logo
منبر التوحش: كيف يروّج داعش للعنف باسم الإخلاص؟

منبر التوحش: كيف يروّج داعش للعنف باسم الإخلاص؟

جاءت افتتاحية العدد 501 من صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية لتنظيم داعش، في 27 يونيو 2025، بالتزامن مع حلول رأس السنة الهجرية، وهي مناسبة تحتفي بها الشعوب الإسلامية بتجديد العهد مع القيم النبوية، واستذكار معاني التضحية والهجرة والبناء. إلا أن التنظيم استغل هذا اليوم لتمرير خطاب وعظي مموّه، جاء تحت عنوان ظاهره التذكير بـ"غفلة المسلمين عن الزمان والمآل"، وباطنه استدعاء لمقولات قديمة حول الهجرة والجهاد والاصطفاف العقدي. في هذا السياق، يُلاحظ أن التنظيم لم يكتفِ بإحياء الذكرى، بل أعاد تدويرها في إطار دعوي تعبوي يكرّس مشروعه العقائدي، محوّلًا المناسبة الروحية إلى منصة للتحريض على الهجرة نحو "مناطق التنظيم"، والدعوة الضمنية إلى الانخراط في أنشطته المسلحة.
لكن ما يبدو للوهلة الأولى خطابًا تذكيريًا تقليديًا، سرعان ما ينكشف عن أبعاد أعمق تتجاوز الوعظ إلى التعبئة، وعن تحولات تكتيكية في سردية التنظيم، الذي يعاني من تراجع ميداني وارتباك داخلي واضح. فاللغة التي تغلب عليها عبارات التوبة ومحاسبة النفس والإخلاص، ليست سوى ستار يستخدمه التنظيم لإعادة ترميم خطابه المتهالك، وتجديد شرعية العنف باسم الإيمان، في محاولة يائسة لتعويض فقدان الأرض والنفوذ. وبهذا، تتحول لحظة دينية جامعة، يحتفي بها المسلمون بالسلام والتجديد، إلى لحظة تجييش وتحريض في أجندة تنظيمية معزولة عن الواقع الديني والسياسي العام.
أولًا: السياق الزمني والسياسي
تأتي افتتاحية العدد 501 من صحيفة النبأ في مرحلة حرجة بالنسبة لتنظيم داعش، إذ يعاني التنظيم من تراجع ميداني حاد في معاقله الأساسية في العراق وسوريا، بعد أن خسر معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها في السابق. فقد تآكلت بنيته العسكرية التقليدية، وتعرضت قياداته الميدانية لسلسلة من الاغتيالات والاعتقالات بفعل العمليات الجوية والبرية للتحالف الدولي، فضلًا عن الانقسام داخل بعض خلاياه النائمة أو المتخفية. هذا الانكماش الجغرافي انعكس بشكل مباشر على قدرته على بث الرعب وتحقيق "الفتح العسكري" الذي طالما تغنّى به.
في المقابل، يشهد الفضاء الإعلامي التابع للتنظيم حالة من الشلل أو الشبه انقطاع، نتيجة الحملات الدولية المتواصلة على قنواته الإلكترونية. فقد تم إغلاق أو حظر العديد من حساباته ومنصاته المؤثرة، خاصة على تطبيقات مثل تيليغرام وتويتر، مما جعله غير قادر على إيصال رسائله بنفس الزخم الذي كان يتمتع به بين عامي 2014 و2017. وتحوّلت صحيفته النبأ إلى وسيلة شبه وحيدة للبقاء في واجهة الخطاب، وهو ما يفسر تصاعد النغمة الوعظية فيها، كمحاولة لتعويض غياب الخطاب التعبوي الحركي المباشر.
وفي الوقت نفسه، لا تعمل داعش في فراغ؛ فهناك صعود متسارع لتنظيمات جهادية منافسة، وعلى رأسها "القاعدة" وفروعها، وخصوصًا "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التي توسعت عملياتها بشكل كبير في منطقة الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا. هذه الجماعات باتت تتصدر المشهد الميداني، وتتمتع بامتدادات شعبية ومحلية نسبية تفوق ما لدى داعش في بعض المناطق. هذا التنافس أدى إلى محاولة التنظيم إعادة تفعيل رموزه وأفكاره التأسيسية من جديد، خصوصًا تلك المرتبطة بالولاء والبراء، والهجرة، والجهاد، بغية الحفاظ على هويته التعبوية واستقطاب أنصار جدد.
في هذا السياق، تمثل الافتتاحية الأخيرة محاولة مكشوفة لإعادة بعث الروح في سردية التنظيم عبر استدعاء حدث الهجرة النبوية، وتوظيفه كأداة تعبئة وتحريض، في وقت يفتقر فيه التنظيم لأي إنجاز ميداني يمكن الاستناد إليه. فالخطاب لم يعُد يدور حول "الفتوحات" و"التمكين"، بل انزاح باتجاه "النية" و"الإخلاص" و"الاعتبار بالزمن"، بما يعكس الانتقال من مرحلة الهجوم إلى مرحلة الدفاع والبقاء، في ظل فقدان الحاضنة الشعبية وفشل مشروع "الخلافة" في تقديم نموذج قابل للاستمرار.
ثانيًا: دلالات الخطاب
الافتتاحية مليئة بالدلالات التي تعبّر عن استراتيجية أيديولوجية مركبة:
1. إحياء مفهوم "الهجرة" و"المفاصلة"
تسعى افتتاحية النبأ إلى إعادة استحضار حدث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة لا باعتباره ذكرى تاريخية رمزية، بل كمشروع حركي دائم يُطلَب من "المسلم الصادق" أن يجسّده في واقعه، على نحو عملي ومباشر. فالهجرة، في خطاب التنظيم، لم تعد مجرد لحظة فاصلة في التاريخ الإسلامي، بل تحولت إلى واجب معاصر، يُفرض على من يعيش في ما يسمونه "ديار الكفر" أو المجتمعات الإسلامية "المرتدة" التي لا تطبق الشريعة كما يراها التنظيم. الهجرة هنا تعني الانتقال الجسدي والروحي من المجتمع إلى التنظيم، ومن الوطن إلى أرض التمكين – أي إلى حيث توجد فلول داعش أو معاقلها المتناثرة.
يكرّس هذا الطرح عقيدة "المفاصلة الشعورية" التي دعا إليها سيد قطب في كتاباته، وتبنّاها التيار الجهادي لاحقًا، وتقوم على قطيعة شاملة مع المحيط الاجتماعي والديني والسياسي. فالافتتاحية تُغلف الدعوة بالخطاب الوعظي والتذكيري، لكنها تهدف إلى عزل المسلم عن مجتمعه، وإقناعه بأن خلاصه في مفارقة وطنه وأهله، والالتحاق بصف "الطائفة المنصورة". بهذه الطريقة، تُحوّل الهجرة من فعل تعبدي رمزي إلى آلية للتجنيد، تُستعمل لتبرير التفكك الأسري، والاغتراب الفكري، والهروب من الواقع.
2. ترسيخ ثنائية الحق والباطل
يعتمد الخطاب الداعشي في الافتتاحية على ثنائية شديدة الحِدّة: "نحن" و"هم"، "المجاهدون" و"الغافلون"، "أهل التوحيد" و"أهل الشرك"، وهي ثنائية لا تترك مجالًا للرماديات أو التدرج في الحكم على الناس أو المجتمعات. فكل من لم ينخرط في مشروع التنظيم هو في خانة "الضالين" أو "المنافقين"، ولا يُستثنى من ذلك حتى المسلم الملتزم ما لم يحمل سلاحًا ويهاجر إلى أرض التنظيم. هذا التقسيم الحاد يفتح الباب لتكفير الجماهير، ويجعل من المجتمعات الإسلامية نفسها هدفًا مشروعًا للهجمات، لأنها في نظر التنظيم تعيش "جاهلية العصر".
تُعدّ هذه الثنائية من أخطر ما يميز أدبيات التنظيمات الجهادية المعاصرة، إذ تُلغي مفهوم الأمة الجامعة، وتحلّ محله تصنيفات انتقائية تُفرز المسلمين بين مؤمنين حقيقيين وخارجين عن الدين. وهذا المنطق هو ما يبرر تنفيذ عمليات انتحارية في مساجد وأسواق ومستشفيات، بدعوى أن من فيها "كفرة" أو "مرتدون". وهو أيضًا ما يجعل من العنف الجماعي ضد المدنيين أداة مشروعة في تحقيق ما يسميه التنظيم "إقامة الدين"، وهو تأويل متطرف ينسف مقاصد الشريعة ويفرغها من مضمونها الأخلاقي والإنساني.
