
المنتجعات السياحية جنوب لبنان في انتظار تدخل الدولة
بيروت- بهمّة عالية وعمل دؤوب يضع فضل نجم لمساته الأخيرة على مؤسّسته السياحيّة في بلدة باتوليه قضاء صور جنوب لبنان ، والذي كان قد تضرر بشكل كبير من جراء القصف الإسرائيلي، حيث أعاد ترميم الجدران المدمرة وأعمال الديكور داخل صالة ليلة عمر للأفراح.
ومنذ إعلان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عاد نجم وأسرته وعمّاله إلى مؤسّسته ليرفع عنها غبار الحرب وآثارها الكارثية، وهو اليوم يتهيّأ لموسم الصيف القادم، والذي يعوّل عليه مثل العديد من أصحاب المنتجعات السياحية في الجنوب اللبناني، لتعويض جزء من خسائرهم التي تكبّدوها جراء الحرب الأخيرة.
إصرار على العودة
يتحدث نجم للجزيرة نت عن إصراره الكبير لإعادة الصالة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، لافتًا إلى وجود حجوزات كبيرة لهذا الصيف، ويقول: "الحرب الإسرائيلية كانت قاسية جدًّا علينا، وقد تضرّرنا بشكل كبير، حيث سقط السقف والديكور، وجزء من الحائط سقط بعد وقوع عدّة غارات بجانب المنتجع، لكننا عدنا فور وقف إطلاق النار ونحاول جاهدين إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، وسنستأنف العمل رغم كل شيء، ونحن نستعد حاليًا لموسم صيف واعد جدًا".
ويلفت نجم إلى وجود حالة من التردّد لدى الكثير من أصحاب المؤسسات السياحيّة، نظرًا لاستمرار الخروقات الإسرائيلية ضد لبنان، وهذا ما يخيف الروّاد بشكل أساسي من القدوم إلى الجنوب، إلا أنه يطمئن الناس إلى أن الوضع في الجنوب، وخاصة في منطقة صور مستقر وآمن، ويدعو المغتربين للعودة إلى بلدهم وزيارة الجنوب لدعم الأهالي الصامدين في قراهم.
دولة غائبة
تستعيد مدينة صور عافيتها بشكل أسرع من قرى القضاء، خاصة تلك القريبة من الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، إذ تتراجع الحركة في المدن كلما اقتربت نحو القرى الحدوديّة، كا هو الحال في بلدة شمع، التي صُنّفت سياحيّة نظرًا لموقعها الجغرافي المميّز، والممتد من أعلى الجبل وصولا إلى شاطئ البحر في نقطة البيّاضة، حيث دمّر الاحتلال أكثر من 70% من منازلها، أما منتجعاتها السياحيّة فتضرّرت بشكل كبير.
ويشير رئيس بلدية شمع وصاحب منتجع (هيل سايد ريزورت)، عبد القادر صفي الدين للجزيرة نت إلى الأضرار البسيطة التي لحقت بمنتجعه وقد عمد إلى استبدال الزجاج المحطّم وكذلك بعض الإصلاحات الضرورية، ويشدّد على أنه يدرس قرار إعادة فتح المنتجع في هذا الصيف، في ضوء وجود تكاليف تشغيلية كبيرة، من غياب للكهرباء التي يستعاض عنها بالمولدات، وغياب البنية التحتيّة الضروريّة.
ورغم كل الصعوبات والتحديات التي تأتي مع التهديدات الإسرائيلية المتواصلة، يشدّد صفي الدين على ضرورة أخذ المبادرة من قبل أصحاب المؤسّسات السياحيّة، والبدء بأعمال الإصلاحات دون انتظار الدولة الغائبة تمامًا حسب تعبيره.
