منذ يوم واحد
هاروكي موراكامي.. كيمياء الكتابة بين "الجاز "والرياضة
تجمع رواية "مهنتي هي الرواية" للياباني هاروكي موراكامي، الصادرة حديثاً عن دار الآداب في بيروت، مقالات ذات بعد واحد، تعبّر عما يسميه الكاتب "دهشة الكتابة".
يقول موراكامي: "استطعت أن أمتهن كتابة الرواية لأكثر من 35 عاماً، ويدهشني ذلك حتى اليوم، وما أردت أن أتحدّث عنه في الكتاب، هو حسّ الدهشة هذا".
مضرب الكتابة
بدأ الأمر خلال متابعته مباراة بيسبول، أو كرة القاعدة الأميركية ذات يوم من عام 1979، وذلك في ملعب وسط طوكيو. ومن هواية لا علاقة لها بالكتابة ولا بالرواية، بدأ رحلته الأدبية، رغم أنه انطلق من المعطى المجتمعي والثقافي الياباني الصعب بالنسبة لثقافات أخرى.
لكن موراكامي تخلّص من عائق المحلية، واعترف بأنه شخص منعزل، فرداني، بعيد عن روح الانسجام والتماهي الجماعي السائدة في الأرخبيل الياباني.
هكذا عندما كان يشاهد ارتطام كرة بمضرب في الهواء، في تسديدة ناجحة، ومن دون أي مقدّمات، لاحت له هذه الخاطر له فجأة وقال: "أعتقد أن بإمكاني أن أكتب رواية ".
لم يستطع تفسير الأمر أبداً. ويشرح موقفه في هذا الصدد:"شعرت وكأن شيئاً جاء مرفرفاً من السماء، وأمسكت به بين يدي. لا أعرف سبب الصدفة التي جعلته يحطّ فوق يدي، كان شيئاً شبيها بالكشف الروحي، أو ربما "التجلي". ما أعرفه هو أن حياتي تغيّرت تغيّراً هائلا لا رجعة فيه".
بعد المباراة مباشرة ذهب إلى مكتبة، اشترى كومة أوراق وقلم حبر سائل، وشرع في الكتابة على مائدة المطبخ في سويعات فراغه التي تسبق الفجر.
كان حينها شاباً في الثلاثين من عمره، فقيراً أنهكته كثرة القروض التي يدير بها مقهى، تُعزف فيه موسيقى الجاز التي يعشقها طيلة اليوم، وتتردد بكثرة في العديد من رواياته.
لم يكن على دراية بفن الكتابة والخيال، كان قارئاً نهماً فقط للروايات الروسية والأميركية. لذا سأل نفسه في البداية: "كيف لشخص مثلي لم يكتب أي شيء في حياته أن يسدّد ضربة رائعة من مضربه؟".
جاءه الجواب ذاتياص وعفوياً: "لا تحاول أن تكتب شيئاً معقداً. دعك من تلك الأفكار التي تحاول أن تحدد ما هي الرواية وما هو الأدب، ودَوّن مشاعرك وأفكارك كما تطرأ لك، بحرية، وبالطريقة التي تحبها".
أصبح بعدها موراكامي كاتباً قريباً من المشاعر المشتركة، التي لا تعرقلها النظريات الفضفاضة والأسئلة المتعالمة. والغريب أنه كتب باللغة الإنجليزية في البداية، التي وجد فيها سهولة مناسبة، قبل أن ينقل ما كتبه إلى لغته الأم، ليبتدع أسلوباً محايداً.
ورطة كبرى
حدث أن فازت هذه روايته الأولى "اسمع الريح تغني" بجائزة أدبية، ما دفعه إلى القفز في الماء، أو دخول الحلبة، وهما النعتان اللذان يطلقها على عملية الإبداع الروائي، لأنه مجال صراع، قبل كل شيء.
كتب أكثر وأكثر بشكل اضطراري، ووجد نفسه روائياً معروفاً في اليابان، ثم مشهوراً في كل بقاع العالم، كما تُرجمت أعماله إلى أكثر من 50 لغة، وبيعت منها الملايين من النسخ. في ظل وضع أدبي اعتباري مثل هذا، صار مطلوباً، يتم استدعاؤه إلى المحافل الأدبية، ويُسأل عن أسرار النجاح.