3. تقديس العنف كذروة الطاعات
تبرز الافتتاحية مفهوم "الجهاد القتالي" بوصفه قمة القربات وأسمى درجات الطاعة، بل وتصفه بـ"واجب العصر" و"أمان أمة الإيمان"، في ترويج واضح ومباشر لفكرة أن القتال هو الطريق الأوحد إلى النجاة. وتُقدَّم كل أشكال الطاعة الأخرى – من عبادة، وزهد، وتعليم – باعتبارها أدنى مرتبة ما لم تقترن بالمواجهة المسلحة. بهذا الطرح، يتحول العنف من خيار سياسي أو وسيلة للدفاع إلى واجب ديني لا يجوز التخلّف عنه، مما ينسف كل سبل الإصلاح السلمي أو الدعوي أو المدني.
ويُلاحظ في الافتتاحية أنها تتعمد توظيف نبرة وعظية توهم القارئ بأنه مقصر في دينه إذا لم يكن جزءًا من الجهاد المسلح. هذا الاستخدام الخطابي يخلق شعورًا بالذنب، ويعزز حالة "الضغط النفسي الديني" الذي غالبًا ما يكون بوابة إلى الانخراط في العنف، خاصة في صفوف الشباب الذين يعانون من قلق وجودي أو فراغ معرفي. وبذلك، يصبح القتال ليس فقط عملًا مشروعًا، بل ضرورة تعبدية وفريضة عينية، لا تكتمل العقيدة إلا بها.
4. الإخلاص كشرط للقتل المقدس
من بين أكثر المفاهيم التي يُساء استخدامها في هذه الافتتاحية، هو مفهوم الإخلاص لله، الذي يُعاد تعريفه ضمن سياق التنظيم بأنه الإخلاص في "الجهاد والقتل". فالعنصر في داعش لا يُعدّ مخلصًا حتى يتجاوز مرحلة النية إلى مرحلة الفعل: أي الانخراط في القتال وتنفيذ العمليات باسم التنظيم. يتم بذلك اختزال الإخلاص، الذي هو في الأصل قيمة قلبية تُعنى بتجريد النية لله في كل أوجه الحياة، إلى شرط لتحليل الدماء.
ويتجلّى التلاعب الديني حين ترد جمل مثل "إن الإخلاص أول منازل الطلب، وهو حصن المجاهد"، فالمقصود هنا ليس طلب العلم أو العبادة، بل طلب الدم والسلاح. هذا الانحراف في المعنى يجعل من الفاعل الإرهابي لا مجرد مجرم، بل "مخلصًا" يسعى لنيل "رضا الله"، وهي عملية خطيرة من غسل العقول وإعادة تشكيل الضمير الديني بما يتوافق مع مشروع التنظيم. وهكذا، يصبح العنف وسيلة للتقرب من الله، ويُشرعن القتل الجماعي من بوابة الإخلاص، وهي قمة الانحراف العقائدي والسلوكي.
ثالثًا: الرسائل الدعائية والتعبوية
1. دعوة ضمنية لإعادة التمركز
تحمل افتتاحية العدد 501 من صحيفة النبأ رسالة دعائية تتجاوز الوعظ النظري إلى التحريض العملي، من خلال الترويج لمفهوم "الهجرة" لا كمجرد حركة رمزية أو روحية، بل كفعل جغرافي واقعي. فالهجرة، كما ترد في النص، يُراد بها الانتقال الفعلي من ديار يُصوَّر أنها تابعة للكفر أو للأنظمة "المرتدة" إلى أماكن "التمكين"، أي مناطق تواجد التنظيم أو ما تبقى من خلاياه. هذه الدعوة ليست جديدة، بل هي امتداد لاستراتيجية التجنيد العابرة للحدود التي اتبعها التنظيم منذ نشأته، واستقطب بها آلاف المقاتلين الأجانب، خصوصًا من أوروبا وشمال إفريقيا، ممن لبّوا نداء "الهجرة إلى أرض الخلافة".
ويُلاحظ أن هذه الرسالة تأتي في وقت بات التنظيم فيه ميدانيًا في حالة انكماش وضعف، ما يجعل هذه الدعوة إلى إعادة التمركز محاولة لإعادة إحياء الحراك التنظيمي الميداني. فالتنظيم يعلم أن بقاءه لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استعاد "مناطق التجمع الآمن" التي كانت تسهّل له التدريب، وإعداد العمليات، ونشر خطاب الخلافة. لذا، فإن استخدام "الهجرة" بهذه الصيغة، في توقيت ضعف الهيكل الجغرافي، هو نوع من التحريض المقنّع لإعادة ملء فراغاته البشرية واللوجستية، واستدعاء التعاطف العقائدي على أنه واجب عملي عاجل.
2. تثبيت أركان "نخبة الطائفة المنصورة"
تعتمد الافتتاحية على خطاب تفوقي نخبوي، إذ تصوّر جنود التنظيم كطليعة مختارة، ساروا على نهج الأنبياء، وصبروا على طريق الحق، واستحقوا بذلك مرتبة الصفوة. في هذا الإطار، تُصاغ عبارات مثل "نحسبهم ولا نزكيهم"، و"اقتفوا أثر الأنبياء"، و"استنارت بصائرهم"، لتضفي عليهم هالة من القداسة والطهارة الروحية. هذا الخطاب يعيد إنتاج ما يُعرف في أدبيات الجهادية السلفية بمفهوم "الطائفة المنصورة"، التي يُزعم أنها وحدها تمثّل الإسلام الصحيح في زمن الغربة والانحراف العام.
خطورة هذا التصور النخبوي أنه لا يكتفي بإنتاج شعور بالتمايز لدى الأفراد المنتمين للتنظيم، بل يعمل على جذب المترددين أو الباحثين عن "معنى خاص" لحياتهم، من خلال إيهامهم بأن الالتحاق بهذه النخبة هو سبيلهم للخلود والمجد. كما أن تصوير أعضاء التنظيم باعتبارهم "المخلصين الوحيدين" و"من لم يغيّروا ولم يبدّلوا"، يخلق حالة من الاصطفاف الشعوري حولهم، ويدفع القارئ المتأثر إلى التماهي معهم، بل وربما السعي لأن يكون جزءًا من هذا "الصف المختار"، وهي آلية نفسية تستغل الحاجة البشرية للانتماء والتميّز.
3. نفي التوبة إلا عبر الجهاد
من أخطر الرسائل التي تنطوي عليها الافتتاحية، هي الرسالة التي تروّج لفكرة أن التوبة لا تُقبل من المسلم إلا إذا اقترنت بالجهاد والهجرة، وأن أي طاعة لا تندرج في إطار المشروع القتالي للتنظيم لا تُعدّ كافية للنجاة. فبحسب هذا الخطاب، لا تكفي الصلاة أو الصيام أو الصدقة، بل المطلوب هو أن تُترجم الطاعة إلى فعل عسكري. هذه الفكرة تقلب المفهوم القرآني الشامل للتوبة، وتحصر النجاة في بوابة واحدة هي "القتال في سبيل الله" كما تفهمه داعش، في تزييف كامل لمقاصد الإسلام.
هذا النفي الضمني للتوبة "السلمية" أو العادية يضرب كل المعاني التربوية والإصلاحية للدين، ويحوّل الإسلام إلى أيديولوجيا عنف خالص. كما أنه يدفع الأفراد الذين يشعرون بالذنب أو التقصير إلى الانخراط في صفوف التنظيم بدافع التكفير عن "الذنوب"، خاصة إذا كانوا يعيشون في بيئات مهمّشة أو مضطربة نفسيًا. وهكذا يتحوّل الجهاد في خطاب داعش من فريضة مشروطة بظروف وشروط، إلى الوسيلة الوحيدة للتوبة، ومن ثم يصبح العنف المسلّح ليس فقط أمرًا جائزًا، بل ضرورة عقائدية لا تتم الطاعة إلا بها.
رابعًا: أثر الخطاب في تنامي التطرف والإرهاب
هذه الافتتاحية، رغم لغتها الدينية الوعظية، تُعدّ نموذجًا من نماذج الخطاب التحريضي المُقنّع، الذي يضرب في عمق الاستقرار المجتمعي ويغذي:
1. الاغتراب العقدي لدى الشباب
يُعدّ الخطاب الوعظي الذي تتبناه افتتاحية النبأ نموذجًا لما يمكن تسميته بـ"الاغتراب العقدي"، حيث يتم دفع الشباب المسلم إلى الشعور بأنهم خارج إطار الإسلام الصحيح ما لم يهاجروا ويجاهدوا. فالافتتاحية تستخدم لغة مشحونة بالعاطفة واللوم الديني، تَصِم المسلم الذي يعيش حياة عادية أو يمارس شعائره بعيدًا عن التنظيم بأنه "غافل"، "متثاقل"، وربما "منافق"، مما يزرع بداخله شعورًا بالذنب الديني العميق. هذا الشعور بالذنب، عندما لا يصاحبه فهم ديني معتدل أو بدائل فكرية، يمكن أن يتحول إلى دافع قوي للانجراف نحو جماعات تتبنى خطاب "الخلاص" عبر العنف.
