logo
مسلسل الجريمة "القبة الزجاجية".. ذاكرة مشروخة وبيت من الكوابيس

مسلسل الجريمة "القبة الزجاجية".. ذاكرة مشروخة وبيت من الكوابيس

الجزيرةمنذ يوم واحد
في بلدة سويدية صغيرة تغطيها الغابات، وتخفي خلف هدوئها جريمة حدثت في الماضي، وتجددت في الوقت الحاضر، تدور أحداث مسلسل "القبة الزجاجية" Glass Dome، وهو مسلسل جريمة وتشويق نفسي من إنتاج نتفلكس. المسلسل من تأليف الكاتبة السويدية كاميلا لاكبيرغ، وأماندا هوغبيرج، وأكسيل ستيرنه، ومن إخراج هنريك بيورن وليزا فرزانه، ويعرض في ست حلقات مكثفة ومشحونة.
يدور المسلسل حول ليلى نيس، التي تلعب دورها "ليوني فينسنت" الطبيبة الشرعية ومحللة السلوك التي تعود إلى مسقط رأسها بعد موت أمها بالتبني، لتظهر في الوقت نفسه جريمة اختطاف فتاة، تعيد إليها ماضيها المؤلم وذكريات اختطافها في طفولتها. يشارك في البطولة جون هيدنبرج في دور والدها بالتبني فالتر نيس، المحقق المتقاعد الذي يخفي سرا قاتلا. ينتمي المسلسل إلى نوعية أدب الجريمة والتشويق الإسكندنافي (Nordic noir) وهو نوع أدبي وتلفزيوني ظهر في دول شمال أوروبا وحقق شهرة واسعة بفضل أجوائه الخاصة وملامحه القاتمة وإيقاعه البطيء.
ماذا لو سرق طفولتنا من أحببناهم؟
تبدأ الحلقة الأولى بعودة الطبيبة الشرعية ليلى نيس إلى بلدتها الهادئة بعد وفاة والدتها بالتبني، لكن عودتها سرعان ما تفتح أبوابا لأسئلة غامضة بلا إجابات، خصوصًا بعد مقتل صديقة طفولتها لويز في ظروف غامضة واختطاف ابنتها أليسيا. تتقاطع هذه الجريمة الحديثة مع ماض مؤلم تحمله ليلى، إذ تبدأ ذكريات اختطافها وهي طفلة بالظهور في مشاهد ضبابية ومشوشة. تعود تلك الصور إلى فترة حبسها في مكان مظلم وضيق، حيث تومض بين الحاضر والماضي دون ترتيب زمني، حتى يبدو للمشاهد أحيانًا، أن الطفلة المرتجفة قد تكون صورة من الذاكرة. أو ربما واقعا يتكرر من جديد.
يتحول الزمن داخل المسلسل إلى مساحة هشة وغير مستقرة، حيث تتداخل شخصية المرأة التي تبحث عن الطفلة المختطفة مع الفتاة التي لم تتعافَ بعد من صدمة اختطافها. وكلما اقتربت ليلى من الحقيقة، شعرت بأنها تنجرف نحو القفص الزجاجي ذاته الذي لم تغادره يوما. هذا التداخل بين الماضي والحاضر لا يعزز فقط التشويق في الحبكة، بل يكشف أيضا عن هشاشة النفس البشرية حين تُجبر على التعايش مع صدمة لم تُشف منها تماما.
بين التحقيق وذاكرة البطلة
لا تتجه الحبكة فقط نحو فك لغز الجريمة الجديدة، بل تتوازى معها طبقات نفسية تتكشف تدريجيا داخل عالم البطلة الداخلي. فمع تصاعد التحقيق في مقتل لويز واختطاف الطفلة أليسيا، تتسلل الشكوك نحو الأب "سعيد"، الغريب عن البلدة، مما يكشف عن مستويات من التمييز الاجتماعي ضده، دون أن تُقال بوضوح، بل تتسلل في النظرات والكلمات العابرة.
وفي العمق، تبدأ ذاكرة ليلى في الغوص أبعد من الحاضر، حيث تعود إلى ماضيها طفلةً متبناة، فتبدأ في التشكيك في الرواية الرسمية التي كبرت عليها. الذكريات لا تأتي واضحة، بل كظلال متقطعة: أبواب تُغلق، طفلة ترتجف في الظلام، انعكاس وجهها على زجاج بارد. شيء ما في هذه الصور يجعلها تتساءل: هل كانت طفولتها "المنقذة" حقا كذلك؟ أم أنها كانت سجنا مغلفا بالحنان الظاهري؟ تنمو هذه الشكوك لتطاول علاقتها بوالدها بالتبني، فتتأرجح بين مشاعر الحنان والخوف، كأن شيئًا غير معلن يخيم على علاقتهما، شيء لا يجرؤ أحد على قوله.
يتحول النصف الأول من المسلسل إلى رحلة نفسية عبر ذاكرة ليلى، تستعيد فيها فصولًا من الطفولة المسكوت عنها، وتتفكك أمامها طبقات من الصمت المجتمعي والتواطؤ، وكأن ما كُبت في الماضي بدأ يطالب بحقيقته الآن.
حين تتسلل الحقيقة عبر الذاكرة
في الحلقة الرابعة والخامسة من المسلسل، تخرج الحقائق من الظل إلى النور، وتقترب ليلى من الإجابة التي تحاول الهرب منها، ولا يصبح التساؤل عمن ارتكب الجريمة فقط، ولكن من تستر عليها أيضا، وظل يحرس القفص الزجاجي سنوات، خاصة بعد ظهور شاهد في قضية الاختطاف الحديثة، يحمل ملامح ما، تذكرها بماضيها، ويحفز وجوده ذكريات أكثر وضوحا من ماضيها، لتدخل ليلى في دوامة تفقد فيها الزمن ويتداخل الماضي بالحاضر.
يتصاعد توتر ليلى وتتزايد شكوكها، عندما تكتشف أنها محاطة بشبكة من الأكاذيب من كل من تحب. تتحول عائلتها الصغيرة إلى غرباء لا تعرفهم، وتزداد حدة الكوابيس وتتطابق مع ما يحدث في الواقع، ويتكرر ظهور الضوء الأبيض الذي يسلط بقوة على القفص الزجاجي، كإشارة بصرية إلى انكشاف السر القديم.
في هاتين الحلقتين، تتساقط الأقنعة، وتنكشف الدوافع وتضيق دائرة الشك حول "فالتر" الأب بالتبني الذي ظهر أن حبه لليلى مجرد وهم كبير. تنجح ليلى كمحققة في إظهار الحقيقة، لكنها تنهزم كابنة بمعرفة نفس الحقيقة.
الانفجار الأخير.. عندما تنكسر القبة
يصل المسلسل إلى ذروته في الحلقة السادسة والأخيرة، ويتغير التساؤل ليصبح: كيف تحملت ليلى الكذبة سنوات؟ لم يكن الأب هو الحامي، لكنه كان السجان الذي عزلها في غرفة زجاجية، وأوهمها أنها هدية القدر له بعدما فقد ابنته. تنهار السردية التي عاشتها ليلى سنوات، وتتجلى القبة الزجاجية كرمز للامتلاك والحب المشوه، حينما يعرف المشاهد أن الأب الحنون بعد فقد ابنته البيولوجية، لم يستطع مواجهة الفجوة العاطفية التي حدثت داخله، فارتكب جريمة اختطاف ليلى، وعندما بدأت في الاستقلال عنه، أعاد ارتكاب الجريمة باختطاف إليسيا، لتعويض ذلك الاحتياج الدائم لوجود ابنة تحت سيطرته بالكامل.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

