
نحو عزلة أميركية جديدة
مارغريت ماكميلان* - (فورين أفيرز) 21/7/2025تدفع إدارة ترامب الثانية بالولايات المتحدة نحو انعزالية هجومية، تهين الحلفاء وتزعزع التحالفات التي صنعت نفوذها العالمي، بينما تتقرب من المستبدين وتتعامل مع العالم كخصم أو صفقة. وفي زمن تصاعد التحديات من الصين وروسيا، يهدد هذا الانكفاء بتفكيك النظام الدولي الذي حمى مصالح أميركا لعقود، ويتركها معزولة في عالم أكثر عدائية.***شبّه هنري كيسنجر نفسه ذات مرة برجل الكاوبوي (راعي البقر) الذي يدخل البلدة وحيداً على صهوة جواده ليواجه الأشرار. لكنه كان يدرك، بصفته وزير الخارجية الأميركي الذي شغل أيضاً منصب مستشار الأمن القومي، أن التعامل مع القوى الكبرى يتطلب نهجاً مختلفاً. وكان مثله الأعلى في السياسة رجل الدولة النمساوي كليمنس فون مترنيخ، الذي نجح بطريقة ما في جمع مزيج غير متوقع يضم النمسا، والمملكة المتحدة، وبروسيا، وروسيا وعدداً من الحلفاء الأصغر وقادتهم غير المتوافقين، ضمن تحالف هزم نابليون في النهاية العام 1815. لقد فهم كيسنجر أنه حتى رعاة البقر المنفردون في حاجة إلى أصدقاء.ولكن، يبدو أن هذه البصيرة غائبة تماماً عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فمنذ عودته إلى البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير)، وصف ترامب أقرب حلفاء الولايات المتحدة بأنهم مخادعون ومتطفلون. وفي حين أن اليابان وشركاء تجاريين آسيويين آخرين "مدللون للغاية"، بحسب وصفه، فإنه يتهم الجيران المباشرين في أميركا الشمالية بتصدير المخدرات والمجرمين. وهو لا يتردد في وصف قادة بعض أهم الشركاء الديمقراطيين للولايات المتحدة بكل حرية وبصورة علنية بأنهم غير مهمين، أو ضعفاء، أو غير صادقين، بينما يغدق الثناء على الحكام المستبدين الذين يجد التعامل معهم أسهل، مثل الرئيس المجري فيكتور أوربان "قائد عظيم جداً"، والرئيس السلفادوري نجيب بقيلة "صديق عظيم"، والديكتاتور الكوري الشمالي كيم جونغ أون "رجل ذكي"، وحتى وقت قريب جداً على الأقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وصفه بأنه "عبقري" و"ماهر للغاية" في هجومه على أوكرانيا. وفي خطوة كان من غير الممكن تصورها في الإدارات السابقة، بما في ذلك إدارة ترامب الأولى، وقفت الولايات المتحدة خلال شباط (فبراير) الماضي ضد حلفائها الديمقراطيين، وصوتت مع روسيا ودول استبدادية أخرى، مثل كوريا الشمالية وبيلاروس، ضد قرار في الأمم المتحدة يدين عدوان روسيا على أوكرانيا، ويدافع عن سيادتها وسلامة أراضيها.ولعل ما يثير الحيرة أكثر أن إدارة ترامب، خلال وقت تسعى فيه واشنطن إلى احتواء الصين وتعزيز دفاعاتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تستعد لفرض تعريفات جمركية عقابية على كوريا الجنوبية واليابان؛ أقرب حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، بالإضافة إلى قائمة طويلة من الشركاء الأوروبيين الذين تحاول إبعادهم عن بكين. وعلاوة على ذلك، يشعر حلفاء الولايات المتحدة حول العالم بالقلق من التصريحات العلنية لترامب وأعضاء إدارته بأن ما يسمى المظلة النووية، التي شكلت سابقاً ضمانة لحمايتهم من خلال الردع النووي الأميركي، لم تعد أمراً مؤكداً. وبلغ مستوى الشك حداً دفع بفرنسا والمملكة المتحدة، خلال تموز (يوليو) الماضي، إلى الإعلان عن اتفاق جديدة لبدء توفير ردع نووي موسع داخل أوروبا، وبدأت دول حليفة مثل كوريا الجنوبية وبولندا -وحتى اليابان- تفكر في امتلاك أسلحتها النووية الخاصة.صحيح أن التاريخ مليء بالأمثلة عن تصدعات بين القوى العظمى وحلفاء سابقين، أو سعيها إلى بناء تحالفات جديدة، ولكن نادراً ما أقدم زعيم لتحالف رئيسي على تهميش حلفاء كانوا في معظمهم موثوقين وملتزمين بقيادته بهذه الدرجة من القسوة والازدراء. إذا أرادت الولايات المتحدة الوصول إلى موارد كندا أو غرينلاند، فإن هذه الموارد كانت دائمًا متاحة. أما التهديد بضمها فيحقق نتيجة عكسية، إذ يثير موجات من العداء للولايات المتحدة كما حدث فعلاً. صحيح أن حلفاء واشنطن في "الناتو" لم ينفقوا ما يكفي على موازنة الدفاع، لكن ذلك يعود جزئياً إلى أن الولايات المتحدة أصرت لعقود عدة على لعب الدور المهيمن. وعندما أصبحت تحت الضغط، كما حصل في قمة الحلف الأخيرة في حزيران (يونيو) الماضي، زادت الدول الأعضاء في التحالف عبر الأطلسي موازناتها الدفاعية، أو تعهدت بذلك، إلى مستويات لم يكن من الممكن تصورها قبل أعوام قليلة فحسب.من الصعب إيجاد تفسير منطقي لسياسات إدارة ترامب الثانية. إذا كان الرئيس قد ضاق ذرعاً بالتحالفات الحالية، فإنه لم يقدم بدائل حقيقية سوى ما يبدو أنه تعلق قديم بمفهوم "مناطق النفوذ"، حيث تهيمن قوى كبرى معدودة على جيرانها المباشرين، بينما لا يكون للمنظمات متعددة الأطراف -إن بقي لها وجود أصلاً- أي سلطة أو نفوذ يذكر. ولن يجلب مثل هذا العالم سوى تهديدات أكبر في المستقبل للولايات المتحدة، حيث إن مجالات النفوذ الأخرى التي يفترض أنها تشمل آسيا الخاضعة لهيمنة الصين، وربما منطقة روسية في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، ستتصادم مع بعضها بعضاً، بينما تضطر القوى الأصغر داخل كل مجال نفوذ إما إلى قبول مصيرها على مضض أو البحث عن قوى مهيمنة جديدة.