واشنطن تغازل دمشق وصورة للشرع في تل أبيب
ما أن توقفت الحرب بين إسرائيل وإيران حتى انتشرت صورة لوحة إعلانية ضخمة في تل أبيب، يظهر فيها رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، إلى جوار تسعة قادة عرب تحت شعار: فرصة جديدة لشرق أوسط جديد. الصور الإعلانية انتشرت في تل أبيب بأكثر من لغة، وهي من ضمن حملة أطلقها "التحالف من أجل الأمن الإقليمي" في إسرائيل، ليبدو الشرق الأوسط الجديد الذي تبشّر به الصورة تحالفاً إسرائيلياً-عربياً، أكثر من كونها دعوة إلى شرق أوسط جديد حقاً.
صورة الشرع في تل أبيب تم تجاهلها في دمشق، وكذلك تصريح توماس باراك (المبعوث الأميركي إلى سوريا) إلى قناة "الجزيرة"، وأكّد فيه وجود محادثات هادئة حول كل القضايا، بين الإدارة السورية وتل أبيب. مشيراً إلى أن "الإدارة السورية الحالية ليست على خلاف مع إسرائيل، أو أنها لا تريد القتال". ليعود باراك إلى القول إن إدارته غير معنية بأن تملي على دمشق شيئاً، بل معنية بأن تساعدها.
تفسير العبارة الأخيرة نجده فيما نقلته سانا، وكالة الأنباء السورية الحكومية، عن باراك أيضاً في حديثه إلى قناة "العربية" يوم الخميس، وجاء فيه: "عندما رفع الرئيس دونالد ترامب العقوبات عن سوريا بالتنسيق مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان الهدف إعطاء سوريا فرصة، وليس إملاء نظام جديد أو تصدير الديمقراطية أو حتى خلق دستور جديد". وكانت صفحة "الحدث السوري" على فايسبوك، التابعة لشبكة "العربية" التي نقلت تصريحات باراك، قد نشرت في اليوم نفسه على نحو منفصل خبراً عاجلاً عن البيت الأبيض، مفاده أن "سوريا إحدى الدول العربية التي قد تنضم إلى اتفاقية مع إسرائيل".
وقبل أيام قليلة كانت صحيفة "إسرائيل هيوم" قد سرّبت أقوالاً لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، أدلى بها في جلسة سرية للجنة الخارجية والدفاع في الكنيست. مما قاله تساحي هنغبي هو إشرافه شخصياً على التنسيق الأمني والسياسي مع دمشق، وأشار إلى أن الطرفين في مرحلة من المفاوضات يناقشان فيها ما يتعلق بالتطبيع، وأن سوريا مرشّحة لعقد اتفاقية لتطبيع العلاقات، على غرار اتفاقيات أبراهام.
من السهل على أي متابع الانتباه إلى ما يربط رزمة التطورات المذكورة أعلاه، ومنها تطورات اليومين الأخيرين اللذين شهدا تسريباً من البيت الأبيض عن إمكانية إبرام اتفاق بين دمشق وتل أبيب، وتكرار المبعوث السوري إلى سوريا أقواله مرتين خلال أقل من أربع وعشرين ساعة، خصوصاً تلك التي تنص على أن بلاده لن تُملي شيئاً على السلطة في دمشق، وتحديداً قوله إن هدف بلاده ليس "إملاء نظام جديد أو تصدير الديمقراطية أو حتى خلق دستور جديد".
صدور هذه التصريحات المتزامنة يشي بمقايضة صريحة بين إطلاق يد السلطة في سوريا مقابل التنازلات التي ستُقدَّم في الاتفاق مع إسرائيل، ومن ثم التطبيع معها. لا تلزم في هذا السياق حتى الإشارة إلى صدور التصريحات عن إدارة أميركية لا يخفي رئيسها غرامه الشديد بالصفقات والمقايضات من هذا القبيل، فالتزامن يشرح نفسه بنفسه، ودحض الرابط بين تقديم التنازلات في الخارج والاستئثار بالداخل يلزمه مسار من الشفافية والتشاركية غير متوفرين، ولا تظهر هناك نية للذهاب في اتجاههما.
