
عاشوراء: مسؤولية تاريخية في وجه الظلم الحديث
الشيعة اليوم لا يحيون عاشوراء من باب العاطفة وحدها، بل من باب الشعور بالمسؤولية التاريخية. فكما كان الحسين إمامًا في زمنه، فلكل زمانٍ إمامه، ولكل عصرٍ كربلاؤه. ولا تزال المعركة قائمة، بين معسكر الحسين الذي يمثّل القيم والعدالة والإيمان، ومعسكر يزيد الذي يعيد إنتاج الظلم في صور حديثة: في السياسة، في الاقتصاد، في الإعلام، وفي الثقافة...
ما إن يقترب شهر محرّم إلّا وتحدث ثورة في نفوس المؤمنين، يشعرون كأنّهم على موعد مع زلزال عظيم يوشك أن يقع، وليس أمام حدث قد وقع قبل أكثر من ألف عام.. إنّه سرّ من أسرار عاشوراء.
هذا الشعور الجارف الذي يتملّك قلب كل مؤمن شيعي عند حلول شهر الأحزان، ليس نابعًا من مجرّد استذكار حادثة تاريخية، بل هو تفاعل حيّ مع حقيقة متجدّدة، حقيقةٍ تظل تنبض في ضمير الإنسانية مهما تقادمت السنين. فالحسين عليه السلام لم يُقتل فحسب، بل قُتل من أجل أن تحيا الأمة، ومن أجل أن يبقى الدين محفوظًا من الانحراف والتزوير، ومن أجل أن تبقى الكلمة الإلهية عالية فوق كل جور واستبداد.
من هنا فإن محرّم لا يُستقبل كباقي الشهور، بل كزمن مقدّس، كذكرى تحمل في طيّاتها ما يزلزل النفس ويفجّر الوعي ويحرّك الضمير، وكأنّ الدم الزاكي الذي أريق في كربلاء لا يزال ينادي: "أما من ناصر ينصرنا؟". والشيعة، على مرّ العصور، ما توانوا عن الإجابة: "لبّيك يا حسين"، ليس قولًا فحسب، بل دمًا ودمعًا وعهدًا لا ينقض.
إنّ سرّ هذه الثورة التي تتجدد كل عام، يكمن في البعد الغيبي والروحي لعاشوراء. لقد جعل الله من شهادة الإمام الحسين عليه السلام منارًا للهداية، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا". هذه الحرارة ليست مجرّد حزن، بل نارُ وعي، ولهيبُ حُبّ، وطاقةُ مقاومة.
يخطئ من يظن أن البكاء على الحسين عليه السلام هو مجرّد عاطفة أو طقس شعائري خالٍ من المعنى. فالدّمعة على الحسين، إذا خرجت من قلبٍ متّصل بقيمه، تتحوّل إلى إعلان تمرد على كلّ ظلم، إلى وعد بالولاء الحق، إلى تجديد ميثاق مع الإمام الحيّ المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف. ولذلك، فإنّ الحسين لم يكن في كربلاء وحده، بل كان معه كلّ من اختار طريق الحرية، بل كان يمثل الإمام الحق في وجه الطاغية.
كربلاء لم تكن معركةً عسكرية بين جيشين غير متكافئين، بل كانت صدامًا بين منهجين: منهج الحقّ الذي تجسّد في شخصية الحسين عليه السلام، ومنهج الباطل الذي تمثّل في يزيد وأعوانه. ولذلك فإنّ عاشوراء هي مدرسة تُعلّم كل مؤمن أنّ الإصلاح في أمة جده صلى الله عليه وآله لا يكون بالسكوت أو بالحياد، بل بالموقف، ولو كلف ذلك التضحية بالنفس والأهل والولد.
