
مناورة الدعم السريع الجديدة للتحايل على الهزيمة
سعى تحالف (تأسيس) السوداني، بقيادة مليشيا الدعم السريع ومشاركة فصائل متمرّدة وشخصيات سياسية منشقة، لتقديم نفسه كبديل سياسي مؤسسي قائم على العلمانية والعدالة واللامركزية، في مواجهة ما وصفه بـ"النظام القديم المتحالف مع العسكر والفساد".
هذه المحاولة ليست الأولى في تاريخ السودان التي يسعى فيها كيان مسلح لشرعنة وجوده السياسي، لكنها تأتي في سياق يختلف كليًا عن حركات التمرد السابقة التي غالبًا ما كانت ترتكز على مطالب إثنية أو جهوية واضحة.
كان السقف الأعلى لتحالف "تأسيس" يتمثل في إعلان حكومة موازية من مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، إيذانًا بإحكام السيطرة على الإقليم بأكمله.
غير أن صمود المدينة أمام عشرات المحاولات العنيفة لاقتحامها من قبل مليشيا الدعم السريع، اضطر التحالف إلى خفض سقف طموحاته، والتفكير في إعلان الحكومة من مدينة نيالا، جنوب دارفور.
وقد علّق كاميرون هدسون، المسؤول السابق في البيت الأبيض والمتخصص في شؤون السودان والقرن الأفريقي، بأن إعلان (الدعم السريع) تشكيل حكومتها الموازية من نيالا يُعدّ "مخيّبًا للآمال للغاية"، موضحًا أن الهدف الأصلي من إعلانها في الفاشر كان إيصال رسالة مفادها: السيطرة الكاملة على دارفور. أما إعلانها الآن من نيالا- كما يضيف هدسون- فهو مؤشر على حجم الضغط الذي باتت تواجهه قوات الدعم السريع.
لقد جاء هذا التحول النوعي في مسار الحرب السودانية بالتزامن مع تراجع عسكري كبير لمليشيا الدعم السريع. فبعد أشهر من المكاسب في الخرطوم ودارفور، بدأت موازين القوى تميل تمامًا لصالح الجيش السوداني، مما دفع قائد المليشيا محمد حمدان دقلو "حميدتي" إلى التفكير في تغطية إخفاقاته العسكرية بغطاء سياسي.
هكذا وُلدت ما عرف بـ"الحكومة الموازية"، لا كسلطة بديلة، بل كقناع سياسي لسلطة تبحث عن شرعية، وأداة مزدوجة لتثبيت أقدام مرتجفة على الأرض تهتز من تحتها، وكسب أوراق على الطاولة.
يهدف ميثاق التحالف إلى تأسيس "مجلس رئاسي" برئاسة حميدتي، وتقسيم البلاد إلى 8 مناطق إدارية، في خطوة تستبطن مشروعًا فدراليًا لا يقف على سيقان، قد يفتح الباب أمام التشرذم.
التأسيس النظري لحكومة بديلة يعكس نية واضحة لخلق دولة موازية لا تعترف بشرعية السلطة في بورتسودان، بل تسعى لإزاحتها من المشهد.
هذا المشروع التآمري، وإن بدا مزخرفًا، فإنه في سياق حرب أهلية يدفع نحو مزيد من التفتيت الجغرافي والسياسي، ويخلق سوابق خطيرة قد تؤدي إلى انفصال فعلي لمناطق واسعة تحت مسمى الإدارة الذاتية، خاصة في الأطراف الملتهبة مثل دارفور، وجنوب كردفان.
شرعية مفقودة وسيادة مهددة
بالكاد جفّ حبر إعلان القيادة العليا حتى بدأت شقوق التحالف في الانكشاف، وكأن البنيان السياسي أُسس على رمال الانتهازية لا على صخر الشرعية.