ولا يقتصر خطر هذا الاغتراب على الجانب النفسي، بل يتعداه إلى توليد قطيعة بين الفرد وبيئته الاجتماعية والدينية. فالشاب الذي يتشرب هذه الرسائل يرى في مجتمعه المحيط بيئة "مهادِنة للكفر" أو "ساكتة عن الحق"، ما يعزز لديه الميل إلى الانعزال والانتماء إلى جماعة تدّعي احتكار الحقيقة. وبذلك، تُغذّي هذه النوعية من الخطابات حالة من الانفصال الوجداني والعقائدي عن المحيط، وتحوّل الشاب من مكوّن طبيعي في المجتمع إلى مشروع "قنبلة موقوتة"، تعيش بين الناس بينما ولاؤها العقائدي قد تحول إلى جهة متطرفة بعيدة جغرافيًا وقيميًا.
2. شرعنة التكفير والإرهاب
تقوم افتتاحية النبأ على تقسيم حاد للعالم إلى "دار كفر" و"دار إيمان"، مستندة إلى خطاب سلفي جهادي قديم يعيد تعريف العلاقة بين المسلم والآخر – حتى لو كان هذا "الآخر" من نفس العقيدة – ضمن منظومة "الولاء والبراء". هذا الخطاب يُشرعن التكفير بصورة ضمنية، ويمنح الممارسات الإرهابية شرعية دينية تحت مظلة "الإخلاص" و"الذب عن الدين". وفي ظل هذا التوظيف المنحرف للمفاهيم الشرعية، يصبح القتل في المساجد والأسواق، والانتحار بحزام ناسف، مظهرًا من مظاهر القرب إلى الله.
الخطورة الأكبر تكمن في أن هذا النمط من الخطاب لا يقدم فقط مبررًا للتكفير، بل يجعله واجبًا شرعيًا، ويحوّل أدوات الإرهاب إلى "وسائل خلاص". الانتحار، وهو من أعظم الكبائر في الإسلام، يُقدَّم هنا بوصفه شهادة، والقتل الجماعي يُقدَّم كجهاد، وكل من يعارض ذلك يُعدّ خصمًا لله ورسوله. وهكذا تُلغى كل المسافات بين الفتوى والدم، ويتم تمزيق النسيج الديني والاجتماعي للأمة من الداخل، في ظل صمت أو ضعف المواجهة الفكرية المؤسسية لهذا الانحراف العنيف.
3. إعادة تفعيل شبكات التجنيد
تعتمد هذه الافتتاحية على ما يمكن تسميته "التحفيز الموسمي"، وهو أسلوب يُستثمر في المناسبات الدينية الكبرى – كالهجرة، أو رمضان، أو العشر الأواخر – لتفعيل المشاعر الدينية وتوجيهها نحو أجندة التنظيم. في هذا العدد، يُستغل رأس السنة الهجرية لتحفيز مشاعر التوبة، وتوجيهها نحو الانضمام للتنظيم من خلال بوابة "الهجرة والجهاد"، وهو خطاب عاطفي محسوب بدقة، يراهن على اللحظة الوجدانية أكثر من الحجة العقلية. وهذه الآلية أثبتت فعاليتها في السنوات الماضية، خاصة في البيئات التي تعاني من الفقر، أو القمع السياسي، أو الانفصال الثقافي عن المؤسسات الدينية الرسمية.
ويزداد أثر هذا النوع من الخطاب في الأوساط الهشّة نفسيًا واجتماعيًا، حيث تلتقي الحاجة الروحية بحالة الفراغ، وتجد في الرسالة الجهادية خطابًا يمنحها "معنى" و"دورًا" و"غاية". يستغل التنظيم هذا الضعف لإعادة تفعيل شبكات التجنيد، سواء عبر الإنترنت أو الخلايا المحلية، مستندًا إلى هذه النصوص التي تُقدَّم كنداء رباني، لا كدعوة بشرية. وبذلك، تتحول الافتتاحية من مقال وعظي إلى أداة تعبئة وتحريض خفية، تُبذر فيها بذور التطرف، وتُستدرج بها العقول تحت غطاء الإيمان والنية والإخلاص.
خامسًا: مؤشرات الأزمة الداخلية والانفصال عن الواقع
1. توتر داخلي مبطّن في الخطاب
تكشف افتتاحية النبأ، من خلال تركيزها الشديد على مفاهيم مثل "الإخلاص"، و"تجديد النية"، و"محاسبة النفس"، عن وجود ارتباك داخلي في بنية التنظيم العقائدية والنفسية. فالإفراط في الوعظ الداخلي، وتكرار عبارات التذكير بالنية الصافية، لا يأتي عادة إلا في سياقات الأزمة والانكماش، حيث تحاول القيادة إعادة شحن أفرادها بشحنة إيمانية تعويضية. هذا النوع من الخطاب غالبًا ما يظهر في المراحل التي يشعر فيها التنظيم بأنه فقد "الحالة التعبوية" العامة، سواء نتيجة لانشقاقات داخلية أو تراخٍ سلوكي في صفوفه.
ويُفهم من هذا التركيز أن هناك خللًا في تماسك الصف الداخلي، وربما فقدانًا لليقين الحركي الذي كان يدفع الأفراد إلى التضحية الكاملة في السابق. فالحديث المتكرر عن ضرورة "النية الصادقة" يوحي بأن كثيرًا من الأفراد باتوا يتصرفون دون حماسة أو بدوافع شخصية، وهو ما يشكّل خطرًا على مشروع التنظيم القائم أصلًا على الاستماتة والولاء المطلق. وبالتالي، يمكن قراءة هذا الخطاب بوصفه اعترافًا ضمنيًا بوجود أزمة داخلية، يُراد معالجتها لا بالتحليل أو النقد، بل بجرعة إضافية من الخطاب الروحي الموجّه إلى من تبقى في الصف.
2. انفصال كامل عن الواقع السياسي والفكري
من اللافت في هذه الافتتاحية، كما في غيرها من أعداد النبأ، الغياب التام لأي إشارات تحليلية إلى الواقع السياسي العالمي أو الإقليمي، وكأن التنظيم يتعمد تجاهل المتغيرات التي تعصف بالعالم من حوله. لا نجد أي ذكر لموازين القوى، أو للتحولات في خريطة التنظيمات المسلحة، أو حتى للتحالفات الجديدة في مناطق الصراع، رغم أن كل هذه العناصر تؤثر بشكل مباشر على مستقبل التنظيم. وهذا الغياب لا يمكن تفسيره إلا بكونه انعكاسًا لحالة من الانفصال المتعمد عن الواقع، وإصرار على البقاء في عالم ذهني مغلق لا يرى من السياسة إلا ما يؤكد سرديته العقدية.
هذا الانعزال عن الواقع يُعتبر أحد أخطر ملامح الخطاب المتطرف، إذ ينتج خطابًا طوباويًا يتعامل مع المفاهيم المجردة – كالجهاد، والإخلاص، والهجرة – دون ربطها بالمعطيات الواقعية. فيصبح الخطاب أشبه بفقاعة لغوية، تُحاكي عالمًا مثاليًا لا وجود له، لكنها تُغذّي العنف في العالم الحقيقي. وفي هذا النوع من الخطاب، لا تُصاغ الحلول، ولا تُطرح الأسئلة الكبرى، بل يُكتفى بإعادة تدوير المقولات الحماسية لتعبئة جمهور يعيش في الهامش أو الفراغ، ويبحث عن معنى للانتماء بعيدًا عن السياسة، والدولة، والعقل. وهكذا يتحول النص من وسيلة تفسير للعالم إلى أداة هروب منه، فيغذي مزيدًا من التطرف بدلًا من احتوائه.
خاتمة: بين الخوف من الزوال والحاجة إلى الإحياء
إن افتتاحية النبأ في عددها 501 تمثل محاولة من داعش لإعادة إنتاج أيديولوجيته في وقت يعاني فيه من الانحسار، فهي خطاب دفاعي أكثر منه هجومي، يؤكد أن التنظيم يعيش قلق الزوال ويحاول بثّ الحياة في أوصاله عبر الأدبيات القديمة ذاتها: الجهاد، الهجرة، المفاصلة، النخبة، والإخلاص.
لكن خطورة هذا الخطاب تكمن في استمراره، لا بمدى تأثيره المباشر، بل في تراكمه التدريجي على مستوى الوعي الجمعي في البيئات المهمّشة، مما يوجب على المؤسسات الدينية والإعلامية تفكيك هذا الخطاب، وكشف زيفه، وإنتاج خطاب ديني بديل يعيد الاعتبار للرحمة، والتنمية، والعمل، لا الموت باسم الله.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

