
حرب تحت التحكم: إيران وإسرائيل بين الشرعية الدولية وكلفة التوتر الاقتصادي
'الحرب المضبوطة' أكثر كلفة لأنها تبقي البيئة الاقتصادية في حالة توتر دائم
الحروب المحدودة لا تعني بالضرورة خسائر محدودة
الاستثمار الأجنبي يبحث دائما عن الاستقرار السياسي والأمني
في عالم السياسة الدولية، تختلط الأوراق ما بين الحقيقة والدعاية، وما بين الضجيج الإعلامي والحسابات الجيوسياسية ومن أبرز ساحات هذا التداخل المعقد يبرز الصراع المزمن بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل، وهو صراع طال أمده، وتعددت تجلياته، لكنه ظل دائمًا ضمن حدود 'مضبوطة'.
ورغم هذا العداء المتبادل، لم نشهد حتى اليوم حربًا شاملة بين الطرفين، بل ما يحدث هو تبادل محدود للضربات، عبر وسطاء أو حلفاء أو أدوات إلكترونية واستخباراتية، في معادلة تثير تساؤلًا منطقيًا وعميقًا:
هل ما نشهده هو صراع حقيقي مفتوح، أم حرب مضبوطة الإيقاع، إن لم نقل 'حربًا بالاتفاق'؟
حدود التصعيد... وتوقيت الضربات
لفهم طبيعة هذا النزاع، يجب النظر في توقيت الضربات العسكرية وحدودها فمن الملفت أن إسرائيل تنفذ عمليات عسكرية دقيقة تستهدف ما تزعم أنها منشآت أو شحنات أسلحة إيرانية في سوريا ولبنان، دون أن تتجاوز هذه الضربات عتبة الحرب المباشرة وعلى الجانب الآخر، تدعم إيران جماعات مسلحة كـ'حزب الله' في لبنان، و'الحوثيين' في اليمن، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، للرد على هذه الضربات بطرق محسوبة وغير مكلفة سياسيًّا لإيران نفسها.
هذا التوازن يجعلنا أمام مشهد غير مألوف:
عداء معلن، لكن منضبط، صواريخ تُطلق، لكن ضمن حدود، واشتباكات تدور، دون أن تخرج عن المسار المرسوم.
وهنا يثور سؤال مشروع: هل هناك تفاهم ضمني على قواعد الاشتباك؟
في كثير من الأحيان، يكون تصعيد الخطاب الإعلامي والتهديدات العسكرية من الطرفين هو الأعلى صوتًا، لكن الفعل الميداني يكون مدروسًا ومحسوبًا هذا يُوحي – إن لم يُثبت – أن هناك خطوطًا حمراء تم التفاهم عليها ضمنيًا، بحيث لا يتم تجاوزها لتجنّب حرب شاملة قد تُخرج الأمور عن السيطرة.
وإذا سلّمنا بهذا التفسير، فإننا أمام ما يمكن تسميته بـ'حرب ضمن قواعد اشتباك متفق عليها'، سواء عبر وسطاء دوليين، أو من خلال رسائل دبلوماسية غير مباشرة، وهو أمر تكرّر في العديد من النزاعات التي ظلت تدور ضمن ما يسمى بـ'الحرب الرمادية' أو 'الحرب الباردة المصغّرة'.
القانون الدولي ومفهوم العدوان: بين النصوص والواقع
نصوص واضحة... وتطبيقات متعرّجة
وفقًا للمادة (2) من ميثاق الأمم المتحدة، يُحظر على الدول استخدام القوة أو التهديد بها ضد سلامة أراضي دولة أخرى أو استقلالها السياسي والاستثناء الوحيد لذلك هو الحق في الدفاع عن النفس كما تنص عليه المادة (51) غير أن الواقع يكشف عن تأويلات فضفاضة، خاصة في ظل ما يسمى بـ'الضربات الاستباقية' التي لا يعترف بها القانون الدولي إلا بشروط مشددة.
لكن ما الذي نراه على الأرض؟
إسرائيل تنفّذ ضربات جوية على أراضٍ سورية أو لبنانية أو عراقية دون إعلان حرب رسمي.
إيران، من جهتها، تدعم عمليات تنفذها جماعات حليفة لها ضد إسرائيل، من الأراضي العربية.
