
وقفة تأملية واضاءة شموع في رحبة تكريما لروح زياد الرحباني
أقيمت الوقفة أمام الحائط الفني الذي كانت دشنته الجمعية قبل سنوات، والذي رسم عليه الفنان التشكيلي سركيس الصيفي صور السيدة فيروز، والفنانين الراحلين عاصي وزياد الرحباني، في لفتة رمزية تجسّد الإرث الفني والثقافي العريق لعائلة الرحباني.
استُهلّت المناسبة بعزف النشيد الوطني اللبناني من كشاف التربية الوطنية – فوج رحبة، تلاه أداء صلاة عن روح الفقيد قدّمها الأب أرثانيوس والشماس أنطونيوس.
وأُلقيت خلال اللقاء كلمات عبّرت عن 'التأثّر الكبير برحيل زياد الرحباني، الذي شكّل مع والده الراحل عاصي الرحباني، ومع السيدة فيروز، ثلاثيًا فنيًا استثنائيًا ساهم في نهضة الفن اللبناني والعربي، وترك بصمة لا تُمحى في الوجدان الجماعي'.
وشدد الدكتور جان فياض على أن 'زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان مثقفًا ملتزمًا، عبّر من خلال أعماله عن هموم الناس ووجع الوطن، فكان صوته صوت المواطن الحرّ'.
وأكد الأب أرثانيوس من جهته، أن '… زياد كان حالة إنسانية وفكرية استثنائية، جمع بين الإبداع الفني والجرأة في قول الحقيقة'، مشيرًا إلى أن غيابه 'خسارة كبيرة للبنان وللوجدان العربي'.
ورأى الدكتور هياف ياسين أن 'زياد الرحباني كان تجسيدًا للعبقرية الموسيقية المتمرّدة، التي كسرت القوالب التقليدية ولامست بصدق وجدان الناس، فصار صوتًا للحرية والعدالة الاجتماعية والوجدان الجماعي'. ودعا إلى 'إنشاء متحف في رحبة للارث الرحباني'.
وأما الدكتورة سمر سعد فنوهت بـ 'العمق الوطني والقيم الإنسانية الراقية التي حملتها أعمال آل الرحباني'، مشيرةً إلى أن جمعية 'رحبة تجمع' كانت استضافت الراحل زياد في البلدة، و شكرت كل من ساهم في إنجاح هذه الوقفة الوجدانية التي 'عبّرت عن وفاء رحبة للفن الأصيل ولرموزه الخالدين'.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجريدة
منذ 17 ساعات
- الجريدة
زياد... ضحكاتك أزهرت زهراً *
«لو عددت درجات بيتي وكم من مرةٍ صعدتُها لكان هذا درجاً طويلاً يخترق السحب، وَلو عددت ضحكات أمي لي لرافقتني طوال صعودي ووقعتْ من بعدي الضحكات على الدرج وأزهرتْ زهراً»، «إن لم أكن فرِحاً لا أستطيع أن أصلّي ما مِن مرةٍ صلّيتُ إلا وفي قلبي عصفورٌ يلعب وغصنٌ يلوّح». (زياد الرحباني). كنا نتمشى متسكعات كعادتنا بعد نهاية يوم دراسي طويل في الجامعة الأميركية في بيروت، فما أن ينتهي اليوم بعد الظهيرة حتى نهرول باتجاه شارع الحمرا، ونبدأ المشوار بين الموكا أو الومبي ثم سينما ثم مشي بين المحلات في ذاك الشارع الصاخب نراقب الأرواح المتنقلة بانبهار المراهقات القادمات من الخليج للتو. التقينا وتعارفنا في بيروت كالكثير من دفعتنا في ذاك العام، إذ لم نكن بنفس المدارس أو ربما من نفس الحي. هي المتمردة في شكلها وطبعها وربما كان لنصفها اللبناني دور في ذلك فقد كانت من أب بحريني وأم لبنانية مربية عرفتها كثيرات من الطالبات والمعلمات ونساء المجتمع، هي التي رحلت سريعاً وبقي اسمها هناك ضمن القائمة من المربيات العربيات اللاتي تركن بصمة في مشوار تعليم البنات ليس في البحرين فقط، بل في