هذه الأطماع السلطوية والانشقاقات تؤشر على هشاشة البنية السياسية للتحالف الذي وُلد من رحم أزمة لا من قاعدة جماهيرية صلبة. إن غياب الإجماع الحقيقي بين مكوّناته، واعتمادها على مصالح مؤقتة تتقاطع حول دعم مليشيا الدعم السريع، يجعلان بقاءه مرهونًا بمدى قدرة حميدتي على الحفاظ على نفوذه العسكري والمالي، لا على قوة طرحه السياسي أو جاذبيته الشعبية.
الجيش السوداني لم يُبدِ قلقًا مفرطًا، بل وصف الخطوة بأنها مجرد محاولة من مليشيا الدعم السريع للضغط التفاوضي بعد خسائرها الأخيرة، معتبرًا "تأسيس" تكتيكًا أكثر منه مشروعًا طويل الأمد.
هذا الموقف ينسجم مع تقييم أغلب الدوائر السياسية التي ترى في التحالف مشروعًا مؤقتًا، لا يحظى باعتراف دولي ولا دعم شعبي حقيقي خارج معسكرات التمرد. إن رد فعل الجيش ينمّ عن ثقة في عدم قدرة "تأسيس" على اختراق جدار الشرعية الدولية والمؤسسية القائمة.
إقليميًا، تباينت المواقف لكن الإجماع كان على عدم دعم التحالف الجديد. لم تُبدِ مصر أو إريتريا ترحيبًا، واعتبرتاه خطوة تُضعف محاولات التوسط بين الطرفين، وتدفع السودان نحو الانقسام، وهو ما يهدد استقرار حدودهما.
السعودية كانت أكثر وضوحًا، إذ أعلنت رفضها أيَّ حكومة خارج إطار المؤسسات الرسمية، وواصلت دعم مبادرة منبر جدة للحل السياسي، مؤكدة على أهمية وحدة السودان واستقراره للمنطقة.
أما الاتحاد الأوروبي ، فرأى في تحالف "تأسيس" تهديدًا مباشرًا لوحدة السودان، وألمح إلى توسيع العقوبات ضد الجهات الداعمة للانقسام، وذلك انسجامًا مع سياسته العامة في دعم الدول المستقرة ومؤسساتها.
الموقف الأميركي من "تأسيس" كان حادًا: وزارة الخارجية وصفته بأنه "إنذار بتقسيم فعلي للبلاد"، بينما ضغط الكونغرس لوقف أي دعم عسكري خارجي لمليشيا الدعم السريع. كما أدرجت واشنطن قيادات من المليشيا في قوائم العقوبات، في رسالة واضحة أن "الشرعية لا تُنتزع بالتمرد".
الاتحاد الأوروبي تبنّى موقفًا مشابهًا، داعيًا إلى وقف فوري لأي خطوات أحادية نحو تشكيل حكومات موازية. هذا الموقف الغربي يعكس قلقًا عميقًا من تحول السودان إلى دولة فاشلة أو مقسمة، مما قد يزعزع استقرار منطقة الساحل والبحر الأحمر.
أما الصين فقد تبنّت نهجًا أقل حدة وأكثر حذرًا. أعربت عن "قلقها" من احتمالات تفكك السودان، لكنها استمرت في دعم مشاريع البنية التحتية. موقف بكين يُمليه أساسًا مصالحها الاقتصادية والاستثمارية الكبيرة في السودان، وتجنبها التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول.
أما روسيا فكان موقفها الأكثر براغماتية: دعم رسمي للحكومة السودانية، مقابل تقارير غربية عن تزويد مليشيا الدعم السريع بأسلحة عبر شبكات غير رسمية، في تكرار لنهج "توازن النفوذ" الذي تتبناه موسكو في سوريا وليبيا.
الاتفاق الأخير حول القاعدة البحرية في بورتسودان عزّز من علاقة روسيا بالجيش، لكنه لا يُلغي تعاملها غير المباشر مع فصائل أخرى لحماية مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، مما يجعل موقفها أقرب إلى اللعب على جميع الأطراف.