محاكمة طبيب بألمانيا قتل 15 من مرضاه
محاكمة طبيب بألمانيا قتل 15 من مرضاه

الجزيرة

timeمنذ 5 ساعات

  • الجزيرة

محاكمة طبيب بألمانيا قتل 15 من مرضاه

تبدأ اليوم الاثنين محاكمة طبيب رعاية تلطيفية لتخفيف الآلام في برلين، بتهمة قتل 15 مريضا على الأقل من مرضاه بدافع "الغدر" أو "لدوافع أخرى دنيئة"، حسب الادعاء العام الألماني. ويشتبه في أن الطبيب (40 عاما) قد أعطى "مزيجا قاتلا من أدوية مختلفة" لـ12 امرأة و3 رجال بين سبتمبر/أيلول 2021 ويوليو/تموز 2024 دون "مؤشر طبي ودون علمهم وموافقتهم". وحسب الادعاء العام، فإن أول ضحية امرأة تبلغ من العمر 25 عاما، وهي أصغر الضحايا سنا، بينما كانت أكبر ضحية امرأة تبلغ من العمر 94 عاما. وحددت محكمة برلين الإقليمية مبدئيا 35 جلسة استماع حتى 28 يناير/كانون الثاني 2026، ووفقا للمحكمة، يشارك 13 من أقارب المتوفين كمدعين بالحق المدني. وهناك عدة شهود في كل حالة، ويمكن سماع ما مجموعه حوالي 150 شاهدا خلال المحاكمة. ويشتبه في أن الطبيب ارتكب الجرائم أثناء عمله في خدمة رعاية ببرلين. ويرافق أطباء الرعاية التلطيفية المرضى المصابين بأمراض خطيرة لتخفيف آلامهم. ولم يعلّق المتهم -وهو متزوج وأب لطفل- على الاتهامات حتى الآن، حسب فريق الدفاع والمدعي العام. وتم تشكيل فريق تحقيق من قسم جرائم القتل التابع للمكتب الإقليمي للشرطة الجنائية في ولاية برلين للتحقيق في القضية. وقام الفريق بتقييم مئات الملفات من مرضى الطبيب، وحسب المدعي العام، هناك 72 حالة قيد المراجعة حاليا.

