
الهندية بانو مشتاق الحائزة بوكر: على الكاتب وصف "الوردة" و"أشواكها"
تؤمن الكاتبة الهندية والناشطة في مجال حقوق المرأة بانو مشتاق، التي نالت في مايو/أيار الماضي جائزة بوكر الأدبية الدولية، بأن الكتابة الحقيقية تستلهم من الواقع، ولو كان شديد العنف والقسوة. ومن هذا المنطلق، لم تتردد في جعل إحدى أقصوصات مجموعتها الفائزة بالمكافأة المرموقة تتناول محاولة انتحار حرقا، مشابهة لتلك التي أقدمت عليها بنفسها.
وقالت بانو، البالغة 77 عاما، في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية: "لا يمكن للمرء أن يكتب لمجرد وصف وردة. لا يكفي أن يقول إن لها هذا العطر وتلك البتلات وذلك اللون. عليه أيضا أن يكتب عن الأشواك. إنها مسؤوليته، وعليه أن يفعل".
في مجموعتها القصصية الفائزة بجائزة بوكر، والتي تحمل عنوان "هارت لامب" (Heart Lamp) (سراج القلب)، تتناول بانو في أقصوصاتها الـ12 القوية، جوانب من حياة نساء مسلمات يعانين توترات أسرية ومجتمعية، تحمّل بعضهن العنف المنزلي، أو ابتليت أخريات بوفاة أطفالهن، أو تعرضن للخيانة من أزواجهن.
القصص، التي كتبتها بين عامي 1990 و2023، شكلت أول عمل أدبي بلغة "الكانادا" (Kannada) (وهي اللغة التي يتحدث بها نحو 65 مليون شخص في جنوب الهند) يترجم إلى الإنجليزية، وهو ما جعل فوزها بالجائزة حدثا فارقا في تاريخ الأدب الهندي والعالمي على حد سواء.
قامت بترجمة العمل إلى الإنجليزية ديبا بهاستي، الصحفية والكاتبة من جنوب الهند، وقد وصفت لجنة التحكيم الترجمة بأنها "جذرية ومبتكرة تحدث اضطرابا في اللغة وتخلق نسيجا جديدا لتعددية الإنجليزية".
وقد نالت الجائزة مناصفة مع المؤلفة، في تكريم مزدوج للنص والترجمة، رغم الرقابة التي تعرض لها الكتاب من جانب الدوائر المحافظة في الهند، كما ذكر منظمو الجائزة، وتجاهله من قبل الجوائز الأدبية الكبرى في الدولة الآسيوية العملاقة.
كتابة تنبض بالألم والفكاهة
نال أسلوب بانو إعجاب النقاد لما يجمعه من فكاهة ساخرة تخفي خلفها ألما عميقا وقسوة واقع شخصياتها. ووصفت لجنة تحكيم جائزة بوكر شخصيات قصصها بأنها "صور مذهلة للقدرة على الاستمرار"، مشيدة بموقفها الحازم بلا مهادنة من طغيان النظام الأبوي والطبقية والتطرف الديني على المجتمع الهندي.
واحتفت لجنة التحكيم بالمجموعة بوصفها "قصصا جميلة مليئة بالحياة، تترجم بلغة مبتكرة توسع فهمنا للترجمة والاختلاف الثقافي"، مؤكدة أن هذه القصص الحية والمؤلمة تقدم "وثيقة أخلاقية وسياسية" عن معاناة النساء المسلمات في جنوب الهند.
وتنتمي بانو المولودة عام 1948 إلى عائلة مسلمة، لكنها تلقت تعليمها بلغة الكانادا لا بالأردية، اللغة الثقافية التقليدية لمسلمي الهند. وبعد أن بدأت حياتها المهنية في مجالي الصحافة والتعليم، عملت لاحقا في المحاماة، وناضلت بصفتها الحقوقية ضد الأصولية وغياب العدالة الاجتماعي.
أما حياتها الخاصة، فلم تكن أقل قسوة من قصصها. فقد تزوجت بعد قصة حب، لكنها شعرت لاحقا بالاختناق بسبب القيود المفروضة عليها. وقد قالت "لم يكن يُسمح لي بنشاطات فكرية (…) وبالكتابة".
حتى وصلت بها المعاناة النفسية إلى محاولة إحراق نفسها في أواخر العشرينيات من عمرها، وهرع زوجها إليها مع ابنتهما البالغة 3 أشهر، واسترجعت هذه اللحظة قائلة: "وضع زوجي ابنتنا الصغيرة عند قدمي، وجعلني أركز انتباهي إليها، وعانقني، ثم ضمني إليه، وبهذه الطريقة تمكن من ثنيي عن الانتحار".
وفي أقصوصتها، تستلهم الكاتبة هذه اللحظة، إذ تكون الطفلة هي صاحبة الفضل في إنقاذ أمها. وعن هذا التقاطع بين السيرة الذاتية والخيال، تقول بانو: "شيء من شخصية الكاتب ينعكس في مؤلفاته، سواء بوعي أو من دون وعي".
عبء الشهرة
اليوم، تمتلئ جدران منزل بانو في بلدة حسان الصغيرة جنوب الهند بالشهادات والجوائز، وآخرها جائزة بوكر التي تسلمتها في لندن، والتي تصفها بأنها غيرت حياتها "بشكل إيجابي"، مع أنها شكت مما تفرضه هذه الشهرة من عبء عليها.
وتستقبل الكاتبة الكثير من الزوار، لكنها قالت بأسف "لم يعد لدي وقت للكتابة التي تشعرني بمتعة وارتياح كبيرين".
وشددت بانو مشتاق على أن شخصياتها ليست خاصة ببلد بعينه أو مجتمع بذاته، بل تنطبق على كل زمان ومكان. وقالت "في كل مكان، تعاني النساء هذا النوع من القمع والاستغلال والسلطة الأبوية. المرأة هي المرأة، في كل مكان من العالم".
مع ذلك، لا تنوي بانو التوقف عن الكتابة، حتى لو لم تحظ أعمالها دائما بإعجاب من تكتب عنهن أو لأجلهن. وتقول: "الكاتب دائما مؤيد للشعب".
قصص حية ومؤلمة
وتتألف مجموعة بانو مشتاق من 12 قصة قصيرة، كتبت بأسلوب سردي يتميز بالحيوية والعاطفة اللاذعة، وترسم صورا عميقة لحياة نساء وفتيات يعشن في مجتمعات أبوية محافظة. وتدور القصص حول أمهات، وجدات، وأطفال أذكياء، وأزواج مهزوزين، ومشايخ ساخرين، وإخوة متسلطين، وسط واقع تحكمه قيود اجتماعية ودينية صارمة.
وجاء تتويج "سراج القلب" في وقت يشهد فيه الهند توترات متزايدة حول قضايا الحريات الفردية وحقوق الأقليات. ويعد فوز هذا العمل المكتوب بلغة محلية ومن منظور امرأة مسلمة تحديا صريحا للهامشية الثقافية السائدة في البلاد، ورسالة دعم للغات الأصلية والمهمشة.
جدير بالذكر أن بانو مشتاق تنتمي إلى الجيل الذي انخرط في حركة "باندايا ساهيتيا" (الأدب الاحتجاجي) في السبعينيات والثمانينيات في جنوب غرب الهند. وهي واحدة من النساء القلائل اللواتي برزن في هذه الحركة التي انتقدت النظام الطبقي والاجتماعي الهندوسي، وأبرزت أصوات المنبوذين (الداليت) والمسلمين.
وإلى جانب عملها محامية وناشطة نسوية، ألفت 6 مجموعات قصصية، ورواية واحدة، ومجموعة مقالات، وديوان شعر، جميعها بلغة الكانادا. كما حازت جوائز كبرى منها جائزة أكاديمية كارناتاكا ساهيتيا وجائزة دانا تشينتاماني أتيمابي.
