منذ 4 أيام
تحقيق "البلاد": العلامة أصلية والرائحة مقلدة.. تحقيق 'البلاد' يكشف عن خداع العطور الرقمية
قد تظن أن زجاجة العطر التي اشتريتها من إحدى المنصات الإلكترونية بسعر مغرٍ هي صفقة رابحة، خصوصا مع تأكيد البائع أنها 'أصلية 100 %'، وتأتي بتغليف أنيق وشكل مطابق تمامًا للعلامة التجارية المعروفة، لكن ماذا لو كانت الرائحة مختلفة؟ وماذا لو اكتشفت لاحقًا أن ما اقتنيته هو مجرد نسخة مقلدة بإتقان تحت مسمى 'ماستر كوبي'؟
في ظل غياب رقابة صارمة وتزايد الإعلانات الرقمية المضللة، باتت العطور المزيفة تتسلل إلى جيوب المستهلكين وثقتهم، فهل نحن أمام غش تجاري منظم؟ ومن يحمي المستهلك من الوقوع في فخ التقليد المحترف؟
في هذا الصدد، يقول خبير تركيب وصناعة العطور عادل الموسوي 'قد لا تُثير زجاجة العطر الموضوعة بعناية في علبتها المصمّمة بإتقان أدنى شك في جودتها، خصوصا إذا كانت تحمل شعار علامة تجارية عالمية وتُعرض بسعر مغرٍ على أحد المتاجر الإلكترونية، بيد أنّ لحظة فتح العبوة ورشّ الرذاذ الأول، كفيلة بأن تثير الشكوك وتدق ناقوس الريبة في ذهن المستهلك، هل الرائحة فعلا أصلية كما زُعم أم أننا أمام نسخة مقلدة بدرجة عالية من الاحتراف لا تختلف عن الأصل إلا في 'الجوهر'؟
'البلاد' تفتح هذا الملف الشائك، وتكشف عبر تجربة ميدانية وشهادات خبراء، عن الوجه الآخر لعطور تُباع على أنها أصلية، لكنها في الحقيقة.. خدعة برائحة فاخرة.
بداية الخدعة
بدأت القصة عندما لاحظت 'البلاد' انتشار إعلانات لافتة عبر منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات التجارية تعرض عطورًا 'أصلية 100 %' بأسعار مغرية، مصحوبة بعبارات مثل 'ضمان استرجاع'، و 'صفقات لا تُفوّت'.
في أحد المتاجر الرقمية، كانت العروض تشير إلى تخفيضات تصل إلى 75 % على علامات عالمية مشهورة مثل 'كريد'، و 'ديور'، و 'شانيل' وغيرها من علامات العطور المعرفة؛ ما دفعنا إلى التحقق من مدى صدق هذه الادعاءات.
تواصلنا مع أحد هذه المواقع، فكان الرد سريعًا وحازمًا، 'العطور أصلية بالكامل، وتأتي بضمان استبدال واسترجاع في حال وجود أي خلل'، بدا العرض مغريًا، فقررنا خوض التجربة مباشرة.
تغليف متقن.. ولكن
قمنا بطلب مجموعة من العطور الشهيرة، منها 'كريد أفينتوس'، و 'ديور هوم إنتنس'، و 'روج بكرات 540 إكسير'، وانتظرنا وصول الطلب، لم تمضِ سوى ثلاث ساعات حتى وصل المندوب إلى الموقع المحدد، حاملا طردًا مغلفًا بعناية، وعند فتح الطرد، فوجئنا بأن العطور تبدو مطابقة تمامًا للأصلية من حيث التغليف، وعلب الكرتون، والتصميم الخارجي للزجاجة، وشعار العلامة، حتى نوع البخاخ وجودة الزجاج، لم يكن هنالك أي شيء يثير الشك من الوهلة الأولى.
لكن حين استخدمنا العطور، تبيّن أن هناك شيئًا ما لا يتطابق مع ما نعرفه من خبرات سابقة مع المنتجات نفسها، الرائحة بدت مألوفة لكنها ليست كما ينبغي، إنها أقرب إلى نسخة 'تشبه الأصل' من دون أن تصل إلى جوهره.
التحقق الرقمي
للتأكد من حقيقة هذه المنتجات، استخدمنا تطبيقات رقمية متخصصة لقراءة الباركود الموجود على العلبة؛ بهدف التحقق من بلد المنشأ، وتاريخ التصنيع، ومصدر التوريد، المفاجأة كانت أن معظم التطبيقات الرقمية رفضت قراءة الباركود، أو أظهرت نتائج غير متوافقة مع العلامة التجارية الأصلية.
لم نيأس، فلجأنا إلى مواقع إلكترونية مخصصة للتحقق من المنتجات الأصلية عبر 'QR'، وبيانات 'السيريال'، وهناك جاءت النتيجة الصادمة، 'العطر نسخة طبق الأصل'، 'ماستر كوبي'.
