
قواعد الاستبداد لإخضاع العباد
تُعتبر قصيدة "رثاء طاغية" Epitaph on a Tyrant إحدى أشهر قصائد الشاعر الإنجليزي/الأمريكي "ويستان هيو أودن" Wystan Hugh Auden السياسية. تظهر في ديوان "زمن آخر" Another Time الذي نشر عام 1940. كُتبت القصيدة قبل أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتُقيّم مسيرة ونفسية ديكتاتور بأسلوب ساخر جاف. تُصوّر الديكتاتور كمناور ماهر، ومُحرّض حرب لا يرحم، ونرجسي قاتل يُعاقب بلاده عندما يكون في مزاج سيء.
مع أن القصيدة لا تُسمّي قائداً أو بيئةً مُحدّدة، إلا أنها غالباً ما تُقرأ كتعليق على ديكتاتوريي عصر أودن، بمن فيهم هتلر وموسوليني. في الوقت نفسه، يبدو أنها تُلخّص طبيعة الطغاة في جميع الأزمنة والأماكن.
تصف القصيدة دكتاتوراً مجهول الهوية كفنان مختل عقلياً ونرجسياً، مصمماً على فرض رؤيته القاسية والبسيطة "للكمال" على المجتمع بأسره. من خلال تصويرها لهذا "الطاغية" تحديداً، تُحدد القصيدة سمات مشتركة بين العديد من الطغاة: براعة التلاعب بالآخرين، والهوس بالحرب، وجنون العظمة الذي يُجبر شعوبهم على مُشاركة -ومعاناة- مزاجهم الخاص. في بضعة أسطر نابضة بالحياة، تُوضح القصيدة خطر وقسوة السلطة الاستبدادية. وتُصوّر الطغاة كماليين طموحين بلا هوادة، عازمين على تشكيل المجتمع بأسره وفقاً لإرادتهم.
مسيرة الطغيان
على مر التاريخ، استخدم الطغاة نفس الأساليب الملتوية لقمع الحريات مراراً وتكراراً. يتقدم مسار الطغيان على طريق ممهد بالأكاذيب والخداع. الحقيقة والشفافية عدوان للطغاة. ولكي ينجحوا، يجب على الطغاة إخماد التوق الفطري للحرية واستبداله بصراع من أجل البقاء يدفعه الخوف. ينظر الطغاة إلى الحرية والتحرر كتهديد لسلطتهم. إنهم لا يكشفون أبداً عن خططهم لإخضاع الشعب. لو كانوا كذلك، لثارت انتفاضة معارضة. بدلاً من ذلك، يستخدم الطغاة الأكاذيب والخداع ليظهروا بمظهر الخيرين، والرحماء، والمهتمين بالشعب. في الوقت نفسه، يعملون بجد وراء الكواليس لتحقيق عكس ما يعدون به تمام.
يُخفي الطغاة دائماً نواياهم الحقيقية في الاستعباد والسيطرة. يدركون أن لا أحد يرغب فيما يُفرض عليهم. ولا يُبالي الطغاة بحرية التعبير، ولا يتسامحون معها. بل يُكتمون أي معارضة بشكل منهجي. يعتمدون على قبضة حديدية لتنفيذ أجندتهم الخبيثة. الخصوصية مُستهدفة بالقضاء عليها. يريدون مراقبة سلوك الجميع واتصالاتهم.
ويستخدمون الخوف لاكتساب السلطة والحفاظ عليها. يريدون السيطرة على كل جانب من جوانب حياة الناس. الخوف أداة تُستخدم لإبقاء الناس في حالة تأهب. يُسيء الطغاة استخدام سلطتهم لمعاقبة من يتحداهم. يُخصّون المعارضين ليجعلوا منهم عبرة لغيرهم. يُريدون أن يخاف الناس من التحدث أو التصرف بمعارضة.
