منذ يوم واحد
القاذفات الجوية... عندما تمطر السماء الموت والخراب
بفضل قدرتها على عبور محيطات بأكملها، والتهرب من دفاعات العدو، وإصابة أهدافها بدقة متناهية عبر عشرات الأطنان من المتفجرات، تعد القاذفات واحدة من أقوى الأسلحة وأكثرها ديمومة في الحروب الحديثة.
وأصبحت القاذفات أكثر فعالية بصورة كبيرة في يومنا هذا وشهدت تطوراً مستمراً خلال الـ100 عام الماضية، لا سيما وأن قدرتها على التحليق عبر القارات، واستخدام الأسلحة التقليدية والنووية، وإمكانية استدعائها من مسافات بعيدة جداً برسالة بسيطة إلى طاقم بشري، تمنح ميزة قيّمة لمن يمتلكها، ناهيك بأن الدول التي تمتلكها تشكل نادياً نخبوياً يستطيع أعضاؤه إحداث دمار هائل بكلفة باهظة.
الظهور
يعود أول استخدام للطائرات لقصف أهداف برية إلى عام 1911، عندما ألقى الطيار الإيطالي جوليو غافوتي من إحدى الطائرات قنابل يدوية على قوات الإمبراطورية العثمانية، وتبعه في عام 1912 الطياران البلغاريان رادول ميلكوف وبرودان تاراكشيف، اللذان ألقيا قنابل يدوية على خصومهما في حرب البلقان الأولى، وعلى رغم بدائية الطائرات وعدم فعاليتها إلى حد كبير، إلا أنها كانت قادرة على إطلاق المتفجرات لمسافات أبعد بكثير من المدفعية المعاصرة.
مع التطور السريع للطائرات، ازدادت قدرتها على التحليق لمسافات أبعد وإطلاق متفجرات أثقل، وشهدت بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 قيام كلا الجانبين المتحاربين ببناء قاذفات القنابل، حيث فضّل الحلفاء الطائرات التكتيكية ثنائية السطح ذات الأجنحة الثابتة الأصغر حجماً مثل الفرنسية "بريجيه 14" والبريطانية "دي هافيلاند دي أتش-4"، بينما فضّل الألمان مناطيد "زيبلين" بعيدة المدى التي أطلقت القنابل إلى مسافات بعيدة في بريطانيا وغيرها من الدول.
وفي المحصلة أظهرت الحرب العالمية الأولى ضعف القاذفات أمام عدو جديد ألا وهو المقاتلة، وهي طائرة أصغر وأسرع مصممة للقتال الجوي.
قسمت الحرب العالمية الأولى القصف إلى مجالين، التكتيكي والاستراتيجي، تضمن القصف التكتيكي إسقاط القنابل على خط المواجهة، أو على مقربة منه، بهدف تفجير تجمعات قوات العدو أو سفنه في البحر، وكان لهذا النوع من القصف تأثير تكتيكي على ساحة المعركة، مؤثراً في المعارك الفردية.
من ناحية أخرى، استهدف القصف الاستراتيجي صناعة العدو، وإنتاج الطاقة، وخطوط السكك الحديدية، وهي أهداف استراتيجية بالغة الأهمية، ضعيفة الدفاع، وفرت إمدادات كافية لخطوط المواجهة.
الحرب العالمية الثانية
خلال الحرب العالمية الثانية، حققت القاذفات مستويات قوة لم تكن تُتصور من قبل، فجمع الجيل الجديد من القاذفات بين تصاميم أحادية الجناح ومحركات شعاعية أكثر قوة، مما نتج منه طائرات أسرع وأكثر تحليقاً، مزودة بحمولات قنابل أكبر بكثير، وألقت القاذفات قنابلها باستخدام منظار ميكانيكي مخصص للقنابل، والذي يعتمد على ارتفاع الطائرة وسرعتها لحساب نقطة اصطدام سلسلة من القنابل، وهي قفزة هائلة بمجرد النظر إلى الهدف.
دخلت القاذفات الخدمة فور اندلاع هذه الحرب تقريباً، وكانت الحاجة إلى تعويض الخسائر وتوافر التقنيات الجديدة تعني أنها، مثل جميع أنواع الطائرات، خضعت لتطور هائل، وبدأت القوات الجوية، كالقوات الجوية الأميركية، الحرب عام 1940 بقاذفات ثنائية المحرك مثل "بي-25 ميتشل"، بسرعة قصوى تبلغ 437 كيلومتراً في الساعة، وحمولة قنابل تزن طنين من المتفجرات.