مراكز شرطة صينية سريّة تثير قلقا كبيرا في فرنسا
مراكز شرطة صينية سريّة تثير قلقا كبيرا في فرنسا

الجزيرة

timeمنذ 6 ساعات

  • الجزيرة

مراكز شرطة صينية سريّة تثير قلقا كبيرا في فرنسا

أثار الكشف عن وجود مراكز شرطة صينية سرية على الأراضي الفرنسية موجة من القلق السياسي والأمني في باريس ، وسط اتهامات لبكين باستخدام هذه الهياكل كأداة لملاحقة معارضيها في الخارج ومراقبة الجالية الصينية في أوروبا. ووفق ما نقلته صحيفة لاكروا الفرنسية، فإن هذه المراكز، التي تعمل تحت غطاء إداري غير رسمي، تُدار ضمن سياسة منظمة تُعرف باسم "جبهة العمل الموحد" التابعة للحزب الشيوعي الصيني ، وهي موجهة لضبط أفراد الشتات الصيني والتأثير عليهم، بل وأحيانا إجبارهم على العودة قسرا إلى الصين. ولم تورد الصحيفة موقف الصين من هذه الاتهامات. وفي مايو/أيار 2024، كشفت تحقيقات برنامج "المبعوث الخاص" على قناة "فرانس 2" ومجلة "تشالنجز" عن وجود مراكز شرطة صينية سرية على الأراضي الفرنسية. تسعة مراكز وأكدت المديرية العامة للأمن الداخلي الفرنسية رصد 9 من هذه المراكز السرية في فرنسا منذ 2022. وذكرت في رد على استجواب تقدمت به النائبة الجمهورية كونستانس لوغريب، أن "عدة إجراءات اتُخذت لإغلاق هذه الهياكل أو تعطيل نشاطها"، وأن السلطات الصينية استجابت لاحقا بإصدار تعليمات لتجميد أنشطتها. لكن رغم هذه التدابير -تتابع لاكروا- لا تزال هذه المراكز تمثل مصدر قلق للسلطات الفرنسية والمنظمات الحقوقية، بالنظر إلى طابعها الشبكي غير الرسمي. فغالبا ما يديرها أفراد من الجالية الصينية، كأصحاب متاجر أو رؤساء جمعيات، ويقتصر عدد العاملين بها على أربعة أو خمسة أشخاص في بعض الأحيان. وتتابع الصحيفة، إن الهدف المعلن لهذه المراكز هو تقديم الخدمات القنصلية للمواطنين بالخارج، مثلما حدث أثناء جائحة كورونا حين واجهت السفارات ضغطا غير مسبوق. لكن وفقا للباحث سيمون مينيه من مؤسسة البحث الإستراتيجي، فإن الوظيفة الحقيقية لهذه المحطات تكمن في مراقبة المعارضين السياسيين وجمع المعلومات عنهم، بما يشمل أنصار الديمقراطية ودعاة استقلال تايوان وأبناء أقليات مثل الإيغور والتبتيين، فضلا عن أتباع حركة "فالون غونغ". وجه خفي وتشير لاكروا إلى أن أبرز ما يثير الجدل عن هذه المراكز هو تورطها المحتمل في عمليات "إعادة قسرية" لمواطنين صينيين من الخارج، بعيدا عن الأطر القانونية الرسمية. إعلان ففي مارس/آذار 2024، سلط برنامج "المبعوث الخاص" الضوء على محاولة لإعادة معارض شاب يُدعى لينغ هوا تشان من مطار شارل ديغول إلى الصين، قبل أن تفشل العملية بفعل تدخل محامين وحقوقيين. ويُعتقد أن هذه المراكز تلعب دور الوسيط بين الاستخبارات الصينية والجالية، عبر تزويد عملاء بكين بالمعلومات اللازمة لتنفيذ مثل هذه العمليات. وبحسب منظمة "سيفغارد ديفندرز"، تم توثيق أكثر من 100 مركز شرطة صيني في العالم بحلول نهاية عام 2022، موزعة على 53 دولة. وبينما لم يتجاوز عدد المراكز في فرنسا أربعة مراكز حينها، ارتفع هذا الرقم إلى 9 عام 2025، في مؤشر واضح على تنامي هذا النفوذ وتوسع رقعته الجغرافية، رغم الجهود الأمنية الرامية إلى تقييده.

