منذ 4 أيام
لا يمكن أن يكون مجرد التأليف باللسان العربي مبررا لتنزيه الحمولة العقدية أوالفكرية للمؤلفات عن النقد
لا يمكن أن يكون مجرد التأليف باللسان العربي مبررا لتنزيه الحمولة العقدية أوالفكرية للمؤلفات عن النقد
في إطار تبادل الفيديوهات المتضمنة لمحاضرات أو دروس أو ندوات … تكون ذات قيمة علمية أو فكرية أو تكون ذات مضامين مستفزة بيني وبين أخي الفاضل الأستاذ الحسن جرودي، وافاني مشكورا ومأجورا بفيديو لشاب من القطر الموريتاني دأب على نشر فيديوهات على اليتوب يعرف فيها بقيمة كتب التراث العربي خصوصا كتب الأدب واللغة ، وهو على ما يبدو متمكن من اللسان العربي كعادة إخواننا الشناقطة ، وله اطلاع واسع بفرائد اللغة العربية وآدابها .
وقد تضمن هذا الفيديو نقدا شديدا ، بل تقريعا للذين يدعون إلى الانصراف الكلي عن التعامل مع بعض كتب التراث التي يعتبر أصحابها من ذوي خلفيات أو مرجعيات أو توجهات عقدية وفكرية محسوبة على التطرف أو الزيغ . ورأى صاحب الفيديو أن هذا الموقف من شأنه أن ينسف تراثنا كله من أساسه ، وبذلك تكون خسارتنا فادحة ، وتكون النتيجة هي ما يبيّته لنا غيرنا ممن يسوقون لنا فكرهم بلغاتهم على حساب فكرنا و لغتنا.
ومع وجاهة رأي هذا الشاب الغيور الذي لا يمكن الشك في صدق غيرته على اللسان العربي ، لا بد من بسط القول في هذا الموضوع، ذلك أن المؤلفات بهذا اللسان قديمها وحديثها لها حمولة لا يمكن أن تكون فوق الانتقاد لمجرد كونها ألفت به . وقد تكون هذه المؤلفات من الجودة بمكان من حيث تمكن أصحابها من اللسان العربي صرفه، ونحوه، وبلاغته خصوصا النصوص الإبداعية شعرا ونثرا، لكن حمولتها العقدية والفكرية تكون محرفة عن جادة التصور الإسلامي الصحيح، وعليه يكون تداولها تحديدا بين الناشئة المتعلمة المسلمة مغامرة غير محسوبة العواقب إذا تم التركيز على جودة لغتها وأساليبها مع إغفال نوع التأثير الذي تحدثه حمولتها في هذه الناشئة البريئة خصوصا في غياب توجيه المربين وهي مسؤولية جسيمة وفي غاية الأهمية والخطورة .
ولا زلت أتذكر يوم اجتزت امتحان الكفاءة التربوية العملي في بداية مشواري التعليمي في الثمانينيات من القرن الماضي ، وقد كان الممتحنان أستاذين فاضلين رحمة الله عليهما،و بحضور مفتش تربوي أطال الله عمره ، وكان موضوع الدرس الملقى في صف تلاميذ السنة الخامسة بالشعبة الأدبية عبارة عن نص شعري لشاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة أديته بطريقة راقت الممتحِنَين إلا أن أحدهما نبهني إلى إغفالي حمولة النص التي كانت عبارة عن غزل إباحي قُدِّم في قسم مختلط لمراهقين ومراهقات في غياب التوجيه التربوي المفروض تربويا .