وكلا الطرفين يدّعي أن هذه الأعمال دفاعية أو ردعية.
وهنا يظهر الخلل القانوني: فهذه الأعمال، وفق القانون الدولي، تُعدّ انتهاكًا واضحًا لسيادة الدول، حتى وإن تم تبريرها تحت شعار 'محاربة الإرهاب' أو 'الردع الدفاعي'.
الحرب بالوكالة: غطاء أم استراتيجية دائمة؟
لا يمكن الحديث عن الصراع الإيراني الإسرائيلي دون التطرّق إلى ظاهرة 'الحرب بالوكالة'، وهي من أقدم تكتيكات الحروب غير المباشرة لكن ما يميز الحالة الإيرانية الإسرائيلية أن هذا النمط بات القاعدة وليس الاستثناء فإيران تدير منظومة معقدة من الحلفاء والأذرع المسلحة في أكثر من جبهة:
لبنان: حزب الله، الذي يمتلك ترسانة عسكرية.
سوريا: الميليشيات الإيرانية المختلفة التي تعمل تحت غطاء الحرس الثوري.
العراق: مجموعات من الحشد الشعبي ذات ولاء عقائدي لطهران.
اليمن: الحوثيون الذين يمتلكون قدرات صاروخية ومسيرات تصل إلى إسرائيل.
في المقابل، تعتمد إسرائيل على أدوات استخباراتية متقدمة، وعلى تعاون عسكري مع الولايات المتحدة، وتنفيذ عمليات اغتيال نوعية (مثل اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده)، وضربات محددة ضمن دول حليفة.
وهكذا، فإن الحرب بالوكالة تحولت إلى أداة استراتيجية بحد ذاتها، تحقّق مكاسب بدون أن تستنزف الطرفين سياسيًا أو عسكريًا.
الإبلاغ المسبق عن الضربات: رسالة سياسية أم إخلاء مسؤولية قانونية؟
في حادثة لافتة، قصفت إيران مؤخرًا قاعدة عسكرية أمريكية في قطر، لكن بعد إبلاغ مسبق لقطر والولايات المتحدة، كما أكدت تقارير متعددة هذه الحادثة غير المسبوقة أثارت زوبعة من التساؤلات:
هل تُسقط هذه الخطوة صفة 'العدوان' عن الضربة؟
هل التنسيق يُحوّل الهجوم إلى رسالة سياسية بدلًا من عملية عسكرية حقيقية؟
وهل يمكن أن تتكرس هذه الممارسة في القانون الدولي كمخرج قانوني جديد للحروب الرمادية؟
من منظور قانوني، الإبلاغ المسبق لا يُلغي صفة 'العدوان' إذا تم الاعتداء على أراضي دولة ذات سيادة أي هجوم، حتى وإن تم تنسيقه، يظل خرقًا للسيادة بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وهو لا يُعفي الدولة المهاجِمة من المسؤولية القانونية، بل يُظهر أنها ارتكبت العدوان مع سبق الإصرار، مما قد يُعقّد وضعها القانوني أمام المحافل الدولية.
الاقتصاد... الضحية الصامتة
الحروب المحدودة لا تعني بالضرورة خسائر محدودة ففي عالم مترابط اقتصاديًّا كما هو الحال اليوم، أي تصعيد ولو محدود، يترك أثرًا عميقًا على:
حركة الطيران: إذ تلغى الرحلات أو تُحوّل مساراتها بعيدًا عن بؤر التوتر.
الأسواق المالية: التي تعاني من هبوط حاد فور اندلاع أي اشتباك جديد.
قطاع الطاقة: خاصة مع قرب الصراع من مضيق هرمز أو منشآت النفط الخليجية.
الاستثمار الأجنبي: الذي يبحث دائمًا عن الاستقرار السياسي والأمني.
ومن هنا، يتضح أن 'الحرب المضبوطة' أكثر كلفة من الحروب المفتوحة، لأنها تبقي البيئة الاقتصادية في حالة توتر دائم، تمنع الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد، وتجعل من المنطقة سوقًا مرتعشة لا تشجع على النمو.