ومن خلال تقويض التحالفات التي خدمتها طويلاً، تخاطر الولايات المتحدة بانهيار عام في الاستقرار والنظام، وهو ما سيكلفها غالياً على المدى الطويل -سواء من حيث الإنفاق العسكري أو الحروب التجارية التي لا تنتهي- حيث تسعى كل قوة كبرى إلى تحقيق مكاسب عند نقاط التماس بين مناطق نفوذها. واللافت أن غياب سوابق تاريخية لهذا السلوك لا يوحي بوجود سياسة مكيافيلية ذكية لتعزيز القوة الأميركية، بل إنه يظهر الولايات المتحدة وهي تتصرف بطريقة محيرة تتعارض مع مصالحها الخاصة، ويقوض أحد أبرز مصادر قوتها. ويحدث كل ذلك خلال وقت تتعرض فيه القيادة العالمية الأميركية وهيمنتها الاقتصادية والتكنولوجية لضغوط متزايدة من الصين ومنافسين كبار آخرين.قاعدة القوةعلى مدى قرون، اعتُبرت قيمة التحالفات -حتى بين الدول شديدة الاختلاف- عنصراً أساسياً في العلاقات الدولية. منذ أقدم العصور دأبت الجماعات -سواء كانت عشائر أو أمماً- على التكاتف لحماية نفسها من الأعداء المشتركين. وخلال القرن الخامس قبل الميلاد، تمكنت "رابطة ديليان" التي ضمت مدناً يونانية من هزيمة الإمبراطورية الفارسية. وخلال العام 1815، اتحدت النمسا والمملكة المتحدة وبروسيا وروسيا ضمن تحالف كبير لهزيمة فرنسا بقيادة نابليون. ويمكن لقضية مشتركة أن تجمع بين شركاء غير متوقعين على الإطلاق، مثل فرنسا الكاثوليكية والإمبراطورية العثمانية المسلمة، اللتين تحالفتا خلال القرن 16 وبقيتا حليفتين لأكثر من قرنين، أو الاتحاد السوفياتي بقيادة جوزيف ستالين مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة، التي هزمت معاً ألمانيا واليابان وقوى المحور الأخرى في الحرب العالمية الثانية.قبل أن يصبح العالم مترابطاً بهذه الصورة، ومع صعوبة وسائل الاتصال قديماً، سمحت الجغرافيا لبعض الدول بالعيش من دون حلفاء. فقد تمكنت اليابان من البقاء في عزلة كاملة لقرنين ونصف القرن إلى أن واجهت عالماً مختلفاً وأكثر اتساعاً حين زارها العميد البحري الأميركي، ماثيو بيري، في العام 1853. وتباهت الولايات المتحدة، المحمية بمحيطين من دون أعداء أقوياء على حدودها البرية، لمعظم تاريخها بتجنب التحالفات. وحتى عندما دخلت الحرب العالمية الأولى متأخرة إلى جانب الحلفاء، أصر الرئيس وودرو ويلسون على أن الولايات المتحدة كانت "قوة مشاركة" وليست حليفاً. ولم تتخل واشنطن عن هذا الارتياب تجاه التحالفات إلا بعد العام 1945، حين واجهت الاتحاد السوفياتي العدائي والصين الشيوعية التي كانت الشريك الوثيق لموسكو آنذاك، فدخلت في تحالفات دفاعية دائمة في زمن السلم، وعلى رأسها "حلف شمال الأطلسي"، للمرة الأولى في تاريخها. وكما نرى اليوم، فإن النزعة الانعزالية في السياسة الخارجية الأميركية لم تختف تماماً.كما أدركت إدارة ترومان قبل 80 عاماً، فإنه حتى الدول القوية تحتاج إلى حلفاء، ليس فقط من أجل الحفاظ على مكانتها بل لأن للقوة حدوداً، والحفاظ عليها مكلف جداً. بحلول أواخر القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطورية البريطانية -أكبر إمبراطورية في تاريخ العالم- تشهد ما سماه المؤرخ بول كينيدي "التمدد الإمبراطوري المفرط"، حيث واجهت منافسين قدامى مثل فرنسا وروسيا، وآخرين جدداً مثل ألمانيا واليابان والولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الاقتصاد البريطاني كان ما يزال قوياً، وهيمنة بحرية بريطانيا على المحيطات، فإن الآخرين كانوا يلحقون بالركب. وكانت وزارة الخزانة البريطانية ودافعو الضرائب البريطانيون يتذمرون من الكلف المرتفعة للحفاظ على الهيمنة.ظهر مدى الاستياء من المملكة المتحدة بوضوح عندما وجدت صعوبة في سحق جمهوريتين بويريتين [السكان من أصل هولندي في جنوب أفريقيا] صغيرتين (جمهورية ترانسفال ودولة أورانج الحرة) خلال حرب جنوب أفريقيا بين العامين 1899 و1902. في الواقع، كشفت انتصارات "البوير" المبكرة عن قصور الجيش البريطاني ولاقت ترحيباً عالمياً واسعاً. كما زادت المعاملة الوحشية التي تعرض لها المدنيون من "البوير" من تآكل سمعة الإمبراطورية البريطانية. وفي معرض باريس في العام 1900، توافدت الجماهير لوضع الزهور إعجاباً بجناح الترانسفال. وصُدم البريطانيون عندما أدركوا مدى كره العالم لهم، مما جعلهم يدركون أنهم، حتى هم، في حاجة إلى أصدقاء. وسرعان ما توصلت الحكومة البريطانية إلى تفاهمات مع منافسيها؛ فرنسا واليابان وروسيا، مما قلل من احتمالية نشوب الصراع مع كل منها وشجع على التعاون، وبالتالي قلل من وطأة التمدد المفرط. وظلت المملكة المتحدة، في نظر معاصريها، القوة العالمية المهيمنة، ويمكن القول إن ذلك استمر حتى منتصف الحرب العالمية الثانية.تظهر التجربة البريطانية أن القوة العالمية لا تُقاس بالموارد العسكرية فحسب. فمن السهل نسبياً إحصاء المدافع والسفن والطائرات وقياس الإنتاج الاقتصادي أو القوة العلمية والتكنولوجية، ولكن من الصعب قياس الكفاءات والقدرة التنظيمية أو فعالية الحكم أو المعنويات. قبل غزوها الشامل لأوكرانيا في العام 2022، بدت روسيا قوية، وكانت حليفاً مرغوباً للصين وإيران وكوريا الشمالية. ولكن اليوم، بعد ثلاثة أعوام ونصف العام من الحرب غير الناجحة والخسائر الفادحة، أصبحت عبئاً أكثر من كونها ورقة قوة. يحتاج أي بلد إلى أن يتمتع بالصدقية في نظر الآخرين، سواء كانوا حلفاء أو خصوماً -أو حتى شعبه نفسه. عندما فشلت روسيا السوفياتية في ثمانينيات القرن العشرين، ثم الولايات المتحدة خلال العقود الأولى من القرن الحالي في أفغانستان، على الرغم من تفوقهما العسكري الساحق، أصاب ذلك الفشل حلفاءهما بالإحباط، ودفع الحياديين إلى الابتعاد، وهز ثقة شعوبهما بحكومتيهما، بينما شجع الأعداء المحتملين. وكان يفترض أن تشكل ثورة البلاشفة في العام 1917 -التي أتت نتيجة لهزائم روسيا العسكرية- إنذاراً مبكراً للنظام السوفياتي حول عواقب الفشل... وإنذاراً اليوم لفلاديمير بوتين.