
ماذا تعني تلميحات مناوي بإمكانية تواصله مع الدعم السريع؟
وقال مناوي في ختام اجتماع اللجنة السياسية للكتلة الديمقراطية "سنظل في تواصل مع المجتمع الدولي ، والقوى السياسية، حتى الدعم السريع إذا وجدنا له رؤية معقولة".
ودفع هذا الموقف المراقبين والمحللين إلى البحث عن خلفياته وتداعياته، وتحدثت الجزيرة نت إلى عدد من المحللين لتستطلع آراءهم بشأن تصريحات مناوي الجديدة.
دعوة مشروطة
يشغل مناوي منصب حاكم إقليم دارفور المكون من 5 ولايات منذ العام 2021 بعد توقيع اتفاق سلام جوبا، وهو قائد حركة جيش تحرير السودان، التي تقاتل بجانب القوات المسلحة السودانية في حربه الحالية، وهو رئيس اللجنة السياسية بتحالف الكتلة الديقراطية.
ويرى المحلل السياسي أحمد موسى عمر أن تصريحات مناوي لا تبتعد كثيرا عن رؤية الحكومة في التزامها بترك باب الحلول مفتوحا، في حال التزامه بمخرجات اتفاق جدة لإحلال السلام في السودان، الذي وقّعت عليه المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية والسودان في 20 مايو/أيار 2023، مع ممثلين للقوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
وقال في تصريحات للجزيرة نت إن السياق الذي خرج فيه تصريح مناوي هو رؤية للقطاع السياسي للكتلة الديمقراطية وليس رؤية فردية للقائد أو رؤية جماعية لحركته ولا تمثل الدولة.
وأكد أن الحوار مع الدعم السريع لن يكون مُلزما للحكومة السودانية "فهو وإن تم؛ قبل مرحلة الحوار الحكومي، يُهيَأ له باتفاق حول رؤية مقبولة ومعقولة يمكن أن تلعب فيها الكتلة دور الوسيط بين الجيش والدعم السريع؛ بمعنى أن يكون حوارا إجرائيا أكثر من أن يكون حوارا يؤدي لحلول".
ويوضح موسى أن الحوار مع الدعم السريع مربوط بتقديمه "رؤية معقولة" لوقف الحرب، وهي دعوة للحوار تنتظر مبادرة الدعم السريع بتقديم ما يمكن أن يكون معقولا، ويشير إلى أن قبول الدعم السريع هذه الدعوة يعتبر فتح باب حوار يؤسس لتسوية سياسية.
وقال إن مناوي ربط جدية الحوار بأن يناقش موقف الحرب؛ "وفي هذا الأمر الكلمة الأخيرة للجيش السوداني، الأمر الذي يضع الكتلة الديمقراطية في موضع الوسيط".
ويوضح أن الكتلة الديمقراطية لديها التزام بتهدئة الأوضاع وفتح المسارات الإنسانية في دارفور، ولتحقيق هذا الأمر تُقدم "دعوة مشروطة للدعم السريع لتقديم رؤية معقولة تصلح لعرضها على الأجهزة الرسمية، "كما أن الأمر لا يخلو من حسابات إقليمية ودولية خاصة حسب قوله".
فواعل دولية
وتشكل مدينة الفاشر أهمية إستراتيجية بالغة الأهمية للجيش السوداني؛ إذ فيها آخر معاقل الجيش في دارفور، كما أنها تشكل مقر قيادة القوات المشتركة، وتمثل خط الدفاع الأول عن مدينة الأبيض، كما يعني سقوطها سيطرة الدعم السريع على كامل ولايات دارفور.
من جهته، يقرأ مدير مركز العاصمة للدراسات السياسية والإستراتيجية، المحلل السياسي حسن شايب تصريح مناوي بأنه ليس موضوعيا ولا منهجيا في طرح قضية لم يناقشها هو في مجلسي السيادة والوزراء "بصفته أحد شركاء الحكم الآن".
ويرى شايب في تصريح خاص للجزيرة نت أن مناوي لم يفصح عن الكثير فيما يتعلق بمثل هذه التصريحات، وتساءل عن سبب عدم طرح هذا الأمر أمام مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وطرحه للشارع السوداني.