ضرورة تطوير القانون الدولي
في ضوء هذا النمط الجديد من الصراع، يصبح من الملحّ تطوير مفاهيم القانون الدولي، بحيث تشمل:
1 - إعادة تعريف العدوان ليشمل الضربات التي تتم بتنسيق مسبق، أو من خلال أطراف ثالثة.
2 - تحميل الدول مسؤولية الأعمال التي تنفذها جماعات حليفة أو تحت غطائها السياسي.
3 - وضع آليات أكثر فاعلية لضبط 'الحروب الرمادية'، والتي لا ترقى لحرب شاملة، لكنها تُهدد الاستقرار الدولي بشكل ممنهج.
خاتمة: صراع تحت السيطرة... إلى متى؟
من الواضح أن ما يجري بين إيران وإسرائيل ليس حربًا شاملة، لكنه ليس سلامًا أيضًا إنه صراع مستمر، لكنه مضبوط، اشتباك دائم، لكنه غير شامل، عدوان قانوني، لكنه سياسي الطابع ولعل الأخطر من كل ذلك، أن المجتمع الدولي حتى اللحظة لم يطوّر أدواته القانونية والأمنية للتعامل مع هذا النوع من الصراعات، مما يهدد بتحوّل العالم إلى ساحة نزاع دائم غير معلن، حيث تسود القواعد غير المكتوبة على حساب القانون الدولي.
وبينما تظل صواريخ إيران وإسرائيل 'تحت السيطرة'، فإن ما هو خارج السيطرة هو القانون، الاقتصاد، واستقرار شعوب المنطقة والرهان اليوم ليس فقط على من يربح الجولة، بل على من يُعيد تعريف اللعبة.
رؤية قانونية
إن التطورات المتسارعة في طبيعة النزاعات المعاصرة، كما يتجلى في الصراع الإيراني الإسرائيلي، تكشف عن ثغرات حقيقية في منظومة القانون الدولي التقليدي، وخاصة في ما يتعلق بتحديد المسؤولية في النزاعات غير المعلنة، والضربات التي تتم خارج السياق الحربي التقليدي.
فـالعدوان لم يعد مقتصرًا على اجتياح مباشر أو احتلال أرض، بل أصبح يأخذ أشكالًا هجينة:
ضربات استباقية تُبرَّر أمنيًّا.
هجمات تتم عبر وكلاء غير حكوميين.
تنسيق ميداني مع طرف ثالث قبل تنفيذ الهجوم، دون إعلان رسمي للحرب.
وهذا يتطلب إعادة تعريف المفاهيم القانونية ضمن ميثاق الأمم المتحدة، وعلى رأسها:
1 - توسيع مفهوم العدوان ليشمل الهجمات المنسقة مسبقًا حتى إن تمّت تحت غطاء دبلوماسي.
2 - تجريم الحروب بالوكالة التي تُدار من خلف الستار مع تحميل الدولة الداعمة كامل المسؤولية.
3 - استحداث إطار قانوني للحروب الرمادية يربط بين المسؤولية السياسية والمسؤولية القانونية.
4 - تعزيز آليات المحاسبة الدولية حتى لا تبقى الانتهاكات مجرد تقارير إعلامية دون تبعات قانونية ملزمة.
