logo
"الترامبية"..و"الشعبوبة الاستبدادية"

"الترامبية"..و"الشعبوبة الاستبدادية"

الخبرمنذ 7 أيام
في أفريل الماضي، قال رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر: "إن العالم الذي نعرفه لم يعد موجودا". كان ذلك إقرارا من زعيم دولة، مصنفة قوية وفاعلة في المشهد، بأن التغيرات سريعة وعميقة وأن استشراف مآلاتها بات معقدا.
اعتاد المفكرون المهتمون بدراسة السلوك الدولي وتحولاته، شرحه عبر عدد من النظريات الرئيسية المعهودة في الأدبيات الغربية على غرار "الواقعية السياسية" و"الليبرالية" و"البنائية" وغيرها.
الأولى اشتهرت منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتركز على تفكيك المشهد العالمي بوصفه فوضويا، وأن الدول هي اللاعب الرئيسي، وتتصرف أساسا من منطلق رغبتها في "النجاة" وتحقيق مصالحها القومية.
والثانية تركز على النظر من زوايا الدبلوماسية، المؤسسات، الاعتماد المتبادل، القوة الناعمة، وازدهرت خصوصاً مع سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
وستارمر عندما كان يتحدث عن اختفاء "العالم الذي نعرفه"، ربما كان يشير إلى تلك "الفترات الليبرالية" الأكثر هدوءا وتعاونا وتكاملا منذ تشكل المنظومة الدولية الحالية على أنقاض الحرب العالمية الثانية.
"النظرية البنائية" أخذت زخما هي الأخرى متأخرة في تسعينيات القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفياتي، محاولة فهم السلوك الدولي من زوايا الأفكار والقيم والهويات.
بعيدا عن هذه الجوانب النظرية، ماذا عن المشهد اليوم، في ظل تزايد الحروب والنزاعات، تفاقم الصراع على الموارد، ارتفاع عدد السكان، تنامي الاقتناع بعدم فاعلية "منظومة عام 1945"، وبالتالي ضرورة إحداث تغيير؟
لم يعد خافيا أن الحقبة الحالية تشهد حضورا طاغيا لـ"الترامبية"، مجسدة في أداء ترامب وإدارته وقواعده الشعبية الملتفة حول حركة "ماغا".
البعض يرى الظاهرة مؤثرة داخليا وخارجيا، والبعض يراها عابرة. على مستوى الشكل، هي ترمز للنفوذ وتحدي القانون، بينما على مستوى المضمون تشمل مروحة واسعة من المقاربات، فهي في الفضاء الأمريكي الداخلي "واقعية" تعمل على تعزيز المصالح القومية وفق عقيدة "أمريكا أولا"، وفي القارة الأمريكية "توسعية" (تجاه كندا، غرينلاند، بنما.. الخ)، وفي الفضاء الأوروبي "انعزالية" (حرب الرسوم الجمركية والتخلي عن أعراف الدفاع المشترك عبر الأطلسي).
تحمل الظاهرة الكثير من أفكار "رفض الآخر"، وبذلك باتت بمثابة نسخة أمريكية من اليمين المتطرف الذي ظل لفترات طويلة موجودا فقط على هوامش السياسة في دول كثيرة، وبات اليوم مستقويا.
"الترامبية" لم تعد مجرد حليف معنوي لهذا التيار المثير للجدل والاستياء، وإنما داعم فعلي له. فهي تدعم حزب "الإصلاح" المناهض للهجرة في المملكة المتحدة و"البديل" اليميني المتطرف في ألمانيا وكيانات أخرى كثيرة مشابهة هناك وهناك.
