logo
الحرب وأخلاقيات العفو والعدالة!

الحرب وأخلاقيات العفو والعدالة!

الجزيرةمنذ 7 أيام
يظل سؤال العدالة والتعافي المجتمعي من أكبر التحديات في خاطرة الأمم التي ابتُليت بالحروب والعنف، وبدأت تتلمس طريقها نحو طي صفحة الماضي.
وهذا طريق مليء بالدموع والألم بقدر ما فيه من الأمل، ويرى كثيرون أنه لا بد أن يمر بتضحية مجتمعية تضع حداً لجرحٍ غائر ما له من سبيل للتعافي بدونها. وهذه في أغلب الأحيان عملية شائكة وشاقة، ومن الصعب إخضاعها لمعايير الخطأ والصواب؛ لاختلاف الناس حول هذه المعايير ابتداءً، وللقدر العالي من الشحن العاطفي ذي الطبيعة المركبة الذي يحيط بها، سواء من الضحايا وذويهم من جهة، ومن مرتكبي الجرائم من جهة أخرى.
لذا، فإن من المألوف عودة هذه القضايا إلى السطح بعد مضي عشرات السنين على ما اعتُبر في حينه نقطة وسطية، تحقق مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وتأخذ للضحية حقه (أو جزء منه)، وتتيح في نفس الوقت إعادة بناء اللحمة الوطنية والمجتمعية.
ولا شك أن العفو قيمة إنسانية لها جوانبها الإيجابية في كثير من الأحوال، فهو يتيح التعلم من الأخطاء بصورة بنّاءة، والمضي إلى الأمام من خلال تحقيق السلم بين مكونات المجتمع، ولكن يبرز السؤال عما إن كان العفو عن الجرائم الخطيرة المتعلقة بالمظالم الفردية أو المجتمعية لا مكان له مقابل الفظاعات المرتكبة، وربما يمثل فعلاً غير أخلاقي في حد ذاته؛ لما يرتبط به من قفز فوق القيم التي تحقق التوازن والتمدن المجتمعي، وهي قيم تقوم في الأساس على ربط وثيق بين ارتكاب الجرم والفظائع، وبين ما يترتب على ذلك من الشعور باللوم والعار، والرهبة من تحقيق العدالة، والخوف من رغبة الضحية أو المجتمع في الانتقام.
الضحايا والجناة بين مفهوم متحرك للعدالة
يمثل اختلاف مفهوم العدالة عند الأطراف ذات الصلة (الضحايا، مرتكبي الجرائم، ناشطي المجتمع المدني والسلطتين السياسية والقانونية) أحد التعقيدات الملحوظة في ملفات المجتمعات التي خرجت لتوها من أتون النزاعات والحروب؛ ما يحتم وجود حوار بنّاء بين هذه الأطراف، والاتفاق على التعريفات المطلوبة، قبل انطلاق أي فعل يدخل في نطاق تحقيق العدالة والمصالحة.
هذا المفهوم للعدالة لا يعني بالضرورة العفو أو العقاب والقصاص وفق ما تفصله القوانين، ولكن قد يكون مزيجاً بين العقاب المناسب وإعادة التأهيل. وبغض النظر عن تعريف العدالة في هذه الظروف الخاصة، يتفق كثيرون أن السلام لا بد أن يمر من بوابة تحقيقها، وإيجاد تعريفات لها تتكيف مع الحالة المعينة، وتتفاعل إيجابياً مع الجذور التاريخية التي أدت إلى اندلاع العنف.
وهذا جهد معرفي وفكري مطلوب، يتيح للجميع الخروج من سجن كبير بلا جدران، تمثل فيه الكراهية والغضب وحب الانتقام أرضيات تبدو بلا حدود، ولا سبيل للخروج منها سوى الاستعداد لتنفس مشاعر مختلفة، تمثل مزيجاً من الاعتراف بالظلم وتقبل العقاب والتأهيل من جانب، والاستعداد لإعلاء فضيلة العفو والعفو المشروط من الجانب الآخر.
الحوار الصعب وضرورته في تحقيق السلم
تحتم ضروريات تحقيق السلم عدم النظر إلى تحقيق العدالة والعفو على أنهما طرفان في معادلة صفرية، بل مفهومان متكاملان؛ وربما يتفق كثيرون على أنهما يتطلبان حواراً مكشوفاً بين الضحايا ومن ساهم في إيقاع الأذى بهم.
عند كثيرين، خاصة من مروا بتجارب مشابهة، تتيح هذه الحوارات رؤية الجوانب الخفيَّة لكل طرف، أي رؤية المعاناة والألم من جانب، ورؤية ذلك الجانب المظلم الذي طغى على الخير الإنساني من الجانب الآخر، وهذا بدوره يتيح الإتيان بمعالجات ناجحة، تكون من أصل المشكلة وليست استنساخاً شائهاً من نزاعات أخرى لا تحمل نفس الخلفيات والمآلات.