ويقول: "في بلدة شمع كان يعمل ما يقارب 250 موظّفًا في المؤسّسات السياحيّة في البلدة، يعني 250 عائلة كانت تعتاش من هذا القطاع، وهذه المنطقة كان يقصدها المواطنون من كل لبنان إضافة إلى السيّاح والمغتربين، نظرا لجماليتها وللخدمات المميزة التي تقدمها هذه المنتجعات، ولهذا يجب أن تعود إلى سابق عهدها ومهما كانت الظروف، وعدم انتظار الدولة التي لم تسأل عنا أبدًا".
حتّى إشعار آخر
ومن خلال جولة الجزيرة نت على المنتجعات في شمع بدت البلدة خالية تمامًا من أي مظهر للحياة، حتى مطعم (أمواج البياضة) الذي كان يضج بالحياة لسنوات طويلة، هو اليوم مغلق تمامًا، وآثار الدمار واضحة للعيان، فالطاولات محطّمة كذا الكراسي وألواح الزجاج، نتيجة القصف الإسرائيلي الذي طال المنطقة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ومنذ ذلك التاريخ أغلق المطعم أبوابه أمام زوّراه، وغادر 60 عاملا إلى منازلهم إلى غير رجعة، أما صاحبه فغادر إلى أفريقيا ، وليس لديه نيّة للعودة في الوقت الحالي، نظرًا للخسائر الاقتصاديّة الكبيرة التي مُني بها نتيجة الإغلاق الذي تخطّى العام ونصف العام، ونتيجة الدمار الكبير الذي لحق بالمطعم.
ويتحدث صاحب المطعم علي وهبة لـ(الجزيرة نت) عن هذه الخسائر، مؤكّدًا أنه خسر أول الحرب في مطعمه 22 ثلاجة ممتلئة بأنواع مختلفة من اللحوم والأسماك والأطعمة المتنوعة، وكلفة هذه الخسارة قرابة 50 ألف دولار، فضلا عن كلفة الإغلاق المتواصلة والأضرار الجسيمة التي لحقت بالمطعم.
ويستبعد وهبة إمكانية العودة إلى لبنان وإعادة الافتتاح من جديد هذا الصيف، وهو مُصرٌّ على الإغلاق، ويقول: "لا يمكنني أن أغامر وأدفع أموالا طائلة من جديد، فأنا بحاجة إلى ما يزيد عن 100 ألف دولار للعودة من جديد، في ظل عدم وضوح الرؤية حول مستقبل الوضع في لبنان، وكذلك لا يمكنني أن أضمن سلامة الزبائن أو الموظفين، فالخطر حقيقي والقذائف كانت تسقط قربنا في أول أيّام الحرب.
وينوّه وهبة إلى أن هذه المنتجعات السياحية التي كانت تميّز منطقة الجنوب كانت عنصرًا أساسيًّا في صمود الأهالي في قراهم، فقد كانت تحرّك العجلة الاقتصادية للمنطقة، فعلى سبيل المثال كان يعمل في المطعم 60 موظفًا يعني 60 أسرة.
ويقول وهبة: "حركة المنتجعات ليست مهمة فقط للموظفين وأصحابها، بل لكل المنطقة، حيث تعتمد العديد من المؤسسات التجارية عليها، فنحن نشتري الخضار واللحوم والحاجيّات اليوميّة من مؤسّسات أخرى، مما يخلق دورة اقتصاديّة مهمّة في القرى والبلدات الجنوبية".