الشرعية الدستورية وصمت القوى المدنية
من منظور القانون الدستوري، يمثل تحالف "تأسيس" حالة عصيّة على التطبيع السياسي. فالإعلان عن "مجلس رئاسي" وبرلمان من خارج إطار الشرعية القائمة يُعد مخالفة صريحة لأي مرجعية دستورية سابقة أو لاحقة. لا توجد أي وثيقة قانونية سودانية- منذ الاستقلال- تمنح كيانًا مسلحًا حقّ تشكيل حكومة في غياب تفويض شعبي، أو اعتراف دستوري.
بل إن التمرد نفسه، في الأعراف الدولية، لا يمنح قائده الحق في التشريع أو التقسيم أو إعلان الكيانات. وبذلك، فإن "تأسيس" ليس فقط كيانًا خارج القانون، بل يتحدى جوهر الدولة ذاتها، ويحاول كتابة نصوصه بمداد البنادق لا بأقلام الشرعية.
إنه يفتح الباب لسوابق خطيرة: أن يُصبح كل من حمل السلاح مؤهلًا لحكم ما تحت قبضته، ولو عبر مسرحية دستورية مفبركة، مما يقوض أي أسس لبناء دولة حديثة قائمة على القانون والمؤسسات.
أما القوى المدنية السودانية، فقد وقفت أمام إعلان "تأسيس" في حالة من التردد والانقسام. بعض التيارات مع وقوفها مع التمرد- كتحالف الحرية والتغيير- لكنها لم تجد بدًا من رفض فكرة الحكومة الموازية، واعتبرت الخطوة تهديدًا لمسار الدولة المدنية، ومقدمة لتقسيم البلاد على أسس عسكرية.
الحزب الشيوعي كان أكثر حدة، فوصف التحالف بأنه "تحالف انتهازي بين القتلة والانفصاليين"، داعيًا لمواجهته سياسيًا وميدانيًا. بالمقابل، فضّلت بعض الشخصيات المستقلة الصمت، أو أبدت مواقف رمادية تلوّح بـ"ضرورة الحلول السياسية من أي جهة".
هذا التباين يكشف عمق الأزمة في الجسم المدني المعارض، حيث لم يعد واضحًا ما إذا كانت وحدة التراب السوداني أولوية، أم إن خصومة بعضهم مع الجيش جعلت من التمرد أهون الشرّين.
وهنا يبرز سؤال لا يقل خطورة: هل يُمكن لمعارضة مدنية أن تستعيد المبادرة وهي تراقب المشهد من خلف النوافذ؟ إن صمت أو انقسام القوى المدنية يضعف موقعها التفاوضي، ويقلل من قدرتها على تقديم بديل سياسي موحد ومقبول للشعب السوداني.
"تأسيس": قيمة مضافة أم واجهة؟
يبقى السؤال الجوهري: هل يشكّل "تأسيس" قيمة مضافة حقيقية لتمرد مليشيا الدعم السريع، أم مجرد واجهة سياسية محكومٍ عليها بالانهيار؟
من منظور الواقعية السياسية، لم يكن "تأسيس" سوى منصة إسعاف تفاوضي لقوة تخسر الميدان، وتبحث عن مكاسب على الورق حين تتآكل على الأرض. لكنه في الوقت ذاته كشف عن حدود التحالفات الهشة، وعن استحالة فرض نموذج "الحكم الموازي" في ظل الرفض الشعبي، وغياب الشرعية والاعتراف الدولي.
الرؤية العلمانية والفدرالية التي يطرحها الحلف قد تروق للغرب نظريًا، لكنها تفقد كل جدواها حين ترتبط بفصيل متهم بارتكاب فظائع ضد المدنيين، مما يضعف أي محاولة لكسب الدعم الأخلاقي أو السياسي المستدام.
