logo
فيروز وزياد الرحباني: حكاية أمّ وابن وشراكة فنّية استثنائية

فيروز وزياد الرحباني: حكاية أمّ وابن وشراكة فنّية استثنائية

النهار٢٨-٠٧-٢٠٢٥
كان مفاجئاً أن تُغنّي فيروز موسيقى "الجاز". بروح المغامرة التي دفعت بها مع الأخوين رحباني نحو خطّ موسيقي حداثي في خمسينيّات القرن الماضي، خلافاً للنمط الفنّي السائد، دخلت فيروز غمار التجربة الجريئة مع ابنها زياد الرحباني.
نسمة خفيفة اجتمعت بثقل السؤال الوجودي حين تشتدّ صراعاته. لقاء بين صوتٍ يهمس للأفئدة وعقلٍ يسكنه التمرّد. هكذا ولدت الشراكة الفنّية بين الأمّ وابنها، هي التي قالت عنه ذات مقابلة إذاعية: "زياد عبقرية فنّية أخذت ملامحها من رأيه في الحياة الإنسان والوطن والشعب"، وترنّمت بأرجوزة لأعرابيّةٍ في وصفها ابنها:
"يا حبّذا ريحُ الولد
ريحُ الخزامى في البلد
أهكذا كلّ ولد؟
أم لم يلد مثلي أحد؟"
لم يكن التعاون الفني مجرّد امتداد طبيعي لتراث عاصي ومنصور وفيروز، بل كان زلزالاً إبداعياً أعاد رسم الحدود بين الخطّ التقليدي والتجديد المحفوف بالخطر وبين الشجن والحنين والوعي الطبقي، واستكمالاً لمسيرة بدأها زياد بلحن "سألوني الناس" في مسرحية "المحطة" (1973).
لمّا أمسك زياد الرحباني بزمام التأليف والتلحين لفيروز بعد انفصال فيروز عن الأخوين رحباني، خلع عباءة التلميذ المطيع في مدرسة أبيه. كان ابن الحالة الفنّية العنيفة والمُجدّدة، وابن لحظة ملتهبة، وفنّ عميق ببساطته يبحث عن هويته. أدخلها إلى المقاهي وحارات الناس المهمّشين، حيث يُغنّى الحرمان ويُقذف بالنفاق المجتمعي، فغنّت مثلاً "صبحي الجيز". وتوالت الأغنيات التي قيل يومها إنّها لا تُشبه فيروز المقدّسة في الذاكرة الجماعية؛ ولعلّ "كيفك إنت" كانت أشدّها غرابة، حتّى أنّ فيروز نفسها تردّدت قبل غنائها.
غيّر زياد من صورة فيروز التي رسمها لها الأخوان، من دون أن يخدش النقاء والحياء. كان يعرف تماماً أين ينتهي السياج الذي نصبته السيّدة، وأين يمكن خرقه. وهي آمنت به وكانت تقول: "زياد تحوّل من ولد ملك أب اسمه عاصي وأمّ اسمها فيروز إلى فنان كبير. كلّ لحن لزياد مستعدّة أن أغنّيه لأنني أتعامل مع فنّان كبير. هو حدث مهم على صعيد الأغنية العربية".
في "معرفتي فيك"، "صباح ومسا"، "شو بخاف"، وغيرها، غنّت فيروز تلبّك الحبّ، والغضب والخذلان، وذلك الحب الناضج بنضج مآسيه. وزياد مارس بموسيقاه تفكيك الصورة النمطية لأمه ليكشف وجاً آخر لها، ويقول وإيّاها إنّ فيروز يمكنها غناء "الجاز" وتحدّي التقليدي.
لقاء زياد وفيروز سبّب صدمة لدى بعض جمهورها. من كان يتوقّع أن تغني "حاج تنفّخ دخنة بوجّي ولو بتدخّن لايت"، أو "كيف إنت؟ ملّا إنت!"، أو "حبّيت ما حبّيت ما شاورت حالي"، وقبلها جميعها "في واحد هو ومرته، ولو شو بشعة مرته!". من كان يتوقّع أن تُعيد تسجيل ترنيمتها الأيقونية "يا مريم البكر" على إيقاع "الجاز"، وتُهدي عاصي الرحباني باقة من أُغنياتها بحلّة متجدّدة في ألبوم "إلى عاصي"؟ لكن الصدمة كانت ضرورية لتشهد على تحوّل الفن من الملاذ الآمن. ولهذا السبب، فإنّ هذه المرحلة من مسيرة فيروز لا تزال تُناقش، بحُبّ وانتقاد.
ما فعله زياد الرحباني في ألبومات "وحدن" (1979) "معرفتي فيك" (1987)، "كيفك إنت" (1991)، "إلى عاصي" (1995)، "مش كاين هيك تكون" (1999)، "ولا كيف" (2001)، و"إيه في أمل" (2010) هو أنه نقل صوت فيروز من رومنسية الجبل إلى وحشيّة المدينة. لم يكسر صورتها، بل حرّرها من جمودها، وفتح باباً لتكون فنانةً لكلّ الأزمنة.
والجمهور سيظلّ يستذكر زياد كلّما سمع فيروز تُغنّيه. والذين أحبّوا الأم وابنها أفرحتهم صورة العائلة وقد لمّت شملها في قدّاس بذكرى الكبير عاصي قبل ثلاثة أعوام. وفي الصورة سرّ من أسرار حبّ الجمهور لهذا البيت، وفيها دفء وحبّ ومودّة. فيروز، ريما، وهلي... وزياد "ركب عربيّة الوقت" وسافر وحده للقاء عاصي وليال. و"دايماً بالآخر في آخر... في وقت فراق".
كادر: غيّر زياد من صورة فيروز التي رسمها لها الأخوان، من دون أن يخدش النقاء والحياء.
زياد وفيروز بعدسة ليال عاصي الرحباني.
'شاويش' مع فيروز ووليم حسواني في 'ميس الريم'.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