خدعة أمريكا، وكذبة إسرائيل.!صفوة الله الأهدل
خدعة أمريكا، وكذبة إسرائيل.!صفوة الله الأهدل

ساحة التحرير

timeمنذ 2 ساعات

  • ساحة التحرير

خدعة أمريكا، وكذبة إسرائيل.!صفوة الله الأهدل

خدعة أمريكا، وكذبة إسرائيل.! صفوة الله الأهدل* أمريكا الشيطان الأكبر لطالما خدعت الشعوب وغطت وجهها القبيح بقوانين لاتمد لها ولسياستها بصلة؛ فمتى ظهرت أنها دولة حريصة على هذا الإنسان الذي تقتله بسلاحها صباحًا ومساء في دول العالم أو يهمها أمره؟! متى وفت حتى باتفاقاتها ومعاهداتها التي أبرمتها مع من حولها بداية مع الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين؟ لو بحثت فلن تجد! ، أما إسرائيل فمتى التزمت بتهدئة أو هدنة ومضت عليها؟ كل تاريخها خروقات وغزة ولبنان خير شاهد ودليل على ذلك، إسرائيل كلها غدر على خيانة، لذا على إيران أن تأخذ حذرها وتبقي يدها قابضة على الزناد؛ فهؤلاء قوم لا أمان لهم ولايرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة. هُدن أمريكا خدعة والتزام إسرائيل بها كذبة؛ فأمريكا كانت الضمين على إسرائيل في الهدنة بينها وبين غزة، وتعهدت بإلزام إسرائيل بالمضي في هذه الهدنة، لكن ماذا فعلت إسرائيل لم تلتزم بهذه الهدنة وخرقت بنودها، وبدأت جولة ثانية على غزة والتي لازالت قائمة إلى اليوم، كذلك لبنان فلا زالت الخروقات الإسرائيلية مستمرة إلى اليوم والاعتداءات السافرة قائمة، أما في إيران فلم توافق لطلب وقف إطلاق النار والدخول في هدنة؛ إلّا لأنها تريد التقاط أنفاسها، واستعادة قوتها، وتقبّل الصفعة الكبيرة التي تلقّتها، واحتواء الصدمة والخسارة التي مُنيت بها في الجولة الأولى، وترتيب وضعها الداخلي. أمر الله عباده المؤمنين بأخذ الحيطة والحذر من الأعداء: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}؛ لأن الأعداء متى ما وجدوا الفرصة سانحة أمامهم فسينقضوا للقضاء عليهم وعلى الإسلام دفعة واحدة: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}، وحذّر أيضًا من الركون إليهم: {وَلَاتَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}؛ فهم لم يلتزموا يومًا بأي عهود أو مواثيق وغالبًا ما ينقضونها والله شهد بذلك: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}. الحرب مع أهل الكتاب ليست وليدة يومها بل هي حرب مستمرة ولن تتوقف حتى تقوم الساعة، وحربنا معهم حرب وجود وليست حدود؛ وإلّا لما كان رسول الله يسارع بقتالهم أكثر من المشركين، والدليل على ذلك من نراه اليوم، فكل تصريحات مسؤوليهم ووزرائهم في صحفهم وإعلامهم تقول بأنهم يستعدوا لجولة ثانية حين فشلوا في تحقيق أهدافهم في الجولة الأولى، لذا على إيران أن تحذر وتستعد وتعد العدة وتجهز نفسها للحرب مرة ثانية؛ حتى لاتباغتها إسرائيل وتفاجئها، وتلاشيًا لوقوع خسائر أخرى. #اتحاد_كاتبات_اليمن ‎2025-‎06-‎28

العلاقات العربية الإيرانية  من مملكة الحيرة إلى الثورة الإيرانية.. مزيج حضارى وصراعات نفوذ
العلاقات العربية الإيرانية  من مملكة الحيرة إلى الثورة الإيرانية.. مزيج حضارى وصراعات نفوذ

الحركات الإسلامية

timeمنذ 8 ساعات

  • الحركات الإسلامية

العلاقات العربية الإيرانية من مملكة الحيرة إلى الثورة الإيرانية.. مزيج حضارى وصراعات نفوذ