وبدون تطوير جريء لهذه المفاهيم، ستظل القوانين الحالية عاجزة عن ضبط هذه الحروب المعقّدة، مما يهدد ليس فقط سيادة الدول، بل مفهوم الأمن الجماعي العالمي برمّته.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البلاد البحرينية
منذ 3 ساعات
- البلاد البحرينية
مسؤول إيراني: طهران منفتحة على "نقل اليورانيوم المخصب إلى دولة ثالثة"
العربية.نت: أعلن السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني انفتاح بلاده على نقل جزء من اليورانيوم المخصب إلى دولة ثالثة، في إطار مقترح لاتفاق نووي إقليمي يخضع لإشراف دولي. وقالت شبكة «سي إن إن» الأميركية، إن جهات فاعلة رئيسية من الولايات المتحدة والشرق الأوسط أجرت محادثات مع الإيرانيين في الكواليس، حتى في خضمّ موجة الضربات العسكرية على إيران وإسرائيل خلال الأسبوعين الماضيين. وأكد مسؤولون في إدارة ترمب طرح مقترحات أولية ومتطورة، مع بند واحد ثابت غير قابل للتفاوض وهو «وقف تخصيب اليورانيوم الإيراني تماماً»، مقابل عدة حوافز لإيران، منها إمكانية رفع عقوبات مفروضة والسماح بالوصول إلى ستة مليارات دولار موجودة حالياً في حسابات مصرفية أجنبية يُحظر على طهران استخدامها بحرية. رغم ذلك، نفت إيران عزمها على استئناف المحادثات النووية مع الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب التي استمرت 12 يوماً مع إسرائيل، كما اتهمت واشنطن بالمبالغة في تقدير تأثير ضرباتها العسكرية. نوايا خبيثة قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، الجمعة، إن إصرار المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي على زيارة المنشآت النووية "لا معنى له"، بل وقد يكون ذا نوايا "خبيثة"، وسط ترقب غربي لمعرفة نتائج الهجمات الأميركية على 3 مواقع نووية إيرانية. ووافق مجلس الشورى الإيراني (البرلمان)، الأربعاء الماضي، على تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي خطوة تتطلب موافقة مجلس الأمن القومي في إيران لتفعيلها. وقال عراقجي على منصة "إكس"، إن "البرلمان الإيراني وافق على وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى أن يتم ضمان سلامة وأمن أنشطتنا النووية". واعتبر أن هذا القرار يأتي "نتيجة مباشرة للدور المؤسف الذي لعبه رافائيل غروسي"، مضيفاً: "من خلال هذا التصرف الخبيث، سهّل بشكل مباشر تبني قرار مسيّس ضد إيران من قبل مجلس محافظي الوكالة، إضافة إلى الغارات غير القانونية التي شنّتها إسرائيل والولايات المتحدة على المنشآت النووية الإيرانية". وذكر عراقجي، أن غروسي "فشل في الإدانة الصريحة لمثل هذه الانتهاكات الفاضحة لضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية ولنظامها الأساسي". وقبل ساعات من بدء حرب إسرائيل وإيران في 13 يونيو الماضي، أصدر مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي يضم 35 دولة، وهي هيئة رقابية تابعة للأمم المتحدة، بياناً ينص على أن إيران تنتهك التزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووي. على خلفية حرب إيران وإسرائيل، وافق مجلس صيانة الدستور في إيران، الخميس، على مشروع قانون يُلزم الحكومة بتعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وذكر الوزير الإيراني، أن "الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومديرها العام يتحملان كامل المسؤولية عن هذا الوضع المشين"، مشدداً على أن بلاده "تحتفظ بحقّها في اتخاذ أي خطوات دفاعاً عن مصالحها، وشعبها، وسيادتها". وأضاف: "إصرار غروسي على زيارة المواقع التي تعرضت للقصف بحجة الضمانات، هو أمر لا معنى له، وقد يكون ذا نوايا خبيثة". الهجمات الأميركية وشن الجيش الأميركي هجمات على 3 منشآت نووية إيرانية وهي "فوردو" ونطنز" و"أصفهان"، فجر الأحد الماضي، عبر إلقاء أكثر من 12 قنبلة خارقة للتحصينات زنة 30 ألف رطل، وكذلك 30 صاروخ من طراز "توماهوك". وتجري مراقبة نتائج الهجمات عن كثب لمعرفة إلى أي مدى يمكن أن تكون الضربات قد عرقلت البرنامج النووي الإيراني، بعدما قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إنه "تم محوه".


