأي، تدفع بالاختلاف الطائفي بلباس الحداثة والوعي، وتدفع بالكراهية تجاه الرأي المخالف.
تبرز الطائفية الجديدة في إعادة الخطاب الطائفي بأدوات رقمية، فيما تقوم خوارزميات الانحياز والتغذية الراجعة بإثارة التفاعل من خلال محاصرة الأفراد في إطار قناعاتهم الطائفية، أو ما تسمى "الفقاعة الطائفية"، بل تصل إلى سحب القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى المربع الطائفي، فتعاد برمجتها كأنها صراع طائفي، ليتكشف بعد ذلك "الترويند" أو الاتجاه السائد، أو- كما يسمى- الأكثر تداولًا.
تظهر هنا كذلك فلسفة التحريض الرقمي، الذي يقوم على حملات ممنهجة، وبث معلومات مفبركة توقظ وتُلهب النعرات الطائفية باستخدام أو "الهاشتقات"، وهو يدعم الاصطفاف والانحياز من أجل تبرير مشاعر المظلومية والتفوق لإشعال معارك رقمية.
وبالتالي، تقوم الجهات الخارجية وفق عملية التلاعب السياسي باستخدام الحسابات الوهمية لزعزعة الاستقرار، وتشتيت الرأي العام عن قضاياه المصيرية والمركزية، وتعميق التناقضات الداخلية، لتتحول رمزية الواقع الطائفي إلى هوية افتراضية لبعض المستخدمين للتعريف عن أنفسهم، مع احتمالية كبيرة بأن تكون هذه الهوية أكثر تطرفًا من الواقع؛ بسبب التحرر من المحاسبة، وسهولة الاندماج في الجماعات الرقمية.
أيديولوجيات موقوتة
أيديولوجيًّا؛ تمادت الطائفية لإضعاف المشروعات الدينية، ولتعويض الغياب السياسي في حالة الفوضى، خاصة مع بروز "المحاصصة الطائفية" التي أفرغت الفكر من مضامينه الوطنية، واستبدلت بسردية الوطن العادل الطائفة المنتصرة.
تطور التبعات الأيديولوجية من خطاب متعصب إلى صراع طويل الأمد، يدفع بتدوير الخراب وإنتاج خوف جمعي يُفرغ الفكر من عمقه التحرري، ليعلن المحتل المغتصب بأنه المدافع عن تلك الطائفة، ويعطي نفسه الحق بإنقاذها من بطش عصابات النظام، على حد وصف "نتنياهو" ظهيرة قصف وزارة الدفاع السورية في عمق دمشق بجرأة سافرة، وعلى مرأى العالم.
إنه الوطن الذي اختل معناه وضاقت حدوده واتسعت غربته… إنه الوطن الذي يُقصى فيه الفكر ويُحتفى فيه بالتبعية المؤدلجة… إنه الوطن الذي يُختزل فيه الانتماء في رقم مدني يمثل الهوية… إنه المكان الذي تُقاس فيه الوطنية بمدى الولاء للسلطة لا للحق.
أوطاننا أصبحت سجنًا لا مأوى روحيًّا يؤثر ويتأثر به الإنسان، وغدونا نحرس الطائفية أكثر من الثروة الوطنية! فيا أيها العقلاء: إن الوطن لا يقاس بخارطة فقط؛ بل بقضية وفكر ووعي وكرامة واستقلال، حتى لا يمسي الوطن بين خطر الطائفية وتبعاتٍ أيديولوجية موقوتة تتربص بما تبقّى.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مسؤول سوري: انتخابات مجلس الشعب بين 15 و20 سبتمبر
مسؤول سوري: انتخابات مجلس الشعب بين 15 و20 سبتمبر