يُفرّق الطغاة الشعوب من أجل السيطرة. يُحرضون مختلف شرائح المجتمع على بعضها البعض بناءً على الوضع الاقتصادي، أو لون البشرة، أو الجنس، أو العمر، أو الدين، أو القيم، أو العرق. ويُدركون أن السيطرة على الناس أسهل عندما يتقاتلون فيما بينهم بدلاً من الاتحاد ضد الظلم.
يُثري الطغاة أنفسهم وأنصارهم مالياً. يحافظون على أنماط حياة مترفة بإنفاق أموال الآخرين. مصادرة تعب الآخرين هي مصدر ثروتهم. ويأخذون أيضاً من بعض الفئات ويعطون للبعض الآخر. ومن الاستراتيجيات الشائعة الاستيلاء على الراغبين في العمل لإعطائهم غير الراغبين. وهذا يُولّد عداءً متزايداً بين مختلف شرائح المجتمع، ويُبني اعتماداً كلياً على الطاغية في تلبية الاحتياجات الأساسية.
لا يعتقد الطغاة أنهم مُقيدون بالقوانين القائمة. بل يعتبرون أنفسهم فوق القانون، ويحق لهم التصرف بشكل منفرد دون الحاجة إلى طلب أي موافقة. وعندما تُترك أفعالهم الديكتاتورية دون أي اعتراض، يتشجعون على تجاوز حدود سلوكهم الخارج عن القانون. وفي النهاية، يغتصبون ما يكفي من السلطة لقمع أي معارضة بالقوة. ويحتاجون إلى اللامبالاة والرضا عن النفس للتقدم. ومن خلال الخداع الماكر، ينجحون في الواقع في حشد ضحاياهم لدعم جهودهم. ثم يُصدم ضحاياهم عندما يكتشفون أنهم هم أيضاً يعانون تحت وطأة قوة الطاغية الساحقة. لا يهتمون إلا بأنفسهم ويروجون لأجندتهم التدميرية. أي ادعاء بخلاف ذلك هو أكاذيب ماكرة.
يدمر الطغاة عمداً كل ما هو جيد وقيم في طريقهم. ويتركون خلفهم أرضاً قاحلة ممزقة من المعاناة والبؤس الذي لا ينتهي. ويصرّون حتى يوقفهم الشعب قائلين: "كفى!". يقرر المجتمع، بفعله أو تقاعسه، ما إذا كان سيختار الحرية أم الاستبداد.
المشهد العربي
تمكنت الأنظمة العربية عبر العقود التي أمضتها جاثمة فوق تطلعات الشعوب العربية، من ترويض هذه الشعوب وتخليصها من العنفوان الذي كان يميزها، ثم تدجينها وتحويلها إلى مجموعات من القطعان والطوائف والملل والمذاهب والأعراق، أقوام ضعيفة وخاضعة وصاغرة، مذعنة ومستسلمة لمصيرها، وعاجزة غير قادرة لا على تغيير واقعها ولا حتى على تحريكه.
سياسة التهجين التي اعتمدتها النظم العربية تواصلت عبر عقود متتالية، وأدت إلى محصلة مرعبة في الواقع العربي، حيث تجلت في المستويات المفزعة لمعدلات الفقر والأمية والتخلف الحضاري، وانتشار الجهل وشيوع القهر والاستبداد، وتفتت النسيج الاجتماعي، وظهور النزعات المذهبية والعرقية.
من الإنجازات العظيمة للأنظمة العربية، نجاحها في تحديد آليات واضحة لدى المواطن العربي، للربط الجدلي بين العقاب الصارم الذي لا يرحم أحداً ولا مهرب منه، وبين أية مظاهر تشير إلى الانحراف عن رؤية السلطة، أو أي سلوكيات تمرد أو رد فعل أو أقوال مخالفة من قبل البشر. ونجحت الأنظمة وأدواتها الأمنية في ترسيخ هذا المفهوم في عقول المواطنين، والذي يعني أن أي موقف مخالف سوف يعني الردع وإنزال العقاب، إذن لا بد من الخنوع والانقياد للإفلات من العقاب.