تقليد متطور
تشير مصادر متعددة إلى أن هذه العطور تُنتَج غالبًا في مصانع متخصصة في دول مثل تركيا والصين، وتُعبّأ وتُوزّع بطرق دقيقة، يصعب معها التفريق بين المنتج الأصلي والمقلد إلا عبر الرائحة أو تحليل كيميائي للمكونات، إذ إن هذه المصانع تطوّر تقنيات عالية في المحاكاة، وتوفر تغليفًا مطابقًا إلى حد كبير، وتستخدم زيوتًا عطرية مشابهة أو مستنسخة بطريقة معملية.
وأظهرت بيانات رسمية كشفت عنها المنظمة الدولية للعطور إيفرا (IFRA)، أن معظم العطور المقلدة التي تُتداول في الأسواق العالمية مصدرها عدد محدود من مصانع بعض الدول، تتصدرها الصين، التي حددتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية كمصدر لنحو 84 % من العطور ومستحضرات التجميل المقلدة التي تُشحن عبر الحاويات حول العالم، وتأتي تركيا في المرتبة الثانية، بوصفها منتجًا رئيسا لعطور 'الماستر كوبي'، خصوصا تلك الموجهة إلى الأسواق الأوروبية والخليجية، وتبرز أيضًا هونغ كونغ وماليزيا وسنغافورة كنقاط عبور لوجستية، في حين بدأت مصانع في الهند وتايلند تكتسب دورًا متزايدًا كمراكز تجميع وتغليف منخفضة التكلفة للعطور المقلدة الموجهة نحو الأسواق الإقليمية، وغالبًا ما تُقسَّم هذه الشحنات إلى طرود صغيرة بهدف تفادي كشفها من قِبل الجمارك؛ ما يسهّل وصولها إلى المتاجر الإلكترونية، ويُتيح عرضها على المستهلكين كأنها منتجات أصلية تُباع بأسعار مغرية.
ولفتت إيفرا (IFRA) إلى أنه تم الكشف عن حالات متعددة لتداول العطور المقلدة في مختلف أنحاء العالم بالسنوات الأخيرة، وشملت هذه الحالات مداهمات في كل من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وهونغ كونغ، وتايلند، وإسبانيا، وفي بعض الحالات، صادرت السلطات مئات الآلاف من الزجاجات المزيفة ضمن عملية واحدة، مثل ما ضبطته الجمارك الأميركية بالعام 2024 من نحو 645 ألف منتج تجميلي مقلد، أو 41 ألف زجاجة عطر فاخر مقلدة تم العثور عليها داخل مستودع.
وفي بريطانيا، صادر رجال الشرطة بضائع مقلدة تُقدَّر قيمتها بـ 6 ملايين جنيه إسترليني، من بينها عطور، وذلك في مداهمة لمستودعات مرتبطة بعصابة منظمة، أما في تايلند، فكُشف عن أكثر من 28 ألف زجاجة أعيدت تعبئتها بشعارات علامات تجارية فاخرة في العاصمة بانكوك.
وغالبًا ما تُصاحب هذه الضبطيات عمليات توقيف، وتُشير نتائج التحقيقات إلى وجود شبكات منظمة تستغل وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التجارة الإلكترونية لتصريف بضائعها.
صعوبة التمييز
وفي هذا الصدد يؤكد خبير تركيب وصناعة العطور عادل الموسوي لـ 'البلاد'، أن الأسواق المحلية تشهد اليوم انتشارًا واسعًا لما يسمى 'عطور التستر'، وهي عطور يتم تسويقها على أنها أصلية، لكنها في الواقع إما مستنسخة أو مجهولة المصدر.
ويضيف الموسوي 'الاختلاف بين العطر الأصلي والمركب لا يكمن غالبًا في الزيت المستخدم؛ لأن كثيرًا من شركات التعبئة تشتري من نفس مصانع الزيوت التي تزوّد الشركات العالمية'.
ويتابع 'ما يميّز العطر الأصلي هو الابتكار والسرّ في الخلطة العطرية، التي قد تتضمن أكثر من 50 مكوّنًا يتم دمجها بنسب دقيقة للغاية، لا يعرفها إلا صانع العطر نفسه، وبعض المصانع تمتلك أجهزة قادرة على تحليل العطر الأصلي واستنساخه، بنسب تصل إلى حد 99 %'.
لكنه يُحذر من أن هذه النسبة لا تعني أن العطر 'أصلي'، بل هو تقليد دقيق، لا يتمتع بثبات أو جودة تدوم طويلًا، فضلًا عن عدم خضوعه لاختبارات السلامة والصحة المعتمدة.
تضليل وغياب رقابة
هاوي جمع العطور علي محمد، تحدث لـ 'البلاد' عن تجربته الشخصية قائلا 'اشتريت عطورا عدة من مواقع تروّج لنفسها بأنها تقدم عطورًا أصلية بأسعار مخفضة، ترى أن التغليف ممتاز، والروائح مقاربة، لكن سرعان ما تتلاشى الرائحة أو تتغير؛ ما يكشف عن أنها ليست أصلية'.