تمثّل العلاقات العربية–الإيرانية عبر التاريخ نموذجًا حيًا على التفاعل الحضاري، حيث امتزجت مسارات الشعبين على ساحات واسعة، من قبل ظهور الإسلام وحتى المرحلة المعاصرة. كانت هذه العلاقات محكومة بسياقات جغرافية، سياسية، ودينية متداخلة، تشكّل مزيجًا من الصراع والتحالف، من التنافس على مناطق النفوذ، والتعاون على تطوير التراث الفكري، مما جعلها محط اهتمام المؤرخين والساسة على حدّ سواء. على امتداد هذه المحطات، شهدت المرحلة قبل الإسلام مزيجًا من السيطرة الساسانية على ممالك العرب على أطراف العراق، وتفاعلًا حضاريًا انعكس على اللغة والدين، بينما مثّل العصر الإسلامى نقطة تحوّل كبرى، حيث سقطت الدولة الساسانية، وحلّت دولة الإسلام مكانها، محدثةً تفاعلًا حضاريًا غير مسبوق. ثم تتابعت المحطات، من العصر الوسيط وقيام الدويلات، إلى العصر الحديث، حيث عادت المنافسة على مناطق النفوذ، وصولًا إلى المرحلة المعاصرة، التى تتأرجح فيها العلاقات على وقع محاولات الحوار، وضغط المحاور الاقتصادية والجيوسياسية. المرحلة الأولى: قبل الإسلام قبل ظهور الإسلام، كانت العلاقات بين العرب والدولة الساسانية محكومة بظروف جغرافية وسياسية متشابكة، إذ مثّل العراق (بلاد الرافدين) الحد الفاصل والساحة الرئيسية لهذا التفاعل. كانت هذه الأرض ملتقى للحضارتين، حيث امتدت السيطرة الساسانية على ممالك العرب على الأطراف، أبرزها مملكة الحيرة التى أقامها بنو لخم، وحظيت برعاية الساسان، مما جعلها خط الدفاع الأول للإمبراطورية من جهة الجنوب، وفى الوقت ذاته بوابة للتفاعل التجارى والثقافي. تمثّل مملكة الحيرة مثالًا حيًا على الطبيعة المزدوجة للعلاقات قبل الإسلام، إذ كانت تتبع الساسان سياسيًا وتربطها بهم علاقة مصلحة وحماية، بينما تظل على علاقة قبلية بعمق الجزيرة العربية. وقد شهدت هذه المرحلة محطات توتر وصدام عسكري، حيث سعى الساسان إلى السيطرة على قبائل العرب على الأطراف، بينما حاولت بعض هذه القبائل تعزيز استقلالها، كما حدث فى معركة ذى قار الشهيرة (نحو عام ٦٠٩ م)، التى شهدت انتصار العرب على القوات الساسانية، وشكّلت علامة فارقة على قدرة القبائل على تحدى الإمبراطورية. على الرغم من طبيعة العلاقة السياسية التى شابها التنافس، شهدت المرحلة قبل الإسلام تبادلًا حضاريًا ملحوظًا، حيث انتشرت اللغة الفارسية، وفنون العمارة، والنقوش، بل والمعتقدات الدينية على حدود الجزيرة العربية. عرفت ممالك العرب المحاذية للإمبراطورية الساسانية مزيجًا من الديانات، إذ دخلت الزرادشتية إلى بعض قبائل شرق الجزيرة، بينما تفاعل العرب كذلك مع الديانات المسيحية والمانوية التى سادت على حدود العراق وفارس. شكّل العراق قبل الإسلام مسرحًا لصراعات طويلة على الموارد الاقتصادية، حيث تركزت محطات القوافل على امتداد نهر الفرات، وحظيت ممالك العرب على الأطراف، مثل مملكة لخم، بموقع محورى على طرق التجارة. سعى الساسان للسيطرة على هذه المحطات وضمان ولاء زعامات العرب، بينما كانت قبائل عربية عدة تتأرجح مواقفها بين الساسان وبين خصومهم البيزنطيين، محقّقين من هذه المنافسة مصلحة آنية، على حساب تحالفاتهم طويلة الأمد. مع اقتراب ظهور الإسلام، كانت العلاقات بين العرب والساسان تمر بمرحلة من الإجهاد السياسي، إذ شهدت ممالك العرب على التخوم، لاسيما مملكة الحيرة، صراعات على السلطة، وتدخّلًا مباشرًا من البلاط الساسانى لإحلال ملوك موالين، مما أدى إلى تراجع تدريجى لثقة العرب بالساسان. كذلك، مهدت هذه المرحلة الطريق لاحقًا لاستقبال العرب رسالة الإسلام، إذ كانت الجزيرة مهيأة سياسيًا، وجاهزة فكريًا، لظهور قوة توحّد قبائلها وتستثمر موقعها الجغرافى وحضورها العسكري، لتمتد لاحقًا شرقًا وغربًا، محوّلة موازين القوى، ومؤرّخة لحقبة جديدة من العلاقات مع فارس. المرحلة الثانية: العصر الإسلامي مع ظهور الإسلام وتوسّع الدولة الإسلامية، شهد القرن السابع تحوّلًا محوريًا على خارطة الشرق الأوسط. ففى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، اندفعت الجيوش الإسلامية شرقًا، حيث خاضت عدة معارك فاصلة ضد الدولة الساسانية، أبرزها موقعة القادسية عام ٦٣٦ م، التى شكّلت نقطة تحول تاريخية. تبعها فتح المدائن، عاصمة الساسان، مما أدى إلى انهيار السلطة الساسانية تدريجيًا، وانتهاء عصرها السياسى عام ٦٥١ م بمقتل آخر ملوكها، يزدجرد الثالث، على أطراف خراسان. لم يكن الفتح الإسلامى مجرد تغيير سياسي، بل مثّل انتقالًا حضاريًا عميقًا. قاومت بعض المدن والجماعات الفارسية الجيش الإسلامي، كما شهدت عدة مناطق، مثل خراسان ومرو، محاولات لاستعادة الحكم الساساني، قبل أن يُحكم السيطرة عليها. كانت هذه المرحلة محملة بوقائع عنيفة وحملات تأديبية، كما شهدت انتفاضات محلية على السلطة الجديدة، مما أدى إلى تأسيس مراكز عسكرية وإدارية، مهدت الطريق لاستقرار الدولة الإسلامية على أنقاض الساسان. مع مرور الوقت، تحوّل الفرس من محاربين ومنافسين إلى عنصر محورى ضمن الدولة الإسلامية الناشئة. اعتنق الكثيرون الإسلام، وشاركوا بفعالية فى مؤسسات الدولة، كما أدى امتزاج التراث الفارسى بالعقل العربي–الإسلامى إلى ولادة حضارة مميزة. ظهر علماء ومفكرون من أصول فارسية تركوا أثرًا عميقًا على الحضارة الإسلامية، من بينهم سيبويه، مؤسس علم النحو، والرازي، الطبيب الموسوعي، وغيرهما من الفلاسفة، مما عكس التفاعل الحضارى الكبير بين العنصرين. مع قيام الدولة العباسية عام ٧٥٠ م، شهد الدور الفارسى تناميًا غير مسبوق، إذ اتخذت بغداد عاصمةً، وتقع على مقربة من مراكز الحضارة الساسانية القديمة. شكّل الفرس طبقة واسعة من العلماء، الوزراء، والكُتّاب، بل كان لهم دور محورى على المستويات الاقتصادية، الثقافية، والإدارية. كما ساهمت الترجمات من الفارسية إلى العربية، وتفاعل المدارس العلمية، فى بلورة العصر الذهبى للحضارة الإسلامية، حيث امتزج التراث الفارسى بالعربي، مفرزًا عطاءً حضاريًا مشتركًا. بالرغم من الاندماج، شهد العصر الإسلامى محطات توتر وصراع على السلطة، إذ سعى البعض لاستعادة مراكز نفوذهم تحت رايات محلية، كما حدث مع ظهور الدويلات الفارسية شبه المستقلة، مثل السامانيين، البويهيين، والسلاجقة، التى تحدت سلطة الخلافة المركزية، ولكنها حافظت على إطار حضارى مشترك. كذلك، برزت حساسيات تتعلق بالعلاقة الثقافية والدينية، حيث سعت بعض التيارات لإحياء التراث الفارسى قبل الإسلام، بينما دافعت