عن آخر جيل عاصرَ زياد
عن آخر جيل عاصرَ زياد

النهار

timeمنذ 12 ساعات

  • النهار

عن آخر جيل عاصرَ زياد

كنتُ في الخامسة من عمري، أصعد على طرف كنبةٍ في غرفة الجلوس، وأخي، الذي يصغرني بعام، يقف على الطرف المقابل، كأنهما خشبة مسرح. نفرغ وسائد الكنبة ونكدّسها في وسط الغرفة كجمهورٍ صامتٍ، ونبدأ العرض. يناديني فيروز، وأناديه كحلون. أسماءٌ أخذناها من مسرح الرحابنة. نغنّي من مسرحيّة ميس الريم، ما حفظه طفل في سنواته الأولى، لا أذكر منها شيئاً إلا خفّة اللحن وبهجة الارتجال. لا نصّ مكتوب، لا ستار يُسدل، ولا أضواء، فقط أصواتُنا الرقيقة، وغرفة جلوس باتت مسرحاً وليداً من خيال طفلين نشآ على أغاني فيروز وزياد يسمعانها عبر إذاعة صوت الشعب، في كاسيتات والدهما، أو في مظاهرة تسير من شارع الحمرا على ألحان زياد وكلماته. هذا ما بقي في الذاكرة... ويكفي أنّ طفولة غنّت زياد قبل أن تفهم الكلام. كبرت، ولم أعد فيروز التي أحببتها في لعبتنا، بل فتاة تبحث عن وطن، فوجدت زياد. كبرت وأصبح زياد رفيقي في رحلة البحث عن معنى. صباح سبت عادي، استيقظت أتصفح هاتفي، لأجد رفيقاً قد أرسل في مجموعة "اتحاد الشباب الديمقراطي" على واتساب صورةً لزياد، مرفقةً بعبارة: "وداعًا زياد". أسأله بدهشة: "مات؟" فيردّ: "راح الغالي". في هذا الصباح، توقّفت الموسيقى، خفت صوت المسرح وبقي الستار مفتوحاً أمام عيونٍ تنوحُ بصمتٍ. رحل زياد، رحل من كتب الحياة ولحّنها وغنّاها، "راح رفيقي وما قلّي شو بقدر أعمل لملايين المساكين". تركنا زياد، ترك الفقراء والمساكين يمضون وحيدين تحت رحمة تجّار المال وحرس السلطان "وبيبقوا جماعة بسطا وطيبين على نيّاتن صمدوا وغلبوا". تركنا معلّم الحبّ، وأوّل مدرّسيه، وأصدق من أحبّ حباً "بلا ولا شي". "هيك بتعمل هيك؟". مات زياد، وماتت "فيروز" الطفلة التي كانت ترتجل على الكنبة، ومات المسرح في البيت الشيوعيّ. وماتت الوسادة التي كانت تصفّق لنا صمتًا. أستيقظ اليوم على صوته يقول: "في عيون بتبكي ولا أرى أمامي سوى عيونه. عيونه "مش فجأة بينتسوا"، عيون زياد التي حُفرت تجاعيدها من قهر بلادنا، تعب الكادحين وعرقهم من أجل رغيف الخبز. عيون زياد التي لم تحتمل حرب غزّة، فقرّر للمرّة الأولى أن لا يعارك، أن لا يغنّي ولا يشتم ولا يحفر لحناً في جدران الضجيج. وكأنّه يعتذر إلينا، ويقول "أنا صار لازم ودّعكن". أسأل نفسي كيف كانت بروفته الأخيرة؟ ما كان آخر لحن دوّنه؟ هل كان يعرف أننا أحببناه إلى هذا الحدّ؟ رحل بوصلة الشيوعيّين، وصوت الشعب، ومن جعل من كل القضايا موسيقى سياسية واجتماعية، ساخرة حينًا، ودامعة كثيرًا؟ "الحالة تعبانة يا ليلى وكتير" لأن "رفيقي تركني عالأرض وراح" لأن رفيقي، الذي أعطاني معنى الأغاني، "راح"...