وقال إن مثل هذه التصريحات تمثل نوعا من الممارسة السياسية غير الراشدة، وإن أية تسوية سياسية شاملة داخل السودان لا بد أن يكون فيها مركز صنع القرار، ولا يمكن لمناوي أن يقوم بها وحده.
وأضاف أن أي تسوية سياسية "لا تؤدي إلى خروج هذه المليشيا من المشهد السياسي والعسكري لا يمكن تسميتها تسوية، لأن ما أحدثه الدعم السريع لم يترك خط رجعة للخلف، ولم يترك مساحة لقبوله في المشهد السياسي من قبل الشعب السوداني"، ويرى أن الحديث عن أي تسوية سياسية في الوقت الراهن ربما يكون نتيجة ضغوط خارجية كبيرة، مشيرا إلى إلغاء اجتماع الرباعية.
وتابع أن الفواعل الدولية والإقليمية موجودة في السودان ولديها تأثير كبير في هذا الملف، كما أن صراع المحاور، يمكن أن يشكل ضغطا مع استخدام سياسة العصا والجزرة، مؤكدا أن مسار الحرب في دارفور والتعامل مع الأوضاع الإنسانية هناك يحتاج إلى رؤية ثاقبة، وأنه يجب أن يكون لدى الدولة السودانية رؤية واضحة لفك الحصار عن الفاشر سواء كان ذلك من خلال الرؤية العسكرية أو السياسية.
مرونة أم انعدام تأثير؟
ويصف المحلل السياسي وليد النور، مناوي بأنه "أكثر شخصية سياسية مثيرة للجدل" وأنه "أكثر شخصية تجيد التصريح والتصريح المناقض له في الموقف وفي الاتجاه".
وقال إن تصريحاته الأخير تُعد كسابقاتها؛ وهي لن تؤثر ولن تفتح بابا أمام التسوية السياسية في السودان، لأن التسوية السياسية تحتاج إلى إرادة حقيقية "وليست مزايدات"، ولن تحدث الكثير من الإيجابية.
ولا يتوقع النور أن تتأثر مجريات الحرب بمثل تلك التصريحات؛ فهي تتأثر فقط بمجريات الطبيعة والإرادة السياسية الحقيقية وبالضغط الدولي على الأطراف المتحاربة.
أما رئيس تحرير موقع "قلب أفريقيا" الإخباري لؤي عبد الرحمن، فيقول إن في تصريحات مناوي الأخيرة "مرونة سياسية" لا توجد في غالبية السياسيين السودانيين؛ كونهم يتمسكون بمواقفهم، وإن مناوي حاول من خلال تصريحاته أن يرسل رسالة بأنه مرن، وأنه حمل البندقية ليس غاية وإنما وسيلة لواقع أفضل سواء كان لدارفور أو للسودان.
واستبعد أن تمثل هذه التصريحات تغييرا في مواقفه السابقة، ووصف تلك التصريحات بأنها "بادرة طيبة باتجاه السلام، وضوء أخضر للحكومة السودانية للمضي قدما في التفاوض مع مليشيا الدعم السريع".
ورجح لؤي في تصريح خاص للجزيرة نت، أن تزيل مثل هذه الخطوة الحرج عن كثير ممّن كانوا يترددون في طرح مثل هذه المواقف التي تدعو للسلام والحوار، والتفاوض بين السودانيين.
وقال إن هذه التصريحات تعكس جدية مناوي باتجاه السلام، وهي محاولة لمحو الانطباع المشوه عنه الذي كان في السابق في نظام الإنقاذ وما بعد ذلك.