جميع الشعوب العربية تدرك أن بعض الأنظمة العربية قد اتقنت بجدارة فنون الترهيب والتفزيع والوعيد، إذ أصبح الخوف والرهبة هما الصفتان المشتركتان -تقريباً- لجميع هذه الشعوب. الخوف والرعب من الاعتقال التعسفي، الخوف من التعذيب والأذية، الرعب من جدران السجن، الخشية من الفقر والحرمان، الخوف من تالي الأيام. خوف ورعب وصل إلى حدود الشلل والانكفاء، مما أحدث حالة من الاغتراب الداخلي لدى المواطن العربي، فهو لا يشعر بهويته وانتمائه، ولا يشعر بحريته على قول ما يريد، تراه يكن البغض للنظام السياسي لكنه لا يجرؤ على الإفصاح، فإن فزعه من العقاب تجعل من إنكاره لنفسه ومواقفه وأقواله تصل إلى الدرجة العليا.
تستخدم الأنظمة العربية سياسات متعددة لإخضاع وترويض شعوبها، من ضمنها ما يعرف بسياسة العصا والجزرة. والجزرة هنا هي الانقياد والتحكم الناعم من خلال استغفال الشعوب بشعارات الحرية والديمقراطية، لكن أداة النظام للحكم تظل دون تغيير، ويظل الاستبداد جوهره. لذلك تعمد النظم العربية على إقامة انتخابات برلمانية ورئاسية وتفاخر بذلك لتغطية ما لا يغطّى من السياسات الأمنية التي تحكم الناس بواسطتها. حرص هذه الأنظمة على المظاهر الخادعة للديمقراطية شبيه بحرص السجّان على طلاء جدران السجن الخارجية بألوان زاهية.
نظرية التعلم الشرطي
قام العالم الفسيولوجي الروسي "إيفان بافلوف" صاحب أهم النظريات الترابطية، وهي نظرية "التعلم الشرطي" في إجراء تجربة على أحد الكلاب، ولاحظ أن لعاب الكلب يسيل عند تقديم الطعام له، ثم ربط تقديم الطعام بقرع الجرس، ومع التكرار أصبح لعاب الكلب يسيل حين قرع الجرس حتى من غير وجود الطعام. هذه التجربة أوصلته لصياغة نظريته الشهيرة في علم النفس وفلسفة السلوك، حيث أظهرت التجربة تكون ارتباط مثير شرطي واستجابة طبيعية، من خلال تكرار الاقتران بين المثير الشرطي والمثير الطبيعي –وهو هنا الطعام- الذي يحقق الاستجابة الطبيعية أصلاً، بحيث يصبح المثير الشرطي -وهو هنا صوت الجرس- قادراً على إثارة الاستجابة وحده.
ويفسر بافلوف حدوث هذا النوع من الارتباط إلى أسس فيسيولوجية بحتة مرتبطة بوظائف الدماغ.
على الصعيد البشري يتم توليد الكثير من المخاوف بذات الأسلوب الذي اعتمده بافلوف، خاصة لدى الأطفال والشباب، من خلال ربط المخاوف المشترط بمثير معين مع التكرار. فإن تم وضع سجين في غرفة مقفلة وتم تعذيبه بصدمات كهربائية على فترات متتالية مسبوقة بصوت ما، أياً كان هذا الصوت، فلنقل إنه صوت الحاكم أو الرئيس، فما يحصل أنه بعد عدد من المرات سوف يستجيب السجين لصوت الحاكم بنفس الطريقة من الخوف والفزع التي كان يستجيب بها للصدمة الكهربائية، حتى لو لم يتعرض لها بالفعل. بعبارة ثانية، إن السجين قد أشرط للاستجابة لمثير محايد.