وليست القوة أيضاً أمراً ثابتاً. على الرغم من أن المملكة المتحدة كانت في صف المنتصرين خلال الحربين العالميتين، فإن مواردها استنزفت وإمبراطوريتها بدأت تتفكك. فهل ما تزال الولايات المتحدة بالقوة التي كانت عليها في السابق؟ لقد منيت بإخفاقات في الخارج، لا سيما في أفغانستان والعراق، وهي تشهد انقساماً متزايداً في الداخل، وتعاني ديوناً وطنية متضخمة واستثمارات متضائلة في البنية التحتية الحيوية. وفي عصر تتسارع فيه وتيرة تطوير الصواريخ السريعة وبعيدة المدى، لم يعد الموقع الجغرافي عائقاً أمام الخصوم كما كان في السابق، وهذا سبب إضافي يجعل من الضروري تعزيز التحالفات مع القوى المتقاربة بدلاً من نبذها. لم تشكل كندا أبداً أي تهديد للولايات المتحدة إلا في لعبة الهوكي، ولطالما نظر الكنديون إلى الأميركيين على أنهم أقرباء لهم. والحدود بين البلدين هي أطول حدود من دون دفاع عسكري في العالم. وهناك ترابط اقتصادي كبير بين البلدين.مع ذلك، فإن ما فعله ترامب بحديثه عن الولاية 51 وفرضه رسوماً جمركية عقابية، وتهديداته بأن الولايات المتحدة لن تدافع عن كندا بموجب نظام الدفاع الصاروخي المقترح "القبة الذهبية" ما لم تدفع ثمنه (مع استمراره في رفع كلفته المفترضة)، أثار غضب شعب عادة ما يعرف بالهدوء والاعتدال. في أوتاوا، يسود شعور بالصدمة والذهول. وما كان يعد من الأسس الراسخة في السياسة الخارجية الكندية بدأ يذوب مثلما تذوب الأنهار الجليدية في غرينلاند. وما يتم تدميره الآن لن يكون من السهل إصلاحه، وبالتأكيد ليس خلال جيل واحد. والسؤال الذي يطرح، مقابل ماذا؟رعاة التحالفات الدائمونتتطلب التحالفات، على غرار عدد من العلاقات الإنسانية الأخرى، جهداً كبيراً. وتحتاج إدارتها إلى الصبر والتحمل والمهارة. وهي مثل البستان تتطلب رعاية مستمرة. وغالباً ما تكون الرهانات في التحالفات عالية، وقد يكون لشخصية القادة والدبلوماسيين المشاركين دور حاسم. ليست الدبلوماسية مجرد حضور حفلات الكوكتيل -وإن كان الجانب الاجتماعي جزءاً منها- بل هي بالأحرى اكتساب فهم عميق لطبيعة الأمم الأخرى وقادتها، وتعلم التفاوض معهم. أما توبيخ الحلفاء علناً على أخطائهم المزعومة، مثلما فعل نائب الرئيس، جي دي فانس، مع الأوروبيين خلال "مؤتمر ميونيخ للأمن" في شباط (فبراير) الماضي؛ أو إطلاق الأوامر والإهانات على وسائل التواصل الاجتماعي، كما يفعل الرئيس بصورة شبه يومية؛ أو نشر رسائل موجهة إلى رؤساء دول آخرين علناً قبل أن تسلم إليهم، فلن يؤدي إلا إلى تراكم مشاعر الاستياء ويجعل العلاقات الشخصية المستقبلية أكثر صعوبة.لو لم يتمكن كيسنجر من بناء علاقة قائمة على الاحترام المتبادل مع نظيره الصيني تشو إنلاي، لربما كان انفتاح العلاقات بين الولايات المتحدة والصين سيتأخر خلال إدارة نيكسون لأعوام. وقد تكون حالة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت أكثر دلالة. فمنذ اندلاع الحرب داخل أوروبا في العام 1939، عمل تشرشل -كما قال- على التودد إلى روزفلت مثل العاشق. كان يعلم أن انتصار المملكة المتحدة يتطلب الموارد الأميركية من أسلحة وأموال، وكان يأمل بشدة أن تنخرط القوات الأميركية نفسها في القتال إلى جانب بلاده في نهاية المطاف. ومن جانبه، لم يكن روزفلت يريد فشل البريطانيين. وعلى الرغم من أنه كان مقيداً في البداية بالرأي العام الأميركي الذي كان يرفض الدخول في الحرب، فإنه وسع نطاق صلاحياته الرئاسية لأقصى درجة لتقديم أكبر قدر ممكن من المساعدة.مع تطور أحداث الحرب العالمية الثانية، سافر القائدان آلاف الأميال على متن السفن والطائرات للقاء بعضهما بعضاً ومقابلة ستالين، معرضين حياتهما وصحتهما للخطر في كثير من الأحيان. ولولا العلاقة الشخصية القوية بين تشرشل وروزفلت لكانت التوترات والاختلافات التي لا مفر منها عادة في أي تحالف قد أعاقت بصورة كبيرة التخطيط الاستراتيجي المشترك، والمعونة العسكرية الحيوية المقدمة من الولايات المتحدة بموجب "قانون الإعارة والتأجير" [الذي كان وسيلة أميركية لتقديم الدعم العسكري لحلفائها من دون إعلان الحرب رسمياً]. وتوطدت الشراكة بين بلديهما وتعززت بفضل آلاف الخبراء والإداريين والناشرين والمثقفين والعسكريين في الخدمة الذين تعلموا كيف يعملون معاً، حتى وإن لم يكن ذلك سهلاً دائماً.ولنأخذ، على سبيل المثال، الصداقة العميقة والنادرة التي نشأت بين الممثل العسكري الأعلى للمملكة المتحدة في واشنطن، جون ديل، ورئيس أركان الجيش الأميركي، جورج مارشال، المتحفظ بطبعه وأهم مستشار عسكري لروزفلت. معاً، تمكن الجنرالان من رأب صدوع كانت عميقة أحياناً وحادة في أحيان أخرى بين زملائهما وبين القادة السياسيين لكلا البلدين. وعلى الرغم من أن تشرشل والذين جاؤوا بعده بالغوا في تصوير مدى تميز "العلاقة الخاصة" التي نشأت بعد الحرب، فإن هذه العلاقة خدمت كلاً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة جيداً، بدءاً من جسر برلين الجوي في بداية الحرب الباردة إلى سقوط جدار برلين في نهايتها.