من حيث المبدأ، إن رغبة واشنطن وتل أبيب في عقد اتفاق بين الأخيرة ودمشق تعني تعاملهما مع سلطة المرحلة الانتقالية كسلطة دائمة، لها الحق في إبرام اتفاقيات مستدامة ذات طابع شديد الأهمية والحساسية. التصريحات الأميركية الخاصة بعدم إملاء الديموقراطية على دمشق هي لمزيد من الشرح، ولبعث رسالة سياسية واضحة في هذا الاتجاه؛ رسالة لا يُستثنى من مقاصدها سوريون يطمحون إلى الشروع في انتقال ديموقراطي، ولو آجلاً.
ومن أوجه الخطورة في المقايضة كونها لا تحدث بين طرفين متكافئين، فحكومة تل أبيب (مهما كان رأينا في وحشيتها إزاء الفلسطينيين) هي حكومة منتخبة ديموقراطياً، والاتفاق الذي تسعى إليه هو لخدمة مواطنيها من اليهود، حتى إذا حقق في جانب منه اعتبارات انتخابية مفيدة لها. أما الثمن فهو على الضد تماماً، إذ يُلوَّح بعدم اكتراث واشنطن بسلوك السلطة في دمشق فيما يخص الانتقال الديموقراطي تحديداً، بل ليس من التجنّي النظر إلى تصريحات مبعوثها كتشجيع للسلطة الانتقالية على فعل ما يحلو لها داخلياً.
أبعد من ذلك، ستحيل المقايضة، إذا مشت فيها سلطة دمشق، إلى أسوأ ما في العهد الأسدي السابق. أي إلى الاستئثار بالسلطة مع دعم خارجي، وبحيث يكون الأخير هو مصدر "الشرعية" الأكبر، ويُستخدم ضمناً أو علناً لقهر الداخل. وكما نعلم لم يقصّر الكثير من السوريين، منذ آذار 2011 على الأقل، في تخوين حافظ الأسد بموجب رواية تقول إنه "اشترى" كرسي الرئاسة من إسرائيل عندما كان وزيراً للدفاع عام 1967، بسَحْبه القوات السورية من الجولان أمام الهجوم الإسرائيلي.
عطفاً على ذلك، كانت الرواية ذاتها تنصّ على بقاء بشار في السلطة، بعد الثورة عليه، لأنه محميٌّ إسرائيلياً حسب الصفقة آنفة الذكر. بل إن عدم ردّ بشار الأسد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة لطالما نُظر إليه من زاوية كونه لا يستطيع الرد على رُعاته في تل أبيب، لا لأنه ضعيف لا يملك القدرة على الرد. هذه النظرة المعمَّمة على نطاق واسع تستحق شيئاً من التدقيق، إذ قد يتفرّع عنها مثلاً أن لإسرائيل حصة في تقرير من يحكم دمشق، وهذا الاستنتاج له تبعاته لجهة فهم الماضي والحاضر والمستقبل المنظور.
واليوم لا يفعل مناصرو السلطة؛ بحماسة بعضهم المعلن للسلام مع إسرائيل، وبصمت بعضهم الآخر عن الأخبار، سوى أنهم جميعاً يعززون الربط بين السلام والسلطة. فلا يبدو السلام مطلباً سورياً وطنياً، بل هو من ضرورات السلطة ليس إلا. بل إن العلاقة مع الصراع في المنطقة بأكملها تتمحور أيضاً حول السلطة، فلا يخفى أن نسبة ساحقة من الذين كانوا يسخرون من بشار الأسد لصمته أثناء الجرائم الإسرائيلية في غزة هم من الصامتين عنها منذ حدث التغيير في سوريا. وأثناء الأحاديث المتواترة منذ مدة حول التواصل بين دمشق وتل أبيب لا تُذكر غزة، ولو على هامش بسيط مما يحدث، وكأنّ مآل ما يحدث فيها منفصل تماماً عن المسار السوري.
