
هل أحب المتنبي أخت سيف الدولة؟
وإذا كان في سيرة المتنبي وشعره ما يثبت ولعه بصليل السيوف وشهوة السلطة والحكم، أكثر من المغامرات المتصلة بالمرأة والعشق وملذات الجسد، كمثل قوله «ولا تحسبنّ المجد زقّاً وقينةً، فما المجد إلا السيف والفتْكةُ البكْرُ »، أو قوله «تروقُ بني الدنيا عجائبُها ولي فؤادٌ ببِيض الهند لا بِيضها مُغرى»، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن المتنبي قد أغلق عينيه عما يراودهما من ألق الأنوثة الساحر، أو أصمَّ أذنيه عن النداءات المتعاظمة للرغبات. لكن ما يلفتنا في شعر المتنبي المتعلق بالمرأة هو خلوه من تسمية النساء اللواتي أحطن به بالاسم. فلا ذكْر أبداً لاسم أمّ أو أخت أو حبيبة أو زوجة، بحيث لم يكن لنا أن نعرف شيئاً يُذكر بشأن زواجه وإنجابه، لولا حديث المؤرخين عن مقتل ابنه محسَّد إلى جانبه، في الكمين الغادر الذي أعدّه له فاتك الأسدي عند أطراف بغداد.
الواقع أن غياب التسميات النسائية الصريحة عن ديوان أبي الطيب لا يمكن تفسيره إلا في إطار السلوكيات المتحفظة للشاعر، إزاء كل ما يتعلق بالمرأة والحب، إضافة إلى أن أناه المتفاقمة دفعته إلى الاعتقاد بأنه هو بالذات الاسم الذي تمّحي فيه أسماء الدائرين في فلكه. ورغم أن رثاءه لجدته قد كشف عن موقعها الاستثنائي داخل نفسه المجهَدة، وبدا نكوصاً مشبعاً بالحنين نحو أرض الطفولة النائية، فهو لم يستطع إخفاء نزوعه النرجسي عن الأعين، حين خاطبها بالقول «ولو لم تكوني بنت أكرم والدٍ، لكان أباكِ الضخم كونكِ لي أُمّا».
اللافت أيضاً أن المتنبي لم يفرد للمرأة والحب قصائد قائمة بذاتها، بل اقتصر هذا الباب على مطالع القصائد التي توجه بها إلى ممدوحين متفاوتي الأهمية، لم يحوزوا باستمرار على إعجابه الفعلي. ومع أن بعض أبيات المتنبي الغزلية لا يخرج عن سياق النماذج والأساليب التي لم يملّ من تكرارها شعراء العصرين الجاهلي والإسلامي، فإن بعضها الآخر يتسم بالجدة والابتكار وبُعد الدلالة. فالشاعر الذي يستهل واحدة من مدائحه بالقول «أريقكِ أم ماء الغمامة أم خمر؟ بفِيَّ بُرودٌ وهو في كبدي جمرُ»، هو نفسه الذي يظهر قدرته الفائقة على توليد المعاني المبتكرة ذات الطابع الفلسفي، كما في قوله «تناهى سكون الحسن في حركاتها، فليس لراءٍ وجهها لم يمتْ عذرُ».
وفي حين تتسم أغلب نصوص المتنبي الغزلية بالعفة والخفر، إزاء كل ما له علاقة بالمناحي الغرائزية والشهوانية، فإن الإشارات الحسية التي تشي بها نصوص أخرى، كالحديث عن اللثم والعناق وحلاوة القبل، هي من التواضع والاحتشام، بما لا يكاد يجاري طموحات العذريين في هذا المجال.
أما لجوء الشاعر إلى استخدام صيغة الجمع في حديثه عن النساء، إضافة إلى استمرائه صيغ التعميم والخلاصات الحكمية، فقد يكونان ناجمين عن افتقاره إلى الحب الحقيقي الملموس أحياناً، أو عن رغبته الموازية في جعل التعميم نوعاً من «التعمية» على شؤونه العاطفية الخاصة أحياناً أخرى، كما في قوله:
تخلو الديارُ من الظباء وعندهُ من كل تابعةٍ خيالٌ خاذلُ
ألراميات لنا وهنّ نوافرٌ والخاتلاتُ لنا وهنّ غوافلُ
كافأننا عن شِبْههنّ من المها فلهنّ في غير التراب حبائلُ
وإذا كان موقف المتنبي المحافظ والمتعفف من المرأة هو الذي يفسر انحيازه إلى الجمال البدوي المتلفع ببراءته، في وجه الجمال الحضري المثقل بالمساحيق، فلشدّ ما يستوقفنا بالمقابل إظهاره المرأة في صورة الكائن المرادف للمكر والغدر والخداع، في أبيات من مثل «إذا غدرتْ حسناء وفَّتْ بعهدها، فمن عهدها أن لا يكون لها عهدُ». وهو ما يبعث على التساؤل عما إذا كانت مثل هذه الرؤية ناجمة عن التأمل المحض في شؤون النساء وطبائعهن، أم أنها ثمرة تجارب الشاعر ومعاناته القاسية مع النساء.