السلطة العباسية عن إطار العقيدة الجامعة، مما شكّل تفاعلًا وصراعًا حضاريًا متميزًا على امتداد هذه المرحلة. المرحلة الثالثة: العصر الوسيط مع تراجع سلطة الخلافة العباسية عن السيطرة المباشرة على الأطراف، شهد القرن التاسع والعاشر قيام عدة دويلات مستقلة ذات طابع محلى وفارسي–تركي، شكّل ظهورها نقطة تحوّل مهمة على خريطة الشرق الإسلامي. برزت الدولة السامانية (٨١٩–٩٩٩ م) على تخوم خراسان وبلاد ما وراء النهر، مُمَهّدة الطريق لانتعاش التراث الفارسى تحت إطار الحضارة الإسلامية. كما برزت دولة البويهيين (٩٣٢–١٠٦٢ م) التى سيطرت على بغداد، وحوّلت الخلفاء العباسيين إلى رموز روحية تحت وصايتها، مما أدى إلى بروز توتر وصراع على السلطة والنفوذ السياسي. شكّل السامانيون نموذجًا للدويلات التى عملت على المزج الحضاري، حيث شهدت عاصمتهم بخارى نهضة أدبية وفكرية مميزة. ازدهر استخدام اللغة الفارسية، وتألّق الشعراء، وعلى رأسهم رودكي، كما جُمِع التراث الفارسى قبل الإسلام وحُرر بلغة العصر. ساهم السامانيون كذلك فى تعزيز الترابط الثقافى والديني، حيث احتضن بلاطهم علماء ومفكرين من شتى أصقاع العالم الإسلامي، مما أدى إلى إثراء التراث الحضارى المشترك. مع سيطرة البويهيين على بغداد، دخلت الخلافة العباسية مرحلة الضعف السياسي، حيث تحوّل الخليفة إلى سلطة رمزية تحت سطوة الأمراء البويهيين. شهدت هذه المرحلة صراعات طائفية ومذهبية، إذ شجّع البويهيون على انتشار الفكر الشيعى على حساب السلطة السنية، مما أدى إلى توترات على مستوى السلطة والدين، وفتح بابًا لصراعات طويلة على الشرعية، عرفت بالسجال السني–الشيعي، وتركت أثرًا عميقًا على موازين القوى السياسية والدينية. مع ظهور السلاجقة (١٠٣٧–١١٩٤ م)، تغير ميزان القوى مجددًا، إذ سيطر هؤلاء على بغداد عام ١٠٥٥ م، وأعادوا للخليفة السنى اعتباره الرمزي، بل وترجموا انتصارهم السياسى إلى دعم مؤسسات التعليم، حيث أقام الوزير نظام الملك المدارس النظامية، التى أصبحت مراكز لنشر العلوم الشرعية وتكريس المذهب السني، مما أدى إلى تفاعل حضارى متميز، ولكن على أرضية مذهبية، وشكّل المرحلة الحقيقية لانتقال السلطة من المحيط الفارسي–البويهى إلى المحيط التركي–السني. اتسم العصر الوسيط بجدلية مزدوجة: مزيج حضارى غني، وصراعات على السلطة والنفوذ السياسى والديني. ففى الوقت الذى شهدت فيه المدن كخراسان، نيسابور، بغداد، وأصفهان ازدهارًا علميًا وفلسفيًا، عرفت المرحلة كذلك توترات وحروبًا على السلطة، ومنافسات على الشرعية الدينية، وصراعات على السيطرة على الطرق الاقتصادية. رغم هذه التناقضات، ترك العصر الوسيط أثرًا عميقًا على التراث الإسلامي، حيث شكّل مزيج الثقافات الفارسية–العربية–التركية أساسًا للحضارة التى ستتبلور لاحقًا، وترسم ملامح المرحلة التالية من التاريخ الإسلامي. المرحلة الرابعة: العصر الحديث مع انهيار الدولة الصفوية عام ١٧٢٢ م على إثر الغزو الأفغاني، دخلت إيران مرحلة من الاضطراب السياسي، قبل أن يتمكّن القاجاريون من تثبيت سلطتهم عام ١٧٩٤ م. شكّل هذا الانتقال نقطة فاصلة على الصعيد السياسي، إذ تراجعت سلطة إيران على سواحل الخليج، وبرزت القوى الأوروبية، خاصة بريطانيا، كفاعل محورى على ممرات التجارة البحرية، مما أدى إلى احتدام الصراع على مناطق النفوذ، وعلى رأسها مملكة عمان، إمارات الساحل، ومراكز التجارة الحيوية على الخليج. خلال القرن التاسع عشر، شهدت العلاقات الإيرانية–العربية محطات توتر عدة على سواحل الخليج، حيث سعى القاجاريون لاستعادة السيطرة على مراكز تاريخية كالبحرين، بينما تزايد النفوذ البريطاني، مما أدى إلى توقيع عدة اتفاقيات تحد من طموح الدولة القاجارية. على الطرف المقابل، شهدت الإمارات والسعودية الناشئة محاولات لترسيخ مواقفها على الساحة، مما مهد الطريق لصراعات لاحقة على الحدود، وفتح بابًا لحقبة طويلة من التنافس على الموارد وممرات التجارة. مع قيام الدولة البهلوية عام ١٩٢٥ م، سعت إيران إلى تحديث مؤسساتها وتعزيز نفوذها الإقليمي، مما أدى إلى توترات مع العراق على ترسيم حدود شط العرب، وكذلك على الجزر الثلاث (طنب الكبرى، طنب الصغرى، أبو موسى). كما شهدت المرحلة اقترابًا مؤقتًا من القوى الغربية على حساب المحيط العربي، قبل أن تؤثر الحرب الباردة على طبيعة العلاقات، حيث أصبحت إيران طرفًا محوريًا ضمن محورى واشنطن وموسكو، مما أدى إلى تفاعل وصراع غير مباشر على الساحة العربية. شكّل عام ١٩٧٩ م نقطة تحوّل جذرية، حيث أطاحت الثورة الإيرانية بنظام الشاه، وحملت على عاتقها مشروعًا إسلاميًا له طابع شيعي، مما أدى إلى تغير موازين القوى. تسبّبت الثورة وحرب الخليج الأولى (١٩٨٠–١٩٨٨ م) فى تعزيز الفجوة بين إيران والدول العربية، وعلى رأسها العراق ودول الخليج، حيث شهدت المرحلة حربًا مدمرة على الحدود، تركت أثرًا عميقًا على العلاقات، ومهّدت الطريق لسياسات المحاور على امتداد العقود اللاحقة. مع مطلع القرن الحادى والعشرين، تبلور دور إيران كقوة محورية ذات تأثير مباشر على الأمن العربي، حيث شهدت المرحلة تنامى نفوذها عبر محطات عدة، منها سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣ م، وتعزيز دورها السياسى والعسكرى فى العراق، وكذلك دعمها لأذرع محلية فى لبنان عبر حزب الله، وفى سوريا عبر دعم نظام الأسد، وفى اليمن عبر جماعة الحوثيين. أدى هذا التمدد إلى تشكّل محاور إقليمية متنافسة على امتداد الشرق الأوسط، مما شكّل ملامح المرحلة الرابعة من تاريخ العلاقات، التى تتأرجح بين محاولات الحوار السياسى ومخاطر التصعيد العسكري. مبدأ "تصدير الثورة" كركيزة للسياسة الإيرانية مع قيام الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ م، تبنّت طهران مبدأ "تصدير الثورة" كجزء أصيل من مشروعها السياسى والديني، إذ سعت من خلاله إلى توسيع نفوذها خارج حدودها الوطنية، وتعزيز تأثيرها على المحيط الإقليمي. لم يعد الأمر محصورًا بالشأن الإيرانى الداخلي، بل تحوّل إلى منهج فكرى وحركي، يعتمد على مزيج من التعبئة العقائدية والدعم السياسي، لبناء محاور تؤمن لإيران دورًا محوريًا على الساحة الإقليمية، مبررةً هذه التوجهات بالسعى إلى نصرة المستضعفين ومواجهة "الاستكبار العالمي". ارتبط مبدأ "تصدير الثورة" بشكل مباشر بإنشاء وتنظيم مجموعات مسلحة وتنظيمات عقائدية موالية لإيران على امتداد بلدان عربية عدة، من العراق إلى لبنان واليمن. شكّل حزب الله