"الترامبية" عنيفة إلى درجة أنها ترفض التعاون مع حكومات دول، لكنها تحرض كيانات وشعوبا داخل تلك الدول على تبني أفكارها. إنها تستهدف السيادات الوطنية ربما أكثر من أي ظاهرة أخرى.
في ظل الصخب الذي تحدثه "الترامبية"، يصعب وضعها في خانة النظريات التقليدية الكبرى، رغم أنها تحمل بعض جوانب "الواقعية"، وهو ما يقوّي فرضية كونها مجرد حالة مؤقتة.
أمام هذه المقدمات، يمكن الإشارة إلى أن الكثير من الدارسين يرون "الترامبية" أقرب إلى "الشعبويةالاستبدادية"، وهو توصيف ظهر أول مرة في ثمانينيات القرن الماضي في شرح الحالة الثاتشرية.
يقول المفكرون المنظرون لهذه الحالة، إنها تبرز من حين لآخر على المشهد بفعل عوامل سلبية مثل القلق الاقتصادي أو الصدامات الثقافية أو تراجع أداء المؤسسات الديمقراطية. مثل هذه العوامل، يمكنها أن تُولّد شعورا بالإحباط لدى شرائح معيّنة من السكان تلجأ لدى محطات الاختيار (الانتخابات) إلى قادة يقدمون حلولا تبسيطية ولا يترددون في التضحية بحقوق "أكباش فداء".
"الشعبوية الاستبدادية" عادة ما تُعلي من الشعور بالقومية والهوية الوطنية، وتأتي مصحوبة بخطاب معاد للأجانب أو الأقليات، كما أنها تقوّض أدوار القضاء وحرية الصحافة ومنظمات المجتمع المدني، مما يُضعف الضوابط والتوازنات الضرورية لديمقراطية سليمة.
"الترامبية"، كما "الشعبوية الاستبدادية"، كل واحدة منهما، صاخبة وعنيفة، وعليه فإن من الطبيعي أن تواجه استنفاراورفضا. هناك مقاومة لها حتى من داخل بيئتها، إذ تتزايد، اليوم، الأصوات الداعية للتفريق بين الأفكار الجمهورية والمحافظة التي ترشّح ترامب باسمها، والظاهرة الترامبية.
وهناك أيضا رفض داخلي يمتد حتى أوساط الأكاديميين والعلماء والباحثين والأثرياء الحريصين على أجواء أفضل.
خارج الفضاء الأمريكي، تخلّف "الترامبية"، حالات رفض ومقاومة في كل أنحاء المعمورة. على الأرجح، ستربك الشراكات الغربية عبر الأطلسي، وتُسرّع أكثر الصعود الصيني، وتعمّق التعاون جنوب - جنوب (عبر تكتل بريكس وغيره) لكسر هيمنة النموذج الاقتصادي الغربي وأدواته.
"الترامبية" بمبادراتها المفاجئة وغير المتوقعة، ستتبقى، على الأرجح، تراوح مكانها ولن تحقق اختراقات حقيقية في التعامل مع الأزمات الكبرى مثل الإبادة في غزة أو حرب أوكرانيا أو العلاقات مع الصين وكوريا الشمالية وإيران.
الخلاصة، أن "الترامبية"بشعبويتها ومظاهر تطرفها، تمثل فشلاغربيا آخر، في تقديم بدائل لتحديات العصر وتؤكد الحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب.. ومتعدد الرؤى والأفكار أيضا.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ما سر انقلاب الغرب المفاجئ على إسرائيل؟
ما سر انقلاب الغرب المفاجئ على إسرائيل؟