ما نعود للتأكيد عليه هو عدم وجود رؤية سورية للسلام مع إسرائيل، ونستبعد أن يكون لدى تل أبيب حالياً مشروع للسلام يختلف في الجوهر عن ميزان القوى المائل بشدة لصالحها. بالأحرى لا يوجد نقاش سوري حول السلام، وحدود التنازلات المقبولة لأجله. ولا يوجد أيضاً نقاش واتفاق سوريين على معنى الحكم الانتقالي، وعلى الصلاحيات الممنوحة لأهله خلال السنوات الخمس المنصوص عليها في الإعلان الدستوري. هذا "الغموض" السوري، المتعمّد جراء الإحجام العام عن المكاشفة، تأتي التصريحات الأميركية فلا تستثيره رغم خطورتها. وكما نعلم، فإن الذين كان سيستفزّهم تصريح أميركي يطالب بالانتقال الديموقراطي لن يستفزّهم العكس عن "عدم تصدير الديموقراطية"، وكأن الأخيرة منتجٌ أميركي، وليست في صميم ما ثار السوريون من أجله.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ليبانون ديبايت
منذ 2 ساعات
- ليبانون ديبايت
تنصت أميركي يكشف تصريحات إيرانية تقلل من آثار "الضربات النووية"
ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، الأحد، نقلاً عن أربعة مصادر مطلعة على معلومات استخباراتية سرية متداولة داخل الحكومة الأميركية، أن اتصالات إيرانية تم اعتراضها تضمنت تصريحات تقلل من حجم الأضرار التي خلفتها الضربات الأميركية على البرنامج النووي الإيراني. وأوضحت الصحيفة أن كبار المسؤولين الإيرانيين أشاروا إلى أن الضربة الأميركية كانت "أقل تدميراً مما كان متوقعاً". وأكد مصدر طلب عدم الكشف عن اسمه لوكالة "رويترز" صحة هذه الرواية، لكنه أشار إلى وجود تساؤلات جدية حول مدى صدق المسؤولين الإيرانيين، معتبراً أن عمليات التنصت قد تكون مؤشرات غير دقيقة. ويأتي هذا التقرير ضمن تقارير متتالية تثير الشكوك حول حجم الضرر الحقيقي الذي لحق بالبرنامج النووي الإيراني، حيث كشفت وكالة مخابرات الدفاع الأميركية في تقييم أولي مسرب أن الضربات ربما عطلت البرنامج لعدة أشهر فقط. في المقابل، أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الضربات "محتت تماماً" البرنامج النووي الإيراني، وأنها دمرت قدراته بشكل غير مسبوق. كما نفى البيت الأبيض صحة التقرير، حيث قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت لصحيفة "واشنطن بوست": "فكرة أن مسؤولين إيرانيين، لم تُكشف أسماؤهم، يعرفون ما حدث تحت الأنقاض هي محض هراء. لقد انتهى برنامجهم للأسلحة النووية". وفي مقابلة بُثت الأحد على قناة "فوكس نيوز"، جدد ترامب ثقته بأن الضربات دمرت القدرات النووية الإيرانية، مؤكداً: "لقد دُمرت بشكل لم يشهده أحد من قبل، وهذا يعني نهاية طموحاتهم النووية، على الأقل لفترة من الزمن".