على أن الحديث عن عشق المتنبي يصعب أن يستقيم دون التطرق إلى طبيعة علاقته بخولة، أخت سيف الدولة الكبرى، التي ظلت على الدوام أقرب إلى الفرضية المحفوفة بالشكوك منها إلى اليقين القاطع. وإذا كانت قصيدة أبي الطيب في رثائها هي «الوثيقة» شبه الوحيدة التي اعتمدها النقاد والباحثون دليلاً على وجود علاقة عاطفية بين الطرفين، فإن في هذا الدليل الكثير من الإشارات الدالة على ما كان يكنّه لها من مشاعر الهيام والافتتان.
وفي حين ينفي البعض وجود علاقة خاصة بين المتنبي وخولة بدعوى أن رثاء امرأة متوفاة لا يقيم حجة قاطعة على عشق الراثي لها، فإن آخرين يردون على ذلك بالقول إن في رثاء الشاعر لأخت سيف الدولة الأخرى ما يقدم براهين ساطعة الوضوح على أن علاقة الشاعر بالأختين الراحلتين لم تكن هي نفسها على الإطلاق.
ففي رثاء الأخت الصغرى التي رحلت قبل شقيقتها بثمانية أعوام، يشغل امتداح المتنبي لسيف الدولة معظم أبيات القصيدة، وتتم التغطية على البرود العاطفي، باجتراح العظات واللقى التعبيرية المناسبة. ومع أن بين هذه اللقى ما يرقى إلى ذروة المعاني الإنسانية المبتكرة، كقول الشاعر «وإذا لم تجد من الناس كفْئاً، ذات خِدْرٍ أرادت الموتَ بعلا»، فإن القصيدة بمجملها كانت أقرب إلى التأمل الوجودي في الموت منها إلى الأسى العميق ومرارة الفقدان. أما رثاء المتنبي لخولة فقد بدا خارجاً من شغاف قلبه، ومضطرماً بنيران أخرى، تختلف تماماً عما هو سائد في تأبين الراحلين، وليست لتقع في باب الرثاء العادي أبيات من مثل:
طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يدع لي صدْقُهُ أملاً شرقتُ بالدمع حتى كاد يشرقُ بي
أرى العراقَ طويلَ الليل مذ نُعيتْ فكيف ليل فتى الفتيان في حلبِ
وإذ يردّ المتنبي على ما يظنه تشكيك سيف الدولة بحزنه الفعلي على أخته، مؤكداً ما بقلبه من حرقة وبعينيه من دموع، لا يتردد بالمقابل في الحديث عن حسْن مبسم الراحلة وبرد ريقها، الأمر الذي أخذه عليه الواحدي في نقده، ليس فقط لأن في ذلك تجرؤاً بالغاً على قريبات الأمراء والحكام، بل لأنه خلط، متعمد أو غير متعمد، بين مقام الرثاء ومقام الغزل.