02 Aug 2025 11:41 AM ONE FM تخصص كل نهار أحد عند الساعة ٧ مساءً: "سهرية مع زياد الرحباني"!
02 Aug 2025 11:41 AM ONE FM تخصص كل نهار أحد عند الساعة ٧ مساءً: "سهرية مع زياد الرحباني"!

MTV

timeمنذ يوم واحد

  • MTV

02 Aug 2025 11:41 AM ONE FM تخصص كل نهار أحد عند الساعة ٧ مساءً: "سهرية مع زياد الرحباني"!

تكريمًا لمسيرة فنية استثنائية، قررت ONE FM أن تُبقي نبض زياد الرحباني حاضرًا في قلوب محبّيه، من خلال فقرة أسبوعية بعنوان "سهرية مع زياد الرحباني"، تُبث كل يوم أحد بين الساعة 7 و8 مساءً. في هذه الساعة، نعود إلى زمن الفن الحقيقي، إلى الكلمات الساخرة واللحن المختلف والرؤية المتفرّدة التي ميّزت زياد. وتُعرض خلالها باقة من أجمل أعماله، سواء من أرشيفه الغنائي الخاص أو من الألحان والمسرحيات التي قدّمها لغيره، بأسلوب يبقي روحه حيّة بيننا. ليست مجرد فقرة إذاعية، بل مساحة أسبوعية للتأمّل، للضحك، للنوستالجيا، وللغوص في عالم فني لا يشبه سواه. "سهرية مع زياد الرحباني" هي موعد لعشّاق الاختلاف، لمحبّي الكلمة الموزونة، ولمن يعتبر أن زياد كان – وما زال – مدرسة فنية قائمة بذاتها.

مسرح زياد الرحباني نافذة السوريين على الحرية والتغيير
مسرح زياد الرحباني نافذة السوريين على الحرية والتغيير

