
هل خرجت الشعوب العربية من قبضة الحكومات؟ - إيطاليا تلغراف
إيطاليا تلغراف
د. فيصل القاسم
كاتب واعلامي سوري
استطاعت الأنظمة العربية منذ الاستقلال المزعوم السيطرة على الشعوب على كل الأصعدة تقريباً، لأنها صادرت كل السلطات وأحكمت قبضتها عليها بحيث بات كل شيء تحت إمرتها.
لقد كانت الدولة العربية، وخاصة الديكتاتوريات العسكرية والجمهورية، تتحكم بالإعلام والتربية والتعليم والثقافة والاجتماع وكانت حتى الآمر الناهي في المؤسسة الدينية. وللتذكير سريعاً، فقد كانت كل الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون تأتمر بأوامر وزارات الإعلام التي كانت مجرد عبد مأمور لدى أجهزة الأمن والمخابرات. وكلنا يعرف في بلد مثل سوريا (الأسد) كيف كان وزير الإعلام وكل المسؤولين الإعلاميين مجرد مخبرين لهذا الفرع الأمني أو ذاك، ولا أحد يستطيع أن يخرج عن الخط المخابراتي في إدارة المؤسسات الإعلامية، وبالتالي فقد كانت وسائل الإعلام أشبه بسوط يستخدمه الجلاد الأمني لتطويع المجتمع وتوجيهه وتربيته على خط أحادي في خدمة الدولة والديكتاتور. وبالرغم من أن النهج الإعلامي في الديكتاتوريات كان مفروضاً بالحديد والنار على الشعوب، فإنه مع ذلك فعل فعله، ونجح إلى حد بعيد في إخضاع الشعوب وتدجينها وجعلها تردد ببغائياً كل ما تتلقاه من الأبواق الإعلامية الرسمية. ونحن أبناء جيل الستينيات من القرن الماضي مثال ساطع على ما نقول، فبالرغم من أننا تثقفنا وتعلمنا وبحثنا ودرسنا، إلا أننا مازلنا في أعماق أعماقنا متضررين من ذلك النظام الإعلامي الأمني الذي تربينا عليه على مدى عقود، فطريقة التفكير التي زرعها أصبحت جزءاً من شخصية الشعوب وتفكيرها شئنا أم أبينا. صحيح أننا اليوم نكتب عنها بسخرية وتهكم ونهاجمها، لكنها مازالت تقبع في أذهاننا وتظهر في الكثير من تصرفاتنا اللاشعورية.
وحدث ولا حرج عن النظام التربوي والتعليمي الذي يقوم على التلقين والإخضاع والفرض، فقد كان مصمماً بطريقة تعمل على تدجين العقول وترويضها وإرهابها، بدءاً بالمعلم «الديكتاتور» وانتهاء بالمناهج المؤدلجة. لم نتعلم من المدارس سوى الطاعة العمياء والخوف والمداراة، والانصياع للدولة، والنظام القائم، والمجتمع. ولا ننسى أن النظام التعليمي كان يقوم بالدرجة الأولى على الحفظ وليس التفكير والبحث، وقد كان التلميذ الأفضل هو الذي يحفظ كل شيء عن ظهر قلب دون تدقيق أو تمحيص أو مساءلة. لم يكن مسموحاً لأحد أن يخرج عن الطوق أو السرب، فثقافتنا كانت مبينة على مبدأ: احفظ واخرس، والويل لمن يبدأ بالتفكير خارج الصندوق أو القطيع.