إيطاليا تلغراف

timeمنذ يوم واحد

  • إيطاليا تلغراف

ما سر انقلاب الغرب المفاجئ على إسرائيل؟

إيطاليا تلغراف محمود سلطان كاتب وصحفي مصري بعد أكثر من عام ونصف، من صمت الغرب وتبلده، إزاء مذابح إسرائيل وتجويع أطفال غزة، استيقظ فجأة 'ضمير' صحيفة فايننشال تايمز، وهي الصحيفة المالية البريطانية الرسمية، وخرجت عن الصف في الثلث الأول من مايو/ أيار الماضي، وأدانت، صمت الغرب المخزي، ورخص أخلاقه، في مواجهة الهجوم الإسرائيلي الهمجي والبربري على القطاع الصغير. وفي مقال افتتاحي، اتهمت الصحيفة الولايات المتحدة وأوروبا، بالتواطؤ وبشكل متزايد مع إسرائيل، التي جعلت غزة 'غير صالحة للحياة'، في تلميح إلى الإبادة الجماعية، وأشارت إلى أن الهدف، هو 'طرد الفلسطينيين من أرضهم'، في إشارة إلى التطهير العرقي. وبالتزامن مع ذلك، قرّرت صحيفة الإندبندنت أن 'الصمت المطبق على غزة' يجب أن ينتهي، وأنه قد حان الوقت للعالم، أن ينتبه لما يحدث، وأن يطالب بإنهاء معاناة الفلسطينيين المحاصرين في القطاع. وفي ميدل إيست آي، سأل جوناثان كوك، سؤالا يُعد مفتاحا مهما، لولوج صندوق عالم الغرب المظلم، لفهم كيف يفكر إزاء الانتهاكات، والمذابح وسياسات التجويع الجماعي بلا رحمة، واختبار صدق ادعائه، بوصفه المحتكر الوحيد والحصري للمرجعية الأخلاقية في العالم. تساءل كوك: '.. ولكن لماذا انتظر حلفاء إسرائيل الغربيون- وكذلك وسائل الإعلام مثل الغارديان وفايننشال تايمز- 19 شهرا للتحدث ضد هذا الرعب؟'. يضيف: إن أجزاء من وسائل الإعلام، والطبقة السياسية تعلم، أن الموت الجماعي في غزة، لا يمكن إخفاؤه لفترة أطول، حتى بعد أن منعت إسرائيل، الصحفيين الأجانب من دخول القطاع، وقتلت معظم الصحفيين الفلسطينيين، الذين حاولوا تسجيل الإبادة الجماعية. يحاول اللاعبون السياسيون والإعلاميون المتشككون تقديم أعذارهم قبل فوات الأوان لإظهار الندم. ويقول: 'وحتى اليوم تتواطأ، وسائل الإعلام الغربية، في الترويج لفكرة أن غزة خالية من الاحتلال الإسرائيلي، من خلال تصوير المذبحة هناك – وتجويع السكان – على أنها 'حرب'. وفي الثلث الأخير من يوليو/ تموز 2025، كتب ماثيو صايد، في الغارديان، مشيرا إلى ما وصفه بـ'مبررات' المذبحة، معتمدا على نظرية نسبية الأخلاق، وهي واحدة من أسوأ النظريات الغربية، التي قدمت للرجل الأبيض/السوبر 'السند الأخلاقي' لاستباحة المستضعفين في العالم، وبضمير من ثلج، أو من حجر صلد. من بين المبررات التي ساقها صايد، أن تفريغ غزة بقتل 60 ألف شخص، وتدمير 92 في المئة من البنايات، والتجويع هو ـ عند إسرائيل ـ ضروري من أجل دحر حماس. وتُذكّر تل أبيب الغرب بـ'مبرراته الأخلاقية' في الحرب العالمية الثانية، بالقول: 'لقد أرغمتم النازية على الاستسلام بقتلكم آلاف المدنيين الألمان. وعلينا أن نفعل الشيء نفسه في غزة'. والحال أنه لا يمكن فصل نتاج الغرب العلمي والفلسفي، عن تشكيل نظرته للعالم. هذا المنتج، حتى لو كان نظريا، يحتمل الصواب والخطأ، يجري تدويره داخل ماكينات، إعادة صوغ الرأي العام، وتحويله ـ بمضي الوقت والتراكم بالإلحاح الناعم ـ ليمسي جزءا من ثوابت عقيدته السياسية، وهي أخطر ثمرات، التدوير الفلسفي والعلمي في الغرب. يحتل كتاب