
سوريا تبدل الضابط بالشيخ... هل عاد زمان الحسبة؟
عقب انتصار الثورة السورية وسقوط نظام بشار الأسد أواخر العام الماضي، استبشر السوريون خيراً بمرحلة جديدة تمحو ما سبقها من عقود طغيان وديكتاتورية واستئثار بالرأي والقرار والشمولية الفردية في الحكم عبر أجهزة القمع وضباط الاستخبارات والمتنفذين من الشبيحة وزبانيتهم.
حلم السوريون ببناء دولة حديثة وعصرية تقوم على أسس المواطنة والعدالة والحرية واحترام الآخر وسيادة القانون وعقلية الدولة الجامعة التي تحتضن جميع أبنائها تحت السقف الدستوري الضامن لحقوقهم، مستندين إلى كلام رئيسهم الانتقالي أحمد الشرع في غير مناسبة بأن الثورة انتهت مع إسقاط النظام، وآن وقت بناء الدولة بعقلية الجماعة/الدولة، التي ستكون لجميع أولادها.
واقع آخر
لكن الأيام والأسابيع والأشهر اللاحقة للتحرير لم تحمل في طياتها تلك الآمال العريضة، وفي أحيان كثيرة لم تقترب منها حتى، وذلك لعوامل عدة على رأسها الانتهاكات التعسفية التي لم تتوقف، ومشكلات السلطة مع مكونات مختلفة من الشعب بأعراقه وطوائفه، فضلاً عن استبدال مفاهيم السلطة التقليدية بالسلطة الشرعية التي تحكم من خلف الستار مجريات الأمور التي تلامس حياة المواطنين اليومية فتتعدى عليهم بقوة الأمر الواقع، وفي الغالب دونما أسباب منطقية لتصل إلى الضرب والتحقير والإهانة والاعتقال، وخلف تلك الأحداث ثمة شخص يسمى "الشيخ"، مجهول الهوية والوظيفة والدور الفعلي ولكنه قادر على تغيير مسار الأمور في النزاعات والمواقف الفردية أو الجماعية، وهو ما صار جلياً بما لا يمكن التغاضي عنه، فـ"الشيخ" يأمر وينهي وبيده القرار، وهذا الشيخ يتغلغل في مؤسسات الأمن والقضاء والمجالس المحلية وغيرها، وقد لا يكون شيخاً بالمعنى التقليدي أكثر منه لقباً، لكنه يمتلك قدرة البت الفعلي والأمر بالمحاسبة، وهو عرف حمله القادمون المحررون من إدلب معهم إلى دمشق فسوريا بمحافظاتها التي صارت تحت سيطرتهم.
صعود "الشيخ"
انكفاء مؤسسات الدولة الحيوية وتفتتها وتشرذمها عقب التحرير أسهم في صعود دور "الشيخ" كسلطة موازية تحظى بامتيازات خارج القانون المرعي والدستور الناظم، ولا يشترط فيه أن يكون من أهل العلم أو الفقه أو الدراسات العليا، ولا أن يكون رجل دين تقليدياً أو زعيم عشيرة أو منظراً دينياً، قد يكون مجرد شخص عادي يحظى بقاعدة نفوذ مقبولة في محيطه ومحيط السلطة التي تتجاوز عن سلوكياته وتتقبلها في إطار الفوضى القائمة وإيمان عناصر أمنية بشرعية رأيه وصوابيته.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجود هذا "الشيخ" جاء نظيراً للنافذين في مناطق النظام منذ اندلاع الثورة وانكفاء الأحياء والمدن على بعضها، وبات بيده اتخاذ قرارات ما فوق قانونية من اعتقال وتعذيب واستحصال اعترافات وجلد وما إلى هناك، وصولاً إلى تسوية الخصومات والتدخل في قضايا ذات أبعاد قانونية خارج إطار القضاء وقوانينه الرسمية، كما يملك سلطة البت في الأمور المتعلقة بالأموال والممتلكات وتوزيع المساعدات والسيطرة على صناديق الأموال في المجالس المحلية وغيرها، وكلما ابتعد مركز وجود الشيخ عن قلب المدن نحو الأرياف ازدادت صلاحياته ونفوذه.