وقد عبرت عن رؤيتها الأدبية بقولها: "قصصي تدور حول النساء، كيف يطالب الدين والمجتمع والسياسة بالطاعة العمياء منهن، وبذلك، يلحقون بهن قسوة غير إنسانية. لا أجري أبحاثا مستفيضة، قلبي هو مجال دراستي".
ومع هذا الفوز، دخلت لغة الكانادا ولأول مرة إلى المحفل الأدبي العالمي، ليصبح "سراج القلب" شهادة ثقافية وأدبية نادرة في مشهد الأدب العالمي الذي طالما هيمنت عليه أصوات المركز الثقافي الغربي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الكاتب وأدواته.. عشق ممتد
أذكر اليوم الذي وقفت فيه أمام رفّ وراقة الحي، كانت عيناي تتنقل بين صفوف الدفاتر المرصوصة كجنود في طابور الصباح، كان قلبي يخفق وأنا أمرر أصابعي على أغلفة الجلد الناعم، وأتنشق رائحة الورق البكر الذي لم تلمسه بعد كلمة واحدة. في تلك اللحظة، أدركت أنني مصاب بداء جميل لا شفاء منه: الهيام بأدوات الكتابة. لست وحدي في هذا العشق الأبدي؛ فنحن -معشر عاشقي الورق والحبر- قبيلة منتشرة في كل مكان، نتنقل بين المكتبات كالنحل بين الأزهار، نجمع الدفاتر والأقلام بشغف لا يفهمه كثيرون. نحن اليوم محاطون بالشاشات الباردة اللامعة، نكتب على لوحات مفاتيح لا روح فيها، ونرسل نصوصنا بضغطة زر واحدة.. اختفت تلك اللحظات السحرية حين كنا نكتب المسوَّدة الأولى بخط اليد، ثم ننقلها بخط أوضح أتذكر دفتري الأول، ذلك الكنز الأزرق بغلافه المخملي وقفله الذهبي الصغير، وقد احتفظت به سنوات طويلة حتى بعد أن امتلأت صفحاته بخربشات المراهقة وأحلام الطفولة. كان ذلك الدفتر أول رفيق حقيقي لي، يحتضن أسراري ويحفظ أولى محاولاتي في نظم الشعر. ومع الأيام، تطور هوسي ليشمل كل ما له علاقة بالكتابة.. أصبحت أقتني الأقلام من كل مكان أذهب إليه، فكل قلم يحمل في طياته قصة مختلفة وإمكانات لا محدودة. وكم من مرة وجدت نفسي في مكتبة أتفحص أقلام الحبر الفاخرة، أزنها في يدي، وأتخيل الكلمات التي ستنساب من خلالها على الورق! وأي متعة كانت تلك التي أجدها في بري القلم الرصاص بالمبراة المعدنية! أدير القلم ببطء، وأستمع لذلك الصوت الخشن الجميل، وأراقب خصلات الخشب المبرومة وهي تتساقط كأوراق الخريف، ثم أختبر حدة السن بوخزة صغيرة في ظهر يدي، لأتأكد من جودة البري. أما الكتب، فحدث ولا حرج عن عبقها الفريد.. تلك الرائحة التي تخرج من بين الصفحات عندما تفتح كتابًا جديدًا لأول مرة، أو ذلك العطر العتيق الذي ينبعث من الكتب القديمة في المكتبات الأثرية. كان جدي -رحمه الله- يملك مكتبة صغيرة في بيته، وكنت أقضي ساعات طويلة أتنقل بين صناديقها العتيقة، وربما غضبت فأتلفت بعضها، لا بغضًا لها بل انتقامًا من نفسي ومن الموقف. نحن اليوم محاطون بالشاشات الباردة اللامعة، نكتب على لوحات مفاتيح لا روح فيها، ونرسل نصوصنا بضغطة زر واحدة.. اختفت تلك اللحظات السحرية حين كنا نكتب المسوَّدة الأولى بخط اليد، ثم ننقلها بخط أوضح، ونعدل عليها مرارًا وتكرارًا قبل أن نرضى عن شكلها النهائي. أذكر أنني في سنوات الألفين كنت أنتظر أسابيع لأرى قصيدتي منشورة في أحد المواقع الأدبية؛ كان ذلك الانتظار جزءًا من متعة الكتابة، يعطي النص قيمة وثقلًا لا يمكن تحقيقهما في زمن النشر الفوري اليوم. نحن – معشر عاشقي أدوات الكتابة- مهددون بالانقراض حقًا، لكننا لم نمت بعد. وما دامت هناك قصة تستحق أن تُحكى، وقصيدة تستحق أن تُكتب، فسيبقى للقلم والورق مكانهما في قلوبنا وبين أيدينا كانت لدينا أجندات سنوية، نملؤها بمطالع القصائد والفِكَر العابرة والاقتباسات من قراءاتنا، كانت تلك الأجندات كنوزًا حقيقية.. أرشيفًا شخصيًا لأحلامنا وطموحاتنا الأدبية. اليوم، أجد نفسي أكتب هذه الكلمات على شاشة تؤذي عيني بضوئها الأزرق، تقاطعني الإشعارات كل دقيقة، وتهدد بالانطفاء إذا لم أحركها لفترة.. لا أشعر بنفس الحميمية التي كنت أجدها مع الدفتر والقلم. لكن، رغم كل هذا التطور التكنولوجي ما زلت أحتفظ في درج مكتبي بمجموعة من الأقلام والدفاتر؛ فقد أحتاج إليها يومًا ما، عندما تنقطع الكابلات أو تتعطل الشاشات، أو ربما عندما أشتاق فقط لتلك المتعة القديمة في رسم الحروف باليد، وسماع حفيف الورق تحت القلم. نحن – معشر عاشقي أدوات الكتابة- مهددون بالانقراض حقًا، لكننا لم نمت بعد. وما دامت هناك قصة تستحق أن تُحكى، وقصيدة تستحق أن تُكتب، فسيبقى للقلم والورق مكانهما في قلوبنا وبين أيدينا.