واستبعد أن يكون لمثل تلك التصريحات تأثير على الواقع الميداني للعمليات، وتوقع أنها ربما تساعد في دفع الحكومة باتجاه المفاوضات والعملية السلمية، وتسهم في تهدئة الأوضاع في دارفور وربما تقود إلى سلام شامل.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الصين تتذكر التاريخ جيداً وستدافع عن الإنصاف والعدالة
يشهد العالم حاليا تغيرات واضطرابات متشابكة، وصراعات إقليمية مطولة، فتواجه الدول المخاطر والتحديات الأمنية الأشد وطأة. إن الحفاظ على السلام وتعزيز التنمية هما الهدفان المشتركان للصين ودول الشرق الأوسط. لقد عانينا جميعا من العدوان والقمع الخارجي، وساعدنا بعضنا البعض على طريق نيل الاستقلال الوطني والتحرر الوطني. في عام 1931، شنّت العسكرية اليابانية حربا عدوانية على الصين، وارتكبت جرائم شنيعة مثل مذبحة نانجينغ، وجلبت كوارث عميقة على الشعب الصيني. بعد 14 عاما من المعارك الشاقة والدموية، هزم الشعب الصيني الغزاة العسكريين اليابانيين، وحقق النصر العظيم في حرب المقاومة ضد العدوان الياباني، وأعلن النصر الكامل في الحرب العالمية ضد الفاشية. كانت حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني ساحة المعركة الشرقية الرئيسية للحرب العالمية الثانية، وجزءا هاما من الحرب العالمية ضد الفاشية. لذا، فإن انتصار الصين العظيم هو انتصار للشعب الصيني ولشعوب العالم. في الثالث من سبتمبر/ أيلول العام الجاري، ستقيم الصين مؤتمرا لإحياء الذكرى الثمانين لانتصار حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية. ولإحياء ذكرى التاريخ، يجب حماية نتائج انتصار الحرب العالمية الثانية، والنظام الدولي بعد الحرب. إن عودة تايوان إلى الصين جزء مهم من نتائج انتصار الحرب العالمية الثانية والنظام الدولي بعد الحرب، ولا يمكن التشكيك في حقائقها التاريخية والقانونية. إن الصين على استعداد للعمل مع مختلف الدول من أجل الحفاظ على النظام الدولي، وفي قلبه الأمم المتحدة، ومعارضة الهيمنة وسياسات القوة، وممارسة تعددية الأطراف الحقيقية، والعمل معا لبناء عالم يسوده السلام ومجتمع المستقبل المشترك للبشرية. في ظل الوضع الدولي المعقد والمضطرب، تظل الصين قوة عادلة تدافع عن السلام والاستقرار العالمي بكل ثبات. وقد طرح الرئيس شي جين بينغ مبادرة الأمن العالمي، التي تقدم مبادئ توجيهية أساسية لسد العجز الأمني والسعي إلى سلام دائم. منذ اندلاع الصراع في غزة، كانت الصين تلتزم بموقف موضوعي وعادل، وتعمل بجد على تحقيق السلام وإنقاذ الأرواح، ودفع مجلس الأمن لاعتماد أول قرار لوقف إطلاق النار في غزة، ودفع مختلف الفصائل الفلسطينية لإجراء حوار المصالحة وتوقيع "إعلان بكين"، وقدمت دفعات متعددة من المساعدات الإنسانية لغزة. يجب ألا تستمر الكارثة الإنسانية في غزة، ويجب ألا تُهمش القضية الفلسطينية مرة أخرى، ويجب تلبية المطالب المشروعة للأمة العربية في أسرع وقت ممكن، ومن الضروري الاهتمام بالصوت العادل للعالم الإسلامي الواسع. إن "حل الدولتين" هو السبيل الواقعي الوحيد للخروج من الفوضى في الشرق الأوسط، وعلى المجتمع الدولي اتخاذ المزيد من الإجراءات الملموسة والفعالة لتحقيق ذلك. إن الشرق الأوسط هو لشعوبه، وليس ساحة صراع بين الدول الكبرى، ولا ينبغي أن يصبح ضحية للتنافس الجيوسياسي بين الدول خارج المنطقة. الصين شريك إستراتيجي لدول الشرق الأوسط وصديق مخلص للأصدقاء العرب. سيواصل الجانب الصيني السعي وراء العدالة والسلام والتنمية لشعوب الشرق الأوسط بثبات. كما أن الصين على الاستعداد للعمل مع دول الشرق الأوسط، بما فيها قطر، للتحكم بالمستقبل واستكشاف طريق التنمية باستقلالية، والمضي قدما جنبا إلى جنب على طريق الازدهار والنهضة الوطنية. أخيرا، لنتذكّر دروس التاريخ معا: لا شك أن العدالة ستنتصر، السلام سينتصر، الشعب سينتصر!