الجزيرة

timeمنذ 6 دقائق

  • الجزيرة

مسؤول سوري: انتخابات مجلس الشعب بين 15 و20 سبتمبر

توقع رئيس اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب السوري محمد طه الأحمد، اليوم الأحد، أن تُجرى العملية الانتخابية بين 15 و20 سبتمبر/أيلول القادم لاختيار أعضاء المجلس. وبيّن أنه سيسمح بمراقبة العملية الانتخابية، الأولى منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، من قبل المجتمع والمنظمات الدولية بالإشراف والتنسيق مع اللجنة العليا للانتخابات إضافة إلى ضمان حرية الطعن في القوائم والنتائج. وأعلن الأحمد زيادة عدد مقاعد المجلس من 150 مقعدا إلى 210، بينهم 70 عضوا يعينهم الرئيس أحمد الشرع ، مشيرا إلى أن نسبة مشاركة المرأة في الهيئات الناخبة تصل إلى 20% على الأقل. ووفقا لوكالة الأنباء السورية (سانا)، أكد الشرع ضرورة "استبعاد كل من وقف مع المجرمين وأيدهم"، إضافة إلى الأشخاص الذين يدعون إلى التقسيم والطائفية والمذهبية. ووجه الشرع، الذي تسلم النسخة النهائية من النظام الانتخابي المؤقت لمجلس الشعب، بمواصلة التقدّم في مسار العمل لضمان مشاركة شاملة تُعبّر عن إرادة السوريين. وقال الأحمد إن الرئيس الشرع أُطلع على أهم التعديلات التي أُقرت على النظام الانتخابي، بعد جولات اللجنة ولقاءاتها مع شرائح المجتمع السوري وفعالياته. وأضاف أنه بعد توقيع المرسوم الخاص بالنظام الانتخابي المؤقت، سنحتاج إلى مدة أسبوع لاختيار اللجان الفرعية، ثم نمنح هذه اللجان 15 يوما لاختيار الهيئة الناخبة، وبعد ذلك نفتح باب الترشح مع منح المرشحين أسبوعا لإعداد برامجهم الانتخابية، ومن ثم تُجرى مناظرات بين المرشحين وأعضاء اللجان والهيئات الناخبة. والتقت اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب السوري، الأسبوع الماضي، عددا من ممثلي البعثات الدبلوماسية العربية والأجنبية في سوريا ، بهدف إطلاعهم على مراحل العملية الانتخابية. يذكر أنه في 18 يونيو/حزيران الماضي، أعلنت اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب في سوريا بدء أعمالها، ورجحت تشكيل مجلس الشعب الجديد خلال 60 إلى 90 يوما.

ما أسباب حظر مؤسسة "القرض الحسن" في لبنان؟
ما أسباب حظر مؤسسة "القرض الحسن" في لبنان؟