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
الشاعر المغربي عبد القادر وساط: "كلمات مسهمة" في الطب والشعر والترجمة
على مدى ثلاثة عقود تقريبا، استأنس القراء في المغرب باسم "أبو سلمى"، وهم يشتبكون ذهنيا مع "الكلمات المتقاطعة" و"الكلمات المسهمة" التي ينشرها على صفحات جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، خاصة عندما كانت الصحيفةَ الأكثر مقروئية وإشعاعا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وخلف كنية "أبو سلمى"، سيكتشف المتابعون هوية صاحب هذه الألغاز اللغوية والمعجمية، وهو عبد القادر وساط (مواليد عام 1958 بمدينة اليوسفية)، مبدع بأكثر من قبعة، ومترجم وخطاط وطبيب نفساني، أمضى أكثر من ثلاثة عقود في علاج المصابين بالأمراض العقلية، قبل أن يتفرغ نهائيا للكتابة والترجمة والرسم والقراءة. ظل عبد القادر وساط حاضرا في المشهد الثقافي والإعلامي منذ سبعينيات القرن الماضي، ووصفه الشاعر السوري أدونيس بأنه من أعمدة الحركة الشعرية في المغرب. خاض وساط في مجال القصة القصيرة، وترجم قصائد وقصصا لكتاب عالميين. وقبل ذلك، أثرى المكتبة العربية بموسوعة في الطب، وأشرف -إلى جانب كتاب ومبدعين مغاربة- على إصدار موسوعتين هامتين: الأولى للكبار، هي "المعارف الحديثة" (20 مجلدا)، والثانية للناشئة، هي "الصفوة" (سبعة أجزاء). من مؤلفاته أعمال قصصية، بينها: "عينان واسعتان"، و"النمر العاشب"، و"مستشفى مارثا"، وديوان شعر بعنوان "طبول من حجر"، وكتاب حواري مع "شيخ" القصة المغربية أحمد بوزفور بعنوان "الخيول لا تموت تحت السقف". في هذا الحوار، اخترنا أن يكون المبتدأ والخبر هو "الكلمات المسهمة"، التي تحولت إلى شبه طقس ثقافي وفكري لدى ملايين المغاربة، ومنصة لاستدراج المتلقي إلى أسرار اللغة والشعر وبطون المعاجم، وإلى عالم الفن والسياسة والأدب، بطريقة تجمع بين الطرافة والعمق والروح المرحة. من بوابة "الكلمات المسهمة"، يقودنا الشاعر وساط في هذه المقابلة إلى عالم المتنبي، والصمة القشيري، ونجيب محفوظ، وجبران خليل جبران، وموسوليني، وصوفيا لورين، وإدريس الشرايبي. كما يبحر بنا في معاني بعض الكلمات وأسرارها، قبل أن يخوض في موضوع يفرض نفسه على الجميع: ما معنى أن تكون كاتبا ومبدعا في زمن الذكاء الاصطناعي؟ أنت تتعامل يوميا مع الكلمات العربية منذ أزيد من 40 عاما، ما هي نظرتك الخاصة إلى هذه الكلمات؟ الكلمات كائنات حيّة، تنمو وتتغير معانيها باستمرار. سأعطي بعض الأمثلة لتوضيح ما أقصده. وصلتني ورقة مطبوعة قبل أيام من البنك، وهي تبدأ بعبارة: "أيها الزبون العزيز…" هذه العبارة جعلتني أفكر في المراحل المتعاقبة التي مرت بها كلمة "الزبون" على امتداد القرون، قبل أن تكتسب معناها الحالي. الزَّبْن عند القدماء هو الدَّفع، وهم يقولون: زبنتَ الناقة إذا ضربت بقائمتيها عند الحَلْب، والناقة الزَّبون هي التي تمنع صاحبها من حلبها، فهي تضربه كلما دنا منها. والحرب الزَّبون سُمّيت كذلك لأنها تزْبُنُ الناس، أي تصرمهم وتدفعهم، وهو المعنى الذي ذكره الشاعر العربي القديم أبو الغول الطهوي في مدح فرسان بواسل: فوارسُ لا يملّون المنايا إذا دارت رحى الحربِ الزَّبونِ ثمّة كلمات أخرى كثيرة يمكن أن نذكرها في هذا السياق، ومنها مثلا كلمة "النضال". فالمعنى الذي نعرفه اليوم لهذه الكلمة ليس هو ذلك الذي عناه الشاعر العربي القديم أبو حيّة النميري (توفي 180هـ/825م)، حين قال: ألا رُبّ يوم إذ رمتني رميتها ولكنّ عهدي بالنضال قديمُ فالنضال، في زمن أبي حيّة النميري كان يعني التباري في الرمي بالنبال. فانظر معي كيف تطورت هذه الكلمة حتى أخذت معناها المعروف في زمننا هذا، وهو المعنى الذي ترنّم به محمد عبد الوهاب في أغنيته الشهيرة، من كلمات حسين أحمد شوقي (ابن الشاعر أحمد شوقي): ولنتأمل كلمة "القطار"، وكيف تطورت هي أيضاً إلى أن اكتست معناها الحالي المعروف، فقد كانت هذه الكلمة تعني "المطر" عند القدماء، ومن ذلك قول الصمة القشيري: ألا يا حبّذا نفحات نجدٍ وريّا روضه غبّ القطارِ كما كان لكلمة "القطار" معنى آخر في ذلك الزمن البعيد، إذ كانت تدل على الإبل التي تتقدّم في صفٍّ منتظم، يتبع بعضها بعضاً، على نسق واحد. ومن هذا المعنى القديم استُمدّت تسمية القطار التي نعرفها اليوم، وهي تسمية موفقة غاية التوفيق، اهتدى إليها أشخاص نوابغ. أما كلمة "البهلول"، فقد كانت تعني في القديم السيّد الكريم، فصارت تعني في زمننا هذا "الغبي" أو "المهرّج". يُذكّرني حديثنا هذا عن تطور المعاني بحُلمٍ يلازمني منذ القديم، وهو أن يكون لدينا في العربية معجم خاص بتاريخ معاني الكلمات، بحيث نطّلع على المعاني المختلفة للكلمة منذ نشأتها حتى وقتنا هذا. لقد أنجز الفرنسيون عملا جبارا في هذا المضمار، ولا شيء يمنعنا مبدئيا من القيام بإنجاز مماثل. على أي أساس تختار الكلمة الأولى عند الشروع في إعداد شبكة الكلمات المسهمة؟ قد تكون كلمة سمعتها بشكل عابر في التلفزيون أو في المقهى أو في القطار، فبقيت عالقة بذهني. على سبيل المثال، سمعت كلمة "بلطجي" في حديث تلفزيوني مع أحد الفنانين، فدونتها ثم عملت على التأكد من تعريفها في المعجم: البلطجي: من يقوم بأعمال البلطجة، من اعتداء على الآخرين دون وجه حق، وارتكاب الأعمال المخالفة للقانون، كقطع الطريق على المارة، وإيذاء المواطنين، وإثارة الشغب، وغير ذلك. والآن، يكفي أن أضع كلمة "بلطجي" في الشبكة، في الاتجاه الأفقي، كي تنفتح أمامي إمكانات كثيرة لوضع الكلمات العمودية التي ترتبط بها وتنطلق منها. قد أختار مثلا كلمة "طوباوي"، انطلاقا من طاء "بلطجي"، أو كلمة "طابور"، أو كلمة "طعمية" (فول مسلوق يكبس ويقلى في الزيت). الحق أني أحب كثيرا كلمة "طعمية"، وإن كنت لم أذقها قط! أحبها انطلاقا من قراءتي لأحمد أمين، وطه حسين، ونجيب محفوظ، وإدوار الخراط، وإبراهيم أصلان، وسعيد الكفراوي. يمكن أيضا اختيار علم من الأعلام يبدأ بحرف الطاء، مثل الشاعر الهندي طاغور، الذي يتردد اسمه كثيرا في شبكات الكلمات المتقاطعة في عالمنا العربي، رغم قلة الإقبال على أشعاره. وقد كان لنا في الثانوية أستاذ للعربية كثير الخروج عن المقررات الدراسية، إذ كان يحثنا باستمرار على اكتشاف كبار الشعراء والاطلاع على أشعارهم، وبفضله قرأت بعض قصائد طاغور. أما باء "بلطجي"، فقد تنطلق منها عموديا كلمات عديدة، مثل "بطريرك" (صاحب الرتبة العالية في الكنيسة)، أو "بطريق"، وهو رئيس الروم. وأذكر أني اكتشفت كلمة "بطريق" هذه للمرة الأولى، يوم قرأت هذا البيت الشعري القاسي للمتنبي، متحدثا عن النساء الروميات السبايا: ومن باء "بلطجي" أيضا، قد تنطلق كلمة "بلهارسيا"، ذلك المرض الطفيلي الذي يقتل آلاف الناس (من ضحاياه المرحوم عبد الحليم حافظ). ولست أنسى ذلك الفيلم الذي يؤدي فيه الراحل أحمد زكي دور فلاح مصاب بالبلهارسيا، يحاول أن يكسب بعض القروش من مرضه ذاك، فصار يتردد على كلية الطب كي يفحصه الطلبة، ويتدربوا على جس الكبد المتورمة وأخذ مقاساتها، مقابل بعض القروش. فلما مر الوقت، وتضخمت الكبد وصارت بادية للعيان، أعرض عنه الطلبة، ولم تعد لهم فائدة في فحصه، ففوجئوا به ذات يوم في بهو الكلية، يكشف بطنه المنتفخ، ويصرخ: بلهارسيا ببلاش! يا الله تعالوا! بلهارسيا ببلاش! ماذا عن أسماء الأعلام التي تؤثث الشبكة؟ هل يتم اختيارها مسبقا، أم أنها تفرض نفسها لأسباب تقنية؟ تأمّل معي هذه اللائحة من الأعلام، من بلدان عربية مختلفة، ومن حقول إبداعية وفنية متنوعة: عبد الحليم حافظ، عبد الكريم غلاب، بدر شاكر السياب، أحمد حسن الزيات، صادق جلال العظم، صلاح عبد الصبور، محمد عبد الوهاب، إدريس الشرايبي، توفيق يوسف عواد، إبراهيم الكوني، عبد الرحمن منيف. ليس هناك ما يجمع بين هذه الأسماء المختلفة في الظاهر، رغم أنها تنتمي كلها إلى عالم الفن والإبداع. القاسم الوحيد المشترك بينها هو أن كلا منها يتكون من 13 حرفا، وبالنسبة لي فإن هذا الأمر في غاية الأهمية، لأن الاسم المكون من 13 حرفا سوف يمتد أفقيا من أقصى الشبكة إلى أقصاها، وهو ما يساعد في إقامة شبكة ذات بنيان متين متراص. إن لائحة الأعلام "الثلاثة عشرية" (الذين تتكون أسماؤهم من 13 حرفا) طويلة جدا بطبيعة الحال، بل إنها غير محدودة، فإن أنت سألتني الآن عن أقربهم إلى نفسي وفكري ووجداني، فسأجيبك دون تردد: إدريس الشرايبي. اكتشفت هذا الروائي العبقري بطريقة طريفة حقا، تعود إلى 50 سنة خلت.. سأحكيها هنا بشيء من الإيجاز. كنت آنئذ تلميذا في السادسة عشرة من العمر، أقف مع مجموعة من التلاميذ في ساحة الثانوية، حين جاء صديق لي وأخبرني أن الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو قد مات.. كان ذلك في أبريل/نيسان 1974. اقترح عليّ ذلك الصديق أن نمضي لتعزية أستاذنا الفرنسي، مسيو لومبار، في وفاة رئيسهم. كان مسيو لومبار أستاذ اللغة الفرنسية، وهو باريسي في الثلاثين من العمر، وسيم جدا، ولطيف جدا، وذو أخلاق رفيعة، يؤدي مهمته بإخلاص لا مثيل له، وكنا نكنّ له محبة خالصة. تحمست كثيرا لفكرة التعزية.. كنا نعرف منزل الأستاذ لومبار، ففي مدينتنا الصغيرة، اليوسفية، يعرف الجميع منازل الجميع. أذكر أننا طرقنا بابه في ساعة المغيب.. كان يعيش وحده في ذلك المنزل، وكان جيرانه كلهم أساتذة فرنسيين يُدرسون مثله في الثانوية الوحيدة بالمدينة. أذكر أنه فوجئ حين فتح الباب ورآنا، وأنه زوى حاجبيه مستغربا، وأنه سألنا دون لفٍ عن سبب زيارتنا له.. أخبرناه أننا جئنا لتعزيته في وفاة الرئيس بومبيدو، فشرع في الضحك وقال لنا: "سأكون صريحا معكما، أنا لا يهمني إطلاقا جورج بومبيدو"! إثر ذلك دعانا إلى الدخول، فجلسنا في صالة صغيرة مليئة بالكتب، ومضى هو إلى المطبخ. كان هناك، فوق منضدة صغيرة كتاب "الأيام" لطه حسين مترجما إلى الفرنسية، مع مقدمة طويلة بقلم أندريه جيد. جاءنا مسيو لومبار بشاي بارد من الثلاجة، ورآني أتصفح كتاب "الأيام"، فقال: "هذا الكتاب تحفة أدبية.. تمنيت لو كنت أعرف العربية لأقرأه في الأصل". حدثنا الأستاذ طويلا عن أهمية القراءة، وسألنا إن كنا نعرف إدريس الشرايبي، فأجبناه بالنفي. قال مستغربا: "هذا واحد من أعظم كتاب العالم، وهو ابن بلدكم، ولا تعرفونه؟". وقبل أن نغادر مسكنه، أعطاني أنا رواية "الماضي البسيط" لإدريس الشرايبي، وأعطى صديقي رواية "التيوس" للكاتب نفسه. تلك كانت بداية رحلتي الطويلة مع إدريس الشرايبي.. قرأت "الماضي البسيط" بمتعة لا توصف، ثم اكتشفت تدريجيا أعماله الأخرى، وما زلت أعيد قراءتها بانتظام، وبإعجاب متجدد حتى يومنا هذا. لا أدري ما فعل الله بأستاذنا لومبار.. إذا كان لا يزال حيا، فيكون قد جاوز الثمانين، ولعله نسي كل شيء عن تلك الأمسية البعيدة، التي زاره فيها، في بيته، اثنان من تلامذته، يريدان تعزيته في وفاة الرئيس الفرنسي. أما أنا، فما زلت أتذكر تلك الزيارة بكل تفاصيلها الجميلة. خلال إعداد شبكة الكلمات المسهمة، أحتاج أيضا إلى أسماء تتكون من 14 حرفا، في الاتجاه العمودي. وقد تكونت لديّ، مع مرور السنوات، لائحة طويلة من "الأربعة عشرية"، أو من "العموديين"، إضافة إلى "الثلاثة عشرية" الأفقيين. لائحة "الأربعة عشرية" متنوعة هي أيضا، فيها الكتاب، والشعراء، والرسامون، والموسيقيون، وفيها حتى بعض الطغاة الدمويين، مثل بينيتو موسوليني. إنه اسم موسيقي حقا، مثل معظم الأسماء الإيطالية: بي/ني/تو/مو/سو/لي/ني.. أيُ عذوبة موسيقية تنبعث من هذا الاسم، وأيُ سهولة في النطق والكتابة! أليس هذا كافيا لإدراج هذا الطاغية بانتظام في شبكات الكلمات المسهمة؟ حتى عشيقة هذا الدكتاتور الفاشي تحمل اسما موسيقيا عذبا من 14 حرفا: كلاريتا بيتاتشي. لقد كانت تصغره بنحو 30 سنة، لكن اسمها كان مساويا لاسمه في عدد الحروف. وقد تم إعدام الدكتاتور الدموي وعشيقته الحسناء بالرصاص سنة 1945 قرب محطة للوقود، في قرية ذات اسم موسيقي: جولينو دي ميزيجيرا. علقت الجثتان جنبا إلى جنب، ورأساهما إلى أسفل. كان موسوليني في الثانية والستين من العمر، وكانت كلاريتا في الثالثة والثلاثين. هكذا انتهى زمن الفاشية في إيطاليا، وبقي الاسم الموسيقي للطاغية قابعا في كتب التاريخ، وفي المقررات الدراسية، وأرشيفات التلفزيون، مع ظهور عابر، بين حين وآخر، في شبكات الكلمات المتقاطعة والمسهمة. وفي زمننا هذا، تعيش في إيطاليا واحدة من حفيدات الطاغية، تدعى أليساندرا موسوليني (17 حرفا)، وهي طبيبة وممثلة سينمائية، وسياسية برلمانية، تنتمي إلى اليمين المتطرف، وتدعو إلى عودة الفاشية، مع إعجاب شديد بجدها الطاغية. أليساندرا موسوليني هذه، لها خالة شهيرة، هي الممثلة الإيطالية صوفيا لورين، وقد أبحت لنفسي، من باب التسلية، أن أبحث عن الاسم الكامل لصوفيا لورين، فوجدته هكذا: صوفيا كوستانزا بريجيدا ڤيلاني