البلاد البحرينية
منذ 3 ساعات
- البلاد البحرينية
دفاع جماعي عن النفس.. واشنطن تبرر قصف مواقع إيرانية في رسالة لمجلس الأمن
أبلغت الولايات المتحدة مجلس الأمن الدولي في رسالة اليوم الجمعة، اطلعت عليها رويترز، أن هدف الغارات الأميركية على إيران مطلع الأسبوع الماضي "كان تدمير قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم ومنع الخطر الذي يمثله حصول هذا النظام المارق على سلاح نووي واستخدامه له". وكتبت دوروثي شيا القائمة بأعمال الممثل الدائم للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة "لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بالسعي إلى اتفاق مع الحكومة الإيرانية". وبررت واشنطن الضربات بأنها دفاع جماعي عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تتطلب إطلاع مجلس الأمن المكون من 15 عضوا فورا بأي إجراء تتخذه الدول دفاعا عن النفس ضد أي هجوم مسلح. وفي وقت سابق من يوم الجمعة، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنه سيفكر في قصف إيران مجددا إذا كانت طهران تخصب اليورانيوم إلى مستوى يُقلق الولايات المتحدة. وخلال كلمة له أثناء لقائه وزيري خارجية راوندا والكونغو الديمقراطية، يوم الجمعة، قال ترامب، إن الولايات المتحدة، نجحت في ضرب الأهداف بإيران بدقة. وأضاف ترامب: "كان لدينا أسبوعا مليئا بالنجاح. ضربنا الأهداف في إيران بكل دقة". وتابع قائلا: "نجحنا في منع إيران من امتلاك سلاح نووي، ودمرنا 3 منشآت نووية". وأكد ترامب أن "إيران ترغب في عقد اجتماع معنا"، مضيفا أن "إيران وإسرائيل عانتا كثيرا من الحرب التي خاضتاها".


البلاد البحرينية
منذ 5 ساعات
- البلاد البحرينية
حرب تحت التحكم: إيران وإسرائيل بين الشرعية الدولية وكلفة التوتر الاقتصادي
'الحرب المضبوطة' أكثر كلفة لأنها تبقي البيئة الاقتصادية في حالة توتر دائم الحروب المحدودة لا تعني بالضرورة خسائر محدودة الاستثمار الأجنبي يبحث دائما عن الاستقرار السياسي والأمني في عالم السياسة الدولية، تختلط الأوراق ما بين الحقيقة والدعاية، وما بين الضجيج الإعلامي والحسابات الجيوسياسية ومن أبرز ساحات هذا التداخل المعقد يبرز الصراع المزمن بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل، وهو صراع طال أمده، وتعددت تجلياته، لكنه ظل دائمًا ضمن حدود 'مضبوطة'. ورغم هذا العداء المتبادل، لم نشهد حتى اليوم حربًا شاملة بين الطرفين، بل ما يحدث هو تبادل محدود للضربات، عبر وسطاء أو حلفاء أو أدوات إلكترونية واستخباراتية، في معادلة تثير تساؤلًا منطقيًا وعميقًا: هل ما نشهده هو صراع حقيقي مفتوح، أم حرب مضبوطة الإيقاع، إن لم نقل 'حربًا بالاتفاق'؟ حدود التصعيد... وتوقيت الضربات لفهم طبيعة هذا النزاع، يجب النظر في توقيت الضربات العسكرية وحدودها فمن الملفت أن إسرائيل تنفذ عمليات عسكرية دقيقة تستهدف ما تزعم أنها منشآت أو شحنات أسلحة إيرانية في سوريا ولبنان، دون أن تتجاوز هذه الضربات عتبة الحرب المباشرة وعلى الجانب الآخر، تدعم إيران جماعات مسلحة كـ'حزب الله' في لبنان، و'الحوثيين' في اليمن، وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، للرد على هذه الضربات بطرق محسوبة وغير مكلفة سياسيًّا لإيران نفسها. هذا التوازن يجعلنا أمام مشهد غير مألوف: عداء معلن، لكن منضبط، صواريخ تُطلق، لكن ضمن حدود، واشتباكات تدور، دون أن تخرج عن المسار المرسوم. وهنا يثور سؤال مشروع: هل هناك تفاهم ضمني على قواعد الاشتباك؟ في كثير من الأحيان، يكون تصعيد الخطاب الإعلامي والتهديدات العسكرية من الطرفين هو الأعلى صوتًا، لكن الفعل الميداني يكون مدروسًا ومحسوبًا هذا يُوحي – إن لم يُثبت – أن هناك خطوطًا حمراء تم التفاهم عليها ضمنيًا، بحيث لا يتم تجاوزها لتجنّب حرب شاملة قد تُخرج الأمور عن السيطرة. وإذا سلّمنا بهذا التفسير، فإننا أمام ما يمكن تسميته بـ'حرب ضمن قواعد اشتباك متفق عليها'، سواء عبر وسطاء دوليين، أو من خلال رسائل دبلوماسية غير مباشرة، وهو أمر تكرّر في العديد من النزاعات التي ظلت تدور ضمن ما يسمى بـ'الحرب الرمادية' أو 'الحرب الباردة المصغّرة'. القانون الدولي ومفهوم العدوان: بين النصوص والواقع نصوص واضحة... وتطبيقات متعرّجة وفقًا للمادة (2) من ميثاق الأمم المتحدة، يُحظر على الدول استخدام القوة أو التهديد بها ضد سلامة أراضي دولة أخرى أو استقلالها السياسي والاستثناء الوحيد لذلك هو الحق في الدفاع عن النفس كما تنص عليه المادة (51) غير أن الواقع يكشف عن تأويلات فضفاضة، خاصة في ظل ما يسمى بـ'الضربات الاستباقية' التي لا يعترف بها القانون الدولي إلا بشروط مشددة. لكن ما الذي نراه على الأرض؟ إسرائيل تنفّذ ضربات جوية على أراضٍ سورية أو لبنانية أو عراقية دون إعلان حرب رسمي. إيران، من جهتها، تدعم عمليات تنفذها جماعات حليفة لها ضد إسرائيل، من الأراضي العربية. وكلا الطرفين يدّعي أن هذه الأعمال دفاعية أو ردعية. وهنا يظهر الخلل القانوني: فهذه الأعمال، وفق القانون الدولي، تُعدّ انتهاكًا واضحًا لسيادة الدول، حتى وإن تم تبريرها تحت شعار 'محاربة الإرهاب' أو 'الردع الدفاعي'. الحرب بالوكالة: غطاء أم استراتيجية دائمة؟ لا يمكن الحديث عن الصراع الإيراني الإسرائيلي دون التطرّق إلى ظاهرة 'الحرب بالوكالة'، وهي من أقدم تكتيكات الحروب غير المباشرة لكن ما يميز الحالة الإيرانية الإسرائيلية أن هذا النمط بات القاعدة وليس الاستثناء فإيران تدير منظومة معقدة من الحلفاء والأذرع المسلحة في أكثر من جبهة: لبنان: حزب الله، الذي يمتلك ترسانة عسكرية. سوريا: الميليشيات الإيرانية المختلفة التي تعمل تحت غطاء الحرس الثوري. العراق: مجموعات من الحشد الشعبي ذات ولاء عقائدي لطهران. اليمن: الحوثيون الذين يمتلكون قدرات صاروخية ومسيرات تصل إلى إسرائيل. في المقابل، تعتمد إسرائيل على أدوات استخباراتية متقدمة، وعلى تعاون عسكري مع الولايات المتحدة، وتنفيذ عمليات اغتيال نوعية (مثل اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده)، وضربات محددة ضمن دول حليفة. وهكذا، فإن الحرب بالوكالة تحولت إلى أداة استراتيجية بحد ذاتها، تحقّق مكاسب بدون أن تستنزف الطرفين سياسيًا أو عسكريًا. الإبلاغ المسبق عن الضربات: رسالة سياسية أم إخلاء مسؤولية قانونية؟ في حادثة لافتة، قصفت إيران مؤخرًا قاعدة عسكرية أمريكية في قطر، لكن بعد إبلاغ مسبق لقطر والولايات المتحدة، كما أكدت تقارير متعددة هذه الحادثة غير المسبوقة أثارت زوبعة من التساؤلات: هل تُسقط هذه الخطوة صفة 'العدوان' عن الضربة؟ هل التنسيق يُحوّل الهجوم إلى رسالة سياسية بدلًا من عملية عسكرية حقيقية؟ وهل يمكن أن تتكرس هذه الممارسة في القانون الدولي كمخرج قانوني جديد للحروب الرمادية؟ من منظور قانوني، الإبلاغ المسبق لا يُلغي صفة 'العدوان' إذا تم الاعتداء على أراضي دولة ذات سيادة أي هجوم، حتى وإن تم تنسيقه، يظل خرقًا للسيادة بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وهو لا يُعفي الدولة المهاجِمة من المسؤولية القانونية، بل يُظهر أنها ارتكبت العدوان مع سبق الإصرار، مما قد يُعقّد وضعها القانوني أمام المحافل الدولية. الاقتصاد... الضحية الصامتة الحروب المحدودة لا تعني بالضرورة خسائر محدودة ففي عالم مترابط اقتصاديًّا كما هو الحال اليوم، أي تصعيد ولو محدود، يترك أثرًا عميقًا على: حركة الطيران: إذ تلغى الرحلات أو تُحوّل مساراتها بعيدًا عن بؤر التوتر. الأسواق المالية: التي تعاني من هبوط حاد فور اندلاع أي اشتباك جديد. قطاع الطاقة: خاصة مع قرب الصراع من مضيق هرمز أو منشآت النفط الخليجية. الاستثمار الأجنبي: الذي يبحث دائمًا عن الاستقرار السياسي والأمني. ومن هنا، يتضح أن 'الحرب المضبوطة' أكثر كلفة من الحروب المفتوحة، لأنها تبقي البيئة الاقتصادية في حالة توتر دائم، تمنع الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد، وتجعل من المنطقة سوقًا مرتعشة لا تشجع على النمو. ضرورة تطوير القانون الدولي في ضوء هذا النمط الجديد من الصراع، يصبح من الملحّ تطوير مفاهيم القانون الدولي، بحيث تشمل: 1 - إعادة تعريف العدوان ليشمل الضربات التي تتم بتنسيق مسبق، أو من خلال أطراف ثالثة. 2 - تحميل الدول مسؤولية الأعمال التي تنفذها جماعات حليفة أو تحت غطائها السياسي. 3 - وضع آليات أكثر فاعلية لضبط 'الحروب الرمادية'، والتي لا ترقى لحرب شاملة، لكنها تُهدد الاستقرار الدولي بشكل ممنهج. خاتمة: صراع تحت السيطرة... إلى متى؟ من الواضح أن ما يجري بين إيران وإسرائيل ليس حربًا شاملة، لكنه ليس سلامًا أيضًا إنه صراع مستمر، لكنه مضبوط، اشتباك دائم، لكنه غير شامل، عدوان قانوني، لكنه سياسي الطابع ولعل الأخطر من كل ذلك، أن المجتمع الدولي حتى اللحظة لم يطوّر أدواته القانونية والأمنية للتعامل مع هذا النوع من الصراعات، مما يهدد بتحوّل العالم إلى ساحة نزاع دائم غير معلن، حيث تسود القواعد غير المكتوبة على حساب القانون الدولي. وبينما تظل صواريخ إيران وإسرائيل 'تحت السيطرة'، فإن ما هو خارج السيطرة هو القانون، الاقتصاد، واستقرار شعوب المنطقة والرهان اليوم ليس فقط على من يربح الجولة، بل على من يُعيد تعريف اللعبة. رؤية قانونية إن التطورات المتسارعة في طبيعة النزاعات المعاصرة، كما يتجلى في الصراع الإيراني الإسرائيلي، تكشف عن ثغرات حقيقية في منظومة القانون الدولي التقليدي، وخاصة في ما يتعلق بتحديد المسؤولية في النزاعات غير المعلنة، والضربات التي تتم خارج السياق الحربي التقليدي. فـالعدوان لم يعد مقتصرًا على اجتياح مباشر أو احتلال أرض، بل أصبح يأخذ أشكالًا هجينة: ضربات استباقية تُبرَّر أمنيًّا. هجمات تتم عبر وكلاء غير حكوميين. تنسيق ميداني مع طرف ثالث قبل تنفيذ الهجوم، دون إعلان رسمي للحرب. وهذا يتطلب إعادة تعريف المفاهيم القانونية ضمن ميثاق الأمم المتحدة، وعلى رأسها: 1 - توسيع مفهوم العدوان ليشمل الهجمات المنسقة مسبقًا حتى إن تمّت تحت غطاء دبلوماسي. 2 - تجريم الحروب بالوكالة التي تُدار من خلف الستار مع تحميل الدولة الداعمة كامل المسؤولية. 3 - استحداث إطار قانوني للحروب الرمادية يربط بين المسؤولية السياسية والمسؤولية القانونية. 4 - تعزيز آليات المحاسبة الدولية حتى لا تبقى الانتهاكات مجرد تقارير إعلامية دون تبعات قانونية ملزمة. وبدون تطوير جريء لهذه المفاهيم، ستظل القوانين الحالية عاجزة عن ضبط هذه الحروب المعقّدة، مما يهدد ليس فقط سيادة الدول، بل مفهوم الأمن الجماعي العالمي برمّته.