وحيث لم يكن بمقدور الشاعر أن يميط اللثام عن تفاصيل تولهه بخولة في معرض رثائه لها، فإن الإشارات التي راح يبثها في القصيدة كانت كافية تماماً لتركنا في دوامة من الألغاز، كمثل قوله «ولا ذكرتُ جميلاً من صنائعها، إلا بكيتُ ولا ودٌّ بلا سبب». فأي سبب مولِّد للبكاء والود أكثر من تتيمه البالغ بالأميرة الراحلة. وأغلب الظن أن خولة نفسها هي المعنية بالمطلع العشقي الفريد الذي استهل به المتنبي مديحه لسيف الدولة إثر هربه من كافور وقدومه إلى الكوفة، خصوصاً وأن في ذلك النص من الرقة وشجى النفس، ومناجاة الجمال المشرف على الأفول، ما يبعث على الاعتقاد بأنه مُهدى للمرأة نفسها، التي كانت تستعد آنذاك لمغادرة هذا العالم، ومن أبياتها قوله:
ما لنا كلُّنا جوٍ يا رسولُ أنا أهوى وقلبكَ المتبولُ
كلما عاد من بعثتُ إليها غار مني وخان فيما يقولُ
زوّدينا من حسن وجهكِ ما دام فحسْنُ الوجوه حالٌ يحولُ
وصِلينا نصلْكِ في هذه الدنيا فإن الُمقام فيها قليلً
ومع أننا لا نملك بشأن عشق المتنبي لخولة ما يُخرجنا من مقام الحيرة إلى مقام اليقين القاطع، فإننا لا نعدم الإشارات الكثيرة الدالة على مثل هذا العشق. لكن السؤال الذي تتعذر الإجابة عنه هو ما إذا كانت خولة من جهتها قد بادلت شاعرها المتحالف مع القلق، حباً بحب. ولأن زمنها ومقامها لم يساعداها على الإفصاح عن مكنونات قلبها المكلوم، ولم يضف التاريخ إلى صمتها المطبق شيئاً يذكر، فإن الإجابة عن السؤال المطروح ستظل في عهدة الغيب، حتى إشعار آخر، أو كشوف مفاجئة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق السعودية
منذ 2 ساعات
- الشرق السعودية
متمرد بروح ساخرة.. "الابن الأبدي" زياد الرحباني
مع أنه كان يقترب من بلوغ السبعين، حين رحل زياد الرحباني، فجأة، ودون مقدمات، إلا أن الحزن الذي ضرب ملايين من محبيه في العالم العربي، كما يتبدى في معظم الأخبار والتدوينات والتعليقات، هو ذلك النوع من الحزن الممتزج بالصدمة من موت الأبناء وصغار السن. حزن لا يشبه غيره، لإنه موت مخالف لسنن الطبيعة ومنطقها، ويصعب أن يتقبله أو يستوعبه العقل. زياد هو الابن الأبدي للموسيقى العربية، ليس فقط لكونه ابناً للسيدة فيروز، وكون اسمه وصورته قد ارتبطا دوماً باسمها ووجودها، ولكن أيضاً لإن طبيعته، وشخصيته، وأفكاره، وكلماته، وحركاته، وملابسه، وتصفيفة شعره ظلوا دوماً، وأبداً، مرتبطين بذلك الابن النابغة، الذي "دندن" بأول ألحانه في سن السادسة، وكتب واحدة من أجمل أغاني الرحبانية، وهو في السادسة عشر. واكتسبت صورة زياد الرحباني في أذهان الناس ملامحاً من صورة الموسيقار النمساوي أماديوس موتسارت، ذلك العبقري الذي أذهل العالم بموسيقاه منذ أن كان طفلاً، وحتى رحيله المفاجئ الصادم في منتصف الثلاثينيات من العمر. وعندما رحل بقي اسمه عالقاً إلى الأبد في صورة الولد الموهوب. "الولد المتمرد" سيبقى اسم زياد الرحباني، أيضاً، مرتبطاً بصورة "الولد المتمرد"، الأمير الذي ولد بمعلقة من ذهب في فمه، ولكنه ألقى بالملعقة على الأرض، وغادر القصر حافياً، ليعيش وسط الفقراء والصعاليك، ويغني باسمهم، ويدبج البيانات السياسية ضد سكان القصر! قبل الموسيقى، أو معها، كان زياد الرحباني شاعراً، من أوائل أعماله ديوان بعنوان "صديقي الله"، صدر 1971، ولكن قصائده، كما يذكر في المقدمة، كتبت