إن الكثير من المخاوف البشرية يتم توليدها بذات الطريقة السابقة، وهذا ما يفعله -بعض- الحكام والأنظمة العربية لتدجين الشعوب وإخضاعها، وربط سلوكها وموقفها من السلطة باشتراطات تجعل الشعوب ترتعد خوفاً كلما رأت صورة القائد أو سمعت صوته، وترسيخ ارتباط الزعيم بالوطن، ارتباط قيام الأنظمة بالتضييق على الحريات والمصلحة العليا للوطن والمجتمع، وهكذا دواليك يتم دفع المواطن العربي نحو دوّامة من الخوف، والهواجس، والقلق، والاضطراب. كل هذا يجري التخطيط له بعناية في غرف سوداء مغلقة، من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للحاكم، حيث يتم توظيف علم النفس السلوكي لترويض البشر من قبل متخصصين نفسانيين واجتماعيين وأمنيين.
أساليب الترويض
تقوم الأنظمة باعتماد سياسات لترويض الناس عير طرق وأساليب منها القيام بتنظيم الكثير من المهرجانات والفعاليات والنشاطات الرياضية والفنية، وإقامة دوريات كرة القدم وتغطيتها إعلامياً، وجعلها حدثاً مهماً في حياة الناس للخروج قليلاً من واقعهم المعيشي وضنك الحياة. ثم المبالغة في الاحتفال بالأعياد الوطنية وابتداع مناسبات وطنية في محاولة تعميق الشعور الوطني لدى المواطن، وترسيخ انتمائه وهويته. وعرض صور الحاكم أو الرئيس في المؤسسات الحكومية والخاصة، في الجامعات والمؤسسات التعليمية، في الفنادق والمنتجعات السياحية، في المصانع والمزارع، في البيوت والشوارع والأزقة. وأهمية عزف النشيد الوطني حيث يرفع العلم الوطني بموازاة رفع صورة الحاكم. ولا تنسى ربط أي إنجاز يتحقق -هذا لو وجدته- باسم الحاكم والرئيس، أي إنجاز وأي نجاح وأي فوز في مباراة رياضية ما كان له أن يتحقق لولا حكمة وبصيرة الحاكم. وبعد ذلك يصبح الوطن بما يتضمنه من شجر وحجر وبشر مختزل في شخص الحاكم، بل ملك للحاكم وعائلته.
ومنذ انتشار وسائل الإعلام السمعية بداية عبر البث الإذاعي وأجهزة الراديو التي كانت منتشرة بكثرة في الأوساط العربية، ثم البصرية ودخول التلفاز إلى البيوت، أدركت الأنظمة أهمية هذا الجهاز الساحر، في التأثير على عقول المواطنين والتلاعب بها وترويضها، لأن ما يبث من خلالها من معلومات وبيانات ومواقف ورؤى وأية مضامين أخرى، يؤثر بشكل مباشر في وعي وإدراك الناس. لذلك تستخدم الأنظمة السياسية الوسائل الإعلامية لتلميع صورة الحاكم وتجميل نظامه، وتوجيه الرأي العام المحلي نحو تمجيد وتوقير هذا الرئيس ونظامه حرصاً على الوطن، ويصبح كل صوت معارض، وكل من يوجه انتقاد للزعيم أو لنظامه هو خائن للوطن. ثم يتم توظيف وسائل الإعلام لتمرير رؤية الحاكم وأفكار نظامه حول مختلف القضايا بدءًا من طريقة الحاكم في طهي الكوسا حتى فطنته في اكتشاف طبقة الأوزون.
ناهيك عن الملصقات الكبيرة واللافتات الضوئية التي تنتشر في الطرقات والميادين والجسور، ملصقات لصور القائد والزعيم والرئيس والحاكم بأمر الله، صور بملابس مدنية وأوضاع مختلفة، وصور بالزي العسكري مدججة بالنياشين والأوسمة، حتى لو كان الرئيس لا يميز بين الرقيب والعريف. ولافتات تمجد الحاكم الحكيم، العالم العليم، الحصيف المتبصر، الرزين النجيب، الألمعي الرشيد. يتم وضع اللافتات وصور الرئيس في أماكن مرتفعة مختارة بعناية، لتظهر طبيعة العلاقة الفوقية-الدونية التي تربط المواطن بالحاكم، وتذكره دوماً أن هناك من يحكم ويتحكم بجميع حركاته وأفعاله وأقواله، فتترسخ لدى المواطن المسكين الصورة الفوقية للسلطة، بحيث يصبح خاضعاً بشكل لا إرادي لها.