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
لحظة غيّرت وجه الكومنولث.. عندما رقصت الملكة إليزابيث الثانية في أكرا
في مطلع ستينيات القرن الماضي، وبينما كانت القارة الأفريقية تشهد موجة من الاستقلالات الوطنية، برزت زيارة الملكة إليزابيث الثانية إلى غانا عام 1961 كحدث دبلوماسي لافت. لم تكن الزيارة مجرد بروتوكول ملكي، بل جاءت في سياق سياسي معقد، حيث كانت غانا، التي نالت استقلالها قبل 4 سنوات فقط، تسعى إلى ترسيخ سيادتها وسط تنافس حاد بين المعسكرين الغربي والشرقي. استقبل الملكة رئيس استثنائي في تاريخ المستعمرات الأفريقية: كوامي نكروما، الزعيم الذي درس في الغرب وتأثر بالفكر الاشتراكي، وجعل من أكرا منبرا لحركات التحرر الأفريقية. في هذا السياق، حملت زيارة الملكة رسائل ضمنية، تجسدت في لحظة رمزية واحدة: رقصة علنية جمعتها بنكروما، شكّلت نقطة تحول في علاقة بريطانيا بمستعمراتها السابقة، وأعادت رسم حدود التأثير الملكي في عالم ما بعد الاستعمار. الكومنولث على المحك سعت غانا بقيادة نكروما إلى بناء نموذج سياسي واقتصادي مستقل، بعيدا عن الهيمنة الغربية أو الشرقية، من خلال الانخراط في حركة عدم الانحياز. في المقابل، أبدت موسكو اهتماما متزايدا بالمنطقة، حيث عرض الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف تقديم مساعدات مالية وتقنية، في مشهد يعيد إلى الأذهان الدعم السوفياتي لمصر خلال أزمة السويس. ورغم اعتراض شخصيات بريطانية بارزة، من بينها رئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشل ، الذي عبّر عن قلقه من "إضفاء شرعية على نظام يزداد سلطوية"، قررت الملكة إليزابيث الثانية المضي قدما في الزيارة، في خطوة اعتُبرت خروجا نادرا عن نهجها التقليدي القائم على الحياد. رقصة في وجه الاستقطاب في ذروة الحرب الباردة، كانت غانا تتأرجح بين جاذبية النموذج الاشتراكي السوفياتي وطموحاتها في الحفاظ على استقلالها السياسي. لم يُخف الرئيس كوامي نكروما ميوله نحو موسكو، حيث استقبل مستشارين سوفياتيين، وظهرت صور لينين (الزعيم السوفياتي فلاديمير إليتش أوليانوف) في شوارع أكرا، مما أثار قلق لندن من احتمال انسحاب غانا من رابطة الكومنولث. في هذا المناخ المشحون، جاءت زيارة الملكة إليزابيث الثانية إلى أكرا في نوفمبر/تشرين الثاني 1961، لتُعيد ترتيب أوراق النفوذ في غرب أفريقيا. وفي ختام الزيارة، أقيم حفل وداع رسمي في القصر الرئاسي، حيث رقصت الملكة مع نكروما رقصة "هاي لايف" الغانية الشهيرة، في مشهد التقطته عدسات الصحافة العالمية. لم تكن الرقصة مجرد لحظة احتفالية، بل رسالة دبلوماسية، أرادت من خلاله الملكة أن تُظهر احتراما متبادلا بين بريطانيا وغانا، وتؤكد استمرار الأخيرة ضمن الكومنولث كشريك لا كتابع. أما نكروما، فقد أصرّ على تكرار الأغنية 3 مرات، في إشارة رمزية إلى استقلال بلاده وقدرتها على الحوار مع الغرب دون خضوع. وقد وصفت صحيفة "لوموند" حينها هذه الرقصة بأنها "إضفاء شرعية مزدوجة على سياسة نكروما الداخلية والخارجية"، بينما