تشير أغلب التحليلات إلى أن التحالف لن يصمد بوصفه "حكومة ظل"، بل سيُستثمر في مرحلة ما كأداة تفاوضية، قبل أن يُحل أو يُعاد تشكيله ضمن صفقة شاملة.
هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا يرى أن التحالف هو ورقة ضغط في يد مليشيا الدعم السريع، تُرفع على طاولة المفاوضات للحصول على مكاسب أكبر، أو لضمان حصة في أي ترتيبات مستقبلية.
في أسوئِها، فقد يتحول إلى مقدمة لانفصال سياسي- إداري جديد، خصوصًا في دارفور، ليُعمق بذلك جراح الانقسام ويضيف فصلًا جديدًا من عدم الاستقرار والصراع.
إن تحالف "تأسيس" أشبه بمحاولة صبغ الجدران المتهالكة بألوان الدستور واللامركزية، بينما الأساسات قائمة على فوهات البنادق. ليس مشروع دولة بقدر ما هو مرآة لهشاشة التمرد حين يضيق عليه الخناق.
إنه محاولة لتدوير الأزمة لا لحلها، لتلميع الخراب لا لبناء بديل. إنه محاولة لتقنين السيطرة عبر واجهات سياسية ودستورية هشّة، تفتقر للقبول المحلي والدولي.
وبينما تُصرّ مليشيا الدعم السريع على المضي في بناء حكومتها البديلة، فإن المجتمع الدولي يتعامل معها كـ"جهة متمرّدة" لا كشريك شرعي. وعليه، فإن القيمة الحقيقية لهذا التحالف لا تُقاس بما أُعلن، بل بما قد يُنجزه سياسيًا على طاولة التفاوض.. أو ما قد يُفشل تحقيقه على الأرض.
في ضوء هذه التحديات الجسيمة والرفض الدولي، يمكن أن نسأل: ما هي البدائل المتاحة لمليشيا الدعم السريع لضمان أي شكل من أشكال التمثيل السياسي المستقبلي؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
10 قتلى ونحو 30 جريحا في احتجاجات مؤيدة للديمقراطية بكينيا
قُتل 10 أشخاص في مظاهرات تشهدها كينيا إحياء لذكرى احتجاجات مؤيدة للديمقراطية، وفق ما أفادت الاثنين منظمة حقوقية محلية. وأعلنت اللجنة الوطنية الكينية لحقوق الإنسان في بيان أنها "أحصت مقتل 10 أشخاص وإصابة 29 وحالتي خطف و37 عملية توقيف في 17 مقاطعة" خلال احتجاجات " يوم سابا سابا" التاريخية. لكن الهيئة أشارت أيضا إلى وجود "عصابات إجرامية بحوزتها أسلحة بدائية" في الاحتجاجات، لافتة إلى أن "ملثمين من أفراد هذه العصابات شوهدوا يعملون إلى جانب عناصر الشرطة" في العاصمة نيروبي. و"يوم سابا سابا" (سبعة سبعة) هو ذكرى الانتفاضة التي طالبت بعودة التعددية الحزبية في 7 يوليو/تموز 1990 بعد سنوات من الحكم الاستبدادي في عهد الرئيس دانيال أراب موي آنذاك. ومنذ قرابة الظهيرة أفاد صحفيون في وكالة الصحافة الفرنسية بوقوع اشتباكات مع قوات مكافحة الشغب التي أطلقت الغاز المدمع على تجمعات صغيرة، وعمد بعض المتظاهرين إلى رشق العناصر بالحجارة مع حصول أعمال النهب. كما قال مراسل من رويترز إن الشرطة الكينية فتحت النار على مجموعة من المتظاهرين في نيروبي اليوم الاثنين، وشوهد رجل بعد ذلك ملقى بلا حراك على الطريق وبدت عليه آثار دماء. وقبيل الاحتجاجات أغلقت الشرطة الكينية الطرق الرئيسية المؤدية إلى العاصمة نيروبي، وظلت معظم المحلات التجارية مغلقة، ومنعت الشرطة المركبات الخاصة والعامة من الوصول إلى وسط المدينة، كما منعت معظم المشاة من دخول العاصمة، ولم تسمح بالدخول إلا لهؤلاء الذين لديهم مهام ضرورية للقيام بها. ويدفع الإحباط الناجم عن الركود الاقتصادي والفساد وعنف الشرطة شبانا كينيين إلى المشاركة مجددا في التحركات الاحتجاجية بعدما تخللتها الشهر الماضي أعمال نهب وعنف، مما أسفر عن مقتل العشرات وتدمير آلاف الشركات. ويتهم محتجون السلطات بتمويل مسلحين بهدف تخريب التحركات، في حين تقول الحكومة إن المظاهرات أشبه بـ"محاولة انقلاب".