بيروت نيوز
منذ 5 ساعات
- بيروت نيوز
بعد ضربات واشنطن.. تقرير يكشف تنصت أميركي على اتصالات إيرانية
ذكرت صحيفة 'واشنطن بوست'، الأحد، نقلا عن أربعة أشخاص مطلعين على معلومات مخابرات سرية متداولة داخل الحكومة الأميركية، أن اتصالات إيرانية جرى اعتراضها تضمنت أحاديث تقلل من حجم الأضرار التي سببتها الضربات الأميركية على البرنامج النووي الإيراني. وقالت الصحيفة: 'سُمع كبار المسؤولين يقولون إن الضربة الأميركية على إيران كانت أقل تدميرا مما كان متوقعا'. وأكد مصدر، طلب عدم نشر اسمه، هذه الرواية لرويترز، لكنه قال إن هناك تساؤلات جدية بشأن ما إذا كان المسؤولون الإيرانيون صادقين، ووصف عمليات التنصت بأنها مؤشرات غير موثوقة. ومع ذلك، يُعد تقرير صحيفة 'واشنطن بوست' أحدث تقرير يثير تساؤلات حول مدى الضرر الذي لحق بالبرنامج النووي الإيراني. وحذر تقييم أولي جرى تسريبه من وكالة مخابرات الدفاع من أن الضربات ربما عطلت إيران بضعة أشهر فقط. لكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يقول إن الضربات 'محت تماما' البرنامج النووي الإيراني. في المقابل، المسؤولون الأميركيون يعترفون بأن الأمر سيستغرق بعض الوقت للوصول إلى تقييم كامل للأضرار الناجمة عن الضربات العسكرية في مطلع الأسبوع الماضي. ونفى البيت الأبيض صحة التقرير الذي نشرته الصحيفة. ونقلت 'واشنطن بوست' عن كارولاين ليفيت المتحدثة باسم البيت الأبيض قولها 'فكرة أن مسؤولين إيرانيين لم تُكشف أسماؤهم يعرفون ما حدث تحت مئات الأقدام من الأنقاض هي محض هراء. لقد انتهى برنامجهم للأسلحة النووية'. وفي مقابلة بُثت اليوم الأحد على قناة 'فوكس نيوز'، جدد ترامب ثقته بأن الضربات دمرت القدرات النووية الإيرانية. وقال: 'لقد دُمرت بشكل لم يشهده أحد من قبل. وهذا يعني نهاية طموحاتهم النووية، على الأقل لفترة من الزمن'.


IM Lebanon
منذ 5 ساعات
- IM Lebanon
تنصت أميركي على اتصالات إيرانية
June 29, 2025 11:05 PM ذكرت صحيفة 'واشنطن بوست'، الأحد، نقلا عن أربعة أشخاص مطلعين على معلومات مخابرات سرية متداولة داخل الحكومة الأميركية، أن اتصالات إيرانية جرى اعتراضها تضمنت أحاديث تقلل من حجم الأضرار التي سببتها الضربات الأميركية على البرنامج النووي الإيراني. وقالت الصحيفة: 'سُمع كبار المسؤولين يقولون إن الضربة الأميركية على إيران كانت أقل تدميرا مما كان متوقعا'. وأكد مصدر، طلب عدم نشر اسمه، هذه الرواية لرويترز، لكنه قال إن هناك تساؤلات جدية بشأن ما إذا كان المسؤولون الإيرانيون صادقين، ووصف عمليات التنصت بأنها مؤشرات غير موثوقة. ومع ذلك، يُعد تقرير صحيفة 'واشنطن بوست' أحدث تقرير يثير تساؤلات حول مدى الضرر الذي لحق بالبرنامج النووي الإيراني. وحذر تقييم أولي جرى تسريبه من وكالة مخابرات الدفاع من أن الضربات ربما عطلت إيران بضعة أشهر فقط. لكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يقول إن الضربات 'محت تماما' البرنامج النووي الإيراني. في المقابل، المسؤولون الأميركيون يعترفون بأن الأمر سيستغرق بعض الوقت للوصول إلى تقييم كامل للأضرار الناجمة عن الضربات العسكرية في مطلع الأسبوع الماضي. ونفى البيت الأبيض صحة التقرير الذي نشرته الصحيفة. ونقلت 'واشنطن بوست' عن كارولاين ليفيت المتحدثة باسم البيت الأبيض قولها 'فكرة أن مسؤولين إيرانيين لم تُكشف أسماؤهم يعرفون ما حدث تحت مئات الأقدام من الأنقاض هي محض هراء. لقد انتهى برنامجهم للأسلحة النووية'. وفي مقابلة بُثت اليوم الأحد على قناة 'فوكس نيوز'، جدد ترامب ثقته بأن الضربات دمرت القدرات النووية الإيرانية. وقال: 'لقد دُمرت بشكل لم يشهده أحد من قبل. وهذا يعني نهاية طموحاتهم النووية، على الأقل لفترة من الزمن'. June 29, 2025 11:05 PM