
الأعراب وعصر التسريبات
مثلما ساد العصر الطباشيري والجليدي وعصر الديناصورات الجوراسي، بلغنا في يومنا هذا تكامل عصر التسريبات، الذي عرفه العرب منذ بدايات تكوين الدول العربية الخارجة من قماقم الاستعمار بثورات أفقدت روادها الثقة بالبشر، فنظل اليوم نسمع ونستغرب من تلك المفاهيم، التي كانت تعتبر علو كعب فهلوة، وثقافة احتياط وتدبير وخبث يكتب الخطوط العريضة لسياسات متردية تنسج بعقول استخباراتية تشكك حتى في أقرب الناس إليها، تصنت وتجسس وابتزاز، وتوريط في فضائح تظل تلتوي وتحلم وتتوقع وتحلب، وتتصيد الكلمات المتقاطعة مهما تناثرت في خلوات فضفضة أخوية، عازمين على تلفيقها على شكل حقائق تبنى عليها ممالك من الوهم والافتراءات والتشويهات والغدر، وتكسر رقاب أخلاق وشرف الإنسانية حينما تدور الأحداث وتفشل النوايا وتحبط العقول، التي كانت ترغب في خلق خيال مشتهى، وتركيع قوي وضعيف، ولو بعد عقود من الزمان، بتشويه وإعادة رسم المسارات.
ذلكم هو النهج التحكمي الاستخباراتي الذي أشعل الثورات العربية قديمها وحديثها، تبيع الولاء، وتتبنى كهرباء الصدمات بما ظل يتسرب من خيمة زعيم التسجيلات القذافي، المنقلب حتى على خطوات قدوته المسجل الأعظم عبد الناصر، بنهج التخوين، واستغلال كل شاردة وواردة، فلربما يصنع منها الحلم يوما، أو يجدها حبل نجاة له من انتكاسات كان بمخاوفه يتحين حدوثها.
تشويق فيلم له أجزاء قادمة، والمخرج والممثلون ماتوا، فتقع الأشرطة بأيدي خونة منتهزين يحترفون صناعة سيناريوهات القلق، بما يقبضون، يعيدون كتابة تاريخ منحول، يشوهون فيه الرموز بكلمات من هنا وصور من هناك، والمتهم عاجز عن الرد، والمؤرخون والشهود على قفا من يشيل.
تقنية التسجيل دخلت حياة أعراب مستعربة جهلة ملفقين ناقمين مستهلكين، لم يهتموا يوما بقيمة الإنسان ولا ببناء أوطان سلام، ولا علم ولا معرفة، فلم يتبنوا ما يفيد البشرية، وظلوا يستغلون مفارقات التقنية بألاعيب سحرهم، يرقعون واقعهم المفتق، ويعدلون الصور المهزوزة بنوايا إظهارها مستقبلا لتمجيد أنفسهم وتوريط أصدقائهم، متكئين على تداخل أصوات نشاز ربما لم تكن حينها تحكي عما يراد تأكيده اليوم.
سياسة مرضى نفسيات الخوف، والشك، والخيانة، وعشق ركوب موجات الغدر، وتوقع الشر قبل وقوعه وترسيخ قدرات التقنية، بأوهام أنهم يمتلكون القيود والمفاتيح، بنفوس خاطئة كاذبة تنبش القبور وتطمر، وتعلي من يتم إعادة كتابة سيرته بالتسريبات.
الشعوب العربية على مواقع التواصل وجدت في التسريبات غاية غاياتها، فشنت الحروب الكلامية، وعمقت الشقوق، وكالت التهم لأهل القيم، وأكبرت خبث المسرب، غير مدركة أنها مدفوعة الثمن، وأجزاء متعاقبة مما يمكن أن يحرق خيام وخيبات الأعراب مستقبلا، ويسيء للمخلص من بعد رحيله، بقدر الإبداع في توظيف التسريبات.
كل العالم لديهم معلومات تاريخية، ويأتي عليها زمن تنتهي فيه سريتها، وأمريكا اليوم تنتظر فضائح وتسريبات جزيرة جيفري المغتصب ابستين، وقضية مقتل الرئيس كندي، ولكن الوعي الشعبي يفرق عن الأعراب، فلن تقف عندها عجلة النماء والتقدم والتعقل في دولتهم.