النهار

timeمنذ يوم واحد

  • النهار

مسرح زياد الرحباني نافذة السوريين على الحرية والتغيير

شكّلت مسرحيات زياد الرحباني وعياً مختلفاً عند العديد من السوريين الذين عانوا من تجهم عروض المسرح الرسمي، أو ما كان يدعى بالـ "المسرح الجاد" في بلادهم، فوجدوا في تلك العروض مذاقاً مختلفاً لحرية تعبير افتقدوها. حرية لم تكن تستورد نصوصاً من المسرح العالمي كي تسقطها على أوجاعهم واختناقهم المزمن من سلطات القمع والاستبداد. صحيح أن العديد من السوريين لم يحضروا زياد على المسرح، بل تعرفوا على عروض من مثل: "سهرية" و"نزل السرور" و"فيلم أمريكي طويل" عبر أشرطة كاسيت. في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت تركت هذه الأشرطة أثراً لن يمحى بسهولة من ذاكرة جيل شبَّ على نبرة لمسرح سياسي ساخر، ومهد الطريق أمام وعي مصادر من السلطة بقيم العدالة والكرامة والمساواة. وإذا كانت مسرحيات زياد هي النافذة التي أطل منها حطام الطبقة الوسطى في سوريا على حرية التعبير لأول مرة، إلا أن أغنياته جسدت كذلك أحلام ذلك الحطام البشري. لقد نقلت أغنيات من مثل "اسمع يا رضا" و"بما إنو" و"ضحية الحركة الثورية" مزاجاً مغايراً لأغنيات التغني بالأوطان وبالقائد وفداء حياة الرئيس بالأرواح والدماء. كانت سردية زياد الرحباني هي الأقوى والأكثر طزاجةً لاسيما في أوساط مثقفين وجدوا في "شي فاشل" و"بالنسبة للكرامة والشعب العنيد" ما يشبه "مانفيستو" ثوري. بيان غير معلن وعصيّ كشفه على أجهزة الاستخبارات وأقبية سجونها المظلمة، وبل كان عصياً على كل أدوات الترهيب الدموي الذي كرّست مجسات الرقابة البعثية وهيمنتها على كل وسائل التعبير. من هنا جاء مسرح زياد وأغنياته مختلفاً حتى عن الأغنيات والمسرح الرحباني بطابعه الكلاسيكي في عهد عاصي ومنصور، فلأول مرة شعر السوريون أن لهم ما يقابل أغنيات اليسار المصري التي تجسدت فيما قدمه الشيخ إمام وشاعره أحمد فؤاد نجم. لأول مرة يصبح لدى شرائح واسعة من مثقفين ومناضلين وشعراء رمزاً لأحلامهم بالحرية والسخرية من السلطة على الملأ. طبعاً مع فارق واحد أن السوريين الذين تعلقوا بأغنيات وموسيقى ومسرحيات زياد لم يكونوا بعد قد اختبروا أهوال حرب أهلية بعد، ولم يخوضوا في مشاهد الذبح على الهوية، ولم تنقسم بلادهم إلى دمشق غربية وأخرى شرقية. لقد كان من الصعب المقارنة بين دمشق الواقعة تحت القبضة الأمنية سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، وبين ما آلت إليه فظائع الحرب في لبنان في تلك الفترة. كان يكفي فقط أن تمهد مقطوعات زياد لوعي فني مختلف، وهو وعي لم يكن العديد من المثقفين والفنانين السوريين ليطلعوا عليه في زمن الفِرق السيمفونية المتجهمة أيضاً، والتي دأب مؤسسوها على اجترار مؤلفات بيتهوفن وباخ وموزارت دون أي رغبة في التجديد، أو الخروج عن القوالب الصارمة. في تلك الأثناء شكّلت مقطوعات من مثل "أبو علي" و"بالأفراح" صدمة عند قطاع كبير من السميعة، مما كان لهذه المقطوعات من تجديد على أكثر من مستوى، إذ أن زياد -وبعبقرية استثنائية- نجح دونما تكلف في دمج مقامات الموسيقى الشرقية مع قوالب غربية، ومزج بمهارة بين الدور والموشح والطقطوقة وبين الجاز والبلوز والفانك والروك، وتحرر نهائياً من السجع الموسيقي واللازمة التقليدية في الأغنية العربية. هكذا ضرب زياد