شيكولوني.. فيا الله على هذه الموسيقى الساحرة التي تنبعث من هذا الاسم الطويل! وما يجذبني شخصيا إلى هذه الممثلة الشهيرة، علاوة على جمالها الآسر وموهبتها السينمائية الكبيرة، أنها كانت من كبار مشجعي نادي نابولي لكرة القدم، في زمن النجوم الذين كنا نعجب بهم في شبابنا غاية الإعجاب: ماسيمو كريبا، وأنطونيو كاريكا (13 حرفا)، وسيلنيزي، ثم مارادونا. وقد انطفأ اليوم بريق نادي نابولي، مثلما اندثر جمال صوفيا لورين، ولم تبق منه بقية. ذلك أن حسن الوجوه حالٌ تحول، كما قال المتنبي في لاميته الشهيرة: زَوّدينا من حسن وجهك ما دام فحُسنُ الوجوه حالٌ تَحولُ وصِلينا نَصِلْكِ في هذه الدنيا فإنَّ المقامَ فيها قليلُ من بين الأسماء "الأربعة عشرية" ذات النبرة الموسيقية، نجد أيضا الروائي الإيطالي الشهير ألبيرتو مورافيا. أنا أحب إدراج اسمه في الشبكة لسهولة كتابته. إنه اسم تتتابع فيه الحروف الصحيحة وحروف العلة بانتظام عذب، ومع ذلك فإني لم أرتح يوما لروايات مورافيا. إعلان لقد كانت أول رواية قرأتها له هي "اللامبالون"، وفيها يقدم صورة قاتمة للبرجوازية الإيطالية في القرن العشرين. من شخوص هذه الرواية التي أتذكرها بوضوح، هناك كلارا التي تقرر القيام بعمل شنيع، فقط لكي تشعر أنها كائن حي! بعد ذلك، قرأت رواية "الامتثالي"، ولم أعجب بها أكثر من سابقتها. أما رواية "الملل" التي تحكي عن فنان تشكيلي يجتاز أزمة وجودية، فقد أصابتني بملل حقيقي! هذه الروايات قرأتها في مطلع شبابي، في ترجمات فرنسية جيدة، ضمن سلسلة "كتاب الجيب". كانت تلك السلسلة ذات طباعة جذابة، بأغلفة جميلة، وأوراق ملونة على الحواف، وكنا نحتفظ بها ونحافظ عليها بشغف، حتى حين لا يعجبنا محتواها، كما هو الشأن مع روايات ألبيرتو مورافيا. شبكات الكلمات المسهمة فيها أيضا مفردات وأسماء بحروف أقل من ذلك.. بأي طريقة تنتقيها؟ بطبيعة الحال، فالشبكة ليست حكرا على "الثلاثة عشرية" أو "الأربعة عشرية"، بل هي مفتوحة أيضا لأصحاب الحروف القليلة. وهناك، بالضرورة، أسماء تتكرر أكثر من غيرها، لهذا السبب أو ذاك. وقبل فترة، توصلت برسالة إلكترونية من أحد القراء، يعاتبني فيها بشيء من القسوة على الإكثار من اسم شويكار في الشبكة.. وأنا لا ألومه، لأنه يجهل علاقة أبناء جيلي بالممثلة المصرية شويكار. لقد كنا نرى فيها نموذجا للعذوبة والدلع والجمال، يضاف إلى ذلك ميلها الفطري إلى الدعابة والضحك، رغم أنها ترملت وهي في سن الثامنة عشرة، وبقيت تعيش مع طفلتها الوحيدة، إلى أن التقت بفؤاد المهندس، الذي سألها بروحه المرحة الأسطورية: "تتجوزيني يا بسكوتة؟"، فكانت تلك بداية حياة مشتركة، استمرت ربع قرن من الزمان. وعلى ذكر "البسكوتة"، فقد عربها المعجميون هكذا: بسكوتة، وهو تعريب يحمده صديقنا عارف حجاوي، لأنه يزيل التقاء الساكنين، وأنا أضم صوتي المتواضع إلى صوت الأستاذ حجاوي. لا شك أن خبرتك الطويلة في هذا المجال قد خلقت لديك فكرتك الخاصة عن معاجم اللغة العربية. ينبغي الإقرار بأن معاجمنا الحالية في حاجة إلى شيء من التنقيح، نظرا لاكتظاظها بالكلمات والمترادفات الرنانة، التي يمكن الاستغناء عنها بالنسبة للأجيال الحديثة. ويمكنني، في هذا السياق، أن أذكر حادثة طريفة وقعت لأبي العلاء المعري، حين زار بغداد في كهولته، فقد دخل مجلس الشريف المرتضى، فعثر برجل، فغضب الرجل وقال: "من هذا الكلب؟" فأجابه المعري: "الكلب هو من لا يعرف سبعين اسما للكلب"! وقد بحث الإمام السيوطي عن هذه الأسماء السبعين للكلب -التي تباهى شيخ المعرة بمعرفتها- وتتبعها في كتب اللغة، فلم يجد منها سوى 60 اسما، جمعها في أرجوزة له بعنوان: "التبري من معرة المعري". مما يقوله السيوطي في أرجوزته، موردا أسماء الكلب: من ذلك: الباقعُ ثم الوازعُ والكلبُ والأبقعُ ثم الزارعُ والأعنقُ، الدِّرباسُ، والعَملَسُ والقُطربُ، الفُرنيُّ، ثم الفَلَحَسُ… لقد كان هذا النوع من التمرين اللغوي شيقا ونافعا في زمن المعري والسيوطي، لكن الأمور تغيرت كثيرا في زمننا هذا، وصار من الضروري أن ننظر إلى لغتنا من زاوية مختلفة، خصوصا أن هناك كلمات أجنبية كثيرة جدا، لا نجد لها مقابلا في لغتنا العربية، مما يشكل عائقا حقيقيا للناطقين بهذه اللغة الجميلة. ثمة كلمات كثيرة تتوارد على الذهن الآن، وسأختار منها واحدة فقط، هي "بيتريكور" الفرنسية (pétrichor)، التي تعني: "الرائحة المنبعثة من الأرض بعد سقوط المطر". الإنجليز أيضا يسمونها بنفس الاسم. ألسنا أولى من الفرنسيين والإنجليز بكلمة جميلة تؤدي هذا المعنى الجميل؟ خصوصا أن الشعر العربي مليء بالقصائد الرائعة عن "البتريكور". تقول الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان: ورائحةُ الأرض غِبَّ عطاءِ المطرْ ونفحُ الشجرْ سأفقده حين تمضي غداً ككلّ جميلٍ وغالٍ لدينا يضيع، يضيع ولا شيء يبقى وفي الشعر العربي القديم، قصيدة خالدة تتحدث عن هذه الرائحة وعما تبعثه في النفس من مشاعر. إنها قصيدة الصمة القشيري، التي يقول فيها: ألا يا حبّذا نفحاتُ نجدٍ وريّا روضه غِبَّ القطارِ أي رائحة روضه بعد هطول المطر. هذا الشاعر، الذي عاش في القرن السادس الميلادي، نشأ في ديار بني قشير، غربي نجد، وقد أحب ابنة عمه، لكنه كان حبا يائسا. ثم إنه التحق بالجيش الذاهب لقتال الديلم، ولعله كان يدرك عندئذ أنه لن يعود أبدا إلى مرتع صباه، وقد مات بالفعل في طبرستان البعيدة في مطلع القرن الثامن الميلادي. لم يكن الصمة القشيري شاعرا مكثرا، لكن شعره جيد رائع، يكفي أن نذكر منه العينية الشهيرة: قِفا وَدِّعا نجدًا ومَن حلَّ بالحمى وقَلَّ لنجدٍ عندنا أن يُوَدَّعا وفي هذه العينية نجد بيتيه الخالدين: وليست عشيّاتُ الحِمى برواجِعٍ إليك ولكن خلِّ عينيك تدمعا كأنّا خُلقنا للنوى وكأنّما حرامٌ على الأيّام أن نتجمّعا وهما بيتان تغنى بهما وديع الصافي، بصوته الجبلي الذي لا يضاهى. وكم كنت أتمنى أن أسمع هذا الفنان اللبناني العظيم يتغنى برائية الصمة القشيري: تمتّعْ من شميم عَرارِ نجدٍ فما بعد العشيّة من عَرارِ ألا يا حبّذا نفحاتُ نجدٍ وريّا روضه غِبَّ القطارِ وأهلك إذ يحلُّ الحيُّ نجدًا وأنتَ على زمانك غيرُ زارِ شهورٌ ينقضين وما شعرنا بأنصافٍ لهنَّ ولا سرارِ إنها قصيدة رائعة حقا، وفيها أيضا معجم لغوي غني، وهذا أمر يحمده من كان مولعا باصطياد الكلمات مثلي، وباقتراحها لاحقا على القراء، مع التعاريف الملائمة: العرار: نبات طيب الرائحة. الريا: الرائحة العطرة. القطار: المطر. غير زار على الزمان: لا تذمه ولا تشكوه، لأنك لم تر منه ما يسوؤك. سرار الشهر: آخره، حين يستسر القمر، أي يخفى. الغريب أن الحبيبة التي تغنى بها هذا الشاعر كانت هي أيضا تسمى ريا، أي الرائحة الطيبة، فهل كان هذا اسمها الحقيقي، أم أن الشاعر هو الذي أطلقه عليها: حننتَ إلى ريّا ونفسُك باعدت مزارَك من ريّا وشِعباً كما معا إنه اسم جميل على أية حال. أما شاعرنا، الصمة القشيري، فمن المؤكد أن "الصمة" كان اسمه الحقيقي. وللصمة معان كثيرة في المعاجم، نذكر منها: الرجل الشجاع؛ الأسد؛ ذكر الحية؛ أنثى القنفذ؛ وكذلك سداد القنينة. تحرص على كتابة شبكاتك اليومية بخط اليد، ألا يمثل ذلك عناء إضافيا بالنسبة إليك؟ لعل ذلك يعود إلى علاقتي الحسية بالكلمات وبأشكالها الفنية. والحق أن ولعي بالخط العربي يعود إلى أيام الصبا والشباب الأول، ففي العشرين من عمري، وأنا طالب بكلية الطب، كنت "خطاطا عموميا". كانت المنحة الدراسية الزهيدة غير كافية لنفقات العيش، فكنت أستعين على الزمن بكتابة أسماء المحلات الشعبية، في حي الفرح، بالدار البيضاء: محلبة الأمل، حمام الشنقيطي، مجزرة الحرية، ميكانيكي الصداقة، خياط الأحباب، مقهى السعادة. كنت أكتري سلما من بائع العقاقير، ثم أصعد عليه وأشرع في العمل. كان بعض المارة يقفون قليلا للتفرج علي وأنا منهمك في الكتابة، وكان معظمهم يتفادون المرور بين السلم والحائط، إذ كانوا يتطيرون من ذلك. وهذه ظاهرة موجودة حتى في الدول الغربية، وقد استغلها شارلي شابلن بطريقة فنية رائعة، حين كانت الشرطة تقتاده إلى السجن، لكنه رفض مع ذلك أن يمر بين السلم والحائط! كان أصحاب المحلات الذين يطلبون خدماتي من الناس البسطاء، ولم يكن أحد منهم يحتج على رداءة خطوطي عند انتهائي منها. ولم تكن تلك الخطوط رديئة تماما في حقيقة الأمر، لكن المتمعن فيها يدرك فورا أنها ليست مكتوبة بيمين محترف، كما قال الشاعر المهجري إلياس قنصل عن بجعة البحيرة: منقارُها المسنونُ لؤلؤةٌ مثقوبةٌ بيمينِ محترفِ كانت قصيدة إلياس قنصل هذه منشورة بمجلة "العربي"، تلك المجلة التي كان لها دور الإنترنت في زمننا، ولا تزال قصائدها وقصصها وأغلفتها الجميلة عالقة بالذاكرة. أما المحلات التي زينتها بخطوطي، في حي الفرح، ثم في حي سباتة، فقد اندثرت اليوم ولم يبق منها أثر: دِمَنٌ تجرّمت بعد عهدِ أنيسها حُجُجٌ خلَونَ، حلالُها وحرامُها لكني بقيت على وفائي للخط العربي، بل إني اتخذت لي مدرّسا للخط في فترة من فترات حياتي. كان ذلك المدرس يزورني في بيتي مرتين أو ثلاثا في الأسبوع، وقد تعلمت منه الكثير، وغاب عني الكثير. أنت كاتب وشاعر أيضا، ماذا يعني أن تكون شاعرا أو قاصا في زمن الذكاء الاصطناعي؟ هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكتب أدبا إنسانيا جديرا بهذا الاسم، في المستقبل القريب، أو حتى في المستقبل البعيد؟ لا أظن ذلك. سوف يسهم الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد في التطور الطبي والتكنولوجي والعلمي، وسوف يمكنه تشخيص الأمراض بكيفية مبكرة، ومن إيجاد العلاج الناجع لهذه الأمراض، وسوف يكون له دور رئيس في الجراحة عن بعد. وباختصار، فإن الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة عظيمة في حياة البشر، في مختلف المجالات، بيد أنه سوف يؤدي، بالمقابل، إلى اختفاء آلاف المهن، سواء الفنية أو التقنية، ويتسبب في الكثير من المآسي العائلية. لي صديق صيدلي، لا حديث له هذه الأيام إلا عن الكوارث التي سيعاني منها البشر في هذا السياق. إن روبوت الذكاء الاصطناعي -يقول صديقي هذا- قد يغضب، وقد يستبد به الغضب إن هو تَعرض للاستفزاز، رغم أنه ليس مبرمجا على الغضب! وإذا غضبَ فقد يخرج عن السيطرة، ويرتكب ما لا تحمد عقباه، بل إنه قد يستولي على السلاح النووي ويشغل الرؤوس النووية! هذه هي النظرة الموغلة في التشاؤم لصديقي المذكور، وثمة الكثيرون ممن يقاسمونه هذه النظرة، ويشاطرونه هذا الخوف. والله وحده يعلم ماذا يخبئه المستقبل للبشرية من مفاجآت مؤلمة أو سارة، في هذا المجال. أما أن يكتب الذكاء الاصطناعي رواية عظيمة أو شعرا عظيما، فهذا -في رأيي المتواضع- ضرب من المستحيل. الإبداع الأدبي لا ينطلق من الفكر وحده أو من العقل وحده، بل ينطلق كذلك من القلب والوجدان، وليس للذكاء الاصطناعي قلب ولا وجدان! أتذكر مشهدا طريفا في مسرحية "مجنون ليلى" لأحمد شوقي. لقد عمل والد قيس بنصيحة العراف، الذي نصحه بأن يذبح شاة وينزع قلبها، ثم يقدم شيئا من لحمها لابنه المجنون، أملا في شفائه. وفي ذلك يقول أحمد شوقي على لسان قيس: وشاةٍ بلا قلبٍ يداوونني بها وكيف يداوي القلبَ مَن مالَهُ قلبُ؟ حين تطلب من الذكاء الاصطناعي أن يكتب لك قصة أو رواية، فإن كل ما يقوم به هو اللجوء إلى مخزونه الهائل من القصص والروايات، ليستمد منه نصا بلا لون ولا طعم ولا رائحة! فهل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يأتي، على سبيل المثال، بمطلع روائي مثل ذلك الذي نقرأه في مستهل "ميرامار" لنجيب محفوظ: "الإسكندرية أخيرا.. الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع (…) ماريانا، عزيزتي ماريانا، أرجو أن تكوني بمعقلك التاريخي كالظن وكالمأمول، وإلا فعَليّ وعلى دنياي السلام"! وهل يستطيع الذكاء الاصطناعي، وهو "عقل" خالص، بلا قلب ولا أحاسيس، أن يأتي بمقطع كهذا الذي نجده في بداية كتاب "النبي" لجبران خليل جبران: "وظل المصطفى، المختار الحبيب، الذي كان فجرا لذاته، يترقب عودة سفينته في مدينة أورفليس، اثنتي عشرة سنة، ليركبها عائدا إلى الجزيرة التي ولد فيها. وفي السنة الثانية عشرة، في اليوم السابع من أيلول، شهر الحصاد، صعد إلى قنة أحد التلال القائمة وراء جدران المدينة، وألقى نظرة عميقة إلى البحر، فرأى سفينته تمخر عباب البحر مغمورة بالضباب، فاختلج قلبه في أعماقه، وطارت روحه فوق البحر فرحا، فأغمض عينيه، ثم صلى في سكون نفسه". طبعا هو لا يستطيع، لأنه يفتقر إلى البعد الروحي الذي يميز الإنسان، حتى وإن كانت "ذاكرته" مشحونة بإبداعات بني الإنسان. ما لأبي حمزةَ لا يَأتينا غضبانَ ألاّ نلدَ البنينا تا الله ما ذلك في أيدينا بل نحن كالأرض لزارعينا ننبتُ ما قد زرعوه فينا وإنما نأخذ ما أُعطِينا وهذا ما ينطبق تحديدا على "إبداعات" الذكاء الاصطناعي.