بينما عقول شعوبنا تفتقر للكثير، وتبدع في تخيل الأوهام والأشراك والحيل والتنازع، ناسية أن القادم أسوأ مع الذكاء الاصطناعي الذي يفضح السوءة بالصوت والصورة، أعان الله عقولنا وجعلها دليلا لنا وسط خبال عصر تسريبات مؤدلجة تحرق المبادئ والعلاقات والأوطان.
shaheralnahari@
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرياض
منذ 3 ساعات
- الرياض
رابطة العالم الإسلامي تُدين العنف ضد المدنيين في غزة واعتداءات المستوطنين على كفر مالك
أدانت رابطة العالم الإسلامي بشدة استهداف قوات حكومة الاحتلال الإسرائيلي مواقع مدنية تؤوي نازحين، والعنفَ الذي تواصله ضد المدنيين في قطاع غزة، والاعتداءات الهمجية الدامية التي شنها مستوطنون إسرائيليون على قرية كَفَر مالك شرقي رام الله، في إطار العنف الذي ينتهجه المستوطنون ضد الفلسطينيين تحت حمايةٍ من قوات حكومة الاحتلال، مع إفلات كامل من العقاب. وفي بيانٍ للأمانة العامة للرابطة ندَّد معالي الأمين العام رئيس هيئة علماء المسلمين فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، بهذه الجرائم الوحشية المتواصلة ضد المدنيين العُزّل في الأراضي الفلسطينية، والتي تمثِّل انتهاكًا صارخًا لكل القيم الإنسانية، والقوانين والأعراف الدوليّة. وشدد فضيلته على الضرورة الملحّة لاضطلاع المجتمع الدوليّ بمسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه سياسة حكومة الاحتلال المتمادية في الاستهانة بحقوق الشعب الفلسطيني وإنسانيته وكرامته، واتخاذ موقف عاجل وجدّي لوقفِ هذه المجازر المروعة التي تواصل آلة الحرب الإسرائيلية ارتكابَها، ولتفعيلِ الآليات الدولية لردعها، ومحاسبة المسؤولين عنها.


الشرق الأوسط
منذ 5 ساعات
- الشرق الأوسط
السعودية تدين استمرار العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين
أعربت السعودية، الجمعة، عن إدانتها واستنكارها لاستمرار أعمال العنف التي يشنها مستوطنون إسرائيليون بحمايةٍ من قوات الاحتلال ضد مدنيين فلسطينيين، بما فيها الاعتداءات في قرية كفر مالك شرق رام الله. وجدَّدت في بيان لوزارة خارجيتها، إدانتها لاستمرار أعمال العنف الإسرائيلية ضد المدنيين العزل في غزة، من بينها استهداف المواقع المدنية التي تؤوي النازحين. وشدَّدت السعودية على ضرورة بذل جميع الجهود لتوفير الحماية للمدنيين، وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة كافة، مُجدِّدةً مطالبتها للمجتمع الدولي بالاضطلاع بمسؤولياته لوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية للقوانين والأعراف الدولية. من جانبه، أدان جاسم البديوي، أمين عام مجلس التعاون الخليجي، الهجمات العدوانية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، مؤكداً أن هذه الانتهاكات المتكررة تمثل تصعيداً خطيراً وخرقاً فاضحاً للقوانين الدولية والإنسانية، وتندرج ضمن سياسة ممنهجة تهدف لتقويض حقوق الشعب المشروعة، وفرض الأمر الواقع بالقوة. وجدَّد البديوي دعوته إلى المجتمع الدولي، لا سيما مجلس الأمن، لتحمل مسؤولياته القانونية والإنسانية، والتحرك العاجل لوضع حد لهذه الانتهاكات، وتوفير الحماية الدولية اللازمة للشعب الفلسطيني، ودعم جميع الجهود الرامية لتحقيق السلام العادل والشامل، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.


Independent عربية
منذ 5 ساعات
- Independent عربية
الأرباح والخسائر في لعبة أكبر
الرئيس دونالد ترمب أمسك باللعبة من أيدي القوى الإقليمية في المنطقة، وأعاد الدورين الروسي والصيني إلى مسافة طويلة وراء الدور الأميركي. وما كان من الصعب عليه الانتقال سريعاً من توجيه ضربة هائلة للمنشآت النووية الإيرانية إلى فرض وقف النار على إسرائيل وإيران، المتعبتين من تبادل التدمير في حرب قاسية. ولم يكن خارج التوقعات إعلان ثلاثة "منتصرين" في حرب هي عملياً حرب "منتصر" واحد وعاجزين اثنين عن الانتصار. فليس في حرب كالتي بدأتها إسرائيل بالطائرات وردت عليها إيران بالصواريخ انتصارات، بل مجرد أرباح وخسائر لدى كل طرف. ولا شيء يمنع من الادعاء أن نتنياهو "ملك إسرائيل" وأن المرشد الأعلى علي خامنئي "إمبراطور غرب آسيا"، وأن ترمب "ملك العالم"، لكن على الجميع الجلوس في هدوء و"البحث عن الحقيقة في الوقائع" حسب الحكمة الصينية. ذلك أن