ومن الأهمية بمكان تعريف هذا الفعل بالعبارات المطلوبة، فهو قطعاً ليس بعملية تنطلق فيها نبرات التشفي غير المحدود، أو غسولاً من الجرائم بلا ثمن، أو عفواً من جانب الضحايا (وإن كانت قلة منهم قد تختار ذلك)! ولكن ربما يُفضَّل النظر إليه كمحاولة وجهد دؤوبين لتجنب الوقوع في مصيدة التشفّي والانتقام، والعمل على إيجاد الأرضيات المشتركة (كالوطن الواحد) واللغة الحوارية المناسبة، التي تمكن من إنجاز نوع من العدالة التصالحية والعقاب المناسب مع الجرم. وفي الوقت نفسه، يستشرق هذا الجهد مستقبلاً مختلفاً، يطوي صفحة الكراهية والإقصاء وتسفيه الآخر والتعالي عليه.
وهذه جراحة مجتمعية تتجاوز الأفراد المعنيين إلى كونها طريقاً يتقطر دمعاً وألماً، ولا يتأتّي بدون مكاشفة مجتمعية بإشراف مؤسسات السلطة والمجتمع المدني، سواء في سبيل لحمة وطنية ومجتمعية تتيح المضي إلى الأمام، وتعطي إضاءة للمجتمع وقيادته عن الأسباب التي تقود بعض المجموعات والأفراد لارتكاب أنواعٍ غير مسبوقة من العنف، لا يمكن تفسيرها دون الاستماع لمرتكبيها، ما يشكل ضمانة لديمومة أي مقاربات للحلول.
نقطة التوازن بين شأن الفرد والمجتمع والدولة
بما أنه ليس بالضرورة أن تكون العدالة والعفو قيمتين تلغي إحداهما الأخرى، بل إن الاثنتين معاً ضروريتان لتحقيق السلم، لذا يبدو من غير المعقول تقبل فكرة العفو المطلق والمضي إلى الأمام بدون الاعتراف بالمظالم، واستعداد مرتكبيها لصِيَغ متفق عليها من العقاب. وأيضاً يبدو من المناسب اعتبار العفو فضيلة فردية قد تناسب البعض باعتبارها مخرجاً أخلاقياً يأخذ في الاعتبار الحالة النفسية للضحية، ويعلي من أهمية عدم الارتهان سايكولوجياً لقيم الكراهية وحب الانتقام. وفي المقابل، فإن تحقيق العدالة هو من شأن الدولة والمجتمع.
جانب آخر من تشابكات العفو وتحقيق العدالة يتمحور حول المؤسسات المنوط بها منع حدوث الجرائم، وهي دائماً مؤسسات ذات طبيعة أمنية وعسكرية وقانونية، من صميم مهامها منع حدوث الجرائم وحماية المجتمعات. من المفيد أن تقوم هذه المؤسسات بالمراجعات اللازمة التي تتيح المحاسبة الداخلية وتحديد المسؤوليات، الفردي منها والمؤسسي.
هناك نزاعات كثيرة تركت أثراً غائراً على مجتمعات بكاملها، وفي بعضها امتد ذلك الأثر لأكثر من جيل. هذه المجتمعات دائماً تجد صعوبة في تقبل أي مقاربات وسطية في سبيل المضي قدماً إلى الأمام وعدم النظر إلى الماضي وذكرياته الأليمة. تحتج هذه المجتمعات دائماً بأن المقاربات الوسطية لا تحقق السلم والتعافي، ودائماً ما تترك أثراً في غاية السلبية، خاصة إذا كانت مجتمعات الضحايا ومرتكبي الجرائم ما زالت تعيش بعضها إلى جانب بعض. وهو ما يتطلب تدخلاً على مستوى السلطة؛ لإيجاد مقاربات تتيح إعادة هندسة هذه المجتمعات حتى لا تعيد الأزمة إنتاج نفسها، لا في الأجل القريب ولا في الأجل البعيد.
بالرغم من الفظاعات المرتكبة خلال هذه النزاعات، وجدت مجتمعات عديدة طريقها نحو السلم المجتمعي، والانطلاق لما فيه مصلحة الجميع في عملية بناء هرمي، تتحسس الخير الإنساني كقاسم مشترك عند الجميع، وتهدف إلى إعادة بناء المجتمع
ختاماً..
تتمظهر شعورياً ولاشعورياً حالة تمثل مزيجاً من الأحاسيس في مجتمعات ما بعد الحروب والعنف، وتتبدَّى كطيف من الحزن والأسى والآلام النفسية والغضب والبحث عن العدالة والرغبة في الانتقام، ولربما عجزت مخيلة البعض عن الإتيان بأحرف تصف ما وراء تعابير الأوجه المثقلة بالألم والأعين المثخنة بالجراح.
وبالرغم من الفظاعات المرتكبة خلال هذه النزاعات، وجدت مجتمعات عديدة طريقها نحو السلم المجتمعي، والانطلاق لما فيه مصلحة الجميع في عملية بناء هرمي، تتحسس الخير الإنساني كقاسم مشترك عند الجميع، وتهدف إلى إعادة بناء المجتمع، وتقودها معاني تمثل وقودها الذاتي، كالاعتراف بالجرائم والاعتذار الشخصي والمؤسسي وتبني مبدأ العقاب من جانب، وتأخذ في ثناياها في الجانب الآخر الرغبة في العدالة والجنوح للعفو وإثبات بشرية الجاني، وربما التعامل معه كضحية يقف على الجانب الآخر من المعادلة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