نريد دولة
برز دور "الشيخ" بوضوح عقب آخر حادثة أمنية إثر تفجير كنيسة "مار إلياس" في حي الدويلعة الدمشقي في الثلث الأخير من يونيو (حزيران) الجاري، حيث واجه الوكيل البطريركي في الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية، الأسقف رومانوس حنات، أحد مسؤولي السلطات الحالية أمام عدسات الإعلام بقوله "ما هذا الذي نعيشه؟ المسؤول عني الشيخ فلان، والشيخ علان، لا يوجد شيء اسمه شيخ، هناك دولة، وإلا فليذهب كل شخص ويفتتح متجراً باسمه".
حمل تصريح الأسقف الكنسي صرخة عالية حظيت بتفاعل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أيدت ما قاله وأثنت عليه، فيما اعترض آخرون بطبيعة الحال عليها، ولكنها بمجمل الأحوال حملت أهمية تنطلق من كونها نابعة عن شخصية كنسية وازنة أجملت اعتراض شريحة واسعة على الطريقة التي تدار بها شؤون البلاد من خلف الستار، عبر شخصيات مجهولة يمكن التهديد بحضورها في أية لحظة.
أن تحتشم أولاً
حمل يونيو الجاري قصصاً مليئة بتدخل "الشيوخ" في تفاصيل الحياة العامة والقانونية، ففي حي القصاع المسيحي في دمشق حاولت أخيراً عصابة خارجة على القانون اقتحام منزل بغرض سرقته، لكن تدخل الجيران حال دون إمكانية إتمامهم مهماتهم، وبعد ذلك أبلغ أصحابه الأمن العام بما حصل لتحضر دورية أمنية وتتولى القيام بعملية التحقيق، تلك الدورية جاءت وعلى رأسها "الشيخ" الذي لا يحمل صفة أمنية واضحة، وفوجئ أصحاب المنزل كما يقولون بطلب غريب، هو أن تحتشم سيدة المنزل في لباسها ليتمكن "الشيخ" من الدخول واتخاذ إجراءاته القانونية، الشيخ قال "لا يمكننا البدء من دون أن تتستر هذه السيدة أولاً".
أصحاب المنزل، الذين لم يرغبوا في التصريح بأسمائهم على رغم تداول القصة على نطاق واسع، أكدوا أنهم مسيحيون، لذا فوجئوا بالطلب الذي اعتبروه غريباً ولم يطلب منهم سابقاً بأية طريقة، سيما وأن السيدة كانت ترتدي لباساً منزلياً عادياً، وهي ليست بعمر صغير.
هيبة الشيخ
بالتزامن، عناصر من الأمن الداخلي اقتحموا منزلاً لأسرة في ضاحية "حرستا" جنوب دمشق، بناء على معلومات وردتهم بأن سكان المنزل الحاليين قد استأجروه من ضابط سابق في قوات الأسد، فقام أحد أفراد الأسرة، وهو مازن حيلاني، بإبراز عقد الإيجار الرسمي المصدق من البلدية الذي يوضح أنهم استأجروا المنزل من شخص لا علاقة له بالسلطة السابقة بأي شكل، وبأن عقد الإيجار سليم بالمطلق ولا يحمل أية شبهات، وفي الأثناء كان مازن يخضع داخل منزله لما يشبه جلسة استجواب أو تحقيق ركزت على طائفته وعمله وميوله ورأيه بالسلطة، وبعد التحقق من أن لا شيء يدينه وأسرته لم تغلق القضية، بل طُلب منه أن يراجع بعد يومين النقطة الأمنية في المنطقة للقاء "الشيخ" والحديث إليه.
لم يستطع مازن بحسب روايته لـ"اندبندنت عربية"، الانتظار ليومين، فقام في صباح اليوم التالي باصطحاب ابن عمه والتوجه للنقطة الأمنية، سمح له بالدخول وحيداً فيما طلب من قريبه المغادرة، وفي الداخل انتظر لأكثر من ست ساعات حتى حضر "الشيخ"، يصف المشهد قائلاً "علمت بحضوره من قبل أن أرى وصوله، فجأة استنفرت النقطة الأمنية وكأنها تقف على قدم واحدة، بدا الجميع متهيباً وصوله، وحين لقائي به اكتفى بالقول: لم يثبت عليك شيء، يمكنك الذهاب ولكن توقع زيارتنا في حال اكتشفنا أمراً غير صحي، واترك عقود الإيجار لدينا هنا".