كل الخليج. خرجنا من البوابة الرئيسية للجامعة واتجهنا مسرعات حتى شارع عبدالعزيز صاعدات باتجاه الحمرا، وهناك في طرف الشارع كانت سينما «أورلي» التي استوقفنا البوستر فلم يكن لفيلم بل لمسرحية «نزل السرور»، وفي حين اندمجنا في التشاور والحديث عن كيفية حضور المسرحية التي كتب عنها الكثير خصوصاً في جريدتي المفضلة «السفير» لكونها تنتهي بعد موعد إغلاق أبواب سكن الطالبات «مبنى 56»، حينها جاءنا صوت من الخلف ينبهنا أنه قد تكون هناك عروض «متنيه» وفيكم تحضروا، وما إن التفتنا للتعرف على مصدر الصوت المتلصص لمحادثة شخصية بين صديقتين فوجئنا بعينين تلمعان خلف نظارة طبية لشاب ربما في عمرنا نحيل جداً. إنه زياد صرخت هي أو ربما أنا، وكان نجم زياد الرحباني قد بدأ يبرز وكنا قد تعرفنا عليه عبر ما سمعناه وكُتب عنه. وكأي مراهقتين وقفنا صامتتين، ثم قالت هي، بلهجة أمها اللبنانية: «بدنا نحضر المسرحية بالليل بس ما فينا بسبب السكن الداخلي» ولا أعرف أو لا أتذكر ما حدث سوى أنه ونحن افترقنا سريعاً ربما لخجلنا وانشغالاته. مرت سنوات طويلة وأنا نادمة كثيراً أننا لم نستفد من الحدث، فقد كان أو هكذا تصورنا أنه كان يريد أن يقدم لنا تذكرتين هدية، بعدها أصبح زياد جزءاً من تفاصيل أيامي كما كان حال الكثيرين من جيلي وما بعد بعده، وعرفت أن هذا العبقري لحّن في سن مبكرة جداً أغنيات ستبقى ضمن التراث الموسيقي والثقافي العربي لا اللبناني فقط. بعدها قرأت أن والده عاصي مرض وطلب منه أن يلحن واحدة من أهم أغنيات السيدة الأيقونة فيروز وهي «سألوني الناس». تركت أنا وهي بيروت في لحظة على عجل نلملم بقايا بقايانا في الذاكرة والقذائف تستوطن سماوات لبنان حتى هربت العصافير منها. وسيبقى زياد وتلك الذكرى عالقة في بقايا صور بيروت رائعة الجمال، بل المبهرة. وسيبقى زياد رفيق درب في الجمل وبين الفواصل والكلمات فلا يمكن أن تستمر في محادثة دون أن تتذكر عبارة له هنا في إحدى مسرحياته أو مقابلاته أو حتى كتاباته بعد ذلك في جريدة الأخبار. وعند أول عودة لي إلى بيروت بحثت عنه وكنت أنتقل من «بلونوت» إلى أماكن أخرى، كان يغني أو يعزف بها بين جمهور محبيه أو مهرجانات مثل بيت الدين حين لم يترك المناسبة تمر دون تعليق على بعض السياسيين الذين تربعوا على المقاعد الأولى كعادتهم. في ذات يوم حضرت الفرصة التي انتظرتها طويلاً وأخذني الصديق إبراهيم الأمين معه في زيارة لزياد في بيته بالحمرا، وكانت ليلة تشبه زياد لم يتغير منذ أن التقيته قبل سنين طويلة، لا في الكلام والموقف وطريقة الانتقال من حديث لآخر أو التعليق الساخر ولا حتى في مواقفه من كل هذا العالم شديد القبح. كأن زياد لم يكبر، بقي هو المتوهج بوجع الأرض ومن عليها، الملتصق بالفقراء وكل البشر الحقيقيين مثله بعيداً عن التزييف والتملق. لذلك عندما جاء خبر رحيله وتابعت جنازته من شارع الحمرا حتى بكفيا حزنت ببعض الفرح لأن محبيه وكل مَن تأثر به ومنه قد قام بوداعه بما يستحق هو. ولايزال الكثيرون ينبشون كلمة له هنا ولحناً هناك وموقفاً بينهما. رحل زياد الباقي هنا كملح الأرض هو. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية


الأنباء
منذ 3 أيام
- الأنباء
كيف وظف زياد الرحباني فنه أداةً لمناهضة الظلم والفساد؟
ورغم الشهرة الفنية العربية والعالمية والسمعة اللامعة التي عاش والداه في كنفها، شق زياد طريقه الخاص في وقت مبكر من حياته مبدعا ليؤسس لنفسه أسلوبا خاصا به مزج بين العمق الفني والإبداع الموسيقي والفكاهة السوداء والتمرد والنقد السياسي الجريء. كان زياد الرحباني في سنوات شبابه شاعرا استثنائيا وظف موهبته لوضع كلمات أغاني بسيطة حولها إلى ألحان موسيقية حديثة وتمثيليات سياسية ناقدة لواقع لبناني مؤلم بأسلوب ساخر. وأصبح أسلوبه الجامع بين العمق والتهكم حالة استثنائية في المشهد الثقافي العربي. في ربيعه السابع عشر حقق زياد الملحن أول نجاح له عندما عهد إليه والده عاصي الرحباني بتلحين أغنية "سألوني الناس" التي أدتها فيروز. وأثارت رصانة اللحن إعجاب الجمهور بدرجة أن الأوساط الفنية لم تصدق أن مبدعها شاب يافع، بل أن والده عاصي نفسه فوجئ بموهبة ابنه. وكانت الأغنية "سألوني الناس" انطلاقة تعاون فني بين فيروز وابنها، وضعت لبنة مسيرة المطربة في مراحل لاحقة من مشوارها. بعد نجاح لحنه الأول دخل زياد عالم المسرح بلعب دور الشرطي في مسرحية "المحطّة"، ثم مسرحية "ميس الريم" التي لحن مقدمتها الموسيقية. وشملت المقطوعة إيقاعات حزينة تارة وهادئة تارة أخرى، خرجت عن النسق المحافظ لمدرسة الرحباني. وعندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، أصر زياد الرحباني على أن يعكس فنه الهموم اليومية للناس وسط عنف القتال. وقدم أعمالا مزجت بين الكوميديا السوداء والنقد السياسي اللاذع، وحول خشبة المسرح إلى مرآة تعكس بصدق انقسام المجتمع اللبناني وجروحه آنذاك. شكلت مسرحيات زياد الرحباني محطة مفصلية في تاريخ المسرح اللبناني والعربي عموما. فزياد هو من حمل مشعل القطيعة مع المسرح الغنائي التقليدي، لينتقل بالمشاهد إلى مسرح سياسي نقدي يعبر عن نبض شارع تتقاذفه التناقضات، ويؤثثه جيل ضائع في أتون الحرب وهو يبحث عن خلاص حقيقي. ويجمع النقاد على أن زياد الرحباني حطم القوالب الكلاسيكية، وقدم مسرحا سياسيا نابعا من الواقع، تناول الهوية والانقسام والفساد والمقاومة بجرأة غير معهودة. ترك زياد الرحباني وراءه إرثا موسيقيا غنيا ومسيرة فنية رائدة أثرت في الحياة الموسيقية والمسرحية للبنان. كان معروفا عنه حبه للاختلاف والتغيير في الموسيقى حتى أصبح يشار إليه بصفة "المتمرد". إلا أن الراحل كان يرفض نعته بتلك الصفة. وفي إحدى تصريحاته التلفزيونية قال: "دائما ما كان يقال عني أني شخصية متمردة، ولكن لم أكن أفعل شيئا مقصودا... كل ما يحدث أنني أتصرف بطبيعتي، لأخرج لحنا جيدا". رحل زياد لكن أعماله وألحانه ستبقى خالدة بعده بصوت فيروز، وهو الذي لحن أكثر من 15 أغنية بينها "أنا عندي حنين" و"عندي ثقة فيك" و"بعتلك" و"ضاق خلقي" و"سلملي عليه" و"وحدن" ، و"البوسطة" و"معرفتي فيك" وغيرها. يرى نقاد كثيرون أن زياد الرحباني كان فريدا في إنتاجاته الموسيقية، رفع سقف جودة اللحن ورصانته ومستوى التجديد فيه. وربط الفن باللحظة التاريخية في لبنان تحديدا ووسع من أفق الأغنية العربية عموما.