العفو الدولية تنتقد دعوة رئيس كينيا لإطلاق النار على المتظاهرين
العفو الدولية تنتقد دعوة رئيس كينيا لإطلاق النار على المتظاهرين

الجزيرة

timeمنذ 9 ساعات

  • الجزيرة

العفو الدولية تنتقد دعوة رئيس كينيا لإطلاق النار على المتظاهرين

انتقدت منظمة العفو الدولية ، أمس الثلاثاء، دعوة الرئيس الكيني وليام روتو لإطلاق النار على المتظاهرين، واعتبرت أن من شأنها تأجيج العنف في البلاد التي تشهد تظاهرات دامية مناهضة للحكومة. وأفادت جماعات حقوقية بأن 38 شخصا على الأقل لقوا حتفهم الأسبوع الماضي، خلال أعنف احتجاجات منذ بدء التظاهرات التي قادها الشباب ضد الرئيس الكيني. وقال روتو أخيرا إن المتظاهرين الذين شاركوا في أعمال عنف "يجب إطلاق النار عليهم في أرجلهم". وتعليقا على ذلك، قال مدير منظمة العفو الدولية في كينيا إيرونغو هوتون إن تصريحات روتو "غير قانونية.. إنه لأمر جد خطير أن يُصدر السياسيون تعليمات لعناصر الشرطة حول كيفية أداء واجبهم أثناء الاحتجاجات". وأضاف إيرونغو أن مثل هذه الأوامر "ستؤدي إلى تصعيد مستويات العنف" من خلال "توسيع المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين والمارة والمتظاهرين المضادين، وحتى المجرمين والمتنمرين". مسلحون وأعمال عنف وحذّرت جماعات حقوقية في وقت سابق من وجود مسلحين خلال الاحتجاجات، وأشارت إلى تقارير تفيد بأن بعضهم يعمل إلى جانب الشرطة، غير أن الشرطة الكينية نفت هذه المزاعم. وتصاعدت الانتقادات الدولية وحثّت الأمم المتحدة على ضبط النفس، فيما خلص تقرير صدر الثلاثاء عن مجموعة عمل إصلاحات الشرطة -وهي تحالف من جماعات حقوقية شعبية ووطنية، تضم أيضا منظمة العفو الدولية- إلى أن المسيرات الأخيرة "شابها عنف مارسته الدولة، وأساليب غير قانونية لجأت إليها الشرطة". ووثق التقرير "استخدام الذخيرة الحية ضد المدنيين العُزّل، وعمليات إعدام خارج نطاق القضاء وحالات اختفاء واعتقالات غير قانونية". وسجل التقرير أن الأدلة تشير إلى "مزاعم خطيرة بسلوك غير قانوني وعمليات قتل خارج نطاق القضاء من قِبل أفراد يُشتبه في أنهم رجال شرطة"، مبرزا أن أكثر من 500 مدني وضابط شرطة أصيبوا في المواجهات. أما المتحدث باسم جهاز الشرطة الوطنية فاعتبر أن هذه المزاعم جزء من "رواية كاذبة"، وفق ما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية. تعهد بتحقيق رسمي وقال وزير الداخلية كيبتشومبا موركومين، الثلاثاء، إنه سيتم التحقيق في تجاوزات الشرطة خلال الاحتجاجات، مضيفا "لا يوجد قانون يُبرر لشرطي ارتكاب جرائم أو قتل أشخاص". وأضاف موركومين أنه سيصدر الجمعة توجيها سياسيا بشأن استخدام القوة والأسلحة النارية من قبل الشرطة. وأفادت وزارة الداخلية بأنه تم اعتقال أكثر من 1500 شخص خلال التظاهرتين الأخيرتين، أحيل منهم 71 إلى وحدة مكافحة الإرهاب. وشهدت الاحتجاجات أعمال نهب وتخريب واسعة النطاق، مما أجبر العديد من الشركات على الإغلاق، وبقي الموظفون في منازلهم لتجنب العنف. وأشار تقرير الجماعات الحقوقية إلى أن الاحتجاجات تسببت في "خسارة اقتصادية قد تصل إلى 1.1 مليار شلن كيني (14 مليون دولار)".