الجزيرة
٢١-٠٦-٢٠٢٥
- الجزيرة
حين يتحول التاريخ إلى دراما قومية.. كيف تصور السينما الصراع بين باكستان والهند؟
لا تُمارس السياسة نفوذها في أروقة الحكم فقط، بل تمتد بأذرعها إلى الفنون والإعلام، لتُعيد صياغة الوعي الجمعي وتوجّه الرأي العام. والصراعات، مهما كانت جغرافية المنشأ، لا تبقى حبيسة الحدود، بل تجد طريقها إلى الشاشات، لتُصبح جزءا من "حرب الرواية" التي تسعى كل أمة من خلالها إلى ترسيخ سرديتها الخاصة. ينطبق هذا بشكل جلي على الصراع المستمر بين الهند وباكستان، الذي اندلع منذ ولادة الدولة الباكستانية عام 1947، مخلفا 3 حروب كبرى وعددا من المواجهات العسكرية. وعلى مدار العقود، لم تقتصر المواجهة بين الجارتين النوويتين على ميادين القتال فحسب، بل تسللت إلى تفاصيل الحياة اليومية، وكان للفن والسينما دور بارز في تأجيج الشعور القومي وتغذية الانقسام. وكثيرا ما كانت آلة الإعلام موازية لآلة الحرب في الصراعات بين أي بلدين، وينعكس ذلك في الفن والسينما، فالفيلم ليس مجرد قصة، بل خطاب سياسي مموه، ينقل العداء القومي تحت قناع الدراما، ويعيد تعريف الهوية ووضع الحقائق في السياق الذي يخدم صناع السياسة. من بوليود (صناعة الأفلام الهندية) إلى لوليود (صناعة الأفلام الباكستانية)، كان الصراع الباكستاني الهندي حاضرا في صناعة الأفلام، إذ لا يتوقف هذا الصراع، بل يواصل تجذره في اللاوعي الجماعي من خلال الأفلام والسينما. ولم يتوقف الصراع عند تشويه الطرف الآخر، بل وصل إلى تبادل حظر الأعمال الفنية في كلا البلدين، فمنذ عام 1965 الذي شهد الحرب الثانية بين البلدين، بدأ مسلسل حظر الأعمال الفنية، فقد كانت تحظر الهند المحتوى الفني الباكستاني، وتقابله باكستان بنفس الإجراء. وأحدث موجات الحظر المتبادل بين البلدين كانت الشهر الماضي في ظل التوتر العسكري بين البلدين -والذي انتهى في العاشر من مايو/أيار الماضي بعد التوصل لاتفاق وقف لإطلاق النار- حيث حظرت الهند المحتوى الباكستاني. وكانت باكستان قد حظرت المحتوى الهندي منذ عام 2019 بعد أحداث بالاكوت في كشمير وإجراء مماثل من الجانب الهندي. كما شهد عام 2016 أيضا موجة حظر بعد اشتباكات متبادلة على خط السيطرة في كشمير. السينما مرآة الصراع يؤكد صانع الأفلام ووزير الثقافة الباكستاني الأسبق، جمال شاه، أن السينما لطالما كانت مرآة تعكس التوترات والتناقضات التي تشوب العلاقة بين الهند وباكستان. ويقول في حديثه لـ"الجزيرة نت": "لم يكن انفصال باكستان عن الهند حدثا سهل القبول لدى الجميع، فقد خلّف وراءه قضايا عالقة، أبرزها ملف كشمير، إلى جانب مشكلات أخرى لم تُحل. ولهذا، كانت السينما وسيلة فعالة في التعبير عن تلك التناقضات المتجذرة بين الجارتين". ويتابع شاه، الذي يرأس حاليا مركز طريق الحرير الثقافي في إسلام آباد، قائلا: "في بداياتها، لم تكن السينما ذات طابع دعائي، بل كانت أقرب إلى الفن الخالص، تُعنى بالثقافة والترفيه. لكن مع تعقّد العلاقات بين البلدين، بدأت الأفلام، خاصة في الهند، تتبنى خطابا أكثر سياسية، يعكس التوترات القائمة، وينقل رسائل تتعلق بالقضايا الخلافية بين الدولتين". ويشير جمال شاه إلى أن نسبة كبيرة من الإنتاج السينمائي في بوليود تتبنى خطابا معاديا لباكستان، موضحا: "إذا ألقينا نظرة على السينما الهندية، سنجد أن ما بين 30 إلى 35% من أفلامها تحمل رسائل سلبية تجاه باكستان، وغالبا ما تربطها بالإرهاب أو التطرف، في محاولة لتشويه سمعتها أمام العالم". ويضيف أن هذه الأعمال تتعمد تقديم الشخصيات الباكستانية أو المسلمة -حتى وإن كانت هندية- بطريقة نمطية ومبالغ فيها، تظهرهم كأنهم أشرار يتحدثون بلهجات مصطنعة وسلوكيات مشوهة، بعيدا عن الواقع الثقافي والاجتماعي لهؤلاء. ويؤكد أن السينما الباكستانية بدورها لم تكن بمنأى عن هذا التوجه، إذ لجأت في أحيان كثيرة إلى تقديم الشخصيات الهندية على نحو سلبي، في تبادل سردي يعزز العداء ويهمش الحقيقة المشتركة بين الشعبين. من جانبه، يرى صانع الأفلام والمخرج رافع محمود أن هذا الخطاب السينمائي أصبح أكثر وضوحا في عهد حكومة ناريندرا مودي، حيث تحولت بوليود، حسب وصفه، إلى منصة لإنتاج أفلام دعائية تخدم توجهات سياسية معينة. ويقول: "بات من المعتاد أن يظهر في كل عدة أفلام شخصية "الشرير الباكستاني"، أو يتم تشويه صورة المسلمين، خاصة في الأعمال التي تعرض على منصات البث الرقمي، وكأننا أمام سينما دولة تمارس التمييز على أسس عرقية ودينية. وأضاف رافع محمود في حديث للجزيرة نت: "بسبب كل هذه الدعاية الهندية المستمرة من خلال بوليود، أشعر أن الجمهور الهندي بدأ يرى الباكستانيين من خلال عدسة بوليود". ويتابع: في عهد مودي الأخير، استخدمت السينما كسلاح في الهند، وعلى سبيل المثال تدور العديد من أفلام أكشاي كومار وهريثيك روشان حول هزيمة باكستان. ويعتقد محمود أن باكستان لم تكن تنتج أفلاما كافية للدعاية، وخاصة الدعاية الحربية ضد الهند، حتى إن ذلك تضاءل نوعا ما منذ أن أصبح لباكستان أعداء كثر على مستوى الجماعات المسلحة داخل باكستان. ويؤكد رافع، أن