ويضيف مازن "حقيقة لم أفهم دور الشيخ بين عناصر الأمن أولئك، لكن كان واضحاً جداً مدى الخشية منه ومهابته وتمكنه من الحزم والنهي والأمر والتحكم بأدق مجريات الأمور، ببساطة وبإشارة صغيرة كان يمكنه مصادرة منزلي ولكن الحظ حالفني، لربما كان في مزاج جيد حينها".
موقف السيارة
بعد 11 عاماً من الغربة قرر الشاب خليل العموري زيارة مدينته حلب لبضعة أيام ورؤية أهله، مستبشراً بخير التحرير والعهد الجديد، لكن يومه الأخير في البلاد جاء كما لم يتوقع وما لم ينتظر.
القصة بدأت حين ركن سيارته في أحد شوارع المدينة، ليطلب منه أحد الأشخاص إزالتها، فدخل خليل معه في جدال على إثره تم استدعاء "الشيخ" الذي هدده بالضرب المبرح بعد اعتداءات لفظية كثيرة، وما هي إلا دقائق قليلة بحسب رواية العموري، حتى انهال عليه عدد من العناصر الأمنيين بالضرب والتحقير، قبل أن يصوب أحدهم سلاحه نحو رأسه قائلاً له "سوف أرديك"، حصل ذلك على مرأى ومسمع من شقيق الضحية.
قال خليل "كلما رفعت رأسي لأتحدث كانت الضربة جاهزة، شتائم، إهانات، وصفونا بالشبيحة والخنازير، ووضعونا في أرضية السيارة كأننا أسرى حرب، ثم اقتادونا إلى مخفر قرب جامع الحسن بتهمة النيل من هيبة الدولة، هناك لقينا نصيبنا الإضافي من الضرب والإهانات، وتم تصويرنا كمجرمين قبل إدخالنا إلى غرفة التوقيف من دون وجود تهمة حقيقية، وحين طالبت بعرضي على القضاء جاء الجواب من أحد العناصر: هذا شعب لا يفهم إلا بالدهس".
لاحقاً جرى إخراج خليل وشقيقه مع آثار تعذيب شديدة وواضحة على جسديهما، وذلك عقب زيارة لبلده قد يفكر كثيراً قبل أن يعيدها مرة أخرى.
محكمة الشارع
في قصة مشابهة تعرض الصحافي السوري أمجد الساري لما وصفه بأسوأ موقف تعرض له في بلده منذ التحرير، ذلك الموقف جاء إثر التقاط الصحافي صورة عادية لواجهة السفارة الإيرانية بحي المزة الدمشقي، لكن القصة استطالت واتخذت أبعاداً كبرى لتفضي إلى اتهام الصحافي بالعمالة، وليرزح تحت وابل من الاتهامات الشديدة الأخرى.
لم يكن أمجد يدرك وجود نقطة أمنية قريبة من المنطقة، ولم يقصد من الصورة شيئاً قبل أن يقترب منه أحد العناصر سائلاً إياه عما صوره، مطالباً بتفتيش هاتفه، لكن أمجد رفض قبل أن يأتيه الجواب من العنصر "هل تعتقد نفسك في لاس فيغاس؟"، فأجاب "ولم لا؟ ألا نستحق أن نكون مثلهم؟".
بعيد ذلك بقليل حضر شخصان أمنيان على متن دراجة نارية، أحدهما عرف عن نفسه بأنه من الأمن الدبلوماسي، وطلب هوية أمجد ناصحاً إياه بالتعاون معهم لمساعدته، أجاب "وهل أنا متهم من أجل صورة؟"، فجاءه الرد الصادم "ربما تكون عميلاً للموساد"، وأضاف العنصر "بنظري كل الناس مجرمون حتى يثبتوا العكس".
تحت الضغط قام أمجد بمحو الصورة، لكن التحقيق لم يتوقف، بل استمر وازداد شراسة، وكان على الدوام يتم تهديده باستدعاء "الشيخ"، ولم يتوقف عناصر الأمن عن تهديده "لا نزال متعاونين معك، ولكن إن جاء الشيخ فلن تعلم أي مصير سينتظرك".