أما حين يرصد الحاكم ونظامه أية بوادر تذمر من المواطنين، أو حين يريد تمرير قانون لا يقبله الناس، فيلجأ إلى إغراق الشعب في قضايا هامشية جانبية، يقوم النظام في افتعالها لإشغال الناس عن مطالبهم الأساسية. إذ يتعمد النظام الحاكم افتعال خلافات بين مكونات المجتمع، وينشر العداوة والفرقة فيما بينهم، عبر إثارة المشاحنات والتناحر المذهبي والفقهي والطائفي والعرقي والطبقي والمناطقي. ويتعمد الحاكم ونظامه بخلق نوع من الفوضى ليثير ردود فعل معينة عن بعض الأطراف أو المذاهب في المجتمع من جهة، وحتى يتمكن من تبرير القمع والملاحقات الأمنية لاحقاً للمعارضين من جهة أخرى.
الحاكم مبدع في إشعال الحرائق وافتعال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في المجتمع لإحكام سيطرته على البشر. حيث يقوم نظام الحاكم باختلاق أزمة معينة ويتولى إعلامه ضخ الشائعات المفبركة والمضللة حولها، ثم يتقدم الحاكم الحاذق الرصين حاملاً الحلول للمواطنين، يتم بموجبها تنازل الناس عن بعض حرياتهم وحقوقهم لتبديد غضب الجميع ولينتصر الوطن بانتصار الحاكم.
كيف يتم التخطيط
بداية يعمد النظام إلى استكشاف وتحديد مكامن القوة والضعف لدى الشعب، من خلال أجهزته الأمنية وعيونه المنتشرة في كل ركن. ويتم التعرف وحصر أسماء المثقفين والمفكرين والعلماء الذين يتبنون مشروعاً ديمقراطياً تنويريا، وتحديد القوى والشخصيات التي تسعى أو تفكر في التغيير، وكذلك تحديد أي شخص يحمل فكراً مخالفاً أو ناقداً. ثم يقوم النظام بالقضاء على مصادر قوة الشعب، أو إضعافها إن تعذر القضاء عليها لسبب أو لآخر. يعمل على شل فاعلية الأحزاب والحركات والأفراد، ويلاحق المعارضين، وفتح السجون بتهم أو بدون تهم، تشويه الخطاب النقدي لبعض المفكرين والعلماء، حتى تشويه سمعتهم الشخصية، يعمل على الإقصاء التام لكافة الأصوات المخالفة. يعمد على فرض رقابة صارمة على حركات الناس وأفعالها واقوالها، حتى وأنفاسها، يعمل ما يستطيع لفرض رقابته ووصايته على مصادر العلم والمعرفة والمعلومات، ويحجب مواقع في الشبكة العنكبوتية يعتبرها خطرة على نظامه.
ثم يسعى الحاكم ونظامه إلى إغراق الشعب بكل ما يلهيه عن مطالبه الرئيسية، وكل ما يشتت تركيز الناس ويمنعهم من التفكير بواقعهم، ليصبح تأمين القوت اليومي الشاغل الأساسي للناس. فيتحول الوطن إلى مناسبات لا تنتهي، ومهرجانات فنية وأدبية، وأيام وطنية، وكرنفالات رياضية، ومسابقات يشارك بها البشر تنظمها وسائل الإعلام بجوائز مالية مغرية. ويقوم الحاكم بمنح الامتيازات للجهلة والسفهاء الذين يتصدرون المشهد الإعلامي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وعلى الأصعدة الأخرى المتعددة، بينما صوت المثقفين والعلماء يتم طمسه أو اعتقاله.
تعمد الأنظمة إلى ضرب منظومة القيم والمثل لدى المواطن، من خلال جعل الحياة ضنكة وغير ميسرة، مما يجعل معها الإنسان لا يعود يهتم بالقيم، وتصاب روحه المعنوية بمقتل، إذ يصبح عاجزاً وانهزامياً وتبريرياً يؤمن أن مصابه هو مصاب الجميع، وهذا تماماً ما تبتغي الأنظمة تحقيقه.