وفي هذا الزمن، حيث تتكالب القوى الكبرى على إذلال الشعوب، وتُحارب القيم الإلهية تحت مسميات براقة، تبقى عاشوراء هي الملاذ. من لم يتعلّم من كربلاء كيف يثور، كيف يصبر، كيف يميّز الحق من الباطل، فليقرأ من جديد خطب الحسين، ولينظر في مواقف زينب الكبرى عليها السلام، تلك المرأة التي لم تضعف أمام طغيان ابن زياد، بل ردّت عليه بكلمة أصبحت خالدة: "ما رأيت إلّا جميلًا".
الشيعة اليوم لا يحيون عاشوراء من باب العاطفة وحدها، بل من باب الشعور بالمسؤولية التاريخية. فكما كان الحسين إمامًا في زمنه، فلكل زمانٍ إمامه، ولكل عصرٍ كربلاؤه. ولا تزال المعركة قائمة، بين معسكر الحسين الذي يمثّل القيم والعدالة والإيمان، ومعسكر يزيد الذي يعيد إنتاج الظلم في صور حديثة: في السياسة، في الاقتصاد، في الإعلام، وفي الثقافة.
إنّ العزاء الحسيني، والمواكب، والمجالس، واللطم، كلها طقوس تُبقي الثورة مشتعلة، وتُربّي الأجيال على الحُبّ المقرون بالمعرفة، والعاطفة المرتبطة بالهدف. وفي كل دمعٍ يُذرف على الحسين، قَسَمٌ جديد بأن تبقى راية "هيهات منا الذلة" خفّاقة إلى أن يظهر الحُجّة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف ليأخذ بثأر الحسين، ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا.
إنها ليست ذكرى، بل ولادة جديدة للضمير الإنساني كل عام.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ 42 دقائق
- صدى البلد
النيابة الادارية تهنئ الرئيس السيسي بذكرى ثورة 30 يوينو
تقدم المستشار عبد الراضي صديق رئيس هيئة النيابة الإدارية، بالأصالة عن نفسه وبالإنابة عن جموع مستشاري وأعضاء النيابة الإدارية وجهازها الإداري، بخالص التهاني للرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية، ولشعب مصر العظيم وأبطاله من رجال القوات المسلحة والشرطة بمناسبة حلول ذكرى ثورة ٣٠ يونيو. وقالت النيابة الادارية فى بيان لها ان تلك الثورة التي كانت نقطة تحول فارقة في تاريخ مصر، استعاد فيها الشعب المصري هويته، وعبر فيها عن إرادته الحرة من أجل الحفاظ على أمن هذا الوطن واستقراره، ليحيا فيه المصريون جميعاً بعزة وكرامة. داعيين الله أن يديم على شعبنا العظيم ووطننا الغالي الأمن والاستقرار والازدهار في شتى المجالات، تحت القيادة الحكيمة للرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية.


المنار
منذ 42 دقائق
- المنار
القوات المسلحة اليمنية تعلن تنفيذ عملية نوعية على هدف حساس للعدو في بئر السبع
أعلنت القوات المسلحة اليمنية تنفيذ عملية نوعية على هدف حساس للعدو الصهيوني في بئر السبع بصاروخ 'ذو الفقار'، مؤكدة إصابة الهدف بنجاح. وتابعت القوات المسلحة اليمنية في بيان تلاه المتحدث باسمها العميد يحيى سريع 'نفذنا في الأسبوع الماضي عمليات عسكرية استهدفت مواقع حساسة ومنشآت عسكرية في بئر السبع ويافا وحيفا'، مضيفة أن 'العمليات نفذت بعدد من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة وتكللت جميعها بالنجاح بفضل الله'. هذا ولفت البيان إلى أن 'اليمن الوفي لن يتخلى عن واجباته الدينية والأخلاقية والإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني'، مؤكدة مواصلة 'عملياتنا الإسنادية حتى وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة'. وسبق أن أعلنت إذاعة كيان العدو