ولا زلت أذكر أيضا وأنا أمارس مهمة التفتيش التربوي يوم حضرت حصة لمكون المؤلفات ، وكان المؤلف موضوع الدرس هو راوية نجيب محفوظ » بداية ونهاية » ، وخلال الحصة سمعت المدرس يثني على بطل الرواية حسنين لأنه استطاع أن يوفق بين نجاحه في الدراسة ، ونجاحه في مغامراته العاطفية مع بنت الجيران التي كان يختلي بها ، واضطررت للتدخل ومراجعة المدرس فيما ذهب إليه بدافع الواجب التربوي ، وانتهى بي الأمر إلى رفع تقرير إلى الوزارة في الموضوع أبى يومئذ مدير الأكاديمية إبلاغه إليها بعدما تلقاه عبر السلم الإداري ، وكان ذلك سببا في نشره على صفحة من صفحات جريدة الراية المغربية تنويرا للرأي العام .
و بسبب هاتين النازلتين معا تكونت لدي قناعة راسخة بضرورة إخضاع الحمولة العقدية والفكرية للنصوص التي تقدم للناشئة المتعلمة للنقد بغض الطرف عن قيمتها اللغوية أو الإبداعية لأن العملية التعليمية التعلمية عبارة عن عملية تربوية بالدرجة الأولى .
ولم أنس أيضا نازلة أخرى يوم أُطلِعتُ على نص شعري لشاعرة فرنسية في كتاب لتعليم اللغة الفرنسية في مؤسسة من مؤسسات التعليم الخصوصي وكان يستهدف تلاميذ في المرحلة الابتدائية تحدث فيه صاحبته عن الذات الإلهية بأسلوب لا يراعي قدسية الإله سبحانه وتعالى ، وتصوره مستوحشا بوحدته التي جعلته يعمد إلى حفنة من طين على ضفة نهر لخلق إنسان يؤنسه في وحشته ، والمشكل أن هذا النص الشعري كان مصحوبا بصورة لشيخ يحمل بين يديه صبيا . وتساءلت يومئذ مع نفسي كيف سيتعامل تلاميذ مسلمون في صف ابتدائي مع هذه الصورة في غياب التوجيه التربوي اللازم ؟ بهذا اتصلت بالجهة المعنية والمسؤولة بناء على مذكرة وزارية تفرض الرقابة على الكتب الأجنبية المعتمدة في المؤسسات التربوية ، فسحب حينئذ على الفور ذلك المؤلف من تلك المؤسسة الخصوصية بسبب ذلك النص الشعري
.ومعلوم أن تراجم المؤلفين لا مندوحة عنها قبل التعامل مع مؤلفاتهم من أجل الاطلاع على خلفياتهم العقدية والفكرية التي لا يمكن إنكار تأثيرها فيما يؤلفونه بشكل أو بآخر، بل قد يكون أحيانا الاطلاع على تراجمهم هو الوسيلة الضرورية والمعينة على فهم ما يستغلق من حمولة المؤلفات مع العلم أن بعض المؤلفين يحاولون عمدا إخفاء آثار خلفياتهم العقدية والفكرية .
ولقد كان من المفروض في الحقل التربوي تنبيه الناشئة المتعلمة إلى ما قد يؤثر فيها سلبا بسبب تلك الخلفيات تماما كما ينبه الصيادلة في نشراتهم الطبية التي يرفقونها بأدويتهم والتي تحذر من وقوعها في أيدي الأطفال الصغار حرصا على سلامة صحتهم وحياتهم ، أوكما تشير بعض العبارات المرفقة ببعض الأفلام إلى منع الصغار في أعمار محددة من مشاهدتها إما حرصا على مشاعرهم أو خوفا من انحرافهم.