داروين (1809ـ1882) عن أصل الأنواع، والذي ظهر 1859، على سبيل المثال، منزلة ربما تكون أكثر قداسة عند جماعات المصالح 'اللوبي' في العالم الغربي المسيحي، من الكتاب المقدس ذاته! الولايات المتحدة الأميركية 'الرسمية'، ترفض بشكل قاطع أية نظرية تنتهك حرمة 'النشوء والارتقاء'، كما وضعها داروين، كان من بينها إجهاض طلب تدريس نظرية 'التصميم الذكي' جنبا إلى جنب مع 'أصل الأنواع' في المدارس الأميركية، ولو من باب 'حرية التعبير'! وفي 2004 صادرت فرنسا العلمانية، 'أطلس الخَلق'، الذي يفكك نظرية داروين. ودول الاتحاد الأوروبي على وجه الإجمال تفرض حماية صارمة على النظرية، ولا تقبل المس بمضمونها أو التشكيك بصحتها! كان غريبا إلى حد الدهشة، أن يتشدد الغرب المسيحي 'الرسمي' في التمسك بالتفسير الحرفي للداروينية، على الرغم من أنها لا تزال عند حدود 'النظرية' التي لم ترقَ إلى درجة 'الحقيقة' العلمية! إن هدم هذه النظرية، يعني تقويض الأساس الأخلاقي والتسويغ 'العلمي' الذي قامت عليه الحضارة الغربية، سواء على صعيد تطورها وحراكها الداخلي، أو على صعيد نظرتها وفهمها للعالم من حولها. فالداروينية هي التي سوّغت 'تميز' العنصر الغربي، واستعلاءَه على الآخر على أساس أنه الأفضل، ووفرت له الغطاء الأخلاقي، لاستعمار مناطق شاسعة من العالم، واستنزاف موارده، على أساس أن القانون الحاكم المطلق للعالم، يقوم على 'الانتقاء الطبيعي': الفرز الطبقي والاجتماعي والعرقي والسلالي، وأن الطبيعة تتجه نحو تنظيف المجتمع من الفقراء والضعفاء وتخليص العالم منهم، لإيجاد مكان للأقوياء فقط. عندما اُتهم الزعيم التاريخي البريطاني ونستون تشرشل، بأنه ارتكب مجازر مروعة في حق الهنود الحمر في أميركا، وفي حق السود في أستراليا، قال بصلف: إن'عرقا أقوى، عرقا أرقى، عرقا أكثر حكمة' قد 'حلّ محلّهم'. وفي كتابه 'العادات الشعبية' الصادر 1906، أصّل عالم الأنثروبولوجيا الأميركي ويليام غراهام سومنر، لنظرية ما يسمى 'نسبية الأخلاق'، وأن الناس يختلفون حول القضايا الأخلاقية، وأن مصطلحات مثل: 'جيد' و'سيئ' و'صحيح' و'خاطئ' لا تخضع لشروط الحقيقة العالمية إطلاقا؛ وأن ما يعتبره الناس صوابا أو خطأ يتشكل كليا – وليس بشكل أساسي – من خلال تقاليد وعادات وممارسات ثقافتهم. ويؤكد الأنثروبولوجي، روث بنديكت (1887-1948)، أنه لا وجود للأخلاق المتعالية، وإنما للعادات الاجتماعية. يعزو بعض المثقفين الكاثوليك والعلمانيين الانحطاط الملحوظ في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى إزاحة القيم المطلقة من قبل النسبية الأخلاقية. وقد جادل البابا بنديكتوس السادس عشر، ومارسيلو بيرا وآخرون بأنه بعد 1960 تقريبا، تخلى الأوروبيون بشكل كبير عن العديد من المعايير التقليدية المتجذرة في المسيحية، واستبدلوها بقواعد أخلاقية نسبية متطورة باستمرار. الغرب في مجمله ـ بما فيه امتداده الأميركي ـ يتعاطى مع مجازر غزة مستبطنا، هاتين النظريتين: الداروينية السياسية والاجتماعية من جهة، ونسبية الأخلاق من جهة أخرى. وهي عقيدة تعالٍ وعنصرية، ممتدة وتنتقل من جيل إلى جيل حيث يعلمون أطفالهم في المدارس 'منهج عبادة القوة '. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

