١٦-٠٦-٢٠٢٥
14 شارع هالي باريس.. هنا رسمت فريدا كاهلو أوجاعها السريالية
لوحات فريدا كاهلو الباريسية يُكشف عنها في معرض استثنائي لأول مرة في معهد شيكاغو للفنون خلال يونيو الجاري، وسلط المعرض الضوء على فصل غير معروف من حياة الفنانة المكسيكية الأسطورية، فريدا كاهلو، حيث يركز على رحلتها الأوروبية الوحيدة والمهمة لفرنسا، واللقاء الحاسم الذي جمعها مع الكاتبة الأمريكية الطليعية ماري رينولدز. هذا اللقاء، الذي استمر لفترة قصيرة لكنه كان محورياً، يكشف عن جانب جديد من تداخل الإلهام والتبادل الثقافي بين فنانتين من عصور مختلفة، في زمن كانت فيه السريالية تتصاعد كحركة فنية ثورية.
يُعيد هذا المعرض التأكيد على أن الإلهام الفني لا يعرف الحدود، وأن اللقاءات العابرة والصداقة المستمرة يمكن أن تُنتج أعمالاً تتجاوز الزمن والمكان، وتُثري فهمنا لكيفية تفاعل الفنانين مع بعضهم البعض، سواء كان ذلك عبر صداقات طويلة الأمد أو لقاءات عابرة، أو مزيج من الاثنين معاً. فريدا كاهلو، من خلال هذه الرحلة، لم تكن فقط تتعرف على أوروبا، بل كانت تتفتح على عالم جديد من الإلهام والتجديد، يُعيد رسم مسارها الفني ويؤكد أن الإبداع هو رحلة لا تتوقف وبالاعتماد على مجموعة ماري رينولدز الواسعة في معهد شيكاغو، للفنون والإعارات النادرة لأعمال كاهلو من مجموعات متنوعة حول العالم، يفتح المعرض نافذة على فصل غير مألوف من تاريخ الفن في القرن العشرين، حيث تتقاطع حياة الفنانتين في سياق استثنائي من التحديات والإبداع، على أعتاب الحرب العالمية الثانية.
والجدير بالذكر أن هذا المعرض أهمية التفاعل بين الفنانين في تلك الحقبة الحافلة من تاريخ الفن، سواء عبر اللقاءات المباشرة أو عبر الرسائل والتي أعادت صياغة فهمنا لقوة الإلهام المتبادل. ففي يناير 1939، استجابت كاهلو لدعوة أندريه بريتون، أحد مهندسي السريالية الأوروبية، لزيارة فرنسا، بعد أن زارها بريتون في عام 1938 في موطنها هو مكسيكو سيتي، حيث نشأت في منزلها الأزرق المعروف بـ«لا كاسا أزول»، وهو مكان يعكس روحها المكسيكية العميقة ويحتضن أعمالها التي غالباً ما كانت تتناول موضوعات الهوية، والهوية الجندرية، والمعاناة، والألم الشخصي.
كانت لوحاتها تتميز بأسلوب فريد يمزج بين الواقعية والطابع الشعبي، بأسلوب فني يمزج بين الألوان الزاهية والرمزية. من أشهر لوحاتها «ذات الشعر الأسود» و«الذيول» و«الطفل الميت»، التي تعبر عن معاناتها الشخصية، وتاريخها العائلي، وارتباطها العميق بموروثها المكسيكي. وتستخدم أسلوباً يدمج بين الرمزية والسريالية، معتمدة على أسلوبها الخاص في التعبير عن الهوية الذاتية والذاكرة الجماعية، وبتوظيف رموز مستمدة من التراث المكسيكي، والأساطير، والدين. كانت رسوماتها تعكس تجاربها الشخصية، وأوجاعها الجسدية، وحبها لبلدها، ومكانتها كرمز للتمرد والهوية الوطنية.
ومن جانب آخر كانت كاهلو، التي كانت قد عبرت عن رغبتها في الانخراط في الحركة السريالية، تتطلع إلى توسيع آفاقها الفنية والتفاعل مع المشهد الفني الأوروبي. لكن المدينة لم تكن أرحب بحضورها، إذ سرعان ما شعرت بأن بيئتها الجديدة تآكل من حريتها الفنية وتهدد صحتها، خاصة مع معاناتها المستمرة من مشكلات صحية مزمنة، بما في ذلك مرضها في الكلى الذي استدعى دخولها المستشفى عدة مرات. حتى قابلت رينولدز، التي كانت تعمل كاتبة وناشرة ومصممة كتب فنية، ووجدت فيها رفيقة روحها، التي استطاعت أن تقدم لها الدعم والتشجيع في تلك الفترة الحرجة.
وعندما أُسعفت كاهلو إلى المستشفى بسبب إصابة في الكلى، كانت رينولدز في انتظارها، ودعتها للتعافي في منزلها في 14 شارع هالي، الذي كان مركزاً نابضاً للمجتمع البصري والأدبي الطليعي في باريس، حيث كانت اللقاءات والأحاديث الفنية تتكرر بشكل يومي. هناك، عاشت كاهلو تجربة فريدة من نوعها، حيث انغمست في أجواء من الإبداع والتبادل الثقافي، مع حضور فنانين ومفكرين بارزين، مثل مارسيل دوشام، وكلاود مونيه، وبيير كاردان، وغيرهم، الذين كانوا يزورون المنزل ويشاركونها أفكارها الفنية.
تُقدم هذه المجموعة من الأعمال، التي تتجاوز المئة قطعة، سرداً غنياً ومتنوعاً، يُعيد رسم خريطة حياة كاهلو الفنية، ويُبرز كيف أن ارتباطها المؤقت بباريس، وخصوصاً مع رينولدز، شكّل نقطة تحول جوهرية في مسيرتها، خاصة في سياق ارتباطها بالسريالية الأوروبية. توفيت فريدا كاهلو في 13 يوليو 1954، عن عمر ناهز 47 عاماً، بعد معاناة طويلة مع مشكلات صحية مزمنة، وتدهور حالتها الصحية بسبب مضاعفات مرضها في الكلى، بالإضافة إلى مضاعفات أخرى، منها التهاب الرئة والنزيف الداخلي. وعلى الرغم من عمرها القصير، إلا أن إرثها الفني والثقافي استمر في إلهام الأجيال، وأصبحت رمزاً للتمرد على التقاليد، والدفاع عن الهوية الشخصية والجنسية، ومرآة لآلام المجتمع المكسيكي.