تدوير المرحلة
وجود "الشيخ" في أدق مفاصل الحياة المدنية المرتبطة بيوميات الناس ومعيشتهم بات حملاً ثقيلاً يقوض في بعض مناحيه مجرى العدالة الافتراضية والانتقالية في آن، ويكرس صورة الدولة المحمولة على الشريعة، لا على القوانين المدنية بحسب ما يقتضيه علاج كل حالة.
وما استرعى الانتباه أخيراً والاستغراب أيضاً، هو وجود نائب الرئيس للشؤون الدينية في لجنة اختيار رؤساء الجامعات الحكومية، إذ تساءل البعض عن فحوى وجود شخصية دينية في حدث علمي أكاديمي بحتٍ يقدم خدماته لمئات آلاف الطلبة من مختلف المشارب والمذاهب والأعراق، تلك الأشياء كلها حرضت صحفاً غربية لتتساءل عمن يكون "الشيخ" في سوريا، وكيف يحكم من خلف ظلال ستارة الحكم، من دون الوصول إلى نتائج حتمية كافية تبرهن على ضرورة هذا الوجود وهذا القدر من القوة الممنوحة له، فيما يسأل سوريون باستهجان عن إعادة إنتاج الماضي الذي تجاوزوه بصبر، ولكن بصورةٍ أكثر غرابة تعوض الضابط بـ"الشيخ"، وتعوض الرفيق البعثي بالرجل الديني في القرار، ولو على مستوى جامعة علمية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سعورس
منذ 12 ساعات
- سعورس
قريباً.. اتفاقية سلام بين إسرائيل وسورية قبل نهاية العام
وأضاف المصدر في تصريحات لقناة (آى 24) الإسرائيلية مساء أمس أن من شأن هذه الاتفاقية تطبيع العلاقات بين البلدين بشكل كامل، وقال: إن مرتفعات الجولان ستكون "حديقة سلام". وأوضح المصدر أنه "بموجب الاتفاقية المذكورة، ستنسحب إسرائيل تدريجيًا من جميع الأراضي السورية التي احتلتها بعد غزو المنطقة العازلة في 8 ديسمبر الأول 2024، بما في ذلك قمة جبل الشيخ". من جانب آخر، أعلنت سورية أن أجهزتها ضبطت نحو ثلاثة ملايين قرص كبتاغون بعد اشتباك بين قوات الأمن وشبكة تهريب قرب الحدود مع لبنان. وجاء في بيان لوزارة الداخلية السورية أن عملية الضبط أتت بعد "رصد وتعقّب لإحدى شبكات تجارة وتهريب المخدرات القادمة من لبنان إلى الأراضي السورية، عبر المنافذ غير الشرعية في منطقة الجراجير الحدودية". وأشارت الوزارة إلى أن القوات السورية نفّذت "كميناً محكماً على أحد الطرق التي تستخدمها هذه الشبكة، أسفر عن اشتباك بين القوة الأمنية وعناصر الخلية، تمكن على إثره أفراد الشبكة من الفرار". ولفت البيان إلى "ضبط نحو 3 ملايين حبة كبتاغون مخدّرة، إضافة إلى 50 كيلوغراماً من مادة الحشيش المخدّر" في السيارة التي كان يستقلها أفراد الخلية. وشدّدت الوزارة في بيانها على أنها "لن تسمح بأن تكون أراضي الجمهورية العربية السورية ممراً أو ملاذاً لعمليات تهريب وترويج المخدرات". وتمتد الحدود بين لبنان وسوريا على 330 كيلومتراً، وفيها العديد من المعابر غير الشرعية التي تستخدم غالباً لتهريب الأفراد والسلع والسلاح. وأصبح الكبتاغون الذي يتم تصنيعه في لبنان أيضاً، أكبر صادرات سورياً إبان الحرب التي اندلعت في العام 2011. وشكّل بيع هذه المادة المنشّطة وغير القانونية مصدراً أساسياً لتمويل حكومة الرئيس المخلوع بشار الأسد. ومنذ إطاحة الأسد، أعلنت السلطات الجديدة بقيادة الرئيس السوري أحمد الشرع ضبط ملايين من أقراص الكبتاغون، لكنّ التهريب لم يتوقف. ولا تزال الدول المجاورة لسورية تعلن ضبط كميات كبيرة من هذه الأقراص. في وقت سابق من الشهر الحالي، أعلن وزير الداخلية السوري أنس خطاب أن السلطات ضبطت "جميع" معامل إنتاج أقراص الكبتاغون في سورية.