كل التصورات البكائية السائدة عن قوالب أغاني الأجداد، كما نسف بقوة الصبغة التراثية الرتيبة عن الموسيقى العربية، ووجد العديد من عشاق الطرب التقليدي أنفسهم وجهاً لوجه مع توليفات مقامية غاية في الجِدة والحياتية. موسيقى نهلت من إيقاع اليومي دون أن تنحدر إلى الابتذال والشعبوية. كان هذا أشبه بزلزال عند موسيقيين ومثقفين سوريين وجدوا في المقترح الرحباني الجديد مساحة مختلفة للتعبير، وأسس فيما بعد لاشتغال عشرات منهم مع الرحباني الابن، لاسيما في الموسيقى التصويرية التي وضعها زياد عام 1985 لفيلم "وقائع العام المقبل" لمخرجه سمير ذكرى. تلك الموسيقى التي حققها زياد تحت قذائف الحرب الأهلية في بلاده، فكانت فاتحة الهطول للتعاون مع جيل جديد من الموسيقيين السوريين، لاسيما الأكاديميين منهم، والذين وجدوا في مختبر زياد فرصة للخروج على المدرسية الصارمة في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، والتي كان قد عممها أساتذة المعهد الدمشقي على طلابهم فاصلين بقسوة بين موسيقى غربية كلاسيكية وأخرى شرقية مطرودة من منهاج الأكاديمية السورية. هكذا وجد موسيقيون سوريون ضالتهم، وأبدلوا اجترارهم المزمن لسيمفونيات "القدر" و"بحيرة البجع" و"كارمينا بورانا" بموسيقى ذات رحابة في استيعابها لكل قوالب التأليف والارتجال والخروج على عصا المايسترو. لقد شق زياد عصا الطاعة هذه، وأبحر نحو أرشيف موسيقى الشعوب دونما تزلف أو مجاملة لأي مسطرة أو قياس قديمين. لم يكن تغيير عادات التلقي بالأمر السهل، فلقد بذل زياد سنوات طويلة وهو يحاول تمرير موسيقاه عبر الأغنية، فالأذن العربية ذات الطابع الشفاهي اعتادت على أغراض الشعر القديم من غزل وهجاء ومديح وحماسة، وكان من الصعب تغيير نواميسها وهدم جِرسها العتيق. كما كان من الصعب الانتصار للموسيقى الآلية دونما غناء، وهذه أيضاً تحايل زياد عليها بمقدمات موسيقية لافتة مررها قبل الغناء وأثنائه. تنويعات إيقاعية محكمة لدى مؤلفات الرحباني جعلت من الكلام أداة مختلفة للتعبير عن العصر الجديد. وربما هذا ما أخذ وقتاً من الموسيقار اللبناني لإقناع جمهور السميعة الجديد به، والخروج من عادات الاستماع القديمة نحو مزاج يسوده المرح والتهكم. حدث ذلك حتى مع السيدة فيروز التي يقال إنها تمنعت كثيراً قبل أن تذعن لمشيئة المؤلف، وتنشد له "كيفك أنت". الأغنية التي جعلت فيروز تخرج من طقوس الأغنية الرعوية إلى مناخ المدينة وصخبها وعلاقاتها المتناقضة المزمنة. هذه الاشتغالات العديدة في تكسير قوالب المشاهدة والاستماع والتأليف الموسيقي ستراكم آثارها في وجدان الجمهور العربي والسوري خصوصاً، ليس فقط عند سواد هذا الجمهور، بل عند مثقفيه وفنانيه، وستجعل من زيارة زياد إلى دمشق عام 2008 حدثاً أسطورياً لدى هذا الجمهور. ربما كانت الملامسة الأبرز بين زياد وجمهوره الشامي، وذلك عندما قدم حفلته على المسرح المكشوف لقلعة دمشق بمناسبة إعلان المدينة عاصمة للثقافة العربية. لا يمكن حتى الآن نسيان ردة الفعل التي انتابت الجمهور، وكيف هرع الناس إلى حجز بطاقاتهم قبل أسبوعين من إعلان موعد الحفلات. آلاف تزاحموا على شباك تذاكر دار الأوبرا لحضور حفل صاحب "هدوء نسبي" بعد سنوات من القطيعة، فها هو الرجل الذي احتفظ جيل الآباء بأشرطة كاسيت مسرحياته يطل أمام أبنائهم بشحمه ولحمه جالساً إلى