الدولة الفلسطينية… الإمساك بالحلم والواقع معا
الدولة الفلسطينية… الإمساك بالحلم والواقع معا

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 2 أيام

  • إيطاليا تلغراف

الدولة الفلسطينية… الإمساك بالحلم والواقع معا

إيطاليا تلغراف نشر في 1 أغسطس 2025 الساعة 22 و 57 دقيقة إيطاليا تلغراف سامح المحاريق كاتب أردني لم تكن ثمة خرائط أو تصورات مبدئية لوعد بلفور، ولكنه أتى مبهما بالصورة التي جعلت تصورا واسعا يسود بأنه يشمل ضفتي نهر الأردن، أو الأراضي التي تقع غرب خط حديد الحجاز، وكان أن أنهى المندوب هربرت صموئيل الجدل حول ذلك، باستثناء صريح لشرق الأردن من وعد بلفور في أغسطس 1920، ولم يكن كذلك ثمة تصور لشكل الوطن القومي لليهود في فلسطين، ولم يكن الوعد يتضمن تعهدا بتأسيس دولة يهودية، بالمعنى المعاصر والكامل، ففي الحقيقة، كان البريطانيون يتخبطون في تصوراتهم تجاه المنطقة، وكان الخلاف عميقا بين العديد من المؤسسات، خاصة بين مكتبي القاهرة وبغداد، وبين لندن والهند. خرجت بريطانيا من الحرب العالمية الثانية مرهقة وعايشت ظروفا اقتصادية صعبة، أدت إلى تقنين حتى أبسط المواد الغذائية على مواطنيها، وفي فترة الحرب تمكنت الحركة الصهيونية من تغيير الوقائع على الأرض، والقبض على زمام المبادرة، لدرجة دفعت بريطانيا لاتخاذ مواقف سلبية وكأنها لم تكن الدولة التي ورطت الجميع، في بذرة كيان يسير في الاتجاه المعاكس لكل القيم التي بدأت أوروبا تحاول اعتناقها، بعد دفعها للتكلفة الباهظة للغاية للحرب، ولم تكن سوى سنوات قليلة حتى تكشفت عدوانية إسرائيل، التي استهلكت الكثير لتغطيتها من خلال الضغط المعنوي والمادي في أوساط الإعلام والفكر. امتنعت بريطانيا عن التصويت على قرار التقسيم، قبل أشهر من إعلان دولة إسرائيل في اليوم الأخير للانتداب البريطاني على فلسطين، ومع ذلك أصبحت إسرائيل أمرا واقعا بعد أن تلقت أول اعتراف دولي من الاتحاد السوفييتي، ولحقته الولايات المتحدة، لتصبح دولة الأمر الواقع فاعلا دوليا لا يمكن تجاهله، بل كانت الطرف الذي أعلن عن استعداده العدواني مع المشاركة في حرب 1956 ضد مصر، والزحف إلى مواقع متقدمة في شبه جزيرة سيناء. الدولة التي تأسست بناء على وعد بلفور تزامن قيامها مع أفول الإمبراطورية البريطانية، وكانت واحدة من تجليات فقدان لندن لسطوتها على العالم بعد الفوضى التي أثارتها في المنطقة، والتي تكشفت عن وضع غير مريح للبريطانيين مع الاكتشافات النفطية في الخليج، بما كان يجعل للكتلة العربية وزنا يجب وضعه في الاعتبار. تصاعد الدعوات للاعتراف بدولة فلسطين، بعد تصريحات من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، قبل أن تعلن بريطانيا استعدادا لاعتراف مماثل، في حال لم تسمح إسرائيل بدخول المساعدات لقطاع غزة، والتراجع عن ضم الضفة الغربية، ولحقت البرتغال وكندا بالركب، في خطوة ستمثل اختراقا كبيرا ونوعيا للقضية الفلسطينية، ولكن ثمة الكثير من الأسئلة التي يجب طرحها على مشارف حدث ربما يسجل بوصفه نقطة تحول تاريخية. الفلسطينيون يقفون أمام اعتراف يمكن أن يمثل مشكلة بالنسبة لهم، لأن السلطة الوطنية في ظل الظروف السائدة، لم تتمكن من تجديد شرعيتها بالصورة المطلوبة واللازمة للتعامل مع المجتمع الدولي بانفتاح وإيجابية، وتعود هذه الوضعية إلى أسباب ذاتية، وهي استحكام وجود بعض الوجوه التي تريد أن تحافظ على مواقعها في المنظومة القائمة، وتخشى أن تخضع عمليا لانتخابات، تعيد ترتيب المشهد بالكامل، بالإضافة إلى التشظي الفصائلي القائم، بوصفه الطريقة الفلسطينية لإدارة الأمور، وليس الأحزاب السياسية الناضجة التي تعبر عن الواقع المحلي في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية، وأسباب أخرى