Independent عربية
منذ 21 ساعات
- Independent عربية
سوريا تبدل الضابط بالشيخ... هل عاد زمان الحسبة؟
عقب انتصار الثورة السورية وسقوط نظام بشار الأسد أواخر العام الماضي، استبشر السوريون خيراً بمرحلة جديدة تمحو ما سبقها من عقود طغيان وديكتاتورية واستئثار بالرأي والقرار والشمولية الفردية في الحكم عبر أجهزة القمع وضباط الاستخبارات والمتنفذين من الشبيحة وزبانيتهم. حلم السوريون ببناء دولة حديثة وعصرية تقوم على أسس المواطنة والعدالة والحرية واحترام الآخر وسيادة القانون وعقلية الدولة الجامعة التي تحتضن جميع أبنائها تحت السقف الدستوري الضامن لحقوقهم، مستندين إلى كلام رئيسهم الانتقالي أحمد الشرع في غير مناسبة بأن الثورة انتهت مع إسقاط النظام، وآن وقت بناء الدولة بعقلية الجماعة/الدولة، التي ستكون لجميع أولادها. واقع آخر لكن الأيام والأسابيع والأشهر اللاحقة للتحرير لم تحمل في طياتها تلك الآمال العريضة، وفي أحيان كثيرة لم تقترب منها حتى، وذلك لعوامل عدة على رأسها الانتهاكات التعسفية التي لم تتوقف، ومشكلات السلطة مع مكونات مختلفة من الشعب بأعراقه وطوائفه، فضلاً عن استبدال مفاهيم السلطة التقليدية بالسلطة الشرعية التي تحكم من خلف الستار مجريات الأمور التي تلامس حياة المواطنين اليومية فتتعدى عليهم بقوة الأمر الواقع، وفي الغالب دونما أسباب منطقية لتصل إلى الضرب والتحقير والإهانة والاعتقال، وخلف تلك الأحداث ثمة شخص يسمى "الشيخ"، مجهول الهوية والوظيفة والدور الفعلي ولكنه قادر على تغيير مسار الأمور في النزاعات والمواقف الفردية أو الجماعية، وهو ما صار جلياً بما لا يمكن التغاضي عنه، فـ"الشيخ" يأمر وينهي وبيده القرار، وهذا الشيخ يتغلغل في مؤسسات الأمن والقضاء والمجالس المحلية وغيرها، وقد لا يكون شيخاً بالمعنى التقليدي أكثر منه لقباً، لكنه يمتلك قدرة البت الفعلي والأمر بالمحاسبة، وهو عرف حمله القادمون المحررون من إدلب معهم إلى دمشق فسوريا بمحافظاتها التي صارت تحت سيطرتهم. صعود "الشيخ" انكفاء مؤسسات الدولة الحيوية وتفتتها وتشرذمها عقب التحرير أسهم في صعود دور "الشيخ" كسلطة موازية تحظى بامتيازات خارج القانون المرعي والدستور الناظم، ولا يشترط فيه أن يكون من أهل العلم أو الفقه أو الدراسات العليا، ولا أن يكون رجل دين تقليدياً أو زعيم عشيرة أو منظراً دينياً، قد يكون مجرد شخص عادي يحظى بقاعدة نفوذ مقبولة في محيطه ومحيط السلطة التي تتجاوز عن سلوكياته وتتقبلها في إطار الفوضى القائمة وإيمان عناصر أمنية بشرعية رأيه وصوابيته. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وجود هذا "الشيخ" جاء نظيراً للنافذين في مناطق النظام منذ اندلاع الثورة وانكفاء الأحياء والمدن على بعضها، وبات بيده اتخاذ قرارات ما فوق قانونية من اعتقال وتعذيب واستحصال اعترافات وجلد وما إلى هناك، وصولاً إلى تسوية الخصومات والتدخل في قضايا ذات أبعاد قانونية خارج إطار القضاء وقوانينه الرسمية، كما يملك سلطة البت في الأمور المتعلقة بالأموال والممتلكات وتوزيع المساعدات والسيطرة على صناديق الأموال في المجالس المحلية