لا يكتفي الحاكم مما سبق، بل يعمل على تشكيل معارضة مفبركة، حتى يظهر الجانب الديمقراطي من نظامه الاستبدادي. يعتمد سياسة شراء الذمم بالأموال أو المناصب، لتتشكل بطانة للنظام تسبح بحمده، وتملأ الفراغ الذي أحدثه الغياب القسري للمثقفين والمفكرين الحقيقيين، فيلتف حول السلطان بعض رجال الدين المدعيين، والمثقفين السطحيين، والجهلة، والمنافقين.
وعند رصد اية حركة لفعل شيء ما من قبل الشعب، يعمد النظام إلى قوة الردع القاسية، ثم يعقبها بإطلاق الوعود المعسولة والتطمينات المختلقة، الهدف منها حقن الشعب بالشعارات المخدرة. هكذا يقوم -بعض- الحكام العرب وأنظمتهم باستغفال الشعوب وتليين طبائعها لتطويعها ثم إخضاعها.
مآلات مرعبة
لقد وصل إخضاع -بعض- الأنظمة العربية لشعوبها مرحلة اعتادت عليها تلك الشعوب ولم تعد ترى فيها شيئاً شاذاً، بل أن بعض العرب يعتبر ذلك أمراً طبيعياً، بحيث تحولت كثير من الشعوب العربية إلى أن تمارس رقابة ذاتية صارمة على أفكارها وأقوالها وأفعالها، وأصبحت الناس توجه اللوم لبعضها البعض، بدلاً من توجيه اللوم والنقد للجاني، وتستعين بمبدأ أن على المواطن عدم توريط نفسه بالسياسة مادام يعلم مقدار القسوة التي سيبديها النظام. والمفزع أن هذا الوضع السلوكي لبعض الشعوب العربية يتم توريثه للأجيال اللاحقة، بحيث يتحول الشعب كله نسخة واحدة من الأصل.
في مرحلة متطورة تتغول الأنظمة السياسية والحكام، ويصبح الترويض والردع يطال ليس فقط أقوال وافعال المواطنين، بل يطال النوايا. ومن ثم تتسع دائرة الحظر من الحاكم إلى البطانة إلى كافة رموز النظام والحاكم المستبد، فلم يعد العقاب مستحق على أي نقد للحاكم، بل يتم إنزال القصاص بكل من يجرؤ على المساس برموز النظام.
من الفاجعة القول إن بعض من رجال الدين يكمل دور النظام في ترويض البشر وإخضاعهم، عبر الخطب في المساجد، أو من خلال الندوات والدروس الدينية التي تبث عبر شاشة التلفاز، حيث يتم تحذير الناس من الضلالة والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، وحرمة عدم إطاعة الحاكم والوالي، والخروج من الجماعة التي ترعب عامة الناس.
والمؤلم حقاً في هذا السياق هو ما تقوم به السلطتين السياسية والدينية في تعميق الشعور بالذنب لدى المواطن العربي، فيصبح الإحساس بالخطيئة والإثم يرافقان الإنسان، بحيث لا يجرؤ على مجرد التفكير بما يفعله الحاكم، أو بالشك بنزاهة النظام، فيقوم المواطن على معاقبة نفسه، حتى على أشياء لم يفعلها، بل لمجرد الشك بها.
اغتصاب الشعوب
هذا ما يجيد فعله الحاكم بمعاونة حاشيته، مدفوعاً بالأطماع والمصالح التي تبتغي أن يظل الناس في قاع الجهل والتخدير العقلي وتغييب الوعي وفقدان الأمل بالأفضل والأرقى. هذا ما تفعله السلطة ماضياً وحاضراً، حين تنكس رأسها صوب الأرض، كي لا ترى ما يحصل من تقدم
وتطور وتحضر وتنوير في هذا العالم. هكذا سيبقى الحاكم والسلطة ما دامت الشعوب تتصارع فيما بينها قبائلاً وطوائفاً ومذاهباً وأعراقاً، وتحتكم لقوانين الجاهلية، تائهة في بداوة بدائية، تقتات على شوك صحراوي في وقت يشكو فيه الأبناء والشباب من جوع حضاري لا ينفع معه سوى تغيير بنيوي شامل كامل لكافة مفاصل أطراف هذه الأمة.