الجزيرة
منذ 11 ساعات
- الجزيرة
"سابا سابا" حراك كينيا المتجدد
حراك "سابا سابا" ويعني "7/7" باللغة السواحلية، في إشارة لليوم السابع من يوليو/تموز، والذي يحمل دلالات رمزية بالتاريخ السياسي الكيني، إذ يمثل بداية التحول من الحكم السلطوي للتعددية السياسية والانفتاح على الحكم الديمقراطي. يوم خرج آلاف الكينيين عام 1990 في حراك شعبي واحتجاجات حاشدة أجبرت الحكومة على تبني نظام سياسي متعدد الأحزاب بعد فترة طويلة من الحكم الاستبدادي. وفي السابع من يوليو/تموز من كل عام يحيي الكينيون هذه الذكرى التي يعتبرونها رمزا للمقاومة المدنية والانتقال الديمقراطي. وقد حافظ الحراك على جذوته مشتعلة على مدى أكثر من 3 عقود، ليظهر مع كل ذكرى سنوية بمطالب شعبية متجددة تعكس طبيعة الصراع السياسي والاجتماعي في هذا البلد. سياق النشأة أثناء اندلاع أحداث 1990 كانت كينيا تخضع لحكم الرئيس الراحل دانيال أراب موي الذي ترأس نظاما سياسيا يهيمن عليه حزب وحيد هو الاتحاد الوطني الأفريقي، فشهدت معه البلاد قمعا سياسيا وتضييقا واسعا على المعارضة وتقييدا للحريات العامة، إلى جانب تفاقم الأوضاع الاقتصادية والتهميش الاجتماعي، مما ولّد حالة من الغضب والاستياء الشعبي العارم. وتحت وطأة الوضع السائد آنذاك، جاءت الدعوة إلى التظاهر من قادة المعارضة كينيث ماتبيا وتشارلز روبيا وجاراموجي أودينغا، الذين طالبوا بتنظيم تجّمع جماهيري في ساحة كاموكنجي بالعاصمة نيروبي، للمطالبة بإرساء نظام سياسي تعددي. ورغم الحظر الذي فرضته السلطات الأمنية آنذاك، تحدى المواطنون القرار ونزلوا بكثافة إلى الشارع، مما أدى إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن، أسفرت عن اعتقالات واسعة، وسقوط أكثر من 20 قتيلا، علاوة على تسجيل انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتحولت أحداث ذلك اليوم إلى محطة مفصلية في تاريخ النضال الديمقراطي في كينيا، وأسهمت في تسريع الضغط الشعبي والسياسي باتجاه الإصلاح، لتصبح "سابا سابا" رمزا للنضال من أجل الحقوق المدنية، والعدالة الاجتماعية، والمساءلة السياسية. أبرز رموز الحراك أدى عدد من القادة دورا بارزا في تنظيم احتجاجات 1990، من بينهم كينيث ماتبيا وتشارلز روبيا، اللذان اعتقلا على خلفية الدعوة للتظاهر. كما شارك الزعيم السياسي المخضرم أودينغا في دعم الحراك، وأيده باعتباره أحد رموز الدولة، كما برز كذلك جيمس أورينغو وكوغي وا وامويري ضمن الأصوات البارزة في الدفاع عن الحريات المدنية إبان الانتفاضة. وشهدت ساحة النضال السياسي في كينيا، مع مطلع العقد الثالث من القرن الـ21، بروز عدد من النشطاء المؤثرين، من بينهم الناشطتان السياسيتان وانغاري ماثاي وجيروتيتش سيي، والمحامي بول مويتي، والمصور الصحفي بونيفيس موانغي، إضافة إلى عدد من الناشطين الشباب الذين أسهموا في إحياء رمزية "سابا سابا". مطالب متعددة شكلت احتجاجات "سابا سابا" عام 1990 محطة محورية في مسيرة الديمقراطية الكينية، إذ كانت الشرارة التي أطلقت موجة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية، فقد