أجاب موراكامي وفسّر كيمياء الكتابة، مؤكداً أنها لا تكمن في المثابرة قراءةً وتمريناً، فهذه من البديهيات، ولكن بالإلحاح على أن الكتابة تتطلب تنظيماً صارماً، على أساس خطة عمل حقيقية، لا يحيد عنها تحت أي ظرف. يكتب ما يحلو له فقط، من دون وصاية ولا بحث عمّا هو مثير بالنسبة للقرّاء، فبالنسبة له "يجب أن يكون الروائيون أحراراً".
يستقي موراكامي في الغالب عالمه الروائي من ذاته، ومن تأمل العالم من حوله، ومن الكتب الأميركية التي ترجمها طيلة ثلاثين سنة بموازاة مع الإبداع الروائي، لكن مع الاستلهام من مجالين بعيدين عن الكتابة. وفي ذلك بالتأكيد سر نجاحه الباهر.
يستلهم الكاتب من الموسيقى أولاً، ويقول: "أكتب وكأني أعزف قطعة موسيقية، فالجاز مصدر إلهامي الأساسي. لأن الجانب الأهم من عزف الجاز هو الإيقاع، إذ لا بد من الحفاظ على إيقاع متين من البداية إلى النهاية، وفي ذلك درس مفيد لكتابة الرواية أيضاً".
ويستلهم ثانياً من رياضة الركض التي اشتهر بممارستها، ويفسّر قدراته على كتابة روايات يتجاوز عدد صفحاتها الألف، مثل رواية "1Q84"، كون تركيبته هي تركيبة عدّاء المسافات الطويلة، "ما يعني أنني أحتاج وقتاً ومسافة كي أنجز الأشياء على نحو شامل ومكتمل".
عدّاء المارثون
والإشارة إلى الركض ليست اعتباطية، فكي يستطيع الاستمرار في كتابة رواية حتى النهاية، بمعدل خمس إلى ست ساعات يومياً، تلزمه الطاقة اللازمة لذلك، كي "تسخن فروة رأسي وأفقد لياقتي البدنية، ثم استعيدها".
يقول : "إن جرّبت الكتابة سوف تفهم من دون شك أنك تحتاج إلى قوّة بدنية استثنائية، لكي تجلس كل يوم إلى مكتب أمام شاشة حاسوب، أو حتى إلى صندوق برتقالي فارغ فوقه ورق كتابة، لا بد من بذل مجهود ذاتي مستمر كي تحافظ على قوتك البدنية." وهكذا متى صار الكاتب بديناً بالمعنى الرمزي، ينتهي أمره.
يحاول موراكامي القول إن الكتابة ليست قضية وحي أو إلهام، أو الاكتفاء بتحريك الأنامل على ورق، أو على لوحة مفاتيح، بقدر ما هي مجهود عضلي لا لبس فيه.
الانتقال إلى ضمير الغائب
الجميل أن كتابة النصوص الطويلة، فرضت عليه أمراً غريباً ومفيداً، هو الانتقال من السرد بضمير المتكلم، الذي وظّفه لمدة عشرين سنة، إلى ضمير الغائب. فقد "صار من المحتوم أن يتشوّش ذلك الخط الذي يفصل بيني أنا في الواقع وبين البطل في رواياتي، وهذا التشوّش ينطبق على الكاتب والقارئ على حد سواء".
ليست المسألة تقنية، فلذلك علاقة باختلاق الشخصيات والتحكّم في مصائرهم. لقد سمح له هذا بتوسيع عالمه الروائي وإمكاناته، بإدماج قصص الآخرين وشخصيات هامشية وثانوية ورسائل طويلة.
كما أصبح قادراً على الكتابة عن أصناف عدّة من الناس، وعن ظلال شخصياتهم وتشابكها الهائل. والأروع من ذلك، هو قدرته على أن يصبح أي شخص يريده، بتمثّله وتقمّص خصائصه.
كتاب "مهنتي هي الرواية" أو "المهنة: روائي"، كما جاء في الترجمة الفرنسية، ليس دليلاً معتمداً في كيفية كتابة الرواية. بل هو من الكتب التي تُقرأ مثل رواية حقيقية، بطلها كاتب يلقي النظر على دخيلة نفسه تحت تأثير الرغبة العاتية والقاسية في الكتابة.
ومن أجل ذلك، اعتمدت الرواية النفَس الروائي والإمتاع الشيّق، الذي يعرف متى يمسك بتلابيب القارئ ويُسعده. وما قدمناه ليس سوى غيض من فيض. حالما نقرأ هاروكي موراكامي، لا مجال للتفكير بشيء آخر.