ومعلوم أن الناشئة المتعلمة تتعامل مع كتب ومؤلفات لخليط من المفكرين والمبدعين تختلف مرجعياتهم وخلفياتهم العقدية والفكرية إلى حد التعارض والتناقض، الشيء الذي يربك الناشئة ويجعلها في حيرة ، وقد يشككها في قناعتها وفي هويتها الدينية التي تحرص المناهج الدراسية على أن تكون على رأس غاياتها وأولوياتها .ولا تخلو مؤلفات مدرسية خصوصا في مجال الفكر والأدب من حشر زمرة غير متجانسة من مفكرين ومبدعين بخلفيات ومرجعيات عقدية وفكرية مختلفة بل متناقضة ، وكمثال على ذلك أذكر جمع مقرر دراسي سابق في الشعب الأدبية والأصيلة بمستوى الباكالوريا تحت مسمى زعماء الإصلاح بين منتمين إلى الاتجاه الديني ، ومنتمين إلى الاتجاه الحداثي العلماني ، وهما اتجاهان على طرفي نقيض لا يستقيم منطقا الجمع بينهما تحت مسمى الإصلاح، لأن ما كان يدعو إليه بعضهم باعتباره إصلاحا كان ينقضه غيرهم باعتباره تخلفا ، وتكفي الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى الشيخ محمد عبده ، وقاسم أمين حين يطرقان معا موضوع المرأة ، فالأول يدعو إلى حجابها ، والثاني يدعو إلى تبرجها وسفورها ، والناشئة المتعلمة محتارة بينهما .
ونعود إلى ما أثاره فيديو الشاب الموريتاني لنوافقه على أن الدعوات إلى عدم التعامل مع كتب التراث اللغوي والأدبي أو تغييبها بسبب الخلفيات العقدية والفكرية لأصحابها غير مقبولة إلا أنه لا بد من الاحتراز مما قد يتسرب إلى حمولتها من تلك الخلفيات خصوصا عندما تقدم للناشئة المتعلمة ، وتحديدا في بعض المراحل الدراسية التي لا تكون خلالها مؤهلة للتعامل معها بحذر، أما الإفادة من أرصدتها اللغوية والأدبية فلا اعتراض عليها، لأنه رب لغوي أو أديب أو شاعر قديم محسوب على تيار الزندقة أو الشعوبية … على سبيل المثال بينما تكون أرصدته اللغوية والبلاغية والأسلوبية لا غنى عنها بالنسبة للناشئة المتعلمة ولعموم طلاب العلم والمعرفة. ولا يمكن أن تكون هذه الأرصدة مبررا لقبول خلفية الزندقة أو الشعوبية ، بل لا بد من توجيه وتنوير الناشئة المتعلمة احترازا من انجرارها نحو ما يشوش عليها عقديا وفكريا أو يؤثر سلبا في هويتها . وإذا كان العديد من المفكرين والأدباء قديما وحديثا قد أسلسوا قيادهم لأصحاب خلفيات فكرية وعقدية مخالفة لبيئاتهم ومعتقداتهم، وهوياتهم، وتأثروا بهم فألحد منهم من ألحد مع أن المفروض أن تكون لهم مناعة ، فكيف بناشئة متعلمة لا مناعة لها خصوصا في غياب أو تقصير من يوجهونها من المربين على ضوء غايات وأهداف تحددها السياسة التربوية أو يكونون طرفا متورطا في خدمة غيرها من الغايات والأهداف غير المعلنة ؟ وكيف يمكن لمرب ذي نزعة علمانية على سبيل المثال أن يقدم لناشئته المتعلمة نصوصا دينية وفق ما يلزم به المنهاج الدراسي دون إقحام قناعته العلمانية ؟
ومعلوم أننا قد دخلنا في فترة هي في غاية الحساسية بسبب ظروف طارئة ظهرت معها دعوات إلى تغيير مضامين المناهج والمقررات الدراسية كي تساير هذا الذي طرأ علينا ، وفي هذه الدعوات ما يهدد صراحة هويتنا وقيمنا الدينية والأخلاقية تحت ذرائع ومبررات ظاهرها فيه المنفعة، وباطنها من قبله الضرر الخطير . ولهذا يجدر بأهل العلم والمعرفة و الاختصاص الغُيُرِ على هويتنا وقيمنا أن ينكبوا بجد على افتحاص المقررات والكتب المدرسية والكتب الموازية لها من أجل الكشف عن كل ما قد يُدَسُّ فيها مما يهدد الهوية والقيم وفضحه ، والتحذير من عواقبه على الناشئة المتعلمة التي هي رهان المستقبل ، ورأسمال الأمة .