أدت إلى فرض تعديلات على بعض مواد الدستور عام 1991، وفتح الباب بموجبها أمام التعددية الحزبية والتنافس السياسي. كما شكلت هذه الانتفاضة دافعا حفّز الشباب على الانخراط في الحياة السياسية، ومكنت مؤسسات المجتمع المدني من المشاركة في قضايا الحكم والإصلاح، كما اعتبرها طيف واسع من المجتمع انعكاسا لقوة الإرادة الشعبية وقدرتها على تحدي الأنظمة الاستبدادية. ومع مرور السنين، تطورت المفاهيم الرمزية المرتبطة بحراك "سابا سابا" لتواكب تطورات عدة شهدها المشهد السياسي والاجتماعي الكيني. وبعدما انطلق عنوانا لانتفاضة شعبية ضد حكم الحزب الواحد ودكتاتورية الرئيس موي عام 1990، بدأ حراك "سابا سابا" -مع مطلع العقد الأول من القرن الـ21- يتجاوز مطلب التعددية الحزبية، ليصبح منبرا للمطالبة بإصلاحات دستورية جوهرية، خصوصا ما يتعلق بالعدالة في توزيع الأراضي التي يعتبرها الكينيون مسألة مركزية على مر تاريخهم. كما اتخذ الحراك طابعا حقوقيا مع بداية العقد الثاني من القرن نفسه، حين صارت المطالب الشعبية مركزة على محاسبة الأجهزة الأمنية في ظل تنامي القتل خارج القانون والانتهاكات المتكررة من الشرطة، وتزامنا مع هذه المطالب ظهرت أصوات أخرى تطالب بعدالة اقتصادية، مستنكرة اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وتدهور مستوى المعيشة. "جيل زد" يقود الحراك وظهر تحول لافت في قيادة حراك "سابا سابا" مع بداية العقد الثالث من القرن ذاته، فقد بدأت مجموعات شبابية وعلى رأسها حركة "جيل زد" تتصدر المشهد مستخدمة الفضاء الرقمي للتعبير والتعبئة الجماهيرية مطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية. وفي عام 2024 اندلعت احتجاجات كبرى ضد حكومة الرئيس وليام روتو، عقب طرح مشروع قانون المالية الذي تضمن زيادات ضريبية أثارت غضبا شعبيا واسعا. وفي يونيو/حزيران 2025، اعتقلت الشرطة المدون والمعلم ألبرت أوموندي أوجوانغ بتهمة "نشر معلومات كاذبة" إثر تغريدة انتقد فيها نائب المفتش العام للشرطة على منصة إكس. وتوفي أوجوانغ أثناء فترة احتجازه، وبرّرت الشرطة وفاته بإصابته "بجروح في الرأس نتيجة اصطدامه بجدار الزنزانة". وأثارت وفاته موجة احتجاجات عمت البلاد بأسرها، انطلقت في 9 يونيو/حزيران 2025، وقادها شباب عبر وسائل التواصل، واستعرت جذوة الاحتجاج أكثر بسبب تزامنها مع تصاعد الغضب الشعبي من الفساد وتذمر الكينيين من غلاء المعيشة. وتميز الحراك الافتراضي بعدم وجود قيادة رسمية أو هيكل تنظيمي واضح، ويرى بعض مؤيدي حركة "جيل زد" أن غياب القيادة المركزية يمثل مصدر قوة يضمن استقلالية الحراك، بينما يعتبر آخرون أن وجود قيادة جماعية ضروري لتحويل هذه الموجة إلى قوة سياسية مؤثرة ودائمة. وشهدت العاصمة نيروبي يوم الاثنين 7 يوليو/تموز 2025 شللا تاما وانتشارا مكثفا للقوات العسكرية ضمن إجراءات استباقية في ظل دعوات متزايدة لتنظيم مظاهرات حاشدة في ذكرى "سابا سابا" احتجاجا على ما وصفته حركة "جيل زد" بـ"الانتهاكات الأمنية والفساد السياسي".