نموذجًا محوريًا على هذا التوجه، حيث نشأ كحركة مقاتلة ومكون سياسى تُمثّل امتدادًا مباشرًا للحرس الثورى الإيراني. كما شهد العراق تأسيس عدد من الفصائل المسلحة التى عملت على تعزيز نفوذ طهران، وتحويل بعض مؤسسات الدولة إلى أذرع تؤمن مصالحها، مما أدى إلى زعزعة موازين السلطة وتعزيز الاصطفاف الطائفي. تمثّل سياسة تصدير الثورة تحدّيًا مباشرًا لسيادة عدة دول عربية، حيث تؤثر على قرارها السياسي، وتنتهك حدودها، وتستغل توتراتها الداخلية لتعزيز النفوذ الإيراني. ففى اليمن، على سبيل المثال، أدى الدعم الإيرانى للحوثيين إلى تفاقم الحرب، وتقويض سلطة الدولة، وتحويلها إلى ساحة صراع محورى على النفوذ. كما تسببت هذه السياسة بتعزيز حالة عدم الاستقرار السياسي، وتعزيز الصراعات الطائفية، مما أدى إلى تآكل بنية الدولة، وتعزيز بيئة خصبة لنمو الجماعات المسلحة. لم تقتصر تأثيرات هذه السياسة على الأمن السياسي، بل امتدت إلى الساحة الاقتصادية والاجتماعية، حيث عرقلت جهود التنمية، وضاعفت من أزمات اللاجئين، وضربت البنية الاقتصادية لعدد من بلدان المنطقة. ففى العراق، أدى نفوذ الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران إلى انتشار الفساد، وتعزيز اقتصاد مواز، مما أثر على مؤسسات الدولة الرسمية. وفى سوريا، أدى التدخّل الإيرانى المباشر إلى مفاقمة الأزمة الإنسانية، وتوسيع رقعة الدمار، وتحويل الصراع إلى ساحة مواجهة إقليمية ذات طابع مذهبي. تمثّل سياسة "تصدير الثورة" تحدّيًا طويل الأمد للعالم العربي، مما يحتم على الدول العربية بلورة إستراتيجيات موحّدة وحازمة للحفاظ على سيادتها وضمان توازن القوى على الساحة الإقليمية. تتطلب هذه الإستراتيجية تعزيز مؤسسات الدولة، وحماية الأمن القومي، وتنشيط الدبلوماسية المشتركة، والعمل على تفكيك الشبكات التى تغذّيها الأطراف الخارجية. ففى المحصلة، يشكّل التصدى لهذا التحدّى ضرورة تاريخية للحفاظ على وحدة وتماسك النظام العربي، وضمان الأمن والاستقرار لشعوبه. المرحلة الخامسة: المرحلة المعاصرة مع سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣، دخلت العلاقات العربية–الإيرانية مرحلة غير مسبوقة، حيث أدى الفراغ السياسى فى العراق إلى تعزيز النفوذ الإيرانى على الساحة العراقية، مما أقلق المحيط العربي. وعلى الرغم من محاولات الحوار الدبلوماسى على مستوى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، شهدت المرحلة توترًا متزايدًا، حيث اعتبرت بعض العواصم العربية التمدد الإيرانى خطرًا مباشرًا على توازن القوى التقليدي، بينما سعت طهران لترسيخ نفوذها كقوة محورية على امتداد المحور الممتد من العراق إلى سوريا ولبنان. اتخذت إيران استراتيجية تعتمد على تطوير تحالفات عسكرية وتنظيمية على الأرض، إذ شكّل حزب الله اللبنانى نموذجًا مبكرًا على هذه المرحلة، قبل أن تتوسع الظاهرة إلى العراق عبر قوات الحشد الشعبي، وإلى سوريا عبر الدعم المباشر للنظام، ثم إلى اليمن من خلال دعم الحوثيين. جعلت هذه الشبكة من الفصائل المسلحة المحسوبة على إيران لاعبًا محوريًا على الساحة، ومصدراً لقلق كبير لدى القوى العربية الساعية للحفاظ على سيادة أراضيها، مما أدى إلى نشوء محاور متقابلة وصراعات غير مباشرة على امتداد المنطقة. شهدت المرحلة المعاصرة احتدام المنافسة على الساحة الاقتصادية، حيث تتقاطع المصالح حول ممرات الطاقة وحركة الملاحة، لاسيما فى مضيق هرمز. ففى عام ٢٠١٩ م، على سبيل المثال، شهدت المنطقة سلسلة من التوترات على خلفية احتجاز ناقلات النفط والهجمات على المنشآت النفطية، مما أدى إلى تحشيد القوى الدولية وتشكيل تحالفات ملاحية تهدف إلى حماية خطوط النقل، وترسيخ التباين السياسي–الأمنى بين المحور الإيرانى ودول الخليج. على الرغم من التوترات، شهدت المرحلة محطات عدة للحوار، أبرزها الاتفاق النووى عام ٢٠١٥ م (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذى فتح بابًا للحوار الإيراني–الغربي، مما انعكس على محاولات عربية–إيرانية لتهدئة التصعيد على عدة جبهات. تكلّلت هذه المحاولات عام ٢٠٢٣، بوساطة صينية، بعودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، مما أظهر إمكانية الحوار على الرغم من العقبات، إلا أن التوتر على الساحة السورية، اليمنية، وكذلك التنافس على مناطق النفوذ فى العراق، ظلّ يشكّل تحديًا مستمرًا للاستقرار. تمثّل المرحلة المعاصرة ذروة التفاعل المتناقض للعلاقات العربية–الإيرانية، حيث تتأرجح مواقف الأطراف وفق متغيّرات ميدانية وسياسية على الساحة الإقليمية والدولية. ففى الوقت الذى شهدت فيه بعض المحطات محاولات لتهدئة التوتر عبر الحوار والتعاون على ملفات مشتركة، ظلّت نقاط الخلاف، من دعم إيران للحلفاء من جهة، ومخاوف الدول العربية من تمدد النفوذ الإيرانى من جهة أخرى، تشكّل المحور الأساسى للعلاقة. هذا الوضع يجعل المرحلة القادمة مفتوحة على كل الاحتمالات، ما بين السعى نحو تفاهمات استراتيجية تضمن الأمن المشترك، أو عودة التصعيد الذى يحمل تداعيات كبيرة على مستقبل المنطقة. خاتمة تشكّل العلاقات العربية–الإيرانية عبر العصور نموذجًا متميزًا لما يمكن أن تقدمه دراسة التاريخ من دروس للحاضر، حيث تتقاطع محطات طويلة من التفاعل الحضارى والتنافس السياسى على الأرض ذاتها. ففى كل مرحلة، من قبل الإسلام إلى العصر الحديث، شكّل المزج الثقافي، والديني، والسياسى ملامح علاقة معقّدة، تحددها موازين القوى، وتشعلها نقاط التوتر، وتحتويها محطات الحوار والتفاعل المشترك. واليوم، تواجه هذه العلاقات تحديات تتجاوز البعد الجغرافي، إذ تتشابك مع قضايا الأمن القومي، وممرات الطاقة، وصراعات المحاور، مما يجعلها محط اهتمام القوى الدولية. على الرغم من محاولات الحوار، يظل التنافس على مناطق النفوذ، والتباين المذهبي، محركًا محوريًا يشكّل ملامح المرحلة القادمة، حيث تبقى النتائج رهنًا بمدى استعداد الأطراف لاستثمار نقاط التقارب وتحييد نقاط التصادم. إن قراءة هذه المحطات التاريخية، وفهم أسباب التصعيد والتفاعل على امتداد قرون طويلة، تفتح بابًا لاستشراف مستقبل العلاقات العربية–الإيرانية، وتعزيز إمكانية الحوار على قاعدة الاحترام المتبادل، وتحقيق الأمن المشترك. ففى نهاية المطاف، تظل هذه العلاقة المحورية عنصرًا محددًا لاستقرار منطقة الشرق الأوسط، ومفتاحًا محتملاً لصياغة نظام إقليمى أقل توترًا، وأكثر تفاعلًا على أرضية المصالح المشتركة.

