
آن أوان الإصغاء لصوت الاعتدال؟
السياسة الأميركية في المنطقة، وعلى مدى عقود، انطلقت من فرضيات أمنية مبنية على احتواء التهديدات لا دعم الاستقرار، وعلى إدارة الأزمات بدلاً من بناء المؤسسات. فبينما ساهمت الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا في بناء تحالفات دائمة ومنظومات تعاون مستقرة، لم تُمنح شعوب الشرق الأوسط الفرصة نفسها، بل بقيت واشنطن تتدخل كلما انفجرت أزمة، وتنسحب حين تحتاج الدول إلى شريك حقيقي في التنمية والسياسة والدبلوماسية. والنتيجة، تاريخ طويل من اللحظات العابرة من السلام تتلوها موجات شرسة من الفوضى.
سابقاً، إيران استثمرت في هذا الإرباك عبر شبكة من الوكلاء، من لبنان إلى اليمن، ومن سوريا إلى غزة. ومع كل محاولة من واشنطن لاحتوائها، كانت تجد في تلك المقاربات فرصة للتكيف والتمدد؛ فالاتفاق النووي الذي وُقع عام 2015 كان ترجمة لفكرة أن الإدماج يمكن أن يحل محل التصعيد.
بالتوازي، تبرز قوى إقليمية جديدة أكثر وعياً بمصالحها، وأشد واقعية في سياساتها. السعودية، التي كان ينظر لها في بعض الدوائر السياسية المتحيّزة ضمن صورة نمطية ضيقة باعتبارها مجرد حليف نفطي أو أمني، لكنها اليوم أثبتت أنها أحد أهم النماذج في الشرق الأوسط التي تمتلك رؤية ناضجة عززتها إصلاحات داخلية واستراتيجية صلبة على مستوى السياسات الخارجية ساهمت في خلق مناخات إقليمية من الاعتدال، والانفتاح، والتدرج، والتوازن بين المصالح الوطنية والمبادئ الكبرى وعلى رأسها المواطنة والسيادة.
عكست الرؤية السعودية الجديدة في مقاربتها للنزاعات في المنطقة تدشين نافذة جديدة تعتمد على فلسفة تصالحية منضبطة، لا تقوم على الإذعان أو التسويات الشكلية، بل على ثلاث ركائز واضحة: أولوية التنمية باعتبارها المظلة الوحيدة للاستقرار، واحترام مبدأ السيادة الوطنية كخط أحمر في العلاقات الدولية، والاستثمار في المواطنة لا سيما في الأجيال الشابة، بوصفها العمود الفقري لأي مستقبل إقليمي متماسك. هذا النهج الذي رسخه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وترجمه إلى مبادرات وجهود حثيثة آتت أكلها وليُّ العهد الأمير محمد بن سلمان، لم يكن يعتمد فقط على الموازنة بين القوة والدبلوماسية، بل أعاد تعريف مفهوم الاستقرار من تصفير النزاعات واستبداله بـ«قوة التنمية».
الفرصة اليوم متاحة لإعادة بناء مقاربة أميركية مختلفة في الشرق الأوسط. لا حاجة لتكرار أخطاء الماضي بالاعتماد على تدخلات سريعة أو رهانات على قوى منبتة من خارج نسيج المنطقة، بل المطلوب العمل على شراكة حقيقية مع دول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية، بعيداً عن الوصاية تستمد قوتها من الثقة بفضيلة الاستقرار الذي حققته على مدى العقود الماضية.
أثبتت التجربة أن الضغط العسكري وحده لا يكفي لتغيير السلوكيات، وإن كان مهماً في سياق الردع. المطلوب هو مزيج ذكي من الضغط والدبلوماسية، تقوده دول المنطقة بدعم القوانين الدولية وبكبح جماح العبث والفوضى الإسرائيلية.
التنافس الجديد في المنطقة، سواء بين تركيا وإسرائيل، أو في إدارة الملف الفلسطيني، لا ينبغي أن يربك واشنطن أو يجعلها منحازة إلى تل أبيب، بل عليه أن يدفعها لممارسة دور الموازن لا المنحاز. فالصراعات اليوم ليست آيديولوجية بقدر ما تنتمي إلى حيّز الواقعية السياسية، ويمكن إدارتها ضمن أطر إقليمية تُراعي مصالح الجميع. على الولايات المتحدة أن تتعامل مع الشرق الأوسط اليوم كما تعاملت مع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية: عبر الدعم، والتفويض، والمشاركة، لا منطق القواعد العسكرية والضربات المؤقتة.