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
6 أسئلة تشرح دعوات سابا سابا في كينيا
تشهد كينيا منذ يونيو/حزيران 2025 موجة احتجاجات شعبية واسعة، بلغت ذروتها اليوم في ذكرى "سابا سابا" التاريخي (7 يوليو/تموز) الذي يُعد رمزا للنضال ضد الحكم الفردي. فقد خرج آلاف المتظاهرين في مدن مختلفة، تنديدًا بمقتل محتجين وبالوحشية الأمنية والفساد السياسي، وسط انتشار أمني كثيف في العاصمة نيروبي. 1- ماذا يحدث في كينيا؟ في يونيو/حزيران الماضي، دعا ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي إلى اعتبار يوم 25 يونيو/حزيران يوما وطنيا لإحياء ذكرى ضحايا قانون المالية في 2024، إلا أن الحكومة رفضت ذلك، واعتقلت عددا من الناشطين، بينهم ألبرت أوجوانغ الذي لقي حتفه أثناء احتجازه داخل مركز للشرطة. وعلى الرغم من إعلان السلطات في البداية أنه انتحر، فإن تقرير الطب الشرعي أثبت تعرضه للقتل، مما أجبر الرئيس روتو على الاعتراف بمسؤولية الشرطة. وأثارت حادثة مقتله موجة احتجاجات جديدة، تخللها انتشار فيديو يُظهر مقتل مواطن أعزل برصاص الشرطة، فعزز ذلك الغضب الشعبي ودفع الآلاف إلى الخروج في 25 يونيو/حزيران، لتسفر الاحتجاجات مجددا عن مقتل 19 شخصا، حسب منظمات حقوقية. ومع اقتراب ذكرى "سابا سابا"، دعت قوى شبابية إلى التظاهر مجددا في 7 يوليو/تموز، وهو التاريخ الذي يُحيي ذكرى مظاهرات عام 1990 ضد نظام الحزب الواحد، والتي واجهتها السلطات بالقمع وأسفرت عن سقوط ضحايا. وردا على هذه الدعوات، أغلقت السلطات الطرق الرئيسية في نيروبي، واستنفرت قوات الجيش والشرطة تحسبا لمواجهات مشابهة. 2- ما خلفيات ما يحدث؟ بدأت الأزمة في أغسطس/آب 2022 حين أعلنت هيئة الانتخابات فوز وليام روتو برئاسة البلاد بفارق ضئيل على منافسه رايلا أودينغا الذي رفض النتائج وقاد سلسلة مظاهرات طوال عام 2023 احتجاجا على ارتفاع تكاليف المعيشة ومطالبا بإعادة فرز الأصوات. إعلان لكن روتو نجح مطلع 2024 في احتواء أودينغا سياسيا بعد إعلان دعمه لترشحه لرئاسة مفوضية الاتحاد الأفريقي في انتخابات فبراير/شباط 2025. أدى ذلك إلى تراجع أودينغا عن معارضته، مما أثار استياء أنصاره، خصوصا شباب "الجيل زد" الذين قرروا التحرك من دون غطاء سياسي أو حزبي، مستعينين بمنصات التواصل الاجتماعي. في 25 يونيو/حزيران 2024، دعا هؤلاء الشباب إلى احتجاجات أمام البرلمان لرفض قانون المالية الجديد الذي يتضمن زيادات ضريبية على سلع أساسية كالمحروقات والخبز وتكاليف امتلاك السيارات. وأسفرت الاحتجاجات حينها عن مقتل أكثر من 50 مواطنا، وفقا لمصادر حقوقية. 