النظام الديني بدوره كان مؤمماً لصالح الديكتاتوريات، فهي التي تقوم بتعيين المفتين والواعظين والأئمة الذين يتحكمون بعقول الشعب لصالح الدولة. ولعلكم لاحظتم أن كل مفتي يكون عادة صدى للنظام الذي عيّنه، فإذا كان النظام مثلاً يدعي العلمانية كالنظام السوري الساقط، فإن المفتي كأحمد حسون كان يزايد على العلمانيين والليبراليين، وكان أقرب للماركسيين منه إلى الإسلاميين، فهو يستطيع أن يغلف أي فكرة يريدها النظام بغلاف ديني، حتى لو كانت من بنات أفكار سبينوزا أو لينين. باختصار، فإن المؤسسة الدينية فعلت أيضاً فعلها بالمجتمع وأدلجته وقولبته حسب النظرة الرسمية.
أما الأسرة فكانت نفسها صناعة النظام، فهي تطبق وتنفذ كل المطلوب مع أبنائها داخل المنزل بناء على التوجيه الذي تلقته في المدرسة والجامع والإعلام، فمهما حاول البعض الخروج عن التقليد داخل العائلة، فهو يبقى محاصراً ومنبوذاً إذا تمرد على العادات والتقاليد المفروضة.
باختصار، فإن المجتمعات العربية التي تربت على أيدي الأنظمة الحاكمة منذ ما يسمى بالاستقلال هي نتاج الأجهزة التعليمية والتربوية والدينية والاجتماعية والإعلامية لتلك الأنظمة. نحن باختصار ضحايا أو شعوب مسيّرة لا مخيّرة، فكل نظام ينتج المجتمع الذي يشبهه. لكن هل بدأت الأنظمة تفقد سيطرتها على المجتمعات يا ترى في عصر السماوات المفتوحة، والطوفان الإعلامي، ومواقع التواصل، والاتصال؟ هل خرجت الشعوب من قبضة الأنظمة التعليمية والتربوية، والدينية، والاجتماعية، والإعلامية؟ الجواب بالتأكيد فإن الشعوب لن تكون عجينة طيعة بأيدي الحكومات كما كانت في الماضي. ما مدى تأثير وسائل الإعلام الرسمية اليوم على الناس يا ترى؟ هل مازالوا يتابعونها أصلاً أم أصبحت مهجورة، ومنبوذة، ومحط سخرية، وتهكم؟
كم عدد الذين يتابعون الأخبار اليوم من الإعلام الرسمي؟ ألم تصبح مواقع التواصل أقوى من وسائل الإعلام التقليدية حتى في البلدان الديمقراطية، فما بالك بالأنظمة الديكتاتورية التي تعاني من عزلة إعلامية قبل الثورة الإعلامية أصلاً؟ ألم تصبح مواقع التواصل أيضاً أقوى من البرلمانات ومجالس الشعب المزعومة؟ ألم يصبح الكل ناشراً في هذا العصر؟ ألا تلاحق سياط الشعوب على مواقع التواصل كل المسؤولين في أي دولة؟ ألم تصبح الدولة بكل مؤسساتها تحت الأضواء ليل نهار بفضل الإعلام المفتوح للجميع؟
هل تستطيع اليوم أن تمنع أولادك من امتلاك أجهزة موبايل ليتواصلوا ويتفاعلوا مع العالم أجمع في عصر العولمة؟ هل يمكن أن تمنعهم من التعرف على عادات وتقاليد ومفاهيم جديدة غريبة بعد أن كنا في الماضي أسرى للإعلام الواحد الذي لا يُريكم إلا ما يرى؟ لقد أصبحت الشعوب حرة حتى في اختيار عقائدها، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك اليوم نسبة كبيرة من الملحدين أو اللاأدريين في بلادنا، لأن المؤسسات التوجيهية فقدت أنيابها ولم تعد قادرة على التحكم بالناس والمجتمعات.
وللأمانة، فهذا لا ينطبق فقط على الديكتاتوريات العربية، بل ينسحب أيضاً على الديمقراطيات التي أيضاً خسرت الكثير من سلطاتها على الشعوب رغم أن مؤسساتها الإعلامية والتربوية والاجتماعية أكثر حرية وانفتاحاً من مجتمعاتنا المغلقة.