لقد آن الأوان أن تنتقل واشنطن من دور رجل الإطفاء إلى شريك في البناء. وأن تُدرك أن الشرق الأوسط، بمن فيه من قوى مركزية كالسعودية، لم يعد مجرد ساحة أزمات بل بات مركزاً محتملاً للاستقرار إذا ما مُنح الدور القيادي المناسب. إن مقاربات الأمس أثبتت عجزها، وحان وقت التحول نحو رؤية محلية مستدامة، تقودها قوى الاعتدال، وتحظى بدعم دولي لا يتجاوزها، بل يعتمد عليها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 16 دقائق
- صحيفة سبق
"حماس" توافق على إطلاق 10 رهائن ضمن مفاوضات التهدئة.. والمحادثات تصطدم بتعنت إسرائيلي
أعلنت حركة حماس، اليوم الأربعاء، موافقتها على إطلاق سراح عشرة رهائن ضمن الجهود الجارية للتوصل إلى اتفاق هدنة في قطاع غزة، في ظل مفاوضات قالت إنها تشهد "صعوبات كبيرة" بسبب ما وصفته بـ"تعنت" الجانب الإسرائيلي. وقالت الحركة، في تصريحات نقلتها سكاي نيوز عربية، إن المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار لا تزال مستمرة لكنها تصطدم بعدة نقاط خلافية، أبرزها آلية تدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، بالإضافة إلى الحاجة لـ"ضمانات حقيقية" تضمن وقفًا دائمًا لإطلاق النار. وأكدت حماس أن موقفها يأتي في إطار سعيها لوقف العدوان المستمر على القطاع، وتحقيق تهدئة شاملة تضع حدًا للمعاناة الإنسانية المتفاقمة منذ أشهر.


الشرق السعودية
منذ 19 دقائق
- الشرق السعودية
بوتين يقيل نائب وزير الخارجية ومبعوثه للشرق الأوسط ميخائيل بوجدانوف
أقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأربعاء، نائب وزير خارجية روسيا، ميخائيل بوجدانوف من منصبه، عبر مرسوم نُشر على البوابة الإلكترونية لنشر الإجراءات القانونية. وتنص الوثيقة على "إقالة ميخائيل ليونيدوفيتش بوجدانوف من منصب نائب وزير خارجية الاتحاد الروسي". وبموجب مرسوم آخر، أعفى بوتين بوجدانوف من مهام ممثله الخاص لشؤون الشرق الأوسط والدول الإفريقية. ويدخل كلا المرسومين حيز النفاذ من تاريخ التوقيع عليهما. وذكر الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية أن بوجدانوف أشرف على قضايا علاقات روسيا مع دول الشرق الأوسط وإفريقيا، ومنظمة التعاون الإسلامي، وغيرها من المنظمات الإسلامية الدولية، ومشاكل التسوية السورية، وقضايا ممتلكات الإمبراطورية الروسية السابقة في الأراضي المقدسة (إسرائيل، فلسطين، لبنان، الأردن)، وعمل أمانة منتدى روسيا-إفريقيا. وشغل بوجدانوف منصب سفير روسيا لدى مصر وممثلها لدى جامعة الدول العربية من عام 2005 حتى 2011. ومنذ يونيو 2011، شغل منصب نائب وزير الخارجية الروسي. ومنذ يناير 2012 شغل منصب الممثل الخاص للرئيس الروسي لشؤون الشرق الأوسط. ويشغل بوجدانوف منصب سفير فوق العادة ومفوض منذ عام 2001.


الشرق الأوسط
منذ 29 دقائق
- الشرق الأوسط
واشنطن تعلن فرض عقوبات على المقررة الأممية لحقوق الإنسان في فلسطين
أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، اليوم الأربعاء، فرض عقوبات على المقررة الأممية لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيسي، بسبب ما وصفها بأنها «مساعيها غير المشروعة لدفع المحكمة الجنائية الدولية لاتخاذ إجراءات ضد مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أميركيين وإسرائيليين». Today I am imposing sanctions on UN Human Rights Council Special Rapporteur Francesca Albanese for her illegitimate and shameful efforts to prompt @IntlCrimCourt action against U.S. and Israeli officials, companies, and campaign of political and economic... — Secretary Marco Rubio (@SecRubio) July 9, 2025 وقال روبيو في منشور على «إكس»: «لن نسمح بعد الآن بحملة ألبانيسي التي تشنها بوصفها سلاحاً سياسياً واقتصادياً ضد الولايات المتحدة وإسرائيل»، مضيفاً أن الولايات المتحدة ستواصل اتخاذ ما تراه من إجراءات ضرورية لمواجهة «الحرب القانونية» وحماية سيادتها وسيادة حلفائها.