٣٠-٠٦-٢٠٢٥
مصطفى العقاد.. حين تحولت السينما إلى رسالة سماوية
بمناسبة ذكرى ميلاده التي توافق، الأول من يوليو1930، نستعيد سيرة واحد من أبرز صناع السينما العرب في الغرب: مصطفى العقاد، لم يكن مجرد مخرج أو منتج، بل كان صاحب رسالة ثقافية كبرى سعى من خلالها لتقريب الصورة بين الشرق والغرب، وإعادة تقديم الإسلام بلغة بصرية تحترم العقل والوجدان، نستعرض محطات حياته وأعماله، مستندين إلى عدة مصادر أجنبية منها SoundVision وThe Arab Edition وDaily Sabah.
مصطفى العقاد: صانع الجسور بين الشرق والغرب
في تاريخ السينما العالمية، قلما نجد صانع أفلام استطاع أن يكون "جسرًا حضاريًا" بحق كما فعل المخرج والمنتج السوري الأمريكي، لم يكن العقاد مجرد مخرج أو منتج، بل كان صاحب مشروع حضاري وفكري واضح، عبر عنه بالصورة والحوار والدراما، لقد سعى طوال حياته لتقديم صورة صحيحة عن الإسلام والمسلمين في الغرب، مستخدما أكثر الوسائل تأثيرا في العصر الحديث: السينما.
من حلب إلى هوليوود
ولد العقاد في مدينة حلب السورية عام 1930، لعائلة بسيطة، وكان والده يعمل في الجمارك، انتقل العقاد في سن مبكرة إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسته، حاملًا معه 200 دولار فقط ومصحفًا صغيرًا أهداه له والده، التحق بجامعة كاليفورنيا (UCLA) ثم جامعة جنوب كاليفورنيا (USC)، حيث درس الإخراج والإنتاج السينمائي، وهناك التقى بالمخرج الشهير "سام بيكنباه" الذي شجعه على البقاء في أمريكا وشق طريقه في هوليوود.
رسالة تتجاوز الكاميرا
بحسب تقرير مفصل نشر في SoundVision، لم تكن تجربة العقاد في الغرب سهلة، خاصة بعد تصاعد الصور النمطية عن الإسلام، يقول العقاد في أحد لقاءاته: "أردت أن أستخدم السينما كوسيلة لفهم أفضل بين الغرب والشرق"، ومن هنا جاءت فكرته الجريئة بإنتاج فيلم عن نشأة الإسلام والنبي محمد (ص)، يكون خاليًا من أي إساءة أو تجسيد، ويحترم القيم الدينية وفي الوقت ذاته يخاطب عقل الجمهور الغربي.
فيلم "الرسالة": ملحمة فكرية
في عام 1976، خرج إلى النور الفيلم العالمي "The Message" (الرسالة)، من إنتاج وإخراج العقاد، وبلغت تكلفته قرابة 17 مليون دولار، بدعم من دول عربية عدة منها ليبيا والكويت والمغرب، وقد واجه الفيلم عواصف من الاعتراضات، وصلت إلى تهديدات بإيقاف التصوير، ما اضطره للانتقال من المغرب إلى ليبيا، حيث وفر له العقيد معمر القذافي كافة الإمكانيات.
تم إنتاج نسختين من الفيلم: واحدة عربية من بطولة عبد الله غيث، وأخرى إنجليزية من بطولة النجم العالمي أنتوني كوين، وفقًا لمجلة The Arab Edition، فإن العقاد أصر على توظيف موسيقى عالمية مؤثرة، فاستعان بالمؤلف الشهير "موريس جار" الذي سبق له الفوز بالأوسكار، ما منح الفيلم طابعًا ملحميًا يجمع بين التقديس والجاذبية السينمائية.
فيلم أثار الغرب.. وأثر فيه
الفيلم لم يكن مجرد حدث عربي، بل ترك أثرًا كبيرًا في الغرب أيضًا، ذكرت صحيفة Daily Sabah التركية أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) طلبت نسخًا من الفيلم لتوزيعها على الجنود الأمريكيين في العراق وأفغانستان، باعتباره مادة تعليمية لفهم الثقافة الإسلامية، كما أشار موقع SoundVision إلى أن الفيلم أُدرج في عدد من المناهج التعليمية في الجامعات الأمريكية كمرجع مرئي لفهم الإسلام المبكر.
"أسد الصحراء": مقاومة بالصورة
في عام 1981، أخرج العقاد فيلمًا آخر لا يقل أهمية عن "الرسالة"، وهو "Lion of the Desert" (أسد الصحراء)، والذي روى قصة المجاهد الليبي عمر المختار ونضاله ضد الاحتلال الإيطالي، أيضًا لعب دور البطولة فيه أنتوني كوين، وتم تصويره بميزانية ضخمة، رغم أن الفيلم منع من العرض في إيطاليا لسنوات، إلا أن الصحافة الغربية مثل The Guardian وThe New York Times اعتبرته من أقوى الأفلام السياسية في الثمانينات.
الوجه الآخر: منتج أفلام الرعب
بعيدًا عن التوجه التاريخي والديني، أنتج العقاد سلسلة أفلام الرعب الأمريكية الشهيرة "Halloween"، بدءًا من أول جزء عام 1978، إن العقاد لم يكن مخرج هذه السلسلة، لكنه كان المنتج التنفيذي لها، وحققت أرباحًا طائلة وصلت إلى مئات الملايين من الدولارات، مما ساعده في تمويل مشاريعه الفكرية الأخرى.
مشروع لم يكتمل
قبل وفاته، كان العقاد يعمل على مشروع سينمائي ضخم عن صلاح الدين الأيوبي، كان يخطط لأن يكون فيلمًا ملحميًا ثلاثي الأجزاء، يصور فيه انتصار الروح الإسلامية في مواجهة الحروب الصليبية، إلا أن المشروع لم ير النور.
الرحيل المفجع
في التاسع من نوفمبر 2005، كان العقاد في بهو فندق "جراند حياة" بالعاصمة الأردنية عمان، برفقة ابنته ريما، حين انفجر انتحاري نفسه في المكان، ضمن سلسلة تفجيرات استهدفت ثلاثة فنادق، لقي العقاد وابنته حتفهما، في مفارقة حزينة لشخص كرس حياته لمحاربة العنف والصدام الثقافي.
صحيفة The Independent البريطانية كتبت آنذاك: "رحل الرجل الذي حاول أن يظهر الإسلام للغرب عبر الفن، برصاص الإرهاب الذي شوه الإسلام أمام العالم".
بعد وفاته، ظل اسم العقاد حاضرًا بقوة في الحوارات الثقافية والسينمائية، لا تزال أفلامه تعرض وتناقش في الجامعات، ومقابلاته تستشهد بها في الحوارات بين الأديان، قال عنه الناقد الأمريكي Roger Ebert: "مصطفى العقاد لم يكن يصنع أفلامًا فحسب، بل كان يصنع حوارًا بين الحضارات".