لا شك أن الخروج من تحت ربقة الأنظمة الشمولية أمر إيجابي جداً، لكن أيضاً فإن غياب التحكم بالمجتمعات كلياً ليس إيجابياً تماماً.
ما العمل؟ صحيح أن السيطرة على الأبناء لم تعد يسيرة أبداً، لكن مع ذلك، فلا بد لكل أسرة أن تضع قيوداً معينة على أفرادها لا بالطريقة الديكتاتورية القديمة، بل بما يتناسب مع المجتمعات الجديدة، فالديكتاتورية التقليدية بالتأكيد ممقوتة، لكن الفلتان الشامل مرعب أيضاً، ويجب ألا يكون سيد الموقف. فكيف نطبق إذاً المثل الشعبي: لا يموت الذيب ولا يفنى الغنم؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الخبر
منذ 22 دقائق
- الخبر
غزة: شهداء ومفقودون تحت الأنقاض
استشهد وأصيب عدد من الفلسطينيين بينهم أطفال، منذ فجر اليوم الأحد، في قصف طائرات الاحتلال الحربية أنحاء متفرقة في قطاع غزة. وأفادت وكالة "وفا"، نقلا عن مصادر طبية، باستشهاد 10 فلسطينيين، ووقوع إصابات، جراء قصف الاحتلال منزلا يؤوي نازحين، في حي الشيخ رضوان، شمالي مدينة غزة، ولا يزال عدد من المفقودين تحت الأنقاض. وأضافت المصادر ذاتها، أن 4 مواطنين استشهدوا، وأصيب آخرون، جراء قصف طائرات الاحتلال منزلا في شارع يافا بحي التفاح شرقي مدينة غزة. وأشارت المصادر إلى أن ثلاثة فلسطينيين استشهدوا، وأصيب عدد آخر، جراء قصف طائرة مسيرة تابعة للاحتلال خياما لعائلتين في مواصي مدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة. وحسب المصادر الطبية، فقد ارتفع عدد الشهداء جراء غارات صهيونية على أنحاء متفرقة في قطاع غزة، منذ فجر اليوم، إلى 26 شهيدا، بينهم 23 في مدينة غزة. ومنذ السابع من أكتوبر 2023، يرتكب الاحتلال الصهيوني إبادة جماعية في قطاع غزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها. وخلّفت هذه الحرب أكثر من 193 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد عن 10 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين، بينهم عشرات الأطفال.


الخبر
منذ ساعة واحدة
- الخبر
أحزاب تطرح فكرة إنشاء تحالف
ناقشت عدة أحزاب سياسية فكرة إمكانية إنشاء تحالف أو تكتل حزبي، يجمع بين حزبين أو أكثر، كاستراتيجية بديلة مقترحة للخروج من العمل الحزبي المنفرد، وخوض الانتخابات المقبلة بشكل مشترك، من دون أن يتم تحديد الأشكال أو المراحل التي يتم من خلالها تجسيد المشروع، الذي برز في شكل "جنيني"، وبحاجة إلى تنسيق ومشاورات ولقاءات عديدة لبلورته وإنمائه. وطُرحت الفكرة بشكل غير رسمي بين قيادات حزبية، التقت نهاية الأسبوع الماضي، خلال إحياء الذكرى العاشرة لتأسيس حزب "طلائع الحريات"، بفندق سوفيتال بالعاصمة، وفق ما علمت "الخبر"، على هامش الاحتفالية من مصادر حزبية، شاركت في المناقشة التمهيدية أو المبدئية للمقترح. ولم تتحدث القيادات عن المعايير أو الشروط التي يُستلزم توافرها للانضمام أو لتأسيس تحالف حزبي، سواء على أساس التوجهات الإيديولوجية التقليدية، وطني، إسلامي وديمقراطي، أو على أساس المواقف السياسية، معارضة وموالاة، أو على أساس التواجد في البرلمان أو غيرها من المقاييس. غير أنه يُفهم من التصريحات