وغيرها، وكلما ابتعد مركز وجود الشيخ عن قلب المدن نحو الأرياف ازدادت صلاحياته ونفوذه. نريد دولة برز دور "الشيخ" بوضوح عقب آخر حادثة أمنية إثر تفجير كنيسة "مار إلياس" في حي الدويلعة الدمشقي في الثلث الأخير من يونيو (حزيران) الجاري، حيث واجه الوكيل البطريركي في الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية، الأسقف رومانوس حنات، أحد مسؤولي السلطات الحالية أمام عدسات الإعلام بقوله "ما هذا الذي نعيشه؟ المسؤول عني الشيخ فلان، والشيخ علان، لا يوجد شيء اسمه شيخ، هناك دولة، وإلا فليذهب كل شخص ويفتتح متجراً باسمه". حمل تصريح الأسقف الكنسي صرخة عالية حظيت بتفاعل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أيدت ما قاله وأثنت عليه، فيما اعترض آخرون بطبيعة الحال عليها، ولكنها بمجمل الأحوال حملت أهمية تنطلق من كونها نابعة عن شخصية كنسية وازنة أجملت اعتراض شريحة واسعة على الطريقة التي تدار بها شؤون البلاد من خلف الستار، عبر شخصيات مجهولة يمكن التهديد بحضورها في أية لحظة. أن تحتشم أولاً حمل يونيو الجاري قصصاً مليئة بتدخل "الشيوخ" في تفاصيل الحياة العامة والقانونية، ففي حي القصاع المسيحي في دمشق حاولت أخيراً عصابة خارجة على القانون اقتحام منزل بغرض سرقته، لكن تدخل الجيران حال دون إمكانية إتمامهم مهماتهم، وبعد ذلك أبلغ أصحابه الأمن العام بما حصل لتحضر دورية أمنية وتتولى القيام بعملية التحقيق، تلك الدورية جاءت وعلى رأسها "الشيخ" الذي لا يحمل صفة أمنية واضحة، وفوجئ أصحاب المنزل كما يقولون بطلب غريب، هو أن تحتشم سيدة المنزل في لباسها ليتمكن "الشيخ" من الدخول واتخاذ إجراءاته القانونية، الشيخ قال "لا يمكننا البدء من دون أن تتستر هذه السيدة أولاً". أصحاب المنزل، الذين لم يرغبوا في التصريح بأسمائهم على رغم تداول القصة على نطاق واسع، أكدوا أنهم مسيحيون، لذا فوجئوا بالطلب الذي اعتبروه غريباً ولم يطلب منهم سابقاً بأية طريقة، سيما وأن السيدة كانت ترتدي لباساً منزلياً عادياً، وهي ليست بعمر صغير. هيبة الشيخ بالتزامن، عناصر من الأمن الداخلي اقتحموا منزلاً لأسرة في ضاحية "حرستا" جنوب دمشق، بناء على معلومات وردتهم بأن سكان المنزل الحاليين قد استأجروه من ضابط سابق في قوات الأسد، فقام أحد أفراد الأسرة، وهو مازن حيلاني، بإبراز عقد الإيجار الرسمي المصدق من البلدية الذي يوضح أنهم استأجروا المنزل من شخص لا علاقة له بالسلطة السابقة بأي شكل، وبأن عقد الإيجار سليم بالمطلق ولا يحمل أية شبهات، وفي الأثناء كان مازن يخضع داخل منزله لما يشبه جلسة استجواب أو تحقيق ركزت على طائفته وعمله وميوله ورأيه بالسلطة، وبعد التحقق من أن لا شيء يدينه وأسرته لم تغلق القضية، بل طُلب منه أن يراجع بعد يومين النقطة الأمنية في المنطقة للقاء "الشيخ" والحديث إليه. لم يستطع مازن بحسب روايته لـ"اندبندنت عربية"، الانتظار ليومين، فقام في صباح اليوم التالي باصطحاب ابن عمه والتوجه للنقطة الأمنية، سمح له بالدخول وحيداً فيما طلب من قريبه المغادرة، وفي الداخل انتظر لأكثر من ست ساعات حتى حضر "الشيخ"، يصف المشهد