حسابات الأرباح والخسائر ليست نهائية ولا كاملة في حرب ناقصة، حرب هي الأولى بين دولتين وجيشين في المنطقة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بين التحالف المصري-السوري وإسرائيل، لأن كل الحروب الأخرى كانت بين إسرائيل ومجرد فصائل مثل "حزب الله و'حماس' وأنصار الله الحوثيين"، حرب لا تستطيع أطرافها تحمل دمارها وكلفتها ومضاعفاتها طويلاً، وليسوا قليلي الرغبة في إكمالها حين تسمح الظروف. وما تقوله الوقائع واضح، بصرف النظر عن القراءات المتسرعة والقراءة الأيديولوجية. إسرائيل ربحت إبعاد الكابوس النووي وتدمير جزء من منصات الصواريخ، مقابل خسارتها لما روجت له من كونها "القلعة الحصينة"، وانكشاف ضعف قدرتها على حماية أصولها الاستراتيجية من ضرب الصواريخ الباليستية. إيران ربحت تأكيد القدرة على الصمود وإلحاق الأذى بإسرائيل، وما لم يكن على جدول الأعمال أمام أميركا وإسرائيل، وهو بقاء النظام، لكنها خسرت أسطورة الاقتدار، وبدت مكشوفة أمام الطيران الإسرائيلي من دون حماية فعلية، بحيث دفعت في الضربات اليومية أثماناً لا تقل عن الأثمان التي دفعتها في "الضربة الاستباقية" لجهة اغتيال القادة الكبار وعلماء الذرة، كما أن قوتها الصاروخية لفتت أنظار أوروبا والعرب إلى أخطار الصواريخ الباليستية على أمن أوروبا والمنطقة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ترمب ربح الحرب عبر الضربة العسكرية التي شكلت مشهد الذروة في التراجيديا القتالية، ويريد أن يربح السلام. ومن المبكر رسم السيناريوهات حول الصورة الجديدة للشرق الأوسط، فلا تقسيمات سايكس-بيكو كانت ممكنة لولا الحرب العالمية الأولى وهزيمة السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمسوية-المجرية والإمبراطورية البروسية ثم القيصرية. ولولا الحرب العالمية الثانية لما حصلت البلدان العربية على الاستقلال، ولما كان من السهل أن تولد إسرائيل. والتطورات الدراماتيكية التي يتحدث عنها أصحاب الخيال، وبينهم أصحاب رؤية بعيدة، تحتاج إلى حرب أكبر من حرب غزة ولبنان وحرب إسرائيل وإيران وإن دخلتها أميركا مباشرة. وما حدث ليس السيناريو الخطر الذي تصوره بعض، وهو أن تسجل إسرائيل نصراً مطلقاً على الجمهورية الإسلامية أو بالعكس أن تلحق طهران بإسرائيل هزيمة كاملة. ففي مثل هذا السيناريو تقع المنطقة من المتوسط إلى الخليج، وحتى من المحيط إلى الخليج بحسب الشعار القديم، تحت هيمنة قوة إقليمية واحدة تتحالف مع قوة دولية واحدة أو أكثر. وهذا هو الخطر الأكبر الذي يتطلب التخلص منه عقوداً وتضحيات وعذابات. وليس سراً أن كثراً في المنطقة راهنوا على أن تنتهي الحرب بخسارة الطرفين، مقابل قلة راهنت على ربح إيران وقلة راهنت على ربح إسرائيل، ولكل أسبابه وظروفه وموقفه المبني على تجارب الماضي وما فعلته في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، وسواها هيمنة إسرائيل وهيمنة إيران. والسؤال المباشر الآن هو ماذا بعد وقف النار؟ هل تنتهي الحرب أم أن المنطقة في استراحة محارب قبل معاودة القتال، وما التسوية التي تقود إليها المفاوضات بين أميركا وإيران؟ طهران توحي أنها ستكمل برنامجها النووي وأن الأضرار التي وقعت في المنشآت لم تدمر كل شيء، كما أنها لن تتخلى عن حقها في تخصيب اليورانيوم. وترمب يقول إن الضربة الأميركية دمرت المنشآت النووية بالكامل، وسط تشكيك حتى في أوساط الاستخبارات الأميركية، ويهدد بضرب أية منشأة تحاول طهران إعادة بنائها وإحياء وظيفتها، ونتنياهو يهدد بما هو أكثر، وهما معاً يصران على شعار "صفر تخصيب" داخل إيران. وإذا كان أنصار إيران يتصورون أن الجمهورية الإسلامية ستخرج من المفاوضات مع أميركا، لا فقط برفع العقوبات عنها بل أيضاً بإطلاق يدها في المنطقة، فإن الأوساط الأميركية والإسرائيلية تضع على جدول الأعمال ثلاث لاءات، لا للمشروع النووي الإيراني ولا لتطوير البرنامج الصاروخي ولا للمشروع الإقليمي الإيراني وأذرعه. الحرب التي كشفت نقاط القوة والضعف لدى كل من إسرائيل وإيران، تركت لدى بعض انطباعاً خلاصته أن الجمهورية الإسلامية خسرت دور القوة الإقليمية، ولم تعد قادرة على حماية الرأس ولا الأذرع من إسرائيل. ومقابل الرهانات على الطائرات والصواريخ لصنع التاريخ، يقول هيغل "الفلسفة وحدها تستطيع قراءة ما خفي من التاريخ".