الأمم المتحدة: العنف والأمطار يفاقمان الأزمة الإنسانية في السودان
الأمم المتحدة: العنف والأمطار يفاقمان الأزمة الإنسانية في السودان

الجزيرة

timeمنذ 21 ساعات

  • الجزيرة

الأمم المتحدة: العنف والأمطار يفاقمان الأزمة الإنسانية في السودان

حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) من أن العنف المتصاعد والنزوح والأمطار الغزيرة تزيد من حدة معاناة المدنيين في السودان ، الذين يعيشون صراعا مستمرا منذ نحو 27 شهرا. وأعربت الأمم المتحدة عن قلقها البالغ إزاء تصاعد الأعمال العدائية في الفاشر بولاية شمال دارفور. ولأول مرة منذ بدء حصار الفاشر قبل أكثر من عام، أفادت تقارير بدخول أعداد كبيرة من مقاتلي قوات الدعم السريع إلى المدينة يوم الجمعة. وتشير مصادر محلية إلى وقوع إصابات في صفوف المدنيين جراء القتال العنيف في الأيام الأخيرة، لا سيما في جنوب غرب وشرق الفاشر. ولا يزال الوضع متقلبا للغاية ولا يمكن التنبؤ به، في ظل المخاطر بتجدد العنف، فضلًا عن المزيد من النزوح وتعطيل العمليات الإنسانية التي تعاني أصلًا من ضغط شديد. في ولاية شمال كردفان، أجبر تزايد انعدام الأمن 3400 شخص على الفرار من منازلهم خلال عطلة نهاية الأسبوع، وفقا للمنظمة الدولية للهجرة، في حين تشير التقارير المحلية إلى مقتل ما لا يقل عن 18 مدنيا، وإحراق منازل في عدة قرى. وذكّر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية كافة الأطراف بأن استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية محظور بموجب القانون الإنساني الدولي، داعيا إلى حمايتهم في جميع الأوقات. وفي سياق متصل، تم الإبلاغ عن هطول أمطار غزيرة في ولايتي غرب ووسط دارفور، مما قد يؤثر على حالة الطرق في بعض المواقع ويزيد من تحديات الوصول الإنساني. ومع استمرار موسم الأمطار حتى أكتوبر/تشرين الأول، يتزايد خطر الفيضانات، وقيود الوصول، وتفشي الأمراض، خاصة خلال موسم "العجاف" وهي الفترة الواقعة بين مواسم الحصاد عندما تكون مخزونات الغذاء منخفضة. وعلى الرغم من الأزمة، هناك مؤشرات على عودة محدودة النطاق في ولاية غرب دارفور، حيث بدأت العائلات النازحة من تشاد في العودة إلى مناطق سربا وجبل مون وكلبس لزراعة مزارعها. وتفيد السلطات المحلية بعودة حوالي 40 شخصا يوميا إلى كلبس، مع عودة 300 شخص خلال الأسبوع الماضي. ودعت الأمم المتحدة جميع الأطراف إلى إتاحة وصول آمن ودون عوائق لجميع المحتاجين في جميع أنحاء السودان. كما أكدت ضرورة أن يزيد المانحون دعمهم للمستضعفين في جميع أنحاء السودان، حيث يحتاج نحو 30 مليون شخص -أي أكثر من نصف السكان- إلى مساعدات حيوية وحماية هذا العام. ويخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل/نيسان 2023، حربًا أسفرت عن مقتل أكثر من 20 ألف شخص ونزوح ولجوء نحو 15 مليونًا، بحسب الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدّرت دراسة أعدتها جامعات أميركية عدد القتلى بنحو 130 ألفًا. وبدأت مساحات سيطرة قوات الدعم السريع تتناقص بشكل متسارع في مختلف ولايات السودان لصالح الجيش، الذي وسّع من نطاق انتصاراته لتشمل الخرطوم وولاية النيل الأبيض.