بين عامي 1967 و1968، يعني قبل أن يتجاوز الثانية عشر! الديوان عبارة عن قصيدة واحدة طويلة، تتحدث على لسان طفل يحتفل بعيد ميلاده السادس، ويسأل تلك الأسئلة الوجودية التي ظلت تشغل زياد الرحباني لما بقى من عمره عن الخير والعدل والحرية، ورغم مفرداته وتركيباته اللغوية البسيطة إلا أنه يحمل مشاعراً وأفكاراً في غاية العمق. ستظل البساطة في التعبير، مع العمق في التفكير، هما السمة المميزة لكل أعمال زياد الرحباني الموسيقية والمسرحية. هذه السمة التي جعلته واحداً من أكثر الموسيقيين العرب شعبية بين الأجيال المختلفة، وتحديداً بين الشباب من مختلف الأجيال. لقد عبر دوماً، وأبداً، عن هذه الروح الشابة المتمردة الحائرة والساخرة، منذ أن كان في السادسة، وحتى اقترابه من مشارف السبعين. "الحرب الأهلية" لم تهزم زياد الرحباني مع بداية "الحرب الأهلية" في لبنان تبلورت شخصية الولد المستقل الرافض لكل أشكال الطائفية والطبقية، وتجسد هذا الاستقلال في خروجه من بيت العائلة والإقامة بمفرده في منطقة لا ينتمي لها "طائفياً"، وانتماءه للحزب الشيوعي الذي وجد فيه كل أفكاره عن العدالة والمساواة. كان زياد الرحباني مؤلفاً موسيقياً وشاعراً وكاتب دراما مسرحية وعازفا للبيانو وممثلاً، أحياناً، ولم يمنعه ذلك من نشاطه السياسي والإعلامي، وعلى عكس معظم الفنانين الذي يتجنبون الخوض في السياسة أو التعبير عن آرائهم السياسية (في حالة وجود موقف لديهم أصلاً)، فإن زياد على العكس اعتبر الفن نفسه وسيلة لايصال رسالته السياسية قبل أي شئ آخر. ومن المدهش في هذا السياق أن أعمال زياد الرحباني، حتى أكثرها جدية واحتواءً على مضامين سياسية مثل مسرحياته :بالنسبة لبكرا شو؟"، "فيلم أميركي طويل"، و"شئ فاشل"، و"بخصص الكرامة والشعب العنيد"، تتسم ببساطة تعبيرها ومرحها وتلك الروح الشابة المتفائلة التي لا يمكن أن يكسرها شئ. لكن أشياء كثيرة حاولت أن تكسر روح زياد الرحباني: الوضع العام في لبنان والعالم العربي الذي ينتقل من الأسوأ للأكثر سوءاً، حياته الشخصية التي منيت بصدمات وهزائم عدة، وعدم الاستقرار العائلي الذي أرهقه، رغم أنه تمسك به حتى النهاية. في أعمال زياد الرحباني روحاً لا مثيل لها في الموسيقى العربية، ولا حتى في أعمال أبيه وعمه (عاصي ومنصور) أو بقية عائلة الرحبانية. في أعماله قوة إيقاع وغنائية راقصة تدخل إذن وقلب المستمع على الفور، وفيها أيضاً رصانة وجدية سرعان ما تتبدى بمرور الوقت وتعدد مرات الاستماع. وفيها شئ أشبه بالهلب، يعلق في القلب ليبقى هناك. في منتصف التسعينيات ذهبت إلى بيروت لأول مرة، ومن هناك عدت بشرائط ألبومات كثيرة كان على رأسها مسرحيات زياد وموسيقاه. أحد الألبومات كان يحمل موسيقى أغنية "ع هدير البوسطة"، ولا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي استمتعت فيها إلى المقطوعة على التوالي وبلا انقطاع. الأمر نفسه تكرر مع الألبومات الأخيرة التي كتب كلمات أغانيها وموسيقاها لفيروز. حين تستمع إلى الأغنية مرة، فكأنها أصبحت جزءاً من وجدانك إلى الأبد. هكذا، ودائماً، سيبقى زياد رحباني، ابناً أبدياً يجسد كل ما تتمناه البشرية من الأبناء: الرؤية والرغبة في تغيير العالم والطاقة والشغف والأمل الذي لا يخبو بمستقبل أفضل. وسيبقى الإرث الذي تركه زياد في العقول والقلوب الشابة لأجيال كثيرة قادمة. * ناقد فني