موضوعية، أهمها الضغط الذي تمارسه إسرائيل على السلطة، وسيطرتها الاقتصادية والأمنية على العديد من مناحي الحياة، فالفلسطينيون بعدم قدرتهم على استصدار عملتهم الخاصة، أو تحصيل الرسوم الجمركية، يظهرون وكأنهم من غير خيارات اقتصادية، يضاف إلى ذلك، السلبية العربية تجاه تقديم الدعم للسلطة الوطنية، إلا بطريقة محدودة وموسمية، مع أن المطلوب في هذه المرحلة هو، العمل على تعزيز قدرة السلطة على الوجود في الساحة، وإلا ستتحول المشكلة الفلسطينية من مرحلة محددة الملامح تدور حول الحصول على دولة فلسطينية، إلى قضية بالغة السيولة تلقي بملايين الفلسطينيين إلى المجهول بصورة مقلقة لمجمل المنطقة العربية. يبدو أن الرئيس محمود عباس يستشعر مدى أهمية البحث عن شرعية جديدة في الأوساط الفلسطينية، مع إعلانه إجراء انتخابات منظمة التحرير خلال العام الجاري، ما سيوازي بين الإعلان عن الدولة، ووجود تمثيل فلسطيني يمكنه أن يبني على الخطوة الكبيرة والمؤثرة لو حدثت، لأن الوجود على أرضية المجتمع الدولي يخلق وقائع يمكن أن تمضي بصورة غير مرغوبة بالنسبة لإسرائيل، التي أظهرت توترها مع تصريحات أمير أوحانا رئيس الكنيست، الذي خاطب الأوروبيين لإقامة الدولة الفلسطينية في باريس أو لندن، واصفا الخطوة بأنها مكافأة لحماس. التوجهات الأوروبية تظهر أيضا مشكلة عربية عميقة، تتمثل في عدم وجود تصور لواجباتها تجاه الدولة الفلسطينية، بوصفها أمرا واقعا على مستوى المجتمع الدولي، ولا كيف ستستجيب للتفاعلات الناتجة عن هذه الخطوة، فالاعتراف العربي بدولة فلسطين، ومعاملة السلطة كدولة في علاقاتها مع الدول والمنظمات العربية أمر مختلف عن اعتراف أممي يعزز موقف فلسطين في المرحلة المقبلة، بحيث تصبح أي إجراءات إسرائيلية اعتداء على دولة مستقلة، وليس توسعا في أرض متنازع عليها، كما سعت إسرائيل للإيحاء للمجتمع الدولي بخصوص وضعية الأراضي الفلسطينية، وسينتقل الصراع بما يشتمل أيضا على اتفاقيات السلام الموقعة من اتفاقية بين طرفين، إلى شأن أكثر تقاطعا مع القيم المؤسسة للنظام العالمي ككل. المسؤولية الكبيرة في التلقي الإيجابي والمشتبك مع الاعتراف بدولة فلسطين، تحتم أن يمضي التفكير في المراحل التي تلي هذه الخطوة، والأعمال التي يمكن أن تنتهجها إسرائيل لتعطيلها أو تفريغها من معناها، مثل التهام الضفة الغربية بالقوة، وتغيير وضعها القانوني بقرارات منفردة من جانب إسرائيل، وهذه مسؤولية تفوق ما يتوفر للسلطة الوطنية ومؤسساتها من إمكانيات، وتتجاوز قدرة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تضررت هي الأخرى باختزال القضية الفلسطينية في شؤون السلطة، والتحديات الكثيرة الماثلة أمامها. ستكون الأسابيع المقبلة ساخنة ومليئة بالضغوطات، ولكنها ستحمل فرصة تاريخية للسلطة الفلسطينية، لتتحول من إدارة حكم محلي إلى دولة مكتملة الهوية والشخصية في المجتمع الدولي، وهو ما يمكن البناء عليه من خلال استغلال التناقضات التي تتنامى في إسرائيل مع اليمين المتطرف، الذي يسعى لوضع إسرائيل في معارك صفرية تتطلب انتصارا كاملا وصريحا، الأمر الذي لا توفره الشروط السائدة في العالم الحديث، فلا روسيا تمكنت من حسمه في أوكرانيا، ولا فعلتها أمريكا في أفغانستان. يواجه الفلسطينيون لحظة أكون أو لا أكون ضمن الشروط القائمة، فحلم من النهر إلى البحر، يبدو أنه سيتأخر لأجيال تطول أو تقصر، إلا أن خطوة الدولة تعتبر مركزية في تحقيق هذا الحلم، وتحقق للفلسطينيين مواقع مهمة واختراقات كبيرة، كما كانت خطوة تأسيس دولة (إسرائيل) محورية في العالم قبل نحو ثمانين عاما. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف السابق تعالوا نرمم البشر قبل الحجر في سوريا الجديدة! التالي 3 أسباب تُشعل الطائفية في سوريا