كيف نجح أردوغان في إنهاء أزمة تركيا مع العمال الكردستاني؟
كيف نجح أردوغان في إنهاء أزمة تركيا مع العمال الكردستاني؟

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

كيف نجح أردوغان في إنهاء أزمة تركيا مع العمال الكردستاني؟

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن دخول تركيا عهدًا جديدًا قائمًا على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية، مؤكدًا بدء مرحلة جديدة في مشروع "تركيا بلا إرهاب" الذي شمل حل حزب العمال الكردستاني، ووقف العمليات الإرهابية، وإلقاء السلاح بشكل نهائي. عوامل النجاح جاءت تصريحات أردوغان في الاجتماع التشاوري الـ 32 لحزبه العدالة والتنمية يوم السبت 12 يوليو/ تموز 2025 في أنقرة، وبعد يوم واحد من بدء تسليم حزب العمال الكردستاني أسلحته وحرقها في مشهد رمزي شمال العراق. تشكّل تصريحات الرئيس التركي تبنيًا رسميًا للمسار السياسي الذي بدأ في أكتوبر/ تشرين الأول الفائت مع دعوة رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، حيث بقيت التصريحات الرسمية التركية حذرة ومتحفظة وتركز على فكرة متابعة الخطوات العملية على الأرض. سبب هذا التحفظ هو الفشل الذي جلل كافة التجارب المشابهة السابقة، وخصوصًا المسار الأخير في عهد العدالة والتنمية والذي توِّج بدعوات مشابهة من أوجلان لإلقاء السلاح، الأمر الذي بدأ فعلًا قبل أن يتوقف ويستأنف الكردستاني عملياته تأثرًا بالتطورات في سوريا بدءًا من 2014. ما جعل المسار الحالي أقرب للنجاح والفاعلين أكثر تفاؤلًا به ثلاثة متغيرات رئيسة: الأول؛ قدرات الدولة التركية المتقدمة في مكافحة الإرهاب وما حققته من خطوات في مجال الصناعات الدفاعية ولا سيما سلاح المسيّرات الذي حقق فارقًا مهمًا على هذا الصعيد، لتنتقل تركيا خلال سنوات معدودة من خوض حرب مدن وشوارع على أراضيها ضد الإدارات الذاتية التي أعلنها العمال الكردستاني في 2015 إلى حرب استباقية قوضت معظم قدرات الكردستاني والمنظمات المرتبطة به في كل من تركيا والعراق، ونسبيًا في سوريا. الثاني؛ المراجعات الفكرية والسياسية للمنظّر الأول لحزب العمال وزعيمه التاريخي عبدالله أوجلان كنتيجة نهائية لسلسلة من المراجعات والمحطات المهمة، تجلى آخرها في الرسالة التي نقلت عنه من سجنه في جزيرة إيمرالي، حيث أكد فيها تغير الظروف الإقليمية والعالمية اليوم عنها في سنوات تأسيس الحزب (سبعينيات القرن الماضي)، ومقرًّا بأن أيديولوجيا الحزب وبرنامجه وأهدافه لم تعد تحظى بتأييد شعبي، وأن المشاريع الانفصالية ليست الحل الأمثل ولا الممكن اليوم. والثالث؛ هو التغيرات الإقليمية والدولية التي عملت هذه المرة لصالح تركيا وليس ضد مصلحتها، كما حصل في العقد الماضي. فقد تطور التعاون بين تركيا والعراق ليصنّف الأخيرُ العمال الكردستاني منظمة محظورة، ووضعَ تغيُّرُ النظام