الاسرائيلي اليوم السبت بوقوع دوي انفجار بمنطقة عراد شرق بئر السبع بعد رصد إطلاق صاروخ من اليمن، حيث تم تفعيل صفارات الإنذار في مناطق واسعة في البحر الميت والنقب وجنوب كيان العدو. وزعم جيش العدو أنه نفذ محاولات لاعتراض الصاروخ، مرجحاً 'اعتراضه بنجاح'. ومنذ بدء الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان في قطاع غزة، شنّ القوات المسلحة اليمنية، تحت شعار إسناد المقاومة الفلسطينية، عشرات الهجمات الصاروخية على كيان الاحتلال، كما استهدفوا سفنا مرتبطة به في البحر الأحمر، معلنين فرض حظر جوي على مطار بن غوريون، وحظر بحري على ميناءي إيلات وحيفا. في المقابل، شنّ كيان العدو عدواناً جوياً على اليمن، مستهدفاً مطار صنعاء الدولي وبنى تحتية للموانئ في الحديدة ورأس عيسى والصليف غربي البلاد. المصدر: موقع المسيرة


صدى البلد
منذ 3 ساعات
- صدى البلد
علي جمعة: البعض يرفض روح التعاون والإيثار بين أصحاب النبي فى الهجرة
قال الدكتور علي جمعة مفتى الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عبر صفحته الرسمية على فيس بوك: إن روح الحب سرت في المدينة بمجرد أن حل بها رسول الله ﷺ واتخذ كل أنصاري لنفسه أخا من المهاجرين يقوم على إيوائه ورعايته وضيافته. واستشهد بقوله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَآخَى رَسُولُ اللّهِ ﷺ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: "تَآخَوْا فِي اللّهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ". ونوه ان رسول الله آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهما، فانطلق سعد إلى داره وقال له: يا عبد الرحمن، أنا أكثر أهل المدينة مالا وأقلهم عيالا، فانظر إلى أي شطر من مالي فخذه، ثم انظر إلى امرأتي هاتين أيتهما تعجبك حتى أطلقها فتتزوج بها. فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق. فدلوه، فذهب إليه وباع واشترى حتى ربح ربحا وفيرا فأثرى واغتنى. روح المحبة بين المهاجرين والانصار وفي روح المحبة والإيثار التي سرت بين المهاجرين والأنصار نزل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وأشار إلى أن الحديث عن روح التعاون والمشاركة والإيثار بين أصحاب رسول الله والتي وصلت إلى هذا الحد قد يرفضها أو يردها بعضهم، ممن خلع نظارة الحب ولبس مكانها نظارة العصبية وتحكيم المصالح والتقاليد التي تراكمت على قلوبهم، ويرون في مثل هذا الفعل سذاجة سعد بن الربيع الذي عرض على أخيه المهاجر أن يتنازل له عن شطر ماله وأهله، ويرون في عرضه لزوجتيه على أخيه حتى يختار من يرغب في الزواج بها حتى يطلقها له عدم نخوة منه وعدم رجولة، أو يحكمون على مثل هذا السلوك بأنه تحقير للمرأة ومعاملة الزوج لها معاملة الأشياء المملوكة. ولفت الى ان كل هذا الفهم السقيم والنظر السيء مصدره وسببه عدم الإدراك للحب، وعدم النظر إلى الأشياء بنظارته، فإن سعد بن الربيع وزوجتيه وعبد الرحمن قد انصهروا جميعا في بوتقة حب الإسلام وحب رسول الله وحب بعضهم بعضا فصاروا جميعا كالشيء الواحد. وما يمكنا أن نقوله لمن أساء فهم حوادث الحب بين الصحابة: حاكموا الحب وسائلوه. فإنكم افتقدتم هذا الحب في حياتكم فصار عليكم غريبا عجيبا مستصعبا فهمه، وبفقدكم للحب فقدتم كل معنى للحياة وقست قلوبكم وتنطعت أفكاركم وتجمدت عقولكم وأرواحكم.