ويشير وهبة إلى حرصه على العودة عند استتباب الأمن في الجنوب اللبناني، ويتمنى أن يعيد الحياة والموظفين إلى مؤسّسته وأن تلتفت الدولة والمعنيون إلى هذه المؤسسات الاقتصادية المهمّة، وأن تسأل عن حالهم وتعوّضهم لتشجعهم على العودة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
مشروع سميسة السياحي.. تعرف على أحد أضخم المشاريع الترفيهية في قطر
الدوحة ـ في خطوة جديدة نحو ترسيخ مكانتها كوجهة سياحية صاعدة، تجري في قطر أعمال تنفيذ مشروع "سميسمة السياحي المتكامل"، أحد أضخم المشاريع العقارية والترفيهية في البلاد، والذي أعطيت انطلاقته رسميا. ويمتد المشروع على مساحة شاسعة تبلغ 8 ملايين متر مربع على بعد 40 كلم شمال الدوحة، على واجهة بحرية خلابة بطول سبعة كيلومترات، ليرسم ملامح تطور سياحي جديد يعزز التنوع الاقتصادي، ويضع قطر على خارطة الاستثمار العالمي بمزيج يجمع بين الفخامة والاستدامة. وأعلنت شركة الديار القطرية للاستثمار العقاري في أوائل يونيو/حزيران الحالي عن بدء تنفيذ المشروع، مؤكدة أن شاطئ سميسمة، بما في ذلك القسم العائلي، سيظل مفتوحا للعامة، بالتزامن مع تنفيذ المشروع، مع اتخاذ كافة التدابير اللازمة لضمان سلامة الزوار والحفاظ على خصوصيتهم. وكانت الإعلان رسميا عن المشروع لأول مرة في يونيو/حزيران 2024، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وضع حجر الأساس لأول مشروع تطوير رئيسي ضمن مشروع سميسمة المتكامل، وحمل المشروع اسم "ذا لاند أوف ليجيندز" (أرض الأساطير) وهو شراكة بين شركة "إف تي جي" للتطوير التركية وشركة الديار القطرية. وفي آخر أبريل/نيسان الماضي، وقعت مؤسسة ترامب أول اتفاق تطوير عقاري لها في قطر، وذلك ضمن مشروع سميسمة. ويأتي مشروع سميسمة ضمن استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة (2024-2030)، ويعد ركيزة مهمة في جهود تنويع الاقتصاد الوطني، وتعزيز مساهمة القطاع غير النفطي، وتحفيز الاستثمارات الخاصة، إلى جانب خلق فرص عمل واسعة في مختلف القطاعات. تحالفات متنوعة يمثل مشروع سميسمة نموذجا معقدا من الشراكات الاستثمارية، إذ تتولى "الديار القطرية" دور المطور الرئيسي والمُمكِن العام، بينما تشارك شركة "إف تي جي" (FTG) التركية في تطوير منطقة الترفيه، والتي تضم مدينة ألعاب متكاملة ومرافق تجارية وسكنية. وفي خطوة أثارت اهتماما دوليا، أدرجت علامة ترامب التجارية ضمن المشروع بعد توقيع اتفاقية مع شركة "دار غلوبال بي إل سي" (DAR Global Plc) العالمية، لتطوير "نادي ترامب الدولي للغولف"، والمكون من 18 حفرة وفق المواصفات العالمية، إضافة إلى وحدات سكنية فاخرة تحمل اسم ترامب. وستُشرف شركة "ترامب إنترناشيونال" على تشغيل هذه المكونات، في ظل خبرتها في إدارة ملاعب الغولف الفاخرة حول العالم. وفي تصريح خاص للجزيرة نت، أوضحت شركة الديار القطرية أن مشروع سميسمة سيقدم تجربة سياحية متكاملة، تضيف معلما حضاريا جديدا إلى خارطة السياحة القطرية، حيث