اعتبرتها صحف بريطانية لحظة مفصلية في تاريخ الدبلوماسية الناعمة. رمزية تتجاوز اللحظة لم تكن الرقصة مجرد مشهد احتفالي، بل لحظة تلاق بين رمزين يجسّدان عالمين متباينين: الإمبراطورية البريطانية التي تحاول الحفاظ على نفوذها، والدولة الأفريقية الوليدة التي تسعى لتحديد موقعها في عالم منقسم بين موسكو وواشنطن. بالنسبة للملكة، كانت الرقصة فعلا دبلوماسيا غير تقليدي، كسرت فيه البروتوكول لتُظهر استعداد بريطانيا للتعامل مع شركاء متساوين. وأما غانا، فقد قرأت في تلك الخطوات إعلانا رمزيا للسيادة والانفتاح، ورسالة إلى الداخل الأفريقي بأن الاستقلال لا يعني القطيعة، بل القدرة على إعادة تعريف العلاقات وفق شروط جديدة. في تلك اللحظة، تماهى الجسد مع الجغرافيا، والرقص مع السياسة، لتتحوّل الخطوات إلى لغة بديلة، تُخاطب ما عجزت عنه الكلمات. وبينما كانت صور لينين تُرفع في شوارع أكرا، أصر نكروما على تكرار الأغنية، كأنه يوقّع على بيان استقلاله بلحن غربي. لقد تحوّلت الرقصة إلى مشهد تأسيسي في تاريخ العلاقات بين بريطانيا وأفريقيا، لا يُقاس فقط بخطواته، بل بما تركه من أثر في الوعي السياسي لكلا الطرفين.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
طلحة جبريل.. سوداني ترأس 5 صحف مغربية وحاور 29 رئيسا
هناك، حيث ألواح الخشب وزوايا ورش النجارة الصغيرة في ضواحي مدينة مروي (وسط السودان)، نشأ الطفل طلحة جبريل في بيئة لم تمنحه الكثير من التقدير الاجتماعي الذي يصبو إليه، فركب أول عربة رحيل في قطار الابتعاث، ولم يحمل معه إلا حنين الهوية وروحا قلقة، ليختار المغرب ويضرب حول نفسه سياجا ممتدا من الاغتراب الاختياري. وفي المغرب، فتح القدر بوابات ما كان يحلم بها ذلك الغريب، فوجد الكاتب وأستاذ الصحافة الاستقصائية في أرضها تجربة إنسانية ومهنية مثمرة امتدت عقودا، فصار فيها من صناع الكلمة ورجال الرأي، وأصبح رئيس تحرير لـ5 صحف مغربية، وأجرى مقابلات مع 29 رئيس دولة وملكا، وكان له نصيب من الثقة الملكية في المغرب حتى عهد إليه الملك الراحل بمراجعة وطباعة مذكراته "ذاكرة ملك". وفي مقابلة مع الجزيرة نت، ظل الأكاديمي السوداني يتنقل بين عربات قطار سافر فيه إلى قارات العالم، واحتكّ فيه بنجوم الصحافة العربية، فبيّن حقيقة لقائه الوحيد مع محمد حسنين هيكل في لندن، ووجه نقدا للإعلام العربي، خاصة في ما يتعلق بتغطية العدوان الإسرائيلي على غزة. ولد طلحة جبريل ونشأ في مدينة مروي، حيث عاش ظروفا متعبة لم تمنحه الكثير من التقدير الاجتماعي، وعُرف وسط مجتمعه بمهنة النجارة، متطلعا إلى مكانة أكبر في بيئة تفرز وتقيم أفرادها بمهنتهم، وكان عليه أن يقطع المسافات فجرا وصولا إلى ورشة العمل. وعلى هامش هذا الكدح، استطاع أن ينجح في امتحان الثانوية السودانية من المنازل، مؤهلا نفسه لدخول الجامعة. وخلال فترة حكم الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري (1930 – 2009) واتته فرصة الدراسة بالخارج. وفتح القدر بابا لم يكن يحلم به طلحة جبريل، حين عُرضت عليه فرصة الابتعاث للدراسة خارج السودان، فاختار المغرب بدافع الرغبة في الوصول إلى أبعد نقطة جغرافية ممكنة، فكان أن اختار هذه البقعة. لماذا المغرب؟ في المغرب، بدأت حكاية التحول الكبرى، ولم يكن في نية جبريل أن ينخرط في الصحافة عندما كان يدرس في الجامعة تخصص الفلسفة، لكن الأقدار دفعته إلى هذا المسار، فعمل بداية مترجما في الصحافة، وسرعان ما تحول إلى أحد محرري صحيفة الشرق الأوسط. إعلان وبدأت الأبواب تُفتح أمامه خلال فترة قصيرة، حتى صار مدير مكتب الصحيفة في المغرب عام 1983 بعد عامين فقط من دخوله الميدان الصحفي، وسرعان ما أصبح رئيس تحرير لعدد من الصحف المغربية المرموقة. ويذكر جبريل أنه تولى منصب رئاسة التحرير في 5 صحف بالمغرب، 3 منها (الصباح، والجمهور، والعاصمة بوست) قام بالإشراف على تأسيسها، وبعضها لا يزال يصدر بعد نحو ربع قرن. وخلال حديثه مع الجزيرة نت، استفاض أستاذ الإعلام في الحديث عن سجايا أهل المغرب، فعبر سنين من عمره قضاها بينهم فإنه لم يواجه قط موقفا عنصريا أو انتقاصا نتيجة كونه سودانيا غريبا يعيش بينهم ويترأس مؤسساتهم، ويتقدمهم في المجالس أيضا. فالبيئة المغربية رحبت به واحتضنته، حتى كأن المجتمع تبناه ابنا له، وأصبح له أبناء مغاربة بحكم زواجه من مغربية. ومع ذلك يؤكد أنه ما زال يحمل جواز سفره السوداني وحده، فالجواز بالنسبة له "هوية لا يمكن المساومة عليها، والوطن حتى وإن قسا فإنه لا يُخون". والمغرب "كان بلده الذي يحنو عليه ويمنحه شعور الانتماء والنجاح". العلاقة مع ملك المغرب تمثل علاقة طلحة جبريل بالملك الحسن الثاني منعطفا خاصا في مسيرته المهنية وحياة عامة، فالحكاية بدأت بلقاء صحفي في يناير/كانون الثاني 1985، حين نال فرصة إجراء حوار مع الملك بناء على طلب منه شخصيا. وتطورت العلاقة لاحقا إلى ثقة متبادلة منحته امتيازات مهنية، لا سيما حضوره المتكرر للندوات الصحفية ومنحه فرصة دائمة بإلقاء السؤال الأول الموجّه للملك. هذه الثقة أخذت بعدا أكثر تقدما عندما كلّفه الملك بمراجعة النسخة العربية لمذكراته "ذاكرة ملك"، كما أنه أشرف بنفسه على طباعة الكتاب خارج المغرب. وهذه المهمة ربطته أكثر بالحلقات العليا في الدولة ودوائرها، لكنه بقي متمسكا بصفته المهنية بوصفه صحفيا مستقلا، حسب تعبيره. حقيقة اللقاء مع هيكل من المحطات اللافتة في مسيرة طلحة جبريل، ذلك اللقاء الذي جمعه مع الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في لندن، والذي راجت حوله إشاعات عدة بأنه لم يتعد دقيقة واحدة، وأن الهدف منه كان مناقشة بعض النقاط المتعلقة بسيرة ملك المغرب الراحل. لكن طلحة جبريل نفسه ينفي هذه الإشاعات في حديثه للجزيرة نت، ويقول إن اللقاء دام أكثر من نصف ساعة، وتناقش مع هيكل تفاصيل وردت في مذكرات الملك الحسن الثاني التي أشرف جبريل على تحريرها بالعربية. وبيّن جبريل أن محمد حسنين هيكل كعادته في تقصي الحقائق والوقائع كان يتساءل عن جوانب مما ورد في كتاب "ذاكرة ملك"، وهو ما انعكس لاحقا في مقالات هيكل عن المغرب. ومع ذلك، أشار