لكن التحالفات غالباً ما تنتهي بعد زوال هدفها المباشر. كانت جهود تشرشل وروزفلت أقل نجاحاً في بناء صداقة أكثر ديمومة مع ستالين والاتحاد السوفياتي، حيث كانت الهوة بين الديمقراطيات والديكتاتورية السوفياتية شاسعة للغاية. الذكريات السوفياتية عن تدخل الحلفاء ضد البلاشفة في نهاية الحرب العالمية الأولى، والعلاقات المتوترة في فترة ما بين الحربين، والشكوك العميقة التي نشأت جزئياً من التاريخ الروسي وجزئياً من الافتراضات الماركسية حول المعركة النهائية المقبلة بين الرأسمالية والاشتراكية، كلها جعلت من العلاقات الطبيعية أمراً شبه مستحيل. كانت الحاجة إلى هزيمة ألمانيا النازية والديكتاتورية العسكرية اليابانية نقطة الوصل الرئيسة التي حافظت على تماسك التحالف الكبير. وعندما زالت هذه الحاجة زال التحالف أيضاً. وهذا ما حدث مراراً على مدار التاريخ، سواء في انهيار "رابطة ديليان" بين المدن اليونانية بعد هزيمة بلاد فارس، أو عندما خاضت دول البلقان حروباً مع بعضها بعضاً في العام 1913 بعدما هزمت معاً الإمبراطورية العثمانية.على الرغم من صعوبة قياسها، تلعب المشاعر مثل المحبة أو الكراهية، والإعجاب أو الازدراء، وهي من صميم العلاقات الإنسانية اليومية، دوراً حاسماً في تشكيل التحالفات وتفكيكها. والصداقة الشخصية والاحترام والثقة المتبادلة هي بمثابة الوقود المشغل للآلة المعقدة التي تحافظ على استمرار هذه العلاقات. وفي مناسبات عدة منذ العام 1945، تمكن القادة البريطانيون والأميركيون -من بينهم هارولد ماكميلان وجون أف. كينيدي، ومارغريت ثاتشر ورونالد ريغان، وجورج دبليو بوش وتوني بلير- من إقامة علاقات جيدة عززت الشراكة بين بلديهم. ومع ذلك، في غياب مثل هذا الانسجام، أو حتى غياب الحد الأدنى من الثقة بين القادة، يمكن أن تتدهور العلاقات بسرعة مفاجئة، كما يشهد العالم مرة أخرى اليوم. كان الإمبراطور الروسي ألكسندر الأول قد سئم من وصاية نابليون وبدأ يبتعد تدريجاً نحو أعدائه. كما شعر ماو تسي تونغ ورفاقه باستياء متزايد من ادعاءات السوفيات بالتفوق وتصوراتهم بأنهم قادة الحركة الشيوعية العالمية، في حين رأى خليفة ستالين، نيكيتا خروتشوف، في الصينيين أناسًا مخادعين وغير جديرين بالثقة، مما أسهم في الانقسام العلني والمرير بين الصين والاتحاد السوفياتي بعد العام 1962.رمي الأوراق الرابحةمنذ العام 1945، اعتمدت عشرات الدول في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط على علاقاتها الأمنية مع واشنطن. ويشمل ذلك الدول الإحدى والثلاثين الأخرى الأعضاء في "حلف شمال الأطلسي"، والدول الآسيوية التي تربطها تحالفات عسكرية رسمية مع الولايات المتحدة، مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، وتلك التي تربطها شراكات عسكرية أميركية أقل رسمية لكنها واسعة النطاق، مثل إسرائيل والسعودية. ثم هناك دول أخرى حول العالم اعتادت العمل مع الولايات المتحدة على أساس ودي، مثل تشيلي وفيتنام. وقد رحبت هذه المجموعة المتنوعة من الدول بالحماية والقيادة الأميركيتين على مدى العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، ليس فقط لأن القوة العظمى الأميركية كانت قوية، بل لأنها مثلت أملاً في عالم أفضل وأكثر عدالة.مع ذلك، هناك اليوم احتمال حقيقي لأن ينضم التحالف الغربي إلى قائمة التحالفات التي فشلت. كثيراً ما شعر ترامب بعدم الارتياح إزاء سياسة الأخذ والعطاء في التحالفات. وقد يكون ذلك نابعاً جزئياً من خبرته الشخصية في مجال الأعمال، حيث كان دائماً الآمر الناهي. كان يدير شركاته من خلال مكاتب صغيرة، خلافاً للشركات الكبرى ذات الهياكل التنظيمية والمجالس الإدارية الخارجية. وفي برنامجه التلفزيوني "المتدرب" The Apprentice، كانت عبارته الشهيرة "أنت مطرود"!في ولايته الأولى، بدا ترامب غير مرتاح بشكل خاص في الاجتماعات متعددة الأطراف، حيث كان عليه التعامل مع القادة الآخرين على قدم المساواة، كما حدث في قمة مجموعة السبع في كندا في العام 2018، حين وصل متأخراً وغادر مبكراً بعدما تشاجر مع القادة الآخرين حول سياساتهم التجارية والتعريفات الجمركية. وقد صدم الحلفاء عندما انسحب بصورة أحادية من اتفاقات مهمة جرى التفاوض عليها بشق الأنفس، مثل "اتفاق باريس للمناخ" و"خطة العمل الشاملة المشتركة" الرامية إلى الحد من قدرة إيران على تطوير أسلحة نووية (اتفاق يشبه إلى حد بعيد ذلك الذي عرضته إدارة ترامب الثانية على إيران، قبل أن تنجرف على الأقل إلى قصف المنشآت النووية الإيرانية خلال حزيران/ يونيو). وقد عبر عن موقفه بعبارة أصبحت شعاراً لولايته الثانية، حين اشتكى قائلاً: "نحن مثل حصالة النقود التي ينهبها الجميع".اليوم، أصبح ترامب أكثر حرية في التصرف بناء على نزواته؛ حيث تم إحلال المقربين والمتملقين محل مستشاريه المخضرمين والمحترمين الذين كانوا يجرؤون على مواجهته خلال ولايته الأولى. ومن حين لآخر، ما يزال يتعين على ترامب التعامل مع قوى ديمقراطية أخرى -أو حتى منظمات متعددة الأطراف- والتي أظهر بوضوح نفاد صبره تجاهها. ومع استثناءات قليلة، أصبح المكتب البيضاوي مجرد مسرح لاستعراض هيمنته. وعندما يشارك في الاجتماعات الدولية، فإنه يبقى حضوره مقتضباً قدر الإمكان. وما تزال الإهانات المجانية تتوالى من الرئيس، سواء لحلفاء الناتو والاتحاد الأوروبي، أو مجموعة "بريكس" والأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية. ومن الصعب العثور على أي هدف شامل من وراء ذلك سوى إبقائه في مركز الاهتمام.