يضم أربع مناطق متميزة تشمل منتجعات، مدينة ألعاب، ملعب غولف، فلل سكنية، مارينا لليخوت، ومرافق تجارية ومطاعم راقية. وشددت الشركة على أن الاستدامة ستظل محورا أساسيا في تنفيذ المشروع، حيث سيتم توظيف أحدث الأنظمة الذكية، واستخدام المواد المحلية المعاد تدويرها، بالتنسيق مع وزارة البيئة والتغير المناخي لضمان الحد من الأثر البيئي. ويعتمد المشروع على نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ويتيح فرصا واسعة للقطاع الخاص المحلي والدولي، إذ أعلنت "الديار القطرية" أن 16 قطعة أرض داخل المشروع ستكون متاحة للاستثمار في المرافق السياحية والمنتجعات، مع توقع دخول شركات جديدة خلال المراحل المقبلة. وتؤكد الشركة أن هذه الشراكات تمثل ضمانا لتنوع هوية المشروع، واستدامة تشغيله وفق أعلى المعايير العالمية. 50 ألف وظيفة جديدة بحسب تقديرات "الديار القطرية"، يتوقع أن يوفر المشروع نحو 50 ألف فرصة عمل تشمل مجالات الإنشاءات، والخدمات السياحية، والهندسة، والإدارة، مما يسهم في دعم سوق العمل القطري وتنشيطه بعد تباطؤه عقب تنظيم كأس العالم 2022. ويرى الخبير في الاقتصاد السياسي الخليجي عبد الرحيم الهور أن مشروع سميسمة يتجاوز كونه مشروعا سياحيا، ليصبح أداة إستراتيجية لتحفيز قطاعات متعددة في الاقتصاد القطري. وفي حديثه للجزيرة نت، يقول الهور "نحن بحاجة في هذه المرحلة إلى مشاريع ضخمة تعيد الحياة لقطاع الإنشاءات، وتنشط قطاعات مثل العقار والنقل والتسويق"، مشيرا إلى أن المشروع يولد وظائف نوعية في الأمن السيبراني الفندقي، والإدارة الرياضية، والتسويق العقاري الفاخر. وحول الشراكة مع علامة ترامب، رأى الهور أنها تحمل رسالة سياسية اقتصادية ناعمة بشأن متانة العلاقات القطرية الأميركية، لكنها في الوقت ذاته تتطلب توفير بدائل سياحية محلية أثناء تنفيذ المشروع لضمان توازن اجتماعي في منطقة، لطالما ارتبط سكانها بشاطئها العام. تجربة ممتدة وتقول الخبيرة السياحية الشيخة غادة آل ثاني، رئيسة مجلس إدارة إحدى شركات السياحة القطرية، إن المشروع ينقل تجربة السياحة في البلاد إلى مرحلة جديدة قائمة على "تنوع التجربة وامتداد الإقامة". وفي حديثها للجزيرة نت، أوضحت الشيخة غادة أن الجمع بين مدينة ألعاب وملعب جولف ومارينا ومنتجعات في مكان واحد "يعزز من جاذبية قطر كوجهة إقامة طويلة، خاصة على المستوى الخليجي، في حال إطلاق التأشيرة السياحية الخليجية الموحدة". ورأت أن نجاح المشروع لن يكون مرهونا بالبناء فقط، بل بطريقة دمجه في الرواية السياحية الوطنية، قائلة "يجب تقديم المشروع كوجهة متكاملة قائمة على الاستدامة والابتكار، لا كمجرد منتجع فاخر". وشددت على ضرورة استمرار التواصل مع المجتمع المحلي خلال فترة التنفيذ، مؤكدة أن المشروع إذا وجه إعلاميا وخدميا بطريقة ذكية فسيصبح "أداة تسويق لنفسه دون الحاجة إلى حملات خارجية مكلفة".


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
غزة.. بقلم صحفية!