3- ما الجهات التي تقف وراء الحراك؟ ومنذ ذلك الوقت، برز شباب "الجيل زد"، خصوصا من مواليد ما بعد عام 2000، في مقدمة مشاهد الاحتجاجات، مستعينين بمنصات التواصل الاجتماعي لتنظيم التحركات وقيادة الحملات الإعلامية، مستخدمين وسوما مثل #OccupyParliament و#RutoMustGo، وغيرهما. وقد أقر الرئيس وليام روتو في يوليو/تموز الماضي بأن هذا الشباب أصبح رقما صعبا وفاعلا مؤثرا في الساحة الكينية، خارج الطبقة السياسية التقليدية، مما أجبره على إطلاق حوار مفتوح معهم مباشرة على منصات التواصل الاجتماعي. 4- ما موقف حكومة الرئيس وليام روتو؟ أجبرت أحداث 25 يونيو/حزيران 2024 الرئيس وليام روتو على إلغاء البنود الضريبية المثيرة للجدل، وأقال حكومته بالكامل، مشكّلا حكومة جديدة تضم شخصيات من المعارضة، في خطورة اعتُبرت محاولة لاحتواء الغضب الشعبي. كما أظهرت تصدعا بينه وبين نائبه ريغاثي غاتشاغوا، أدت لاحقا إلى إقالة غاتشاغوا من منصبه. في المقابل، اتهم وزير الداخلية المحتجين في مظاهرات يونيو/حزيران 2025 بالسعي إلى "انقلاب غير دستوري"، مشيرا إلى محاولات لاقتحام منشآت حكومية، ودعم سياسي داخلي وراء الحراك. كما رفض روتو مؤخرا الدعوات لرحيله معلنا أن السبيل الوحيد لإزاحته من السلطة هو صندوق الاقتراع الذي أوصله إليها. 5- ما موقف القوى السياسية مما يحدث؟ بينما دعمت المعارضة السياسية الاحتجاجات في البداية، شارك بعض رموزها لاحقا في الحكومة الجديدة، مما دفع إلى انقسامات داخل صفوفها. كذلك كان لإصرار منظمي الاحتجاجات من "شباب جيل زاد" على الاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي، من دون أي غطاء سياسي، دور في تهميش صوت القوى المعارضة في كينيا. 6- إلى أين تتجه الأحداث الحالية؟ وفي ظل الاحتقان المتصاعد، يرى مراقبون أن كينيا تقف أمام مفترق طرق بالغ الحساسية. فالتصعيد الأمني، بما فيه احتمال فرض حالة الطوارئ، يهدد بتقييد الحريات وتوسيع الهوة بين الحكومة والمحتجين. في المقابل، قد يشكّل الحوار الوطني خيارا لتخفيف التوتر، إذا تم إشراك القوى الشبابية والمجتمع المدني في نقاشات جادة تعالج جذور الأزمة. أما السيناريو الثالث، فيتمثل في احتمال انزلاق البلاد نحو مزيد من الفوضى إذا استمرت الانتهاكات، خصوصا مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2027، مما يُنذر بتحديات أمنية وسياسية على المدى القريب.