الصحفي السوداني إلى أنه لاحظ على هيكل أنه يتمتع بقدرة فائقة على تذكر الوقائع، ويلح كثيرا في طرح الأسئلة التي يريد أجوبة عنها، ويجيد الإصغاء جدا لدرجة أنه لم يدون حرفا طوال لقائه مع جبريل. الحرب على غزة محطة مهمة توقف عندها طلحة جبريل تتعلق بدور الإعلام العربي في تغطية الحرب على غزة، فقد استطاع هذه المرة أن يتخذ مسارا مختلفا، وللمرة الأولى تمكن من أن يفرض حقيقة مغايرة للسردية الإسرائيلية الطاغية في الإعلام الدولي على مدى عقود، حسب ما قاله. وذهب إلى أن طبيعة التغطية الميدانية أو التضحيات الجسام التي قدمها الصحفيون العرب في الميدان تمثل علامات فارقة أبرزت حجم الاهتمام والالتزام بالقضية الفلسطينية. ويعود أستاذ الإعلام إلى المغرب ليضرب مثلا بما شهده من تعبئة شعبية وإعلامية استثنائية، مثل المسيرات الحاشدة وقصص التضامن، التي غذّاها الإعلام بجرعات حقيقية مكثفة جعلت تفاعل الناس أكبر وأكثر صدقا. ورغم هيمنة أجندات القوى الكبرى عالميا، فإن جبريل يعتقد أن السردية الفلسطينية وجدت لنفسها مكانا وحضورا قويين في إعلام المنطقة بفضل هذا العمل الميداني، وعدد الشهداء من الصحفيين الذين ارتقوا أثناء ممارسة عملهم الصحفي في الميدان. واقع الإعلام العربي ورغم نظرة الإجلال التي يحملها جبريل لدور الإعلام العربي في مناصرة القضية الفلسطينية ومواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة، فإنه في الوقت نفسه ينظر بواقعية ناقدة إلى حال الإعلام العربي اليوم، ويرى أنه بات في معظمه يسعى وراء تشوهات المجتمع وأخبار الإثارة والغريب من القصص، متأثرا بسطوة الشبكات الاجتماعية التي أفرزت مفهوم "المواطن الصحفي"، على حساب الصحافة المهنية القائمة على البحث والتحقق. وبوصفه أستاذا جامعيا في الأجناس الصحفية، فإنه يؤكد أن الصحافة الاستقصائية عادت بقوة في الغرب بعد تراجع مؤقت، إذ ظهرت الحاجة مجددا إلى المهنية والبحث عن الحقيقة، عكس ما حدث عند بروز شبكات التواصل التي بدت كأنها ستنهي دور الصحافة التقليدية. ويضرب جبريل مثالا على ذلك بالحالة السودانية، إذ ينتقد جبريل انصراف الإعلام العربي عن تغطية الأزمات بعمق، ويأسف لضياع الصوت الحر الميداني لصالح التغطيات السطحية أو الآراء الجاهزة. وينادي طلحة جبريل بضرورة أن تظل الصحافة باحثة عن الحقيقة، وأن الصحفي لا يملك الحقيقة لكنه يقترب منها كلما التزم بالقيم والأخلاق، ولو خسر مناصب أو امتيازات نتيجة ذلك، مبينا أن الكتابة الميدانية هي التعبير الأصدق عن الحقائق، "فالصحفي يجب أن يكون هناك ليكتب عن هناك". إن مسيرة طلحة جبريل ليست فريدة في تفاصيلها، لكنها تتشابك مع العديد من القصص المهنية وتتشابه معها، وتلخص رحلة صعود الإنسان من هامش الحياة إلى قلب صناعة القرار الصحفي العربي، وتمثل مسيرة قلم ظل وفيا للأمانة وهوية وطنه، رافضا أن تكون النجاحات المهنية سببا في التخلي عن جذوره، أو التنازل عن قيم الصحافة الأخلاقية التي جعلت منه شاهدا حيّا على عصر التحولات والاختبارات الكبرى في المهنة وفي قضايا الأمة.