ليس سهلًا على فتاة اختارت أن تكون قويةً في كل استحقاق أن تكتشف في أعماقها مكامن الخوف التي خلفتها طبول الحرب، التي بقيت تدق على مدى أكثر من عام ونصفٍ. في كل صباح، تدخل مكتبها، تتابع أخبارَ غزة التي لا تنتهي: أحداثًا حمراء مضرجة بالدماء، ودموعًا تسيل من الشاشات كأنما هي نهر بلا ضفاف، وعدادًا يرتفع، ونحيبًا يعبر من غزة إلى لبنان عبر الأثير، ومنه إلى كل العالم بلا حدود ولا قيود ولا هوامش. خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ باليستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال تنتظر العنوان الساخن من مديرها، وتبتلع الخبر الذي سيتحول بعد قليل إلى نص يحبس أنفاس القراء.. تفكر أنها بحاجة إلى اختيار صورة عميقة بحجم الفاجعة، وجملة افتتاحية تمهد لحكاية موجعة جديدة. تدرك أن الكتابة عن القصف المتواصل والقتل باتت عبئًا يتكرر كل يوم، وأن الطفل الذي يصرخ من تحت الركام لن يسكت في ذاكرتها. تسابق الوقت لتنقل التفاصيل، وتخبّئ بين السطور وجعًا شخصيًّا لا يمكن أن يذاع. خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ باليستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال، بعد اقتحام الجيوش العربية كل الحدود، وفك الحصار، ودخول قوافل الصمود، وعودة الأهالي الذين أتعبهم النزوح، وحمل حقائب الذكريات إلى بيوتهم.. لكن النبأ لم يأتِ بعد. وبالانتظار.. تقرير واحد كان كفيلًا بأن تنتمي قلبًا وروحًا إلى غزة! هناك ما يقارب 400 تقرير آخر، شاهدت من خلالها جنازات، وتشييعًا، ومآتم لآلاف الشهداء، بحثت مع الأطفال عن ألعابهم التي بترت القذائف أطرافها تحت الركام.. تقارير أدخلتها إلى خيام الهاربين من الموت إلى موت أبشع، عايشت أنين الجائعين الذين يسكنون على قارعة الموت، وهم يزحفون تحت الشمس إلى أقرب تكية.. فتصيبها أصوات أواني الطعام الفارغة بالصداع، وأزيز القصف بالذعر حتى الهذيان من صمت يلف العالم. وما بين تقرير وآخر، تمسك القلم كأنها تمسك نبض المدينة، تتلمس جراحها، تكتب بدمعها، لا بحبر عابر.. تسهر على حروف لا تنام، وتسائل الصور التي تصلها: هل مات هذا الطفل فعلًا؟ هل ستنجو شقيقته من بين الأنقاض؟ هل أكل الأطفال وجبة العشاء؟ ماذا عن محمد وسوسو الصغيرة وريم وليان؟ ماذا عن حجارة غزة وكل ما فيها؟ إعلان وتسأل: كيف صمد هؤلاء كل هذا الوقت؟ كيف ثبتوا زهاء العشرين شهرًا من الألم والمآسي؟! لا بد أن قوةً إيمانيةً عظمى تحرك أرواحهم، وأن نورًا داخليًّا لا ينطفئ يضيء لهم الطريق في ظلام الحرب القاتم. رحلة مؤلمة هي، لكنها مملوءة بالمسؤولية: تشاهد، تنقل، توثق، تحكي، وتعاني معهم.. تحيي بقلمها أو بأزرار هاتفها وبشاشة حاسوبها أصواتهم، وتحاول أن تمنحهم صوتًا آخر في وجه الصمت العالمي، رغم التعب ورغم الألم. لكنها في كل مساء، حين تخلع عنها معطف القوة وتسدل الستائر على يوم آخر من المجازر، تجد نفسها تنهار أمام طفل أضاع أمه، ورضيع لا يجد الحليب، ومريض لم يضمد جرحه بعد، وأم أثكلها الفقد! هي غزة الألم والأمل.. غزة التي لا تنكسر؛ فعظامها كأغصان زيتون، ودماؤها رائحة غار، وفي قلبها مقام شهيد يحبو نحو الحرية، على ركبتي الزمن.. من الأمس وحتى تختم الرواية!


الجزيرة
منذ 5 أيام
- الجزيرة
غزة.. بقلم صحافية!