المقتضبة حول الموضوع، من القيادات التي تحدثت إلى "الخبر"، أن الفكرة تتعلق بالتحضيرات للاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وترمي إلى توحيد الأوعية الانتخابية وتجميع مقدراتها النخبوية، لانتزاع حصة في المجالس الشعبية بمختلف مستوياتها، ولِم لا "كسر هيمنة أحزاب محددة على المشهد الانتخابي"، على حد تعبير قيادي رفع من سقف الطموح. وإلى غاية الآن، يتريث أصحاب الفكرة ولم يفصحوا عن كل معالمها وتفاصيلها، بحجة، على ما يبدو، عدم استباق الأحداث، وهو تريث وتحفظ لابد منه، من الناحية الزمنية، وإلا سيجدون أنفسهم في حالة متقدمة ومتسرعة عن وتيرة الزمن السياسي. ولا تزال الفكرة محل مناقشة وتباحث ولم تتضح معالمها، والمشاركون فيها وقابلية تجسيدها وشكلها وتسميتها. كما لم يتم الاتفاق عليها بشكل نهائي لتتحول إلى مشروع واقعي وملموس، مثلما جرى مؤخرا مع التكتل الانتخابي الذي أنشأته أحزاب الموالاة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لدعم برنامج رئيس الجمهورية، والتفّت حول تصوراته وقراراته ومشاريع القوانين التي سنتها حكوماته على مستوى البرلمان. وسبق أن خاضت أحزاب سياسية في العقود الأخيرة الماضية تجارب إنشاء تحالف وحققت نتائج مقبولة جدا على الصعيد الانتخابي، على غرار ما كان يسمى بـ"تكتل الجزائر الخضراء" الذي ضمَّ حركة مجتمع السلم وحركة النهضة وحركة الإصلاح، أو "التحالف الرئاسي"، الذي أنشأه حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة مجتمع السلم، إلى جانب تجارب سابقة خاضتها أحزاب متوسطة ومحدودة الانتشار.


خبر للأنباء
منذ ساعة واحدة
- خبر للأنباء
مليشيا الحوثي تستحدث سجوناً خاصة للنساء ضمن تصعيد الانتهاكات بحق اليمنيات
وأفادت المصادر لوكالة "خبر" أن لجنة مكوّنة من عناصر "الزينبيات" — وهي فرقة نسائية تابعة للمليشيا الحوثية — نفّذت، يوم السبت 5 يوليو 2025، جولات ميدانية شملت عدداً من أقسام الشرطة في مناطق مختلفة، بهدف الاطلاع على أوضاع السجون القائمة، والعمل على تخصيص مرافق جديدة لاحتجاز النساء. وبحسب المصدر، فقد تم خلال هذه الزيارات افتتاح سجون نسائية داخل بعض أقسام الشرطة، تتكوّن من عدة مرافق تشمل مكتباً وصالة وغرفة نوم، بالإضافة إلى زنزانة مزودة بحمام داخلي، ما يشير إلى نية المليشيا تحويل هذه المراكز إلى أماكن احتجاز دائمة. ويرى حقوقيون أن هذه الخطوة تُعد مؤشراً خطيراً على تصعيد قمع الحريات العامة، واستهداف النساء على وجه الخصوص، في سياق حملة ممنهجة تقوم بها المليشيا منذ سنوات لتقييد دور المرأة في المجتمع، واستغلالها سياسياً وأمنياً من خلال تجنيد "الزينبيات" في مهام قمعية واستخباراتية. يُذكر أن "الزينبيات" هي ذراع أمنية نسائية حوثية، تلقّت تدريبات على يد خبراء من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، وتُستخدم في تنفيذ مداهمات واعتقالات ومراقبة النساء في الأماكن العامة، بالإضافة إلى إدارة السجون المخصصة للنساء، وهو ما يُعدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، وتحديداً لحقوق النساء التي تكفلها القوانين الدولية.