السوري قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في موقع دفاعي بعد رجحان كفة أنقرة، أحد أكبر الداعمين للنظام الجديد في دمشق. ثم أتت إدارة ترامب الجديدة لتكمل المشهد بسحب جزء من القوات الأميركية في سوريا، وتصريحات مبعوثها إلى سوريا توم باراك قبل أيام بضرورة اندماج عناصر قسد في الجيش السوري ورفض بلاده دعم أي مشاريع انفصالية من أي نوع أو مستوى. المرحلة المقبلة ببدء الخطوات العملية لإلقاء السلاح، تكون أنقرة على مشارف حل الملف الأصعب والأكثر حساسية لها داخليًا وخارجيًا، داخليًا بتأثيراته السلبية أمنيًا واجتماعيًا وسياسيًا، وخارجيًا كورقة ضغط عليها. حرص أردوغان في خطابه، الذي وصف بالتاريخي، على التأكيد أن المسار الحالي ليس نتيجة لمساومات ومحاصصة مع العمال الكردستاني، لكن هذا لا ينفي أن المسار السياسي يحقق مصالح كافة الأطراف كما كان المسار العسكري ضارًا بها جميعًا. فالمسار السياسي يحقق للدولة التركية وقف العمليات الإرهابية، وبالتالي الأمن والاستقرار وتخفيف الضغوط الخارجية بكل ما لذلك من مكاسب اجتماعية وسياسية واقتصادية وأمنية وإستراتيجية. ويحقق للطيف الكردي من الشعب التركي مكاسب إضافية تتعلق بالحقوق والحريات والسلم المجتمعي، ستبني على الإصلاحات السابقة. وسيسعى التيار السياسي الكردي لمكاسب أخرى تتعلق بالمشهد السياسي الداخلي بدءًا من المواد الدستورية ووصولًا للإدارات المحلية. ولذلك فإن السؤال الذي يتكرر حول "على ماذا سيحصل العمال الكردستاني مقابل حل نفسه؟" يجد إجابته أولًا بانسداد الأفق أمام فكرة الدولة الكردية وحتى الإدارات الذاتية كما سبق شرحه، وثانيًا في المسارات الدستورية والقانونية المرتقبة. ولذلك فإن المسار الأبرز الذي يختصر عددًا من استحقاقات المرحلة القادمة هو الدستور، بغض النظر أكان صياغة دستور جديد أم القيام بتعديلات دستورية واسعة. المواد المرتقبة في أي مسار دستوري قادم يفترض أن تشمل ما يتعلق بتعريف المواطنة والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات، وما يرتبط بحقوق "الأقليات" في المقام الأول. الأصعب من ذلك هو التشريعات التي ستتعامل مع قيادات وعناصر العمال الكردستاني من حاملي الجنسية التركية بعد حل الحزب، حيث ننتظر مواد قانونية تصنفهم على مجموعات وتتعامل مع كل منها بمسار قانوني مختلف، بين العفو والإدماج في المجتمع والبقاء خارج تركيا وتسويات أوضاع آخرين وفقًا لمناصبهم وأعمالهم خلال سنوات انتسابهم للمنظمة. كما أن المسار القانوني قد يلحظ زيادة صلاحيات الإدارات الذاتية (البلديات تحديدًا)، وهو مطلب ظهر كبديل للإدارات الذاتية وغيرها من المسارات الانفصالية. يتطلب إقرار دستور جديد أو أي تعديل دستوري موافقة ثلثي أعضاء البرلمان أي 400 من أصل 600 نائب، أو تصويت 60% من أعضاء البرلمان بالحد الأدنى لعرضه على استفتاء