قائلاً "علمت بحضوره من قبل أن أرى وصوله، فجأة استنفرت النقطة الأمنية وكأنها تقف على قدم واحدة، بدا الجميع متهيباً وصوله، وحين لقائي به اكتفى بالقول: لم يثبت عليك شيء، يمكنك الذهاب ولكن توقع زيارتنا في حال اكتشفنا أمراً غير صحي، واترك عقود الإيجار لدينا هنا". ويضيف مازن "حقيقة لم أفهم دور الشيخ بين عناصر الأمن أولئك، لكن كان واضحاً جداً مدى الخشية منه ومهابته وتمكنه من الحزم والنهي والأمر والتحكم بأدق مجريات الأمور، ببساطة وبإشارة صغيرة كان يمكنه مصادرة منزلي ولكن الحظ حالفني، لربما كان في مزاج جيد حينها". موقف السيارة بعد 11 عاماً من الغربة قرر الشاب خليل العموري زيارة مدينته حلب لبضعة أيام ورؤية أهله، مستبشراً بخير التحرير والعهد الجديد، لكن يومه الأخير في البلاد جاء كما لم يتوقع وما لم ينتظر. القصة بدأت حين ركن سيارته في أحد شوارع المدينة، ليطلب منه أحد الأشخاص إزالتها، فدخل خليل معه في جدال على إثره تم استدعاء "الشيخ" الذي هدده بالضرب المبرح بعد اعتداءات لفظية كثيرة، وما هي إلا دقائق قليلة بحسب رواية العموري، حتى انهال عليه عدد من العناصر الأمنيين بالضرب والتحقير، قبل أن يصوب أحدهم سلاحه نحو رأسه قائلاً له "سوف أرديك"، حصل ذلك على مرأى ومسمع من شقيق الضحية. قال خليل "كلما رفعت رأسي لأتحدث كانت الضربة جاهزة، شتائم، إهانات، وصفونا بالشبيحة والخنازير، ووضعونا في أرضية السيارة كأننا أسرى حرب، ثم اقتادونا إلى مخفر قرب جامع الحسن بتهمة النيل من هيبة الدولة، هناك لقينا نصيبنا الإضافي من الضرب والإهانات، وتم تصويرنا كمجرمين قبل إدخالنا إلى غرفة التوقيف من دون وجود تهمة حقيقية، وحين طالبت بعرضي على القضاء جاء الجواب من أحد العناصر: هذا شعب لا يفهم إلا بالدهس". لاحقاً جرى إخراج خليل وشقيقه مع آثار تعذيب شديدة وواضحة على جسديهما، وذلك عقب زيارة لبلده قد يفكر كثيراً قبل أن يعيدها مرة أخرى. محكمة الشارع في قصة مشابهة تعرض الصحافي السوري أمجد الساري لما وصفه بأسوأ موقف تعرض له في بلده منذ التحرير، ذلك الموقف جاء إثر التقاط الصحافي صورة عادية لواجهة السفارة الإيرانية بحي المزة الدمشقي، لكن القصة استطالت واتخذت أبعاداً كبرى لتفضي إلى اتهام الصحافي بالعمالة، وليرزح تحت وابل من الاتهامات الشديدة الأخرى. لم يكن أمجد يدرك وجود نقطة أمنية قريبة من المنطقة، ولم يقصد من الصورة شيئاً قبل أن يقترب منه أحد العناصر سائلاً إياه عما صوره، مطالباً بتفتيش هاتفه، لكن أمجد رفض قبل أن يأتيه الجواب من العنصر "هل تعتقد نفسك في لاس فيغاس؟"، فأجاب "ولم لا؟ ألا نستحق أن نكون مثلهم؟". بعيد ذلك بقليل حضر شخصان أمنيان على متن دراجة نارية، أحدهما عرف عن نفسه بأنه من الأمن الدبلوماسي، وطلب هوية أمجد ناصحاً إياه بالتعاون معهم لمساعدته، أجاب "وهل أنا متهم من أجل صورة؟"