يفضل ترامب التعامل مع العلاقات الدولية على أنها سلسلة من الصفقات، فيعقد لقاءات مباشرة أو مكالمات مطولة مع زعيم واحد في كل مرة، ويبدو مرتاحاً مع المستبدين الأقوياء أكثر من الزعماء الديمقراطيين. وإذا دعت الحاجة، فإنه لا يتوانى عن الضغط على الأصدقاء والخصوم على حد سواء لإجبارهم على الخضوع، مفترضاً أنهم سيتخلون عن أي معارضة إذا كان العرض على الطاولة مغرياً بما يكفي، أو إذا بدا أن واشنطن تمسك بأقوى الأوراق (قال للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في ما أصبح معروفاً على نطاق واسع بأنه توبيخ مهين في المكتب البيضاوي: "أنت لا تملك الأوراق الآن").وليت الأمر بهذه البساطة؛ فالدول لا تتصرف دائماً وفق ما يعتقد الآخرون أنه يخدم مصالحها. ظن هتلر في العام 1940 أن المملكة المتحدة لا خيار لها سوى الاستسلام، تماماً مثلما اعتقد بوتين أن أوكرانيا ستنهار في غضون أيام أمام الغزو الروسي. وكما أدرك روزفلت قبيل وفاته في ربيع العام 1945، فإن القادة قد يعرّفون المصالح بطرق مختلفة. وقد تكون المعتقدات والاختلافات الثقافية والشخصية مؤثرة ومهمة بقدر العوامل الموضوعية، مثل التركيبة السكانية أو الجغرافية. وقد خرج ستالين من عالم مختلف تماماً، وكانت له تجارب وأهداف تختلف جذرياً عن تلك التي عرفها ابن العائلة الأميركية العريقة.الدمار الأميركيفي عالم ترامب، لا أهمية للثقة المتبادلة والاحترام -وهما قيمتان يصعب بناؤهما ويسهل تدميرهما. سوف تتعاون الأطراف إذا اقتضت مصلحتها ذلك، إلى أن يأتي عرض أفضل. وترى روسيا فوائد الصداقة مع الولايات المتحدة. أما الحلفاء الأوروبيون فسيتذمرون، لكنهم سينفذون ما تريده واشنطن، وإلا سيجدون أنفسهم وحيدين وبلا أصدقاء. وسوف تتفاوض الصين بشأن التجارة، وهي تعِد مثلاً بشراء المنتجات الزراعية الأميركية لأنها لا تريد أن تُقصى من الأسواق الأميركية. وإذا كانت بكين تريد تايوان، فلماذا لا يُسمح لها بضمها ما دامت الولايات المتحدة ستحصل على شيء في المقابل؟ يبدو أن الرئيس يفترض أن الحلفاء الحاليين والمحتملين يرون العلاقات الدولية كما يراها هو: إذا خسرت جولة، فقد تربح الجولة التالية. لكن الدول، كالأفراد، لا تنسى الإهانات أو الهزائم القديمة، وهي حقيقة يجب أن يكون ترامب على دراية بها.يصعب قياس الثقة بين الأفراد أو الدول، ولكن لا يمكن أن تقام علاقات دائمة ومثمرة من دونها. خلال الحرب الباردة، كانت المفاوضات بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بشأن الحد من التسلح مضنية ومطولة، لأن أياً من الطرفين لم يثق بالآخر. وكانت حوادث مثل اعتراض طائرة (يو-2) بقيادة الطيار الأميركي غاري باورز فوق الاتحاد السوفياتي في العام 1960، أو إسقاط السوفيات للطائرة الكورية في العام 1983، تفسَّر دوماً من الطرف الآخر كدليل على نيات خبيثة. على النقيض من ذلك، وعلى الرغم من وجود توترات بين الولايات المتحدة وحلفائها، فإن كل طرف كان يفترض في الغالب أن الطرف الآخر يتصرف بنية حسنة، وكان هناك استعداد لمناقشة القضايا الصعبة والبحث عن حلول مقبولة للطرفين. لكن هذا الإطار لم يعد قائماً اليوم، ولا يمكن استعادته بسهولة أو بسرعة.تعيش الولايات المتحدة الآن ما عاشته المملكة المتحدة حتى في أوج إمبراطوريتها. فكونها أعظم قوة عسكرية في العالم يمثل عبئاً ثقيلاً، ومن بين النتائج المترتبة على ذلك أن الدَّين الأميركي يستمر في النمو إلى مستويات مذهلة. والقوى الطموحة، وعلى رأسها الصين، تضخ موارد هائلة في سباق تسلح يزداد كلفة باستمرار. ومثلما حدث مراراً في التاريخ، فإن هناك دولاً أخرى تميل إلى التخلي عن القوة القديمة لمصلحة القوة الجديدة، أو التكتل ضدها لاستغلال ما تراه تراجعاً لنفوذها. وإذا استمر عداء ترامب الحالي للتحالفات، وواصلت إدارته إهانة شركائها القدامى والتقليل من شأنهم -بل وحتى الإضرار بهم اقتصادياً- فستجد الولايات المتحدة العالم مكانًا يزداد عدائية تجاهها.مثلما فعلت جمهورية سلوفاكيا أو صربيا بالفعل، قد يقرر حلفاء سابقون أو قوى محايدة أن روسيا بوتين تمثل خياراً أفضل، وقد يتجاوز آخرون الولايات المتحدة من خلال ترتيبات تجارية جديدة -أو كما يحدث مع الدول الأوروبية وكندا، من خلال تقاسم الإنتاج العسكري والتخطيط والردع المشترك، انطلاقاً من افتراض أن الولايات المتحدة لم تعد حليفاً يعول عليه. وفي مؤشر إلى ما قد يكون مقبلاً، أرسلت كندا أخيراً أول شحنة من الغاز الطبيعي المسال إلى آسيا. كان البريطانيون يصفون موقعهم في العالم بـ"العزلة الرائعة"، إلى أن أدركوا أن كلفتها باهظة. وقد تكتشف الولايات المتحدة في عهد ترامب أن تلك الروعة، خلال القرن الحادي والعشرين المحفوف بالأخطار، مجرد مبالغة.*مارغريت ماكميلان: أستاذة فخرية للتاريخ الدولي بجامعة أكسفورد، ومؤلفة كتابي "الحرب، كيف شكلنا الصراع"؛ و"الحرب التي أنهت السلام، الطريق إلى 1914". الترجمة لصحيفة "الإندبندنت"
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الغد
منذ 3 ساعات
- الغد
في زمن الوضوح الأخلاقي..!