بحلول نهاية الحرب، كانت القاذفة الرئيسة لسلاح الجو الأميركي هي قاذفة "بوينغ بي-29 سوبر فورترس"، بسرعة قصوى بلغت 574 كيلومتراً في الساعة، وحمولة قنابل تزن 5400 كيلوغرام.
استخدمت الدول حينها القاذفات بطرق مختلفة، فاستخدمت ألمانيا القاذفات للقصف الاستراتيجي والتكتيكي، حيث شاركت في معركة بريطانيا، وهي مهمة استراتيجية، وقدمت الدعم الجوي للقوات البرية الألمانية خلال الحرب الخاطفة، وهي مهمة تكتيكية.
لكن ألمانيا لم تتمكن قط من بناء قاذفة استراتيجية حقيقية قادرة على قصف مصانع الدبابات السوفياتية شرق جبال الأورال أو الولايات المتحدة القارية، أما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، المنفصلتان عن البر الرئيس الأوروبي، فقد اضطرتا إلى تطوير قاذفات استراتيجية وتكتيكية.
كما حملت القاذفات خلال الحرب السلاح الفتاك الأعظم أي القنبلة الذرية، وخرجت بذلك القاذفات من الحرب العالمية الثانية كأقوى سلاح على الإطلاق، بل وأكثرها قوة على مر العصور.
القاذفات اليوم
شهدت الحرب الباردة التبني السريع للمحركات النفاثة في القاذفات، مما سمح لقاذفات مثل "كونفير بي-58 هاسلر" الأميركية و"توبوليف تو-22 بليندر" السوفياتية بالتحليق بسرعات تفوق سرعة الصوت، وقد مكّن تطوير القنابل الهيدروجينية، الأقوى بكثير من القنابل الذرية، قاذفة واحدة من تدمير مساحات شاسعة من أراضي العدو تدميراً شاملاً وقتل ملايين الأشخاص في مهمة واحدة.
وتستطيع اليوم قاذفة "بي-2 سبيريت" حمل ما يصل إلى 16 قنبلة نووية حرارية من طراز "بي-83"، تبلغ قوة انفجار كل منها 1200 كيلوطن، ووفق نماذج المحاكاة ستؤدي قنبلة "بي-83" واحدة تلقى على مدينة نيويورك إلى مقتل 1.8 مليون شخص على الفور وإصابة 3.3 مليون آخرين.
ومن الابتكارات الأخرى التي أثرت بصورة كبيرة في القاذفات تقنية التهرب من الرادار، أو ما يعرف بتقنية التخفي، من خلال التشكيل الدقيق لمقدمة الطائرة وجسمها وأجنحتها ومثبتاتها، يمكن للقاذفة أن تخفف من ظهورها على رادار العدو، أو في أفضل الظروف، تصبح غير مرئية وتتسلل عبر دفاعات العدو.
وكان لتطوير صواريخ "كروز" تأثير كبير أيضاً على القاذفات، إذ إنه عادة ما تحلق هذه الأسلحة منخفضة الارتفاع والعاملة بمحركات نفاثة بصورة مستقلة لمئات الكيلومترات، وهذا ما يسمح للقاذفات غير الشبحية بالإطلاق بعيداً من أهدافها، متجنبةً تماماً دفاعات العدو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا بد لنا من التنويه بأن القاذفات باهظة الثمن، واليوم، لا تشغل القاذفات الثقيلة سوى الولايات المتحدة وروسيا والصين، ويشغل سلاح الجو الأميركي ثلاث قاذفات هي "بي-1 لانسر"، و"بي-2 سبيريت"، و"بي-52 ستراتوفورتريس"، وستحل القاذفة الأميركية الجديدة "بي-21 رايدر" محل قاذفتي "بي-1" و"بي-2" ابتداءً من أوائل ثلاثينيات القرن الـ21، بينما تشغل روسيا قاذفات من طراز "تو-22 أم باك فاير" و"تو-160 بلاك جاك"، فيما تسيّر الصين نسخاً محدثة من قاذفة "أتش-6"، ويقال إنها تعمل على قاذفة شبح جديدة، وهي "أتش-20".
عددها وكلفتها
يوجد ثلاث دول فحسب تمتلك القاذفات اليوم، إذ تمتلك الولايات المتحدة 141 قاذفة، أقواها "بي-2 سبيريت"، لم يتبقَ منها سوى 20 في الخدمة، وكلفة الواحدة منها مليارا دولار، وهي قادرة على التحليق لمسافة 11 ألف كيلومتر، وحمل 18 طناً من المتفجرات.