الفلسفة السياسية والنظرية السياسية / الجزء الثاني: الأيديولوجيا
الفلسفة السياسية والنظرية السياسية / الجزء الثاني: الأيديولوجيا

موقع كتابات

timeمنذ 12 ساعات

  • موقع كتابات

الفلسفة السياسية والنظرية السياسية / الجزء الثاني: الأيديولوجيا

الأيديولوجيا هي مجموعة من الأفكار والقيم التي تشكل رؤية الإنسان للعالم وتوجه سلوكه. على سبيل المثال، قد تكون الأيديولوجيا دينية، مثل ما ينبثق عن الإسلام، أو سياسية، مثل الاشتراكية. هي تساعد في تفسير الأحداث وتبرير الأفعال، لكنها ديناميكية وتتغير مع الظروف الاجتماعية. تؤثر الأيديولوجيا على كيفية اتخاذ القرارات، سواء في الحياة اليومية أو في السياسة. على سبيل المثال، قد تؤدي أيديولوجيا معينة إلى دعم سياسات معينة أو رفضها بناءً على المعتقدات. غالبا الأيديولوجيات تدخل الذهن من تفاعل الإنسان ونظم سائدة في المجتمع كنظام الحكم بالذات وربما يفكر الإنسان في تطويرها من العيش والحاجات وطريق سدها أو الغرائز وإشباعها، الإسلام مثلا نظام حكم قد يعتبره البعض أيديولوجيا دينية، لكن هذا خطأ فالإسلام يحوي فلسفات متعددة ومعايير وقيم فهو يقع في موضع جامع لفلسفات لها معايير وقيم، لكن ممكن أن ينتج أيديولوجيا في النظرية السياسية من خلال رؤية للواقع تتغير مع الزمان والمكان، لكن الاشتراكية هي نظرية سياسية منبثقة عن الشيوعية التي لم تك قادرة على الدخول إلى الواقع مباشرة، الرأسمالية فلسفة إدارة المال والآليات المحيطة بها ممكن أن تشكل بيئة سياسية لكن لا تضع نظرية سياسية لذا تجد هنالك فاعلية لمراكز القوى وما يمكن أن يسمى بالدولة العميقة، فسلوكها في الإدارة الداخلية مختلف عن سلوكها خارج الدولة في المستعمرات مثلا. التفريق بين التفكير الفلسفي والأيديولوجي قد لا يفهم من العقليات البسيطة والشعبوية أي السوقية بالتأكيد الأيديولوجيا تؤثر على تعبير الشخص نحو الأمور، لكني أرى أن هنالك اختلاف بين السلوك المنبثق عن أيديولوجيا وذاك المنبثق عن آلية، فالسلوك المنبثق في التعامل الحسن بهدف مصلحة لا يعبر عن قناعته ، السلوك الأيديولوجي يعبر عن قناعات، والاثنان قد لا يلتزمان بالسلوك السوي الذي من الطبيعي أن تفرضه قيمهما عندما تتعاظم الغريزة أو الحاجة وهنا تأتي الفلسفة والتي هي الأفكار الرادعة وهذه أيضا تضبط ولكن قد يخرج الإنسان عنها مرافق له نوعا من الإحساس بالذنب وهذا رادع عن الاستمرار. وإذا كان ظهور المصطلح أول مرة عند الفيلسوف الفرنسي أنطوان دستو دو تراسي في نهاية القرن الثامن عشر، حيث استخدمه لوصف 'علم الأفكار' فانه اليوم توسع وهنا تظهر مشكلة الخلط التي قد تمنع التحديث والتطوير أو التوسع في الأفكار عندما يتعامل مع القيم وهي معايير فلسفية لا أرى أن تدمج معا كتعريف رغم بقائها كمنظومة عمل وحياة، كذلك الأخلاق فهي نظام معياري لانتظام السلوك. التباس المعنى للأيديولوجيا: غالبا ما تعتبر الصفة الأيديولوجيا في مجتمعنا كتعبير عن التعصب والسلوك السيء لفئة سياسية كالشيوعية أو مجموعة دينية، وتربط بالفشل بينما الأيديولوجيا هي منظمة الأفكار، غالبًا ما تُرتبط الإيديولوجيات السياسية (مثل الإسلامية، القومية، الليبرالية) بالانقسامات الطائفية وتدهور الخدمات مثل الكهرباء والمياه جعل الجمهور يرى الإيديولوجيات كشعارات فارغة، عندما تفتقد الرؤية ويحبط الجمهور، والرؤية مهمة للعمل السياسي الجاد وهي قواعد الحساب بين الأحزاب والجمهور وبفقدانها سنجد الطموحات الشخصية تظهر وفقدان الثقة وعزوف الجمهور عن الانتخابات عند ظهور الفساد على هذه الطبقة، الإيديولوجيات تُشوه بسبب ارتباطها بأنظمة سياسية غير عادلة؛ دعم إصلاحات تعزز تكافؤ الفرص وتمثيل الفئات المهمشة يمكن أن يحسن صورتها الابتعاد عن التحالفات المثيرة للجدل أو المرتبطة بالفساد يعزز المصداقية. من الضروري إشراك الشباب ومراجعة وتعديل الخطاب، فالفساد لا يهدم المدنية فحسب بل يهدم القيم والثقافة وبذلك تضيع الفلسفة والنظرية وكل ما يتبعها من فروع وتسميات. الأيديولوجيا، التنظير، عوامل أساسية لا يقوم بدونها فكر فاعل على الأرض ولكن عليها أن تتبنى التفكير بما هو مطلوب لصناعة الحياة والمستقبل وليس بتجميد الفكر والإنسان أو جره إلى الماضي والعجز أو إفراغ الطاقة بتغليب التخلف والعدمية عندما نضع فكرة كتحقيق المساواة للجميع علينا أن نكون صادقين في توزيع الموارد وان يكون الحاكم والمحكوم بنمو متوازن وليس نمو انفجاري عند المسؤولين وانحدار عند الشعب، أو زيادة الضرائب لتعظيم الوارد بدل القضاء على الفساد، فهذا كله من عوامل عدم الاستقرار وان كان الأمن مستتبا وفق معايير السلطات.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store