الجزيرة

timeمنذ 6 دقائق

  • الجزيرة

ما أسباب حظر مؤسسة "القرض الحسن" في لبنان؟

بيروت – في خطوة تعكس تحولًا لافتًا في سياسة مصرف لبنان تجاه المؤسسات المالية غير النظامية، أصدر المصرف المركزي قرارًا يقضي بحظر التعامل مع عدد من الهيئات غير المرخصة، في مقدّمتها "جمعية القرض الحسن" التابعة ل حزب الله ، مما فتح الباب أمام سجال واسع حول قانونية هذه المؤسسات ودورها في المنظومة المالية الموازية التي نشأت في ظل الانهيار المصرفي اللبناني. وتُعد الجمعية من أبرز الركائز الاقتصادية التي يعتمد عليها حزب الله في تمويل أنشطته الاجتماعية وتقديم الخدمات المالية. ونشأت في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 تحت غطاء جمعية خيرية، قبل أن تحصل على ترخيص رسمي من وزارة الداخلية اللبنانية عام 1987، مما أتاح لها العمل بشكل قانوني ضمن الإطار الرسمي للجمعيات. ورغم أنها لا تخضع لقانون النقد والتسليف اللبناني الذي ينظم عمل المصارف، فقد تمكنت "القرض الحسن" من ترسيخ حضورها في السوق المالية اللبنانية، حيث تدير أكثر من 30 فرعًا موزعة على مختلف المناطق. وخلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، تحولت الجمعية إلى هدف مباشر للغارات الإسرائيلية، حيث استُهدفت معظم فروعها بالقصف، مما اعتُبر رسالة واضحة إلى البنية الاقتصادية الداعمة للحزب. تنظيم مالي يعلّق الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان على القرار بالقول إنه "خطوة إيجابية في سياق الحد من تمدد اقتصاد الكاش في لبنان"، لكنه يلفت في المقابل إلى أن التعميم الصادر عن مصرف لبنان لا يطول مؤسسة "القرض الحسن" فقط، بل يشمل المؤسسات والمصارف المالية الخاضعة لرقابته. ويُوضح أبو سليمان للجزيرة نت أن "القرض الحسن" هي جمعية مرخّصة من وزارة الداخلية، وبالتالي فإن أي إجراءات بحقها -إن ثبت أنها تمارس أنشطة مالية خارج الأطر القانونية- تُعدّ من مسؤولية السلطات المحلية، نظرًا إلى أن تقديم أي خدمات مالية يتطلب ترخيصًا رسميًا من المصرف المركزي. إعلان ويضيف أن هذا التعميم لا يُتوقع أن تكون له تداعيات مباشرة على الاقتصاد اللبناني، سواء سلبًا أو إيجابًا، بل يُقرأ بوصفه "إشارة سياسية موجّهة إلى الخارج، تفيد بأن لبنان بصدد تنظيم قطاعه المالي ووقف التعامل مع أي كيانات لا تخضع للرقابة". ويشير إلى أن القرار لا يترك تأثيرًا يُذكر على القطاع المصرفي، "إذ إن المصارف اللبنانية أساسًا لا تتعامل مع مؤسسة القرض الحسن، ولا تقدم لها أي خدمات". ازدواج مالي من جانبه، يقول خبير الاقتصاد والأسواق المالية الدكتور عماد عكوش للجزيرة نت، إن فهم الفروقات الجوهرية بين عمل المصارف وجمعية القرض الحسن يتطلب أولًا الإلمام بالإطار القانوني الذي ينظم القطاع المصرفي في لبنان. فمن أبرز القوانين التي تحكم عمل المصارف: قانون النقد والتسليف الصادر عام 1963، قانون السرية المصرفية لعام 1956، قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44 لعام 2015، يُضاف إليها قانون دمج المصارف، ومشروع قانون إعادة هيكلة القطاع الذي لا يزال قيد البحث في البرلمان، فضلًا عن سلسلة تعاميم صادرة عن مصرف لبنان، وقانون حماية المستهلك الذي يفرض معايير للشفافية والإفصاح في التعاملات المصرفية. لكن عكوش يشدد على أن هذه المنظومة القانونية لا تنطبق على "جمعية القرض الحسن"، التي تُصنّف خارج النظام المالي الرسمي، والاختلاف لا يقتصر على الإطار القانوني فحسب، بل يتعدّاه إلى الوظيفة. فالمصارف، بحسب عكوش، تستقبل الودائع بأنواعها كافة وتمنح قروضًا بفوائد، وتُعنى بأنشطة التمويل، والخصم، والضمانات المصرفية، وتسهيل عمليات الدفع، إلى جانب المتاجرة بالعملات والمعادن وتقديم الخدمات البنكية التقليدية. في المقابل، تقتصر وظيفة الجمعية على منح قروض بلا فوائد وبمبالغ محدودة، في سياق دعم الفئات الفقيرة والمجتمعات الهشّة. من هذا المنطلق، يرى عكوش أن تعميم مصرف لبنان رقم 169، الذي يمنع التعامل مع الجمعية، يأتي في سياق سياسي أكثر منه ماليا، إذ يستهدف ما يُعرف بـ"السلاح المالي لحزب الله" عبر تقويض الشبكة الاقتصادية التي ينسجها خارج النظام المصرفي الرسمي. وبرغم الطابع الخيري الذي تتسم به خدمات الجمعية، فإن الخبير الاقتصادي يشير إلى أنها تواجه اتهامات بأنها تُستخدم ذراعا تمويلية للحزب، ويأتي قرار الحظر في ظلّ أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، مما قد يفاقم الضغوط المعيشية على آلاف العائلات التي كانت تعتمد على هذه القروض الصغيرة لتسيير شؤونها اليومية. ويرى الخبير أن هذا القرار يشكّل رسالة سياسية موجّهة من مصرف لبنان إلى الخارج، بهدف الدفع نحو شطب اسم لبنان من "اللائحة الرمادية" التابعة لمجموعة العمل المالي (FATF)، التي تضم الدول المقصّرة -بحسب المفهوم الغربي- في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. رقابة مشددة وأبعاد سياسية يقول الباحث المالي والاقتصادي الدكتور عماد فران إن مؤسسة "القرض الحسن" لم تكن يومًا على ارتباط مباشر بالمصارف أو تملك حسابات مصرفية فيها، بل تتعامل غالبًا مع مؤسسات الصرافة، ومن هنا فإن التعميم يُعد إجراءً رقابيًا ضمن صلاحيات مصرف لبنان، يهدف إلى ضبط حركة الأموال خارج النظام المصرفي الرسمي. ويوضح أن الجمعية، رغم نشاطها المالي الواسع، فإنها لا تُعد مؤسسة مصرفية مرخّصة، بل تُشبه في طبيعة عملها بعض شركات التمويل أو الاستثمار، مما يضعها خارج المظلّة القانونية التي يخضع لها القطاع المصرفي اللبناني. لكن الإشكالية، بحسب فران، لا تنحصر في البعد التنظيمي أو المالي، بل تتجاوز ذلك إلى أبعاد سياسية، إذ يرى أن هناك ضغوطًا خارجية تُمارس على لبنان لوضع نظامه المصرفي تحت رقابة صارمة، بذريعة مكافحة تمويل جهات معيّنة أو الالتزام بالمعايير الدولية. ويعتبر أن ما يصدر عن مصرف لبنان أو لجنة الرقابة على المصارف، وحتى الجهات الدولية، يحمل في طيّاته رسائل سياسية واضحة تتصل بإعادة رسم التوازنات في المنطقة. ويحذر فران من أن هذا المسار قد يُفضي إلى ارتدادات داخلية، إذ إن أي توتر سياسي أو اجتماعي سيلقي بثقله على الوضع الاقتصادي الهش أصلًا. أما في ما يخص القطاع المصرفي، فيرى فران أنه لا يتأثر مباشرة بهذه التطورات، لكن استعادة الثقة به ستبقى مرهونة بقرارات مصرف لبنان، لا سيما ما يتعلق بأموال المودعين وإعادة تفعيل دور المصارف في تمويل الاستثمارات. ويؤكد أن هذه العودة مشروطة بتوفر التمويل بالدولار، وهو ما يفتقده لبنان حاليًا في ظل غياب "الدولار الاستثماري" الضروري لتحريك العجلة الاقتصادية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store