وبينما صممت "بي-2" في الأصل كقاذفة نووية في المقام الأول، فقد استُخدمت للمرة الأولى في عمليات قتالية لإسقاط ذخائر تقليدية غير نووية في حرب كوسوفو عام 1999، ثم خدمت لاحقاً في العراق وأفغانستان وليبيا، وأُنتجت آخر قاذفة من هذا الطراز عام 2000، ومن المتوقع أن تبقى في الخدمة حتى عام 2032 على الأقل، لتستبدل بقاذفة "بي-21 رايدر" من الجيل السادس التي توفر قدرات استثنائية في التخفي، واستخدام بنية الأنظمة المفتوحة، وإدراج تقنيات القيادة والتحكم المشتركة لجميع المجالات، وتبلغ كلفة إنتاج الواحدة منها 668 مليون دولار.
وعلى الضفة المقابلة قالت جمعية العلماء الأميركيين في مراجعتها السنوية الأخيرة للقوات النووية الروسية إنها تقدر أن روسيا لديها نحو 67 قاذفة استراتيجية فحسب في مخزونها النشط، وتعد "تو-160 بلاك جاك" أكثر القاذفات الروسية كفاءة وعددها في الخدمة نحو 16، وهي قادرة على التحليق المستمر لمسافة 12300 كيلومتر بحمولة 40 طناً من المتفجرات.
حلقت أول قاذفة روسية من هذا الطراز عام 1981، وتلتها 33 طائرة دخلت مرحلة الإنتاج التسلسلي، وانتهى الإنتاج الأولي عام 1994، ومن ثم لم تكن جهود موسكو في الحصول على قاذفات جديدة سهلة على الإطلاق، وقد أنهت بناء ثلاث منها العام الماضي، ولم تدخل أي منها في الخدمة الفعلية.
وبينما تمتلك روسيا قدرة نظرية على إدخال قاذفات حديثة الصنع إلى الخدمة، وتعويض الخسائر الناجمة عن ضربات الطائرات من دون طيار، أو غيرها من عمليات الاستنزاف، إلا أن هذا ليس بالأمر السهل ولا يمكن تحقيقه بسرعة ومن دون كلفة باهظة.
وفي هذه المرحلة، من الصعب تصور امتلاك روسيا للأموال اللازمة لاستبدال أسطولها من القاذفات بنوع متطور من القاذفات الشبحية كالتي تمتلكها أو تطورها الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل العقوبات التي تثقل كاهلها، وتكبد جيشها خسائر فادحة في أوكرانيا.
وفي ما يخص الصين، فإن سلسلة قاذفات "أتش-6" الاستراتيجية النشطة هي الوحيدة التي تعمل عندها منذ نحو 70 سنة، وتمتلك بكين 120 منها، وعلى رغم التحسينات الكبيرة التي أدخلتها على مر العقود، فمن الواضح أن هذه القاذفة القديمة تواجه الآن صعوبة في مواكبة نظيراتها من القاذفات الأميركية أو الروسية.
وفي عام 2016 أعلنت الصين عن تطويرها لقاذفتها الجديدة "أتش-20"، وبحسب وزارة الدفاع الأميركية، من المرجح أن يبلغ مداها 8500 كيلومتر على الأقل، مع حمولة لا تقل عن 10 أطنان، والقدرة على استخدام أسلحة تقليدية ونووية وكلفة تقارب 350 مليون دولار للواحدة منها.
وذكرت الوزارة أن القاذفة قد تحمل أسلحة صينية تفوق سرعتها سرعة الصوت، وسيمكن هذا المدى من تغطية نصف قطر هجومي عابر للقارات، أي سلسلة جزر في المحيط الهادئ، مثل غوام، أو حتى أبعد من ذلك إلى هاواي، أو الساحل الغربي لأميركا مع التزود بالوقود جواً.
وتجدر الإشارة بأن المسؤولين العسكريين الأميركيين أكدوا غير مرة بأن قاذفة "أتش-20" لا تقارن بالقدرات الأميركية في هذا المجال، وبأن بكين تواجه تحديات في التصميم الهندسي، من حيث كيفية جعل قاذقتها تعمل بطريقة مماثلة لقاذفات "بي-2" و "بي-21 رايدر".