اضافة اعلان ثمة اتجاهات وتيارات عالمية جماهيرية واضحة وغامرة تتشكل في بعض الأحيان، بشتى أنواع الدوافع. وفي الغالب، يكون حجم المشاركين وتنوعهم وعالميتهم دليلًا على أخلاقية وإنسانية القضية التي حشدت الناس بهذا القدر ودفعهم إلى الاحتجاج –كثيرًا تحت طائلة القمع والعنف. إنها تنشأ كاستجابة طبيعية لدعوة لا تحتمل التأجيل إلى إعلان موقف إنساني مسؤول في لحظة تتطلب الوضوح الأخلاقي، كمسألة حياة أو ميت لشركاء في الإنسانية.ثمة مثل هذا التيار، المهم، والخيري، الذي يخاطب مسألة هي في صميم الإنسانية وماهيتها ومعناها، يتشكل بشأن قضية فلسطين. لا تسل كيف بدأ، ومن بدأه، وما الذي حدث حتى تشكل –المهم أنه تشكل، ويتعاظم ويقوى. ويمكن قول أشياء لا يصف أي منها وحده ما يحدث: تغير في ميزان السردية لصالح المضطهدين؛ وعي جديد بحقائق الصراع وأصله في إقليمنا؛ التحاق شعبي عالمي كبير وجدير بقضية عربية – إنسانية - وجذرية.. وهكذا. في كل زاوية في العالم تقريبًا، يرفع الجميع الشعارات التي يجدُر أن تُرفع في هذا الموقف: «حرروا فلسطين». «أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة». «صمتكم مشاركة». «عولِموا الانتفاضة» –ويهتف أولاد وبنات يهود بجدائل وحاخامات: «ليس باسمنا». ومع الهتاف، يبرز المناصرون الدوليون الرموز الفلسطينية، من الأعلام، إلى الكوفية، كوسيلة مهمة لتأكيد هوية مستهدفة مهددة بالمحو.ثمة الطلبة في الجامعات في الكثير من الأماكن غير المتوقعة؛ ثمة مغنو الراب، والمفكرون والأكاديميون؛ ثمة تحول في خطاب شخصيات مؤثرة غير متوقعة (في ذهني بيرس مورغان)؛ ثمة خطاب بيب غوارديولا في جامعة مانشستر؛ ثمة أبطال قوارب أسطول الحرية. ثمة التصريحات الجديدة لمسؤولين وزعماء دول أوروبيين، وكلها تجتمع على ثيمة واحدة، ولو اختلفت التنويعات: يجب وقف الإبادة في فلسطين، والعمل من أجل حرية الفلسطينيين.بيرس مورغان تحول من مطالبته العنيدة بإدانة «الإرهاب» الفلسطيني، وأصبح يركز على إحراج ممثلي الكيان الصهيوني بسؤالهم عن عدد الأطفال الذين يقتلونهم بالرصاص والجوع. نشطاء «مادلين» و»حنظلة» يعلنون أن عملهم يقصد تركيز الانتباه على وحشية الكيان الصهيوني وإدانته وكسر حصاره. وزعماء أوروبا، المنافقون المنحازون تاريخيًا، لم يعودوا يتحملون كلفة صرف الانتباه عن تواطئهم بلوم الفلسطينيين، واستجابوا لعاطفة جماهيرهم التي ستحاسبهم على السكوت في الانتخابات القادمة، وأصبحوا يركزون الآن حيث يجب التركيز. (بالأمس قال ديفيد لامي، وزير خارجية بريطانيا، أن ما يجري في غزة مقزز ومثير للاشمئزاز).وبيب غوارديولا؟! رجل رياضة، يفترض المرء أنه ليس مضطرًا لإعلان موقف لا يتعلق بالرياضة، لكنه استثمر موقفًا يستطيع فيه أن يخاطب الجمهور والإعلام خارج الملعب –حفل منحه الدكتوراة الفخرية في جامعة مانشستر- وقال ما يمليه الضمير على أصحاب الضمير في أوقات الوضوح الأخلاقي:«مؤلمٌ للغاية ما نراه في غزة. إنه يؤلم كل مكان في جسدي. الأمر لا يتعلق بالإيديولوجيا. ولا هو يتعلق بما إذا كنتُ أنا على صواب أو كنتَ أنت على خطأ. إنه فقط عن حب الحياة، عن العناية بجارك. ربما نفكر عندما نرى أولادًا وبناتًا بعمر الرابعة تقتلهم قنبلة أو يُقتلون في المستشفى لأنه لم يعد مستشفى بعد: إنه شأن لا يعنينا.«لكن احذروا. الأطفال التالون بعمر أربع أو خمس سنوات سيكونون أولادنا. آسف، لكنني أنظر إلى أطفالي، ماريا، وماريوس وفالنتينا. عندما أرى كل صباح منذ بدأ الكابوس الأطفال الرضع في غزة، ينتابني الفزع».«قد يتساءل المرء ماذا يمكننا أن نفعل... هناك قصة... غابة تحترق... طائر صغير يطير جيئة وذهاباً... يحمل قطرات ماء... الثعبان يضحك... والطائر يرد: «أنا أقوم بدوري فحسب». (انتهى الاقتباس)لم يوجه غوارديولا، ولا طلبة الجامعات في العالم، ولا مناصرو الحرية من الأوروبيين واللاتينيين والأميركان والأفارقة –واليهود أنفسهم- أي لوم إلى الفلسطينيين، مهما فعلوا في سياق نضالهم –هذه مسألة نافلة. ربما يقول قائل من هنا أو هناك: «ربما لأنهم ليسوا نحن ولا يعرفون ما نعرف». الحمد لله أنهم يعرفون هذا القدر –الأساسي، والجوهري، والذي لا لبس فيه- عن قضية فلسطين، وصاغوا حوله شعاراتهم وتصريحاتهم (أظنهم في الحقيقة يعرفون في زمن الإعلام المفتوح). ولو أنهم يسمعون ما «يعرفه» بعض العرب ويثابرون على إعلانه وترويجه الآن بالذات، ويجعلونه «القضية»، لانفضوا عن الاحتجاجات وهم يدمدمون: «اذبحوا الفلسطينيين وأبيدوهم لأنهم يستحقون، وقد جلبوا هذا على أنفسهم»! أو «اقتلوهم لأنهم يخدمون أجندات خارجية تهدد بإبادة العالم الحر، وليست لهم قضية»!