الصعود نحو الحضيض
الصعود نحو الحضيض

الشروق

timeمنذ 2 أيام

  • الشروق

الصعود نحو الحضيض

ما يحدث في العالم وأمام العالم اليوم، هو فعلا تغير غير مسبوق، وهي خطوة أولى، إن لم تكن منتصف الطريق، نحو تغير شامل كبير يقلّب العالم رأسا على عقب، منذرا بأفول حضارة بأكملها: حضارة الغرب بشكل عامّ، ونهاية القرن الأمريكي كما يشير إليه كثيرٌ من الباحثين في التاريخ والتطور البشري. نتحدث عن هذا الموضوع من باب أن ما يحدث في غزة ليس له مثيلٌ في العالم الحديث؛ وضعٌ تتحكم فيه قوة وحيدة تدفع باتجاهات غير مدروسة على المدى المتوسط والبعيد، سلطة عالمية انتقلت من الليبيرالية العالمية، وسياسة العولمة والاحتواء العالمي، إلى قوّة أنانية تأكل وتنهش نفسها بنفسها وتقرض حتى حلفاءها من حيث تريد أن تتقوى على الجميع من دون حاجة لأحد في البقاء، إلا بما يضمن لها الهيمنة التجارية والاقتصادية الظرفية بشكل أحادي وأناني. هذا الوضع هو ما قد يخلق شرخًا في المنظومة الاقتصادية والسياسية العالمية. يحدث هذا بالتوازي، في عدة عواصم، وعلى مستوى الكويكبات الدائرة في فلكها: الفضاءات الوظيفة العاملة على الإبقاء على تفوُّق القوة الأمريكية في العالم، والمسماة عادة درك المناطق ومنها دولة الكيان. هذا الكيان، الذي بدأ يعدّ أيامه الأخيرة، وبدأ معه العدُّ التنازلي لضعف المنظومة التي تحمي هذا الكيان وهذا النظام برمته؛ نظام صنعته قواعد قوة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي بلغ اليوم 80 سنة، مما يعني أن الشيخوخة قد بدأت تدبُّ في أوصاله، وعليه أن يتغيَّر بالضرورة، من دون أن يعني ذلك السقوط الكلي. عمليا، سينهي الكيان الصهيوني 'دورته الجيلية' الثانية بعد 3 سنوات، أي سنة 2028، إذ يكون قد مرَّ على إنشاء هذا الكيان الوظيفي غير الشرعي، 80 سنة، أي نهاية الجيل الثاني، وعمر الكيانات اليهودية التي تأسَّست عبر التاريخ في المنطقة لم تتجاوز هذا العمر، وهذا معروف لديهم في كتبهم ولدى منجِّميهم وكهنتهم. هذا التاريخ ليس قدرا محتوما بالطبع، لكن التغيّر بعد كل جيل قائم تاريخيّا منذ ما قبل التاريخ، لأن التاريخ هو تاريخ الإنسان، وتطور الإنسان يرسم تطور الإنسانية، فهو في حد ذاته تطور للإنسان وأجياله، وهو قلب نظرية ابن خلدون، والذي نجدها في كل نظريات التطور والتغير الدائرية واللولبية من 'فيكو' مرورا بمنظري القرن الـ18 إلى آخر نظريات نهاية التاريخ وصدام الحضارات. الكيان زائلٌ حتما. الزوال لا يعني السقوط المدوِّي، بل قد يكون على مراحل وقد بدأ ذلك، وما يحدث لهذه البؤرة منذ سنوات ينذر بنهاية غير بعيدة. لأن هذا سيكون متزامنا مع بداية ضعف اليد الرافعة الصانعة لهذا الكيان منذ ما بعد الحرب العالية الثانية وأسطورة المحرقة و'إيديولوجيا معاداة السامية' والمظلومية التاريخية لليهود والشتات اليهودي منذ 'نبوخنذ نصر' البابلي، إلى 'تيتوس' الروماني، التي بدأت تتهاوى عالميا أمام جرائم الكيان. هذا الكيان الذي انتقل من الدفاع عن تلميع وجه الاستيطان قبل اليوم، ليسقط في حضيض الانتقام الوحشي غير العقلاني: هجوم أرعن عابث بكل القوانين، وحش كاسر يدوس على كل الأعراف الدولية والإنسانية والأخلاقية العالمية. حيوان، مسعور جريح لم يعد أحدٌ يقدر على التحكم فيه بمن فيه صانعه وحاميه وموظفه في المنطقة والعالم: هيجان أعمى، سينتهي به المطاف في الأخير في السقوط في مستنقع لا فكاك منه، وقد حصل، وسيجرُّ داعميه إلى المآل ذاته لاحقا على المدى المتوسط، إذ ليس من المستبعد أن نرى بعد 25 سنة، بداية تهاوي نفوذ القطب المهيمن لصالح أقطاب نامية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store