باكستان لم تستخدم السينما كوسيلة صراع ضد الهند، لكن الهند استخدمتها باستمرار. تفوق هندي المتابع لقطاعي السينما في كلا البلدين، يلاحظ بشكل واضح أن السينما وصناعة الأفلام الهندية تتفوق على نظيرتها الباكستانية بمراحل، لعدة عوامل، أهمها الميزانيات الضخمة وانتشار السينمات بشكل كبير في الهند، والدعم الحكومي. وفيما يتعلق بالأفلام ذات الطابع السياسي، يقول جمال شاه: "في باكستان، نعم، أنتجنا أيضا بعض الأفلام، لكنها كانت سيئة للغاية مقارنة بالأفلام الهندية، ذات الميزانيات الضخمة، والتي بدت أكثر إقناعا، لكنها لم تكن مبنية على الحقيقة والواقع، لأنها حاولت تنميط الباكستانيين أو المسلمين". ويشير جمال شاه إلى التراجع الحاد الذي تشهده صناعة السينما الباكستانية، بالمقارنة مع جارتها الهند، قائلا إن القطاع يكاد يكون "معدوما" حاليا، رغم الكثافة السكانية الكبيرة في البلاد. ويوضح أن باكستان لا تمتلك سوى نحو 140 إلى 150 دار عرض فقط، في حين تضم الهند ما يقدر بين 40 إلى 50 ألف دار سينما، ما يعكس الفجوة الهائلة في البنية التحتية والدعم المؤسسي. ويرى شاه أن أحد أهم أسباب ازدهار السينما الهندية هو الدعم الحكومي المتواصل. ويقول: "في الهند، يمكن لصانعي الأفلام الحصول على قروض من البنوك لتمويل مشاريعهم، في حين يفتقر صناع السينما في باكستان إلى مثل هذا الدعم المالي والمؤسسي". ويؤكد أن النهوض بالسينما الباكستانية يتطلب استثمارات حكومية كبيرة، ويقدّر أن البلاد بحاجة إلى ما لا يقل عن 3 آلاف دار سينما لتتمكن من بناء صناعة قوية ومستدامة. من جانبه، يعتقد المخرج رافع محمود أن آخر فترة ازدهار حقيقية للسينما الباكستانية كانت بين أواخر العقد الأول من الألفية وحتى عامي 2017-2018، مشيرا إلى أن أحد أبرز أسباب هذا الانتعاش المؤقت كان السماح بعرض أفلام بوليود في دور السينما الباكستانية، ما ساهم في جذب الجمهور وتنشيط السوق. تأثير التوتر الأخير رغم الخلاف الجيوسياسي بين باكستان والهند، إلا أن التقارب الثقافي والعرقي بين البلدين، خلق تبادلا ثقافيا وفنيا بينهما، حيث إن الأفلام والأغاني الهندية رائجة جدا في باكستان وكذلك الأعمال الفنية الباكستانية رائجة في الهند، وهو ما يثير التساؤل حول مستقبل هذا التبادل الثقافي والفني في ظل دمج السياسة في الأعمال الفنية. وفي هذا السياق، عبّر جمال شاه عن خوفه، من أن التوتر الأخير بين البلدين، سيكون له تأثير كبير على قبول الشعب الباكستاني للأفلام الهندية وأيضا أن يكون له تأثير على التبادل الثقافي والفني في الأدب والأغاني والمسرحيات والأفلام. ويتوقع شاه أن الشعب الباكستاني سيرفض المحتوى الهندي بشكل عام لأن المشاعر السائدة معادية لباكستان، ومعادية للمسلمين، حيث سيكون التأثير على جاذبية المحتوى للمشاهد. من جهته يعتقد رافع محمود أن الأفلام التي تعرض في باكستان ستحقق نجاحا أكبر بكثير، لأن هناك شعورا ليس فقط بالوطنية، بل أيضا بملكية الجمهور لكل ما هو باكستاني، ويتابع قائلا إن الهند قد قدمت خدمة جليلة لصناعة السينما الباكستانية وللصناعة الإبداعية في باكستان. وقال محمود إنه يوجه تقديره لكل الذين حاولوا إنجاز أعمال فنية مشتركة بين ممثلين باكستانيين وهنود، لكن يستطرد قائلا، إنه يشعر أن عرض الأفلام الهندية في باكستان سيُمثل إهانة كبيرة للبلاد، لا سيما "كيف تنمرت علينا الهند وعاملتنا وشوّهت صورة المسلمين حول العالم من خلال إعلامها". أبرز الأفلام فيما يلي نستعرض أبرز الأفلام الباكستانية والهندية التي عكست الصراع بين البلدين: "قلب الأسد" (Sherdil) يروي قصة طيار مقاتل باكستاني وهو حفيد طيار قُتل في مواجهات جوية مع الهند، يحقق حلمه في الالتحاق بأكاديمية القوات الجوية الباكستانية، حيث يواجه طيارين هنود في سياق تصعيدات جوية بين البلدين. "الحرية" (Azaadi) فيلم إثارة وحرب يركّز على صراع كشمير، حيث يجسد دور رجل كشميري يكرس حياته للنضال والحرية في كشمير، ويعلم ذلك للأجيال الصغيرة. يستند الفيلم إلى قصة حقيقية حول عملية عسكرية ضد الإرهاب في منطقة سوات بإقليم خيبر بختونخوا شمال غرب باكستان، ويشير الفيلم ضمنيا إلى دعم خارجي من الهند. وقد ساعد الجناح الإعلامي للجيش في إنتاج الفيلم. "الشهيد غازي" (Ghazi Shaheed) فيلم درامي وإثارة يتحدث عن فقدان الغواصة البحرية الباكستانية "غازي" في خليج البنغال، في ديسمبر/كانون الثاني 1971. إعلان الأفلام الهندية "أوري: الضربة الجراحية" (Uri: The Surgical Strike) فيلم أكشن مستوحى من الهجوم المسلح (أوري) عام 2016 على كشمير، حيث يتناول الفيلم رد الهند عبر "ضربة جراحية" ضد "المعسكرات الإرهابية" في الشطر الباكستاني من كشمير. يتحدث الفيلم عن قصة حقيقية لفتاة هندية تعمل في جهاز الاستخبارات الهندي وتتزوج من ضابط باكستاني لتتجسس لصالح الهند في حرب 1971. تدور أحداث الفيلم خلال الحرب الهندية الباكستانية عام 1971، وهو مستوحى من أحداث معركة لونجوالا (1971). "خط السيطرة: كارجيل" (LOC: Kargil) يروي قصة معركة كارجيل عام 1999 بين الهند وباكستان.