الأنباء
منذ 3 أيام
- الأنباء
الأم الحزينة في حضرة الغياب: أغنية فيروز الأخيرة مع زياد
AFP لم يكن محبّو فيروز يتمنّون أن يكون اللقاء المنتظر بها في مناسبة أليمة، كعزاء ابنها زياد الرحباني. توافد المئات إلى كنيسة رقاد السيّدة في بلدة المحيدثة - بكفيا الجبلية، في منطقة المتن (جبل لبنان)، يوم الإثنين، لتشييع الموسيقار الراحل عن 69 عاماً. في باحة الكنيسة، كنا نسمع الناس يتهامسون: "هل رأيتِ الستّ؟ هل فيروز هنا حقاً؟ سلّمتَ عليها؟ معقول سوف نراها؟" تقدّم المعزّون نحو فيروز كما لو أنهم في حالة انخطاف. كانت تجلس في ركن الصالة، يقتربون منها بصمت، ينحنون أمامها لثوانٍ، يُتمتِمون كلمات مواساة، ثم يمضون. بدت، بمنديلها الأسود المُسدل على شعرها، بوقارها وثباتها، كأنها نواة مجرّة تدور الكواكب حولها في صمت. الناس يقتربون منها كأنّهم مأخوذون بجاذبية لا تُقاوَم، تخضع لقوانين فيروزيّة خفيّة. في حضرة فيروز، وقف الجميع دون تمييز بين شخصيات عامّة ومواطنين، بين أصحاب سلطة وبسطاء؛ كلّهم سواء، ينتظرون لحظة الوقوف أمامها. لأعوام طويلة، اعتادت فيروز الغياب. اختارت الابتعاد عن الأضواء، ونادراً ما ظهرت في حفلات أو أصدرت أغنيات جديدة أو تحدّثت في مقابلات صحافية. لذلك، ترك وجودها، على مقربة من المئات ولساعات طويلة، محاطة بالكاميرات، أثراً عميقاً في نفوس الحاضرين. على وجوه الناس في باحة الكنيسة ارتسم شيء من عدم التصديق: عدم تصديق لرحيل زياد، الفنان الذي ترك أثراً عملاقاً في الموسيقى والمسرح العربي لأكثر من نصف قرن، وعدم تصديق لوجود والدته بينهم. لكنها كانت هناك، جالسة أمام نعش ابنها، لا كأيقونة، ولا كفنانة، ولا كمحبوبة جماهير، ولا حتى كفيروز، بل كأم زياد فقط، كصاحبة العزاء. وفي حضرة حزنها، وأمام نعش زياد، تكثّف الصمت. همس الناس همساً. لحظة وصولها إلى صالة العزاء صباح الإثنين، ارتبك الصحافيون تحت وقع المفاجأة، فحدث تدافع لبضع دقائق، وحاول بعضهم اقتحام خصوصيّة العائلة. لكن، ما إن جلست على كرسيها، سكن كل شيء. لم يعد أحد يرغب بإزعاجها، وعلت أصوات المرتّلين. البعيدة القريبة غياب فيروز وحضورها مسألتان لطالما أثارتا الجدل. بعضهم يلومها على "الاعتصام في برجها العاجي"، كما يُقال. وبعضهم يروّج لتكهّنات حول حالتها الصحية مع تقدّمها في العمر. وآخرون يدافعون عن حقّها في العزلة واحترام خصوصيّتها ورغبتها في حياة هادئة تشبهها، بعيدة عن الضجيج. لكنّ خيار الاحتجاب، في عيون محبّيها، يثير الشوق والغصّة معاً، لأن خفوت حضورها لا يتناسب مع حجم العاطفة الجارفة تجاهها. فمحبّة فيروز، في الوجدان العام، ليست مجرّد ذائقة فنية أو إعجاباً بسيدة صنعت مجداً غنائياً ومسرحياً فريداً، وكانت العمود الثالث في المدرسة الرحبانية مع رفيق دربها عاصي، وشقيقه منصور. محبّة فيروز جزء من هوية الناس، من طريقتهم في التعريف عن أنفسهم. مكانتها كأيقونة ورمز وإرث، ليست تفصيلاً في يوميات ملايين اللبنانيين والعرب، بل ظلٌّ طاغٍ. لكن هل تعني المسافة الغياب حقاً؟ صحيح أن فيروز معتصمة في بيتها، إلا أنها لم تخرج من قلوب الناس. فهي بعيدة قريبة، تغيب ولا تغيب، مثل نجمة كفرغار، كما في أغنيتها الشهيرة من فيلم "بنت الحارس" (1968). يرى كثيرون في ابتعادها حكمة، وقراراً مدروساً. فربما ترى أن الكلام لم يعد يضيف ولا ينقص، وأن مواقفها، باتت حملاً ثقيلاً. ففي السنوات الماضية، تعرّضت فيروز أحياناً لهجمات بسبب تصريحات لم تصدر عنها، بل نُسبت إليها. فالكلّ يريد لفيروز أن تشبهه، بينما ترى هي، أن من واجبها وحقّها الحفاظ على إرث يتجاوز المناكفات. الكبار يصلون إلى مرحلة ما بعد الحاجة للكلام. كان آخر ظهور علنيّ لفيروز في سبتمبر 2020، حين زارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في منزلها، وقلّدها وسام جوقة الشرف الفرنسي، أرفع وسام تمنحه الدولة الفرنسية. خرجت عن اللقاء يومها مجموعة صور نادرة لفيروز، لم يحظ بها محبّوها منذ زمن. جاءت الزيارة في خضمّ الانهيار المالي وأزمة المصارف وتفجير مرفأ بيروت، وكأنها تذكير بأن لبنان، رغم كل ما خسره، ما زال يملك فيروز. فيروز: ماذا تعني الأيقونات المعلقة على جدار بيتها؟ فيروز: المغنية اللبنانية والأخوان عاصي الرحباني ومنصور الرحباني في لقاء خاص مع راديو بي بي سي عام 1961 تكرّست هذه المكانة الأيقونية بمرور الزمن، إذ عايشت المغنية التسعينية مآسي أبناء بلدها كافة، على امتداد ما يقارب القرن، وتقاطعت مآسي الوطن مع مآسيها الشخصية، من الحرب الأهلية، إلى رحيل زوجها عاصي الرحباني عام 1986، ثم وفاة ابنتها ليال عام 1988. ومع جلوسها أمام نعش زياد، تجلّت لحظة لا تكثّف حزنها الخاص فقط، بل حزن وطن لم يعد يحتمل المزيد من الخسارات. ومع أنها صاحبة المصاب، إلا أن الناس، وهم يلتفّون حولها، بدا كأنهم يرغبون في التدثّر بمنديلها، لكي تعزّيهم هي، وتُطمئنهم أن ظلّها لا يزال بينهم. في وداع زياد، كانت "سيّدة الأصول"، تؤدّي واجبها، متقدّمة عائلة الرحباني، متعالية على خلافات طالما كُتب عنها، وعن معارك قضائية بين ورثة عاصي وورثة منصور كان لها وقع إعلاميّ سلبيّ على مدى سنوات. ورغم ثقل اللحظة، كانت الساعات التي قضتها بين الناس، نافذة إلى معرفة نادرة وثمينة. عرفنا أنها بصحة جيدة، رغم التعب والشيخوخة وخطواتها التي أثقلها الحداد. عرفنا أيضاً أنها محاطة بأيدٍ أمينة: فإلي يمينها جلست ابنتها ريما الرحباني، تراقب كلّ حركات والدتها، وإلى يسارها محاميها الشخصي فوزي مطران، الذي حرص على ألّا يبالغ أحد المعزّين بالانفعال أمامها. الأم الحزينة صور فيروز في جنازة ابنها تستحضر سلسلة من المشاهد القديمة، ارتبط فيها حضورها العام بارتداء الأسود، خصوصاً في تسجيلاتها لترانيم الجمعة العظيمة. على مدى العقود الثلاثة الماضية، تحوّل هذا الطقس إلى موعد ثابت، ينتظره الناس للحصول على إطلالة نادرة على "الستّ". كانت تظهر في تلك التسجيلات القليلة جاثية، تغطي رأسها بالمنديل الأسود، وترنّم. لهذا لم يكن غريباً أن يُشبِّبها كثيرون على مواقع التواصل، بـ"الأم الحزينة"، بعد انتشار صورها في العزاء، في استعارة من صورة مريم العذراء في صلوات الرثاء المسيحية. وإلى جانب صورة الأم المكلومة، برز نوع آخر من الحداد: حداد على علاقة فنية استثنائية جمعت فيروز بزياد. في تلك العلاقة، لم يكن زياد مجرّد امتداد لمدرسة الرحابنة، بل كان صوتاً خاصاً، اصطدم بإرث والده، وجادل صورة والدته، وغيرّ مسارها الفنّي. لم يتعامل زياد مع فيروز كرمز لا يمسّ، بل كمغنية يملك صوتها قابلية التعبير عن أبعاد لم تُلامسها من قبل. حرّكها من موقع الأيقونة، إلى امرأة تغنّي عن الخوف، عن الخيبة، عن الحبّ المتعثّر، عن هشاشتها، عن رغبتها بالانعتاق من صور الرومانسية التقليدية. ذلك التحوّل لم يكن صوتياً أو تقنياً أو موسيقياً فقط. في نظر كثيرين، كان لحظة إعادة تعريف لصوت فيروز. جعله أقرب، أكثر عرضة للانكسار، بدون أن يفقده هيبته. لم تكن تلك الأغاني مجرّد تجريب موسيقي. أعاد زياد رسم ملامح فيروز، ووسّع حدودها. وفي الوقت نفسه، رسّخ مكانته كملحّن مختلف، صاحب مشروع فني مستقل، في أعمال مثل "كيفك إنت"، و"بلا ولا شي"، و"كبيرة المزحة". هكذا، في حضورها المهيب أمام نعشه، بدت فيروز وكأنها تنهي مع زياد، أغنيتهما الأخيرة معاً.