في الحقيقة، ثمة شخصان في العالم –وفروعهما- هما اللذان ما يزالان يلومان الفلسطينيين–أو جزء من الفلسطينيين، وإنما بمعنى كل الفلسطينيين عندما يتعلق الأمر بالإبادة والطرد: ترامب ونتنياهو.لكل امرئ بالتأكيد الحقّ في أن يكون له موقف. ترامب له موقف، ونتنياهو له موقف، وتشي غيفارا له موقف. لكنّ إعلان الموقف في أوقات الوضوح الأخلاقي، عندما يتعلق لا بحرية شعب وإنما ببقائه نفسه، يستدعي تقديرًا إضافيًا للمسؤولية الأخلاقية – خاصة إذا كان سيعطل، ويشوش على، ويضعف زخم وتركيز تيار إنساني غامر وخيري بالمطلق. ليس من المبرر، ولا المفيد، فتح قنوات جانبية في مجرى التيار المتدفق لتشتيت العقول والجهود والعواطف، وصرف الطاقة في دفاع يائس عما لا يمكن تبريره ولا الدفاع عنه.الفكرة: إذا كان المرء «مؤثرًا»، وتسنت له منصة ليقول شيئًا بينما يُذبح الفلسطينيون جميعًا دون تمييز، في استهلال لهزيمة كل العرب وإخضاع إقليمهم، حبذا لو يسأل نفسه سؤال غوارديولا: ماذا يمكنني أن أفعل؟ يستطيع أن يكون الثعبان الذي يضحك على العصفور. ويستطيع أن يكون العصفور الذي يحمل بمنقاره الصغير وعلى جناحيه الضئيلين قطرات الماء، ويستهدف النار، بدل أن يغرّد بهجاء الأشجار.


الغد
منذ 5 ساعات
- الغد
الرسوم الجمركية الأميركية على الأردن
اضافة اعلان قرار فرض رسوم جمركية بنسبة 15 % على صادرات الأردن إلى الولايات المتحدة يجب النظر إليه بميزان الواقع لا بردود الفعل الانفعالية، فالقرار جزء من حزمة أوسع طالت أكثر من 67 دولة، وضمن هذه الدول تفاوتت الرسوم بين 10 % و41 % حسب العلاقات والمصالح التفاوضية، والأردن حصل على نسبة أقل، وهذا في حد ذاته أفضل ما يمكن تحقيقه في ظل الظروف الراهنة.الأردن لا يملك موقعًا تفاوضيًا يسمح له بالمناورة، إذ إن دولا كبرى كاليابان والاتحاد الأوروبي لم تسلم من الرسوم الأميركية، فكيف للأردن أن يكون في موقع استثناء؟ وهذه ليست مسألة ضعف، بل معادلة دولية معقدة، والنقطة الأهم أن الأردن حافظ على حجم المساعدات الأميركية، وهذا ليس أمرًا بسيطًا، فالأردن من بين أعلى ثلاث دول تتلقى مساعدات من واشنطن، بمبلغ يتجاوز 1.65 مليار دولار سنويًا، وهذا الدعم هو العمود الفقري للموازنة والمشاريع التنموية التي عادت أغلبها للعمل بعد توقف عالمي.المسألة لا تتعلق فقط بالرسوم، بل بالسياق الكامل للعلاقة مع الولايات المتحدة، الأردن حافظ على أهم نقطة في هذه العلاقة، وهي حجم المساعدات الأميركية، وفي هذا الظرف، تمكنت الدبلوماسية الأردنية من الحفاظ على المساعدات، واستعادة تمويل مشاريع كثيرة كانت مجمدة، والوكالة الأميركية للتنمية (USAID)، وهذا إنجاز لا يقل أهمية عن أي اتفاق تجاري.أما فيما يخص القطاعات التصديرية، فيمكن تقسيمها إلى ثلاثة مستويات، أولًا، قطاع الألبسة، وهو الأكبر في الصادرات الأردنية إلى السوق الأميركي، وهذا القطاع لن يتأثر كثيرًا، لأن المنافسين الأساسيين للأردن مثل بنغلادش وتركيا تعرضوا لرسوم أعلى، أما مصر مثلًا فُرضت عليها فقط 10 %، لكن صادراتها تمر باتفاقية QIZ، التي تتطلب شروطا أكثر، وهو أمر لا ينطبق على الأردن، كما أن بيئة التصنيع في مصر تواجه تحديات من حيث سعر الصرف واستقرار الاقتصاد، مما يجعل المقارنة غير عادلة.ثانيًا، قطاع الذهب والمجوهرات، الذي قد يتأثر أكثر، لأن تركيا، التي كانت عليها رسوم 30 %، أصبحت تدفع 15 % فقط، ما يقلل من الفارق التنافسي بينها وبين الأردن، فالإمارات أيضًا تُعامل الآن برسوم 10 %، وهذان البلدان قد يشكلان تحديًا للأردن في هذا القطاع، وعلينا دراسة الوضع لتقليل أثر هذه المنافسة، إما من خلال دعم كلفة الشحن، أو بمساهمات من أرباح الصناعيين أنفسهم، أو عبر إجراءات أخرى بالتعاون مع الحكومة.ثالثًا، هناك القطاعات الأخرى التي بدأت تظهر نموًا ملحوظًا، مثل قطاع الصناعات الغذائية والكيماوية، فهذه القطاعات لا تزال في مرحلة تطور، لكنها تسير في اتجاه إيجابي، وسمعة المنتجات الأردنية في السوق الأميركي أصبحت قوية ومرغوبة، وهذه السمعة تمثل ميزة تنافسية حقيقية، وربما تعوّض جزئيًا عن رفع الرسوم.إذا نظرنا إلى الصورة الكاملة، نكتشف أن الأردن حصل على الحد الأدنى من الضرر الممكن، مع الحفاظ على الحد الأقصى من الدعم الممكن، وهذا، ضمن المعطيات الإقليمية والدولية، يُعد توازنًا صعبًا وواقعيًا.نعم، خسرنا بعض الامتيازات، ولكننا لم نخسر الجوهر: العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، ودعمها السياسي والاقتصادي، وسمعة المنتج الأردني، وهذا ما يجب البناء عليه في المرحلة القادمة، بعيدًا عن المبالغة أو التهويل، وبخطط واضحة تدعم القطاعات التصديرية وتضمن بقاء الأردن على خريطة التجارة العالمية بثقة وإنجاز.