الآلام العظيمة لا تتقادم
الآلام العظيمة لا تتقادم

الجزيرة

timeمنذ 9 ساعات

  • الجزيرة

الآلام العظيمة لا تتقادم

كلما نظرت في المرآة رأيت شابًّا ضائعًا، لا أقول تائهًا فقط، بل منهزمًا، يلهث خلف أحلام لا تؤمن حتى بوجوده! فكيف كنت سأؤمن أنا بها؟ كنت أقول لنفسي إني كسول لا أصلح لشيء، الحماس يزورني لحظة ويغيب دهورًا! والثقة؟ غريبة عني، تمامًا كالغربة نفسها.. لكنها كانت ترى شيئًا آخر؛ كانت تجلس أمامي بملامح لا تنسى، وجهها هادئ كما لو أنها جاءت من سلام لا أعرفه، عيناها دائمًا فيهما شيء من التصديق، كأنها ترى مستقبلي من نافذة لا أملك مفتاحها. كانت تبتسم وتقول بصوتها الذي يشبه المطر إذا خف: "أنت ما زلت صغيرًا على الاستسلام.. عندك شيء، وأنا أراه حتى لو لم تره أنت، يومًا ما سترى نفسك بعيوني. وحينها، سأكون أول من يصفق لك." وكنت أصدقها، لا أدري لماذا.. ربما لأن نبرة صوتها كانت تقول الحقيقة أكثر من كلماتها.. ربما لأن عينيها لم تكذبا يومًا. شيئًا فشيئًا بدأت أتحرّك، كان الانتصار بطيئًا لا صاخبًا، أشبه بخطوات طفل يتعلم المشي للمرة الأولى. كنت أتعثر كثيرًا، وكانت هي تمسك بي، لا لتمنع السقوط، بل لتعلّمني كيف أنهض. أذكر ليلة انهياري الكبرى، حين قررتُ التخلّي عن كل شيء: الجامعة، والحلم، وحتى نفسي.. وجدتني جالسًا على الأرض، ظهري للحائط، وقلبي أيضًا. جلست أمامي بصمت، مدت يدها، لمست جبيني، وقالت بهدوء لا يشبه أي شيء في هذا العالم: "تخلَّ عن تعبك، لكن لا تتخلَّ عن نفسك.. أنا معك، حتى وإن كنت في أسوأ حالاتك، بل حتى في أسوأ حالاتك." كنت أتنفس بها! وإن كنت أعيش، فذلك لأنني كنت أراها تشبه الحياة كما كنت أتمنّاها. ووصلت.. في يوم تكريمي، أمسكت التذكار بيد ترتجف، لا من الخوف، بل من شوق لأن أقول لها: "لقد فعلتها.. كما قلت تمامًا." كانت تجلس بين الحضور، تصفق بحرارة، عيناها تدمعان لكنها كانت تبتسم، كما تفعل دائمًا حين تكون فرحتها أكبر من قدرتها على التعبير. إعلان غادرت الحفل قبلي، عائدة من الطريق ذاته الذي سلكناه معًا مئات المرات، لكنها لم تصل.. حادث بسيط، لحظة غفلة، سيارة فقدت توازنها على منحنىً نحفظه جيدًا.. انتهى كل شيء بسرعة رسالة هاتف، وببطء انهيار حياة. في اليوم التالي، وقفت أمام مرآتي.. لم أر نفسي، لم أر صورتي، لم أر إلا انعكاسًا باهتًا لفتاة كانت تؤمن بي أكثر مما فعلت أنا. حين حان وقت الرحيل، لم أستطع أن أنظر إليها، لم أستطع أن أواجه حقيقة الوداع.. عانقتها بصمت، بكل ما في قلبي من خشية وحنين.. أسمح لنفسي أن أنظر خلفي، لأنني أكره دموع الوداع، وأكره يدًا تلوح بمغادرة، وكأنها تسرق روحي معها مر عام.. في ذكرى رحيلها، زرت مكاننا المفضل، جلست على المقعد ذاته الذي كانت تجلس عليه، وضعت بجانبي ذكرياتي وأحلامي معها. نظرت إلى السماء، وقلت: "أصبحت أراك