البيانو. مشهد لن يغيب من ذاكرة العديد من السوريين الذين لطالما شكّل زياد جزءاً خاصاً من ذاكرتهم، فدمشق القديمة وحدها ما زالت حتى الآن تطلق عناوين أغنياته ومسرحياته على مطاعم ومقاهي وصالات عرض تشكيلية، ومنها صالة "عالبال" و"صباح ومسا" و"نزل السرور" و"سيرينا". أماكن يعرفها جيداً من دلف إلى دهليز الحارة الشامية، كما يعرف ويرى تلك المشغولات اليدوية التي تنتشر في جنبات البلدة القديمة وتحمل صور زياد وكلمات من أغنياته ومسرحياته. حفلة قلعة دمشق التي تم تمديدها لخمس أمسيات بحضور جماهيري حاشد كان يفوق الوصف، إذ تميزت بأن موسيقيين ومغنيين ومغنيات سوريين شاركوا فيها، فأطلت كل من ليندا بيطار ورشا رزق وشادي علي كي يشاركوا في أداء معظم الأغنيات التي كان قد سمعها الجمهور بصوت فيروز وجوزيف صقر وسامي حواط. الأمر الذي دفع زياد لمخاطبة الجمهور تعليقاً على مرافقته بالغناء قائلاً: "جينا نسمّعكم، طلعنا عم نسمّعلكم". لم يكن هذا الشغف الذي استقبل الجمهور السوري به فناناً مثل زياد غريب عنه، فلقد أسس طلبة سوريون منذ ستينيات القرن الفائت نوادي عشاق الرحابنة، وكان أبرز تلك النوادي مقره في مبنى جامعة دمشق، وكان أعضاؤه من نخبة رجال وسيدات دمشق اللاتي كن يطلقن على أنفسهن لقب "الفيروزيات"، وكان يشترط على منتسبيه أن يكونوا من حفظة الأغنيات والمسرحيات الرحبانية. عام 2016 كان حضور الجمهور السوري للنسخة السينمائية من مسرحية "بالنسبة لبكرا شو؟" لافتاً في صالة "سينما سيتي" في دمشق، فما إن طرحت تذاكر الفيلم الذي أنتجته شركة "أم ميديا" في الأسواق، حتى اندفع مئات من الشباب والشابات لحضوره، مما طرح أسئلة كثيرة وقتها عن أسباب عدم وجود عمل سوري واحد يستطيع تحقيق إجماع لدى كل السوريين، كما هو الحال لدى أعمال زياد الرحباني. هذه الأعمال التي كانت تهز وجدان العديد من مناضلي اليسار أصبحت اليوم إرثاً موسيقياً ومسرحياً للعديد من المشتغلين في الحقل الفني السوري، ولقد تركت أثرها على ملامح الحياة العامة وأوساط الطلبة، لاسيما في مدن مثل دمشق واللاذقية وطرطوس وحمص وحلب، فوجد العديد من هؤلاء عزاءً لهم إزاء قحط المخيلة الذي يواجههم في معظم عروض المسرح وحفلات السينما والموسيقى، ولتكون أغنيات من مثل "تلفن عياش" و"بلا ولاشي" و"أنا مش كافر" نوعاً من التعويض عن مرارة عميقة من فقدان الأمل بالغد، والتضييق المتفاقم على الحريات العامة في البلاد. وكما لعبت إذاعة دمشق دوراً في انطلاقة الأغنية الرحبانية منذ ستينيات القرن الفائت، ساهمت أيضاً "إذاعة شام إف إم" في تكريس فترات بث صباحية ومسائية حتى للبرامج التي حققها زياد مع إذاعة "صوت الشعب" اللبنانية، ومنها برامجه "العقل وزينة" و"تابع لشي" و"نص الألف"، وجميعها جرى إسقاطها على واقع الحرب السورية، إذ تتوج ذلك عام 2019 باستضافة الإعلامية هيام حموي لزياد الرحباني شخصياً في استوديوهات الإذاعة السورية. تلك الزيارة كان قد سبقها حدث كبير في علاقة زياد بجمهوره السوري، فراديو الموجة القصيرة الذي بنى شعبيته على تناص مع أغنيات ومسرحيات الحرب الأهلية اللبنانية، مسقطاً حواراتها الساخرة على حال البلاد، أعطى مؤشراً خطيراً على جدب المخيلة السورية وشللها المزمن عن التعبير بطلاقة عن الواقع المعقد للبلاد.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store