الشرق الأوسط
منذ 3 ساعات
- الشرق الأوسط
«كتاب الأشباح»... حين تحل الكاميرا مجازاً محل القلم
في تقديمه لمجموعته القصصية «كتاب الأشباح» - دار التكوين، دمسق- يبرر القاصّ العراقي حيدر المحسن تحويل بوصلة قصصه إلى الماضي بدلاً من الاستمرار في الكتابة عن الحاضر المعيش في العراق، (كما فعل في مجموعاته القصصية الأربع التي صدرت خلال العقدين الأخيرين) كالتالي: الرغبة بتواصله مع الأسلاف ناجم عن أنّ «المستقبل لم يعد ـــ للذين يعيشون في هذه البلاد، أقصد وطني العراق ـــ مغناطيساً وجاذباً» (ص8). ولتقديم حجة أخرى لقراره بالتوجه صوب الماضي البعيد، استشهد الكاتب حيدر المحسن بما ذكره الروائي الفرنسي فلوبير (المتوفى عام 1880) عن سبب كتابته رواية «سلامبو»: «قليلون هم من سيكتشفون إلى أي حد ينبغي للمرء أن يكون حزيناً حتى يتكبد عناء إحياء قرطاجة». يقتبس المحسن فقرة أخرى من فلوبير لدعم اختياره الميدان الذي تجري فيه أحداث قصصه: «بما أن القصص يجب أن تكون في الماضي، إذن فكلما كان الماضي أبعد كان أفضل». ورغم أنني لا أجد أي مبرر لأي كاتب قصصي أن يقدم أي تبرير لقارئه الافتراضي عن سبب اختيار زمان نصوصه سواء كان في الماضي البعيد أو الحاضر أو المستقبل البعيد؛ فالشيء المهم أن يقدم لنا الكاتب أعمالاً ممتعة نتلمس بين سطورها مقدار الجهد المبذول في نسجها. وإذا طبقنا هذا المبدأ فإنني أستطيع قول إن الكاتب حيدر المحسن نجح في تقديم مجموعة قصصية متقنة الصنعة، ولعل الاستثناء الوحيد في القصص التي تضمنها كتاب «الأشباح» القصة الأولى: «باز» التي بدت لي ضيفاً خفيفاً أكثر مما ينبغي للقصص العشر الأخرى. العناية بالزخرفة لعل ما يميز هذه المجموعة القصصية بالدرجة الأولى هو سيادة صوت الراوي تقريباً في سرد كل الحكايات عدا قصة واحدة، وبالتالي لا يستطيع المتلقي سماع أي صوت داخلي لشخصياتها، إلا ما ندر، كأننا هنا نتابع سرد كاميرا سينمائية لأفلام قصيرة، فكما هي الحال مع السينما التي تتقدم الأحداث فيها زمنياً إلى المستقبل نجد قصص هذه المجموعة تتمتع بنفس هذه السمة، فلا مكان لتداعي الخواطر أو تيار الوعي أو العودة إلى الخلف لمعرفة خلفيات الشخصيات. إنهم هنا في هذه اللحظة، وعلينا تقبُّلهم كما هم. ولتحقيق هذا الهدف سعى الكاتب المحسن إلى زخرفة المشهد في سكونيته بمواد كثيرة تدخل فيها مفردات الزينة والمطبخ والأزهار والعمارة والنباتات والأسلحة... وغيرها، وكل هذه العناصر ستخلق إمتاعاً بصرياً كبيراً لو أن الكاميرا الحقيقية تحل محل القلم. هذا الجهد الكبير المبذول في إعادة بناء المكان الذي وقعت فيه أحداث تاريخية سواء كانت حقيقية أو متخيلة يمنح المتلقي إذا قرأها أو استمع إليها قدرة على تخيلها صورياً كأنه يشاهد أفلاماً قصيرة تجمعها ثيمات مشتركة. لنأخذ أمثلة من ثلاث قصص لذلك. في قصة «حراب» التي تدور خلال احتضار «الآغا» أحد قادة السلطان عبد الحميد العسكريين بحضور الطبيب الذي استُدعي لعلاجه: «انتبه الطبيب لأول مرة إلى أبواب الصالة العالية والواسعة، وإلى السجاجيد الفاخرة المفروشة، والستائر والوسادات والديوانيات الموشاة بخيطان من ذهب، وإلى التدويرات والمنحنيات والأزهار الصفراء والبنفسجية المشغولة بنعومة على لحاف الآغا». (ص 17). في فقرة أخرى نتابع الكاميرا (الراوي) في وصفه الباذخ للمكان الذي دخل الطبيب فيه: «على الحيطان سيوف معقوفة ذات مقابض من عاج وبنادق ذات سبطانة مرصعة بالذهب، وحواضنها عليها نقوش بعرق اللؤلؤ والمرجان... الأثاث هنا مثقل بالرخرفة، ومرايا الحيطان منحوتة بأشكال وحوش غريبة: تنانين وسلاحف وأفاعٍ، مع فسيفساء ممزوجة بنقوش عربية». في قصة «مسرح» نجد أن زخرفة المكان تأخذ طابع المنمنمات حين تصف عين الراوي ثياب الأميرة المسافرة مع عبيدها وخدمها وجنودها لحظة وقوف القافلة ليلاً على الطريق الموصل إلى «الزبير»، وقد يحتاج القارئ الموسوس بالكلمات إلى البحث عن معاني بعض مصطلحات مواد الزينة: «ضحكت، وكان العبد يتملى مدهوشاً الدمقس الأخضر وورود الياقوت المعلقة على ستارة المحمل، وبطانته التي من قطيفة بنفسجية مطعمة بحبات اللؤلؤ... ولكن ما الذي يفهمه العبد شغاتي عن أريج الألوة والبنفسج والرند والعنبرين...» (ص 40-41). في قصة أخرى عنوانها «لعبة الملوك» يصف لنا الراوي وجبة طعام يعدها قائد القلعة لضيوفه، فتدخل الأطعمة التي تتناسب مع مرتبة المضيف وكبير الضيوف، وفي هذه القصة فقط استخدم حيدر المحسن ضمير المتكلم بدلاً من ضمير الغائب، لكن ذلك لم يغير شيئاً من الاقتراب من عمل الكاميرا السينمائية التي تقدم لنا مائدة فاخرة بألذ الأطعمة وأشهاها: «مضى الوقت على جناح السرعة رغم أننا كنا صامتين ونحن نأكل، وهذا دليل على جودة الإوزّ المحشو، وكتف العجل المحمّصة بالفستق والزبيب والهيل، وشرائح لحم الغزال المحشوة والمقلية. أما الديك الرومي فقد كان مطبوخاً بصلصة لحم لم أذق مثلها في حياتي...» (ص 63). الحاضر والماضي يستنتج المحسن في مقدمته أن اختيار الروائي الفرنسي فلوبير قرطاجة التي دمرتها الجمهورية الرومانية عام 146 قبل الميلاد، جاء لأن «كتابة هذه الرواية... غطاء خيالي لمادة شخصية في حياة الكاتب». (ص 6). ولعلنا نجد في كثير من قصص هذه المجموعة تكرار ثيمة القتل العشوائي، كأن الرعية بشكل ما مشاريع لفرائس تنتظرها الضواري حتى لو كانت متخمة. في قصة «حِراب» لم يرتكب الطبيب أي خطأ عند استدعائه لعلاج أحد وجهاء الإمبراطورية العثمانية، ليجد الأخير في مرحلة الاحتضار. وحال وفاته يأتي الحكم القاطع على لسان كبير أفراد العائلة الأعمى: «لماذا قتلت الآغا؟ من الذي دفعك للقيام بذلك؟»، وقبل أن يجيب الطبيب مدافعاً عن نفسه يصفق الآخر بيده فينهال الحاضرون عليه طعناً ليمزقوه بالحراب. ولعل هذا التهديد لحق ببعض الأطباء العراقيين بعد حل الدولة ومؤسساتها على يد الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بعد احتلال العراق عام 2003 وصعود سلطة العشيرة، ففي كثير من الحالات كانت عائلة المريض تطارد الطبيب إذا فشل في إشفائه حتى لو كانت وفاته ناجمة عن مرض عضال. يتكرر هذا القتل في قصة أخرى (قد تكون حقيقية تاريخياً)، لكنها تحولت هنا بكاميرا القاص حيدر المحسن إلى فيلم ذي ثلاثة أبعاد وعلى ملء الشاشة وبالألوان. تحمل القصة عنوان: «حكاية المعماري صلاحي مع الشاه». وهذا الإمبراطور الفارسي يدعى «سيفي» بعد حفل عشاء نظمه للسفراء الأجانب احتفالاً بصيده 30 أيلاً في يوم واحد. وكان لحم هذه الحيوانات البرية جزءاً من العشاء الفاخر الذي نظمه لضيوفه. وشاءت المصادفة أن يحضر المعماري «صلاحي» خلال الحفل ليبشر الشاه بنجاحه في بناء هرم برؤوس