كلما نظرت إلى نفسي! نجحت، لكن ليس وحدي. كنتِ معي.. وما زلتِ." تذكرت اللقاء الأول.. في ذلك اليوم، جلسنا معًا، كأن الزمن توقف عندنا، أو بدأ يركض، لا أدري! كانت الكلمات تتدفق مني كجدول عذب، لكنها كانت تختلط أحيانًا بالتردد، والضياع في خواطري. قلت أشياء متناقضة، كالرياح التي تعانق الأشجار ثم تصفعها، فقط لأخفف من ثقل الصمت الذي كاد يخنقني. كانت تضحك، تضحك لي حين أرتبك، حين تتلعثم كلماتي، فتشرق عيناها بابتسامة صامتة تقول: "أنا هنا، لا تخف.".. أثرثر، وأقول أشياء لا أفهمها، الشيء ونقضيه، أتحدث في كل شيء؛ العلاقات الدولية.. الفن والمسرح.. الطرب العربي.. الرياضة.. فقط لأُبقي اللحظة حيّة، لأملأ الفراغ الذي قد يتسلل بيننا. وكلما استمررت، كانت تزداد قربًا، لا بالكلام، بل بنظرتها التي تراني كما لم يرَني أحد من قبل. حين حان وقت الرحيل، لم أستطع أن أنظر إليها، لم أستطع أن أواجه حقيقة الوداع.. عانقتها بصمت، بكل ما في قلبي من خشية وحنين.. أسمح لنفسي أن أنظر خلفي، لأنني أكره دموع الوداع، وأكره يدًا تلوح بمغادرة، وكأنها تسرق روحي معها. رحلت وأنا لا أزال أشعر بأن ذلك العناق لم يكن وداعًا، بل وعدًا.. وعدًا أنني لن أكون وحيدًا أبدًا. الناس يقولون لي: "الحياة لا تتوقف"! لكنهم لم يكونوا هناك، حين قالت لي في أضعف لحظاتي: "أنا أؤمن بك، حتى حين لا تؤمن بنفسك." منذ رحيلها عن دنيا الناس، لم أغير شيئًا في البيت.. ثوبها الأزرق ما زال معلقًا خلف الباب، كما تركته في صباح عادي لا يُنسى.. عطرها يملأ الغرفة، كأنّه لا يريد أن يفقدها.. فنجانها الصغير ما زلت أضعه كل صباح على الطاولة المقابلة؛ كأنها ستدخل وتقول لي كما كانت تفعل دائمًا: "قهوتك ناقصة سكر، كالعادة." وفي الدرج الصغير، نحتفظ بدفترنا الذي لم يكتمل.. في الصفحة الأولى، كتبنا اسم طفلنا الأول: "غسان"، اسم لم نختلف عليه بعد نقاش طويل وضحكات كثيرة، كنت أميل لاسم آخر، لكنها قالت لي حينها بضحكتها التي لا تُنسى: "غسان يشبهك.. عنيد، وفيه من الحنين أكثر مما يُظهر." هي لم تكن مجرد امرأة في حياتي.. كانت الضوء، والدافع، والطريق.. كانت تقول دائمًا: "أنا لا أريد أن أغيّرك، فقط أريدك أن ترى كم أنت قادر." وأنا.. كنت أرى نفسي من خلالها. الناس يقولون لي: "الحياة لا تتوقف"! لكنهم لم يكونوا هناك، حين قالت لي في أضعف لحظاتي: "أنا أؤمن بك، حتى حين لا تؤمن بنفسك." أحيانًا، أسمع صوتها.. في وقع المطر، في ضوء النافذة الخافت، في الصمت الذي يلي الليل.. وأحيانا، حين أكتب، أجد كلماتها تتسلل إلى قلمي دون إذن. تركت الباب مواربًا منذ رحيلها، ليس لأنني أظن أنها ستعود، بل لأنني لا أقدر أن أغلق بابًا كانت تمر منه كل يوم. الآلام العظيمة لا تتقادم.. بل تتشكل، وتصبح جزءًا منك.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store