، فجاءه الرد الصادم "ربما تكون عميلاً للموساد"، وأضاف العنصر "بنظري كل الناس مجرمون حتى يثبتوا العكس". تحت الضغط قام أمجد بمحو الصورة، لكن التحقيق لم يتوقف، بل استمر وازداد شراسة، وكان على الدوام يتم تهديده باستدعاء "الشيخ"، ولم يتوقف عناصر الأمن عن تهديده "لا نزال متعاونين معك، ولكن إن جاء الشيخ فلن تعلم أي مصير سينتظرك". تدوير المرحلة وجود "الشيخ" في أدق مفاصل الحياة المدنية المرتبطة بيوميات الناس ومعيشتهم بات حملاً ثقيلاً يقوض في بعض مناحيه مجرى العدالة الافتراضية والانتقالية في آن، ويكرس صورة الدولة المحمولة على الشريعة، لا على القوانين المدنية بحسب ما يقتضيه علاج كل حالة. وما استرعى الانتباه أخيراً والاستغراب أيضاً، هو وجود نائب الرئيس للشؤون الدينية في لجنة اختيار رؤساء الجامعات الحكومية، إذ تساءل البعض عن فحوى وجود شخصية دينية في حدث علمي أكاديمي بحتٍ يقدم خدماته لمئات آلاف الطلبة من مختلف المشارب والمذاهب والأعراق، تلك الأشياء كلها حرضت صحفاً غربية لتتساءل عمن يكون "الشيخ" في سوريا، وكيف يحكم من خلف ظلال ستارة الحكم، من دون الوصول إلى نتائج حتمية كافية تبرهن على ضرورة هذا الوجود وهذا القدر من القوة الممنوحة له، فيما يسأل سوريون باستهجان عن إعادة إنتاج الماضي الذي تجاوزوه بصبر، ولكن بصورةٍ أكثر غرابة تعوض الضابط بـ"الشيخ"، وتعوض الرفيق البعثي بالرجل الديني في القرار، ولو على مستوى جامعة علمية.


Independent عربية
منذ يوم واحد
- Independent عربية
سوريا تضبط 3 ملايين قرص كبتاغون
أعلنت سوريا أمس الجمعة أن أجهزتها ضبطت نحو 3 ملايين قرص كبتاغون بعد اشتباك بين قوات الأمن وشبكة تهريب قرب الحدود مع لبنان. وجاء في بيان لوزارة الداخلية السورية أن عملية الضبط أتت بعد "رصد وتعقب لإحدى شبكات تجارة وتهريب المخدرات القادمة من لبنان إلى الأراضي السورية، عبر المنافذ غير الشرعية في منطقة الجراجير الحدودية". وأشارت الوزارة إلى أن القوات السورية نفذت "مكمناً محكماً على أحد الطرق التي تستخدمها هذه الشبكة، أسفر عن اشتباك بين القوة الأمنية وعناصر الخلية، تمكن على أثره أفراد الشبكة من الفرار". ولفت البيان إلى "ضبط نحو 3 ملايين حبة كبتاغون مخدرة، إضافة إلى 50 كيلوغراماً من مادة الحشيش المخدر" في السيارة التي كان يستقلها أفراد الخلية. وشددت الوزارة في بيانها على أنها "لن تسمح بأن تكون أراضي الجمهورية العربية السورية ممراً أو ملاذاً لعمليات تهريب وترويج المخدرات". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وتمتد الحدود بين لبنان وسوريا على 330 كيلومتراً، وفيها كثير من المعابر غير الشرعية التي تستخدم غالباً لتهريب الأفراد والسلع والسلاح. وأصبح الكبتاغون الذي يُصنع في لبنان أيضاً أكبر صادرات سوريا إبان الحرب التي اندلعت عام 2011. وشكل بيع هذه المادة المنشطة وغير القانونية مصدراً أساساً لتمويل نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد. ومنذ إطاحة الأسد، أعلنت السلطات الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع ضبط الملايين من أقراص الكبتاغون، لكن التهريب لم يتوقف. ولا تزال الدول المجاورة لسوريا تعلن ضبط كميات كبيرة من هذه الأقراص. وفي وقت سابق من يونيو (حزيران) الجاري أعلن وزير الداخلية السوري أنس خطاب أن السلطات ضبطت "جميع" معامل إنتاج أقراص الكبتاغون في سوريا.