الأيائل الثلاثين في وسط المدينة، وكل ما يحتاج إليه الآن رأس أيل واحد ليضعه في قمة هذا الهرم كي يكتمل النصب. لكن الملك ومن دون أي سبب سوى أنه اتبع نزوة قفزت إلى ذهنه، يأمر بقطع رأس المهندس المعماري صلاحي لملء الفراغ المتبقي من الهرم، فيتم تنفيذ الأمر على عجل. ونحن نتابع ما يجري اليوم يبدو لنا أن هذه القصص تتكرر في الجوهر مع اختلاف ضئيل في التفاصيل الثانوية: الماضي يتلبس الحاضر بشكل ما. في مقدمته يفسر حيدر المحسن للقارئ سبب اختياره عنوان كتاب «الأشباح»: «لأن جميع الشخوص فيها غادرونا منذ زمان طويل، ويظهرون للقارئ بين الصفحات بهيئة شبحية، وأعلى ما يطمح إليه الكاتب هو أن يفعل سحر الفن فعله، وتبدو الأشباح، عندها حقيقية مثل الناس الذين يعيشون بيننا، وربما كان لهم تأثير أقوى في حياتنا». وقد اتفق أن هناك سحراً للفن في هذه المجموعة القصصية، ولكن هل من الضروري مصادرة حق القارئ بتأويل العنوان كما يشاء؟


مجلة سيدتي
منذ 4 ساعات
- مجلة سيدتي
بكلمات مؤثرة شريهان تنعى زياد الرحباني: تاريخ ما يموت أبداً
صدمة أُصيب بها كل أبناء الوسط الفني والجمهور والعالم العربي، بعد وفاة النجم اللبناني زياد الرحباني ، والذي رحل عن عالمنا صباح اليوم السبت الموافق 26 يوليو عن عمر ناهز الـ69 عاماً. وقد حرص عدد كبير من النجوم على نعيه وتقديم العزاء للعائلة وتحديداً والدته جارة القمر فيروز ، خاصةً بعدما تردد من صدمتها الكبيرة بعد رحيل نجلها، والاستعانة بالأطباء لمتابعة حالتها الصحية بعد لحظات الانهيار التي مرت بها بعد تلقي خبر رحيله، وكان من بينهم النجمة شريهان. شريهان تنعى زياد الرحباني بكلمات مؤثرة كتبت النجمة شريهان من خلال حسابها الشخصي على موقع التدوينات القصيرة "إكس"، رسالة مؤثرة نعت من خلالها زياد الرحباني ، وقدمت العزاء لوالدته السيدة فيروز داعية لها بالصبر والسلوان على رحيله، حيث قالت: "أنعَى الفن كل الفن، أنعَى لبنان وقلبي". وأكملت شريهان داعية لفيروز قائلة: "أصلي وأدعو للأم فيروز الإرادة، الصبر، الصلابة، العزيمة والفن والإبداع والأصالة... أنعَى الفن والإبداع، أنعَى لبنان وقلبي زياد الرحباني تاريخ ما يموت أبداً". أنعي الفن كل الفن ، أنعي #لبنان وقلبي ..... أصلي وأدعي للأم #فيروز الإرادة، الصبر، الصلابة، العزيمة والفن والإبداع والأصالة .. أنعي الفن و الإبداع، أنعي لبنان و قلبي ..... #زياد_الرحباني تاريخ ما بيموت أبداً #فيروز #لبنان — Sherihan (@Sherihan) July 26, 2025 كما حرص عدد كبير من نجوم الفن والغناء في الوطن العربي على نعي زياد الرحباني، منهم إليسا، هيفاء وهبي، ماجدة الرومي، جورج خباز، كندة علوش، جورج وسوف، ماغي بو غصن وآخرون. أسباب وفاة زياد الرحباني وقد أكدت مصادر لبنانية، أن جثمان الفنان الراحل زياد الرحباني يتواجد حالياً في مستشفى خوري بمنطقة الحمراء في بيروت، وسط حضور أفراد من أسرته ومحبيه. وأفادت أن الطبيب الشرعي اللبناني أقر بأن الوفاة طبيعية، بعد معاناة صحية استمرت نحو 15 يوماً، نتيجة تفاقم مشاكل مزمنة في الكبد، ما أدى إلى تدهور حالته ووفاته. اطلعوا على لمشاهدة أجمل صور المشاهير زوروا « إنستغرام سيدتي ». وللاطلاع على فيديوغراف المشاهير زوروا « تيك توك سيدتي ». ويمكنكم متابعة آخر أخبار النجوم عبر «تويتر» « سيدتي فن ».