ليس سهلًا على فتاة اختارت أن تكون قويةً في كل استحقاق أن تكتشف في أعماقها مكامن الخوف التي خلفتها طبول الحرب، التي بقيت تدق على مدى أكثر من عام ونصف. في كل صباح، تدخل مكتبها، تتابع أخبار غزة التي لا تنتهي؛ أحداث حمراء مضرجة بالدماء، ودموع تسيل من الشاشات كأنما هي نهر بلا ضفاف، وعداد يرتفع، ونحيب يعبر من غزة إلى لبنان عبر الأثير، ومنه إلى كل العالم بلا حدود ولا قيود ولا هوامش. خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ بالستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال تنتظر العنوان الساخن من مديرها، وتبتلع الخبر الذي سيتحول بعد قليل إلى نص يحبس أنفاس القراء.. تفكر أنها بحاجة إلى اختيار صورة عميقة بحجم الفاجعة، وجملة افتتاحية تمهد لحكاية موجعة جديدة. تدرك أن الكتابة عن القصف المتواصل والقتل المتواصل باتت عبئًا يتكرر كل يوم، وأن الطفل الذي يصرخ من تحت الركام لن يسكت في ذاكرتها. تسابق الوقت لتنقل التفاصيل، وتخبّئ بين السطور وجعًا شخصيًّا لا يمكن أن يذاع. خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ بالستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال، بعد اقتحام الجيوش العربية كل الحدود، وفك الحصار، ودخول قوافل الصمود، وعودة الأهالي الذين أتعبهم النزوح، وحمل حقائب الذكريات إلى بيوتهم.. لكن النبأ لم يأتت بعد. وبالانتظار.. تقرير واحد كان كفيلًا بأن تنتمي قلبًا وروحًا إلى غزة! هناك ما يقارب 400 تقرير آخر، شاهدت من خلالها جنازات، وتشييعًا، ومآتم لآلاف الشهداء، بحثت مع الأطفال عن ألعابهم التي بترت القذائف أطرافها تحت الركام.. تقارير أدخلتها إلى خيام الهاربين من الموت إلى موت أبشع، عايشت أنين الجائعين الذين يسكنون على قارعة الموت، وهم يزحفون تحت الشمس إلى أقرب تكية.. فتصيبها أصوات أواني الطعام الفارغة بالصداع، وأزيز القصف بالذعر حتى الهذيان من صمت يلف العالم. وما بين تقرير وآخر، تمسك القلم كأنها تمسك نبض المدينة، تتلمس جراحها، تكتب بدمعها، لا بحبر عابر.. تسهر على حروف لا تنام، وتسائل الصور التي تصلها: هل مات هذا الطفل فعلًا؟ هل ستنجو شقيقته من بين الأنقاض؟ هل أكل الأطفال وجبة العشاء؟ ماذا عن محمد وسوسو الصغيرة وريم وليان؟ ماذا عن حجارة غزة وكل ما فيها؟ إعلان وتسأل: كيف صمد هؤلاء كل هذا الوقت؟ كيف ثبتوا زهاء العشرين شهرًا من الألم والمآسي؟! لا بد أن قوةً إيمانيةً عظمى تحرك أرواحهم، وأن نورًا داخليًّا لا ينطفئ يضيء لهم الطريق في ظلام الحرب القاتم. رحلة مؤلمة هي، لكنها مملوءة بالمسؤولية: تشاهد، تنقل، توثق، تحكي، وتعاني معهم.. تحيي بقلمها أو بأزرار هاتفها وبشاشة حاسوبها أصواتهم، وتحاول أن تمنحهم صوتًا آخر في وجه الصمت العالمي، رغم التعب ورغم الألم. لكنها في كل مساء، حين تخلع عنها معطف القوة وتسدل الستائر على يوم آخر من المجازر، تجد نفسها تنهار أمام طفل أضاع أمه، ورضيع لا يجد الحليب، ومريض لم يضمد جرحه بعد، وأم أثكلها الفقد!. هي غزة الألم والأمل.. غزة التي لا تنكسر؛ فعظامها كأغصان زيتون، ودماؤها رائحة غار، وفي قلبها مقام شهيد يحبو نحو الحرية، على ركبتي الزمن.. من الأمس وحتى تختم الرواية!