رؤيا نيوز
منذ 6 ساعات
- رؤيا نيوز
رغم توتر العلاقات.. تعاون كندي أميركي في ترحيل المهاجرين غير المرغوب بهم
رغم توتر العلاقات.. تعاون كندا مع الولايات المتحدة من أجل معالجة مسألة الدول المترددة في استقبال المهاجرين الذين تقرر ترحيلهم، في ظل تكثيف جهود الدولتين لإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، بحسب وثيقة حكومية اطلعت عليها وكالة 'رويترز'. ومنذ أن بدأ الرئيس دونالد ترمب فترة ولايته الثانية في يناير الماضي، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات صارمة ضد المهاجرين الموجودين في البلاد بشكل غير قانوني. إلا أن واشنطن واجهت في بعض الأحيان صعوبة في ترحيل الأشخاص بالسرعة التي تريدها ويرجع ذلك لأسباب منها عدم رغبة الدول في قبولهم. ومع قيام كندا بزيادة عمليات الترحيل، التي وصلت إلى أعلى مستوى لها خلال عقد في العام الماضي، اصطدمت بدورها بالدول التي لا ترغب في قبول المرحلين. فعلى سبيل المثال، أصدر المسؤولون الكنديون وثيقة سفر لمرة واحدة في يونيو لرجل صومالي أرادوا ترحيله لأن الصومال لم تزوده بوثائق سفر. وتوترت العلاقة بين كندا والولايات المتحدة بسبب تهديد ترمب بفرض رسوم جمركية، التي قال إنها كانت في جزء منها رداً على المهاجرين الذين يدخلون الولايات المتحدة بشكل غير قانوني من كندا. وفي رسالة بريد إلكتروني منقحة إلى مستلم غير معروف بتاريخ 28 فبراير الماضي، كتب المدير العام للشؤون الدولية في وزارة الهجرة الكندية 'ستواصل كندا أيضاً العمل مع الولايات المتحدة للتعامل مع الدول المترددة في عمليات الترحيل لتمكين كل من كندا والولايات المتحدة من إعادة الرعايا الأجانب إلى بلدانهم الأصلية بشكل أفضل'. وأحالت الوزارة الأسئلة حول الرسالة إلى إدارة خدمات الحدود الكندية، التي رفضت تحديد كيفية تعاون كندا والولايات المتحدة، ومتى بدأ التعاون، وما إذا كانت علاقة العمل قد تغيرت هذا العام. وكتب متحدث باسم الإدارة في رسالة بالبريد الإلكتروني: 'تواجه السلطات في كندا والولايات المتحدة عوائق مشتركة لإبعاد الأشخاص غير المقبولين، التي يمكن أن تشمل الحكومات الأجنبية غير المتعاونة التي ترفض عودة مواطنيها أو إصدار وثائق سفر في الوقت المناسب'. وأضاف: 'في حين أن كندا والولايات المتحدة ليس لديهما شراكة ثنائية رسمية خاصة بمعالجة هذا التحدي، إلا أن وكالة خدمات الحدود الكندية تواصل العمل بانتظام وبشكل وثيق مع شركاء إنفاذ القانون في الولايات المتحدة بشأن مسائل أمن الحدود'. وأشار المتحدث إلى أن إدارة خدمات الحدود الكندية التزمت بزيادة عدد المرحلين من 19 ألفاً في السنة المالية الماضية إلى 20 ألفاً على مدى العامين المقبلين. عندما أُرسلت الرسالة الإلكترونية، كان رئيس الوزراء الكندي آنذاك جاستن ترودو في أيامه الأخيرة في منصبه قبل أن يحل محله في مارس رئيس الوزراء مارك كارني. كانت العلاقة بين كندا والولايات المتحدة متوترة بسبب تهديد ترمب بفرض رسوم جمركية، التي قال إنها كانت في جزء منها رداً على المهاجرين الذين يدخلون الولايات المتحدة بشكل غير قانوني من كندا. وأصبحت الهجرة قضية مثيرة للجدل في كندا، حيث يلقي بعض السياسيين باللائمة على المهاجرين في أزمة السكن وتكلفة المعيشة. ويعكس الارتفاع في عمليات الترحيل في كندا إلى حد كبير زيادة التركيز على ترحيل طالبي اللجوء. ويقول محامو اللاجئين إن ذلك قد يعني إعادة بعض الأشخاص إلى بلدان يواجهون فيها الخطر أثناء محاولتهم الطعن في ترحيلهم. وأصبح نقل المهاجرين غير الشرعيين، أو المُدانين بجرائم من الولايات المتحدة إلى 'دول ثالثة' غير موطنهم الأصلي، ركيزة أساسية في استراتيجية الرئيس ترمب لتنفيذ أكبر عمليات ترحيل في تاريخ البلاد، حيث تشير تقارير إلى أن الولايات المتحدة تخطط لإبرام اتفاقيات مع 51 دولة حول العالم. وقال مسؤول أمن الحدود في الولايات المتحدة، توم هومان، الملقب بـ'قيصر الحدود' ، إن الولايات المتحدة تهدف إلى توقيع اتفاقيات ترحيل إلى بلدان ثالثة مع 'العديد من الدول'، لدعم خطط الإدارة لترحيل المهاجرين. وأفادت صحيفة 'نيويورك تايمز' في يونيو الماضي، بأن الإدارة الأميركية تواصلت أو تخطط للتواصل مع ما يقرب من 51 دولة لقبول ترحيل غير المواطنين من الولايات المتحدة.