وتابع المشكلة أن البعض يبيع العطور على أنها أصلية ويضلل الزبائن، ولكن يبقى السؤال لماذا لا يوجد تدخل رقابي واضح؟ ولماذا يتم التساهل مع من يروّج لمنتجات مقلدة على أنها أصلية؟
عقوبات صارمة
من جانبه، عدّ المحامي سلمان الدوسري هذه الظاهرة تهديدًا مباشرًا للملكية الفكرية إلى جانب التأثير على الوكلاء، كما أشار إلى أنها تفتح الباب أمام تداول منتجات قد تكون ضارة بالصحة.
وقال الدوسري، إن العطور المقلدة تُنتج من دون التزام بمعايير الجودة، وقد تحتوي على مواد كيميائية تسبب تهيج الجلد أو مشكلات تنفسية، إضافة إلى ذلك، فهي انتهاك لحقوق العلامة التجارية، وتُعدّ سرقة للجهد والإبداع.
وأشار إلى أن القانون رقم (62) لسنة 2014 بشأن مكافحة الغش التجاري لحماية المستهلك، ينص على عقوبات صارمة، تشمل الغرامة والحبس وإتلاف البضائع، لكنه شدد على أهمية تفعيل القانون عبر حملات تفتيش دورية وتشديد الرقابة على منصات البيع الإلكترونية.
غير أخلاقي
تواصلت 'البلاد' مع عدد من المنصات التي تروّج للعطور المخفضة، بعضهم ادّعى أن العطور هي 'تستر' مخصصة للعرض فقط في متاجر البيع ولا يُفترض بيعها، لكنهم يبيعونها بأسعار منخفضة، عادّينها أصلية.
فيما اعترف آخرون بأن العطور التي يبيعونها هي نسخ 'ماستر كوبي' عالية الجودة، وأوضحوا أن بعض المنصات الأخرى تضلل الزبائن وتخفي هذه الحقيقة.
وقالت مالكة إحدى المنصات، 'نحن نبلغ الزبائن بأن العطور ماستر كوبي، لكنّ كثيرا من البائعين يروّجون لها على أنها أصلية وهذا غير أخلاقي'.
لا تنخدع بالسعر والتغليف
إلى ذلك، قال خبير التسويق الرقمي رضا العود، إنه لتجنّب الوقوع ضحية للعطور المقلّدة، يُنصح المستهلكون بالشراء من متاجر موثوقة أو من وكلاء معتمدين، سواء عبر الإنترنت أو عبر المحال التجارية، وتجنّب العروض التي تتضمن تخفيضات مبالغًا فيها وتبدو غير واقعية.
وشدد العود على أهمية التحقق من تفاصيل التغليف بعناية، مثل تطابق الشعار، ودقة الطباعة، ومطابقة رقم الدُفعة بين العلبة والزجاجة، ويمكن الاستعانة بمواقع أو تطبيقات لفحص 'الباركود' أو رقم الدُفعة، مع الأخذ في الاعتبار أنها ليست دائمًا أدوات حاسمة للكشف عن التزوير.
قنابل كيميائية
ويحذر أطباء الجلد والجهاز التنفسي من الأضرار الصحية الخطيرة المرتبطة باستخدام العطور المقلدة، إذ قد تسبب تهيّجات جلدية، وحروقًا كيميائية، وتغيّرات في لون البشرة؛ نتيجة احتوائها على مواد مهيّجة مثل السينامال والإيوجينول، إلى جانب مركّبات سامة كالميثانول، والزئبق، والزرنيخ.
كما تُشير التحذيرات إلى أن المركّبات في هذه العطور قد تؤدي إلى نوبات ربو، احتقان أنفي، وصداع، خصوصا عند استخدامها في أماكن مغلقة.
المستهلك بين الخداع والصمت
تُظهر هذه التجربة الميدانية أن سوق العطور المقلدة تشهد توسعًا ملحوظًا، مدعومة بواجهات رقمية تفتقر للشفافية، وبتساهل رقابي قد يفتح الباب لمزيد من الغش والتضليل.
أمام هذا الواقع، يصبح المستهلك الضحية الأولى، وتُطرح تساؤلات حقيقية عن دور الجهات الرقابية، ومسؤولية المنصات، وسبل تعزيز الوعي الاستهلاكي تجاه ما يُشترى برائحة فاخرة، وقد يكون في حقيقته تقليدًا مموهًا.
في ظل الانتشار المتزايد لعطور 'الماستر كوبي' والتلاعب بمفاهيم الأصالة، بات المستهلك بحاجة ماسة إلى وعي استهلاكي أكبر، وإلى حماية قانونية فعّالة تُطبق بصرامة، خصوصا في ظل بيئة رقمية مفتوحة باتت مرتعًا لتجارة مقلدة تضر بالصحة والاقتصاد والثقة العامة.