شعبي، أي 360 نائبًا، وهو ما لا يملكه تحالف الجمهور، حيث يملك العدالة والتنمية 272 والحركة القومية 47 نائبًا في البرلمان. في خطابه الأخير، تحدث أردوغان عن "تحالف جديد" ينضم إليهما فيه حزب ديمقراطية ومساواة الشعوب "الكردي" الذي عمل كوسيط لنقل رسائل أوجلان والذي يملك 56 نائبًا، ما يجعل مجموع نواب الأحزاب الثلاثة 375 نائبًا. من البديهي أن هذا ليس تحالفًا انتخابيًا ولا تحالفًا سياسيًا بالمعنى الشامل، لكنه تحالف سياقي يرتبط بشكل أساسي بإقرار الاستحقاقات القانونية والدستورية للمراحل القادمة في مشروع "تركيا بلا إرهاب". ومن الواضح أن الأحزاب الثلاثة تملك الإرادة السياسية للاستمرار في هذا المسار والكفاية العددية في البرلمان لإنجاحه، كما أنها تدعو الأحزاب الأخرى لتقديم دعمها للمسار- كما جاء على لسان أردوغان نفسه- لكنها ليست رهينة بالضرورة لتأييدها. ما زال يمثُل أمام المسار الحالي عدد من التحديات المفترضة أو المحتملة، من بينها احتمال رفض بعض الأطراف والتيارات في العمال الكردستاني الالتزام بوقف إطلاق النار وحل الحزب وإلقاء السلاح، أو تدخل أطراف خارجية (في مقدمتها "إسرائيل" مثلًا) للتشويش والتخريب بدعم تيارات أو شخصيات غير راضية عن المسار، أو حصول تطورات إقليمية/ دولية غير متوقعة تصب في غير صالح تركيا، أو عدم إقرار الاستفتاء الشعبي (في حال أجري) للتعديلات الدستورية المتوقعة. لكن قدرة أي من هذه السيناريوهات على التأثير السلبي تبدو اليوم محدودة جدًا بعد الخطوات السياسية والعملية الكثيرة التي جرت، والزخم الذي حصل في المسار وصولًا للمرحلة الحالية. أخيرًا، فإن لنجاح مشروع "تركيا بلا إرهاب" تداعيات عديدة على المشهد السياسي الداخلي، ستبدو أكثر وضوحًا مع تقدم المرحلة المقبلة وخصوصًا في البعد الدستوري والقانوني. لكن يفترض أن يساهم نجاحه في المقام الأول بزيادة مستوى السلم المجتمعي وتحرير السياسة الداخلية من بعض الضغوط والاستقطاب، ويؤمل أن يساعد على رفع مستوى الحريات في البلاد. لكن يبقى سؤال لم يجد إجابته بعد، وهو: ما ارتباط المسار الحالي بإعادة ترشح الرئيس أردوغان للانتخابات الرئاسية القادمة، بغض النظر أجريت في موعدها أم بكّرت؟، حيث يقول أردوغان إنه لا يهدف لذلك، بينما يؤكد الناطق باسم حزبه عمر تشيليك وحليفه دولت بهتشلي بأن أكبر أهداف الحزبين يتمثل في إعادة انتخاب أردوغان رئيسًا "بعدما أثبت تفرد قيادته ونجاحها في الداخل والخارج". والعامل الرئيس الذي يدفع للاعتقاد بأنه سيترشح مجددًا (مع فرص كبير بالفوز طبعًا) هو – مرة أخرى – الغالبية العددية التي يملكها "التحالف الجديد" في البرلمان بما يمكن أن يحقق انتخابات مبكرة عبر البرلمان (وحينها يحق لأردوغان الترشح تلقائيًا)، أو النص على ذلك في تعديل دستوري جديد.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store