وما لم تنهض الشعوب العربية وتقوم بتحطيم نظرية الارتباط الشرطي لهدم جدار الفزع، والانطلاق تجاه بناء دولة القانون والمؤسسات، فإن الحكام سيظلون يقرعون الجرس لنا دون تقديم الطعام.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة النبأ
منذ 12 ساعات
- شبكة النبأ
قواعد الاستبداد لإخضاع العباد
هذا ما يجيد فعله الحاكم بمعاونة حاشيته، مدفوعاً بالأطماع والمصالح التي تبتغي أن يظل الناس في قاع الجهل والتخدير العقلي وتغييب الوعي وفقدان الأمل بالأفضل والأرقى. هذا ما تفعله السلطة ماضياً وحاضراً، حين تنكس رأسها صوب الأرض كي لا ترى ما يحصل من تقدم. هكذا سيبقى الحاكم والسلطة... تُعتبر قصيدة "رثاء طاغية" Epitaph on a Tyrant إحدى أشهر قصائد الشاعر الإنجليزي/الأمريكي "ويستان هيو أودن" Wystan Hugh Auden السياسية. تظهر في ديوان "زمن آخر" Another Time الذي نشر عام 1940. كُتبت القصيدة قبل أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتُقيّم مسيرة ونفسية ديكتاتور بأسلوب ساخر جاف. تُصوّر الديكتاتور كمناور ماهر، ومُحرّض حرب لا يرحم، ونرجسي قاتل يُعاقب بلاده عندما يكون في مزاج سيء. مع أن القصيدة لا تُسمّي قائداً أو بيئةً مُحدّدة، إلا أنها غالباً ما تُقرأ كتعليق على ديكتاتوريي عصر أودن، بمن فيهم هتلر وموسوليني. في الوقت نفسه، يبدو أنها تُلخّص طبيعة الطغاة في جميع الأزمنة والأماكن. تصف القصيدة دكتاتوراً مجهول الهوية كفنان مختل عقلياً ونرجسياً، مصمماً على فرض رؤيته القاسية والبسيطة "للكمال" على المجتمع بأسره. من خلال تصويرها لهذا "الطاغية" تحديداً، تُحدد القصيدة سمات مشتركة بين العديد من الطغاة: براعة التلاعب بالآخرين، والهوس بالحرب، وجنون العظمة الذي يُجبر شعوبهم على مُشاركة -ومعاناة- مزاجهم الخاص. في بضعة أسطر نابضة بالحياة، تُوضح القصيدة خطر وقسوة السلطة الاستبدادية. وتُصوّر الطغاة كماليين طموحين بلا هوادة، عازمين على تشكيل المجتمع بأسره وفقاً لإرادتهم. مسيرة الطغيان على مر التاريخ، استخدم الطغاة نفس الأساليب الملتوية لقمع الحريات مراراً وتكراراً. يتقدم مسار الطغيان على طريق ممهد بالأكاذيب والخداع. الحقيقة والشفافية عدوان للطغاة. ولكي ينجحوا، يجب على الطغاة إخماد التوق الفطري للحرية واستبداله بصراع من أجل البقاء يدفعه الخوف. ينظر الطغاة إلى الحرية والتحرر كتهديد لسلطتهم. إنهم لا يكشفون أبداً عن خططهم لإخضاع الشعب. لو كانوا كذلك، لثارت انتفاضة معارضة. بدلاً من ذلك، يستخدم الطغاة الأكاذيب والخداع ليظهروا بمظهر الخيرين، والرحماء، والمهتمين بالشعب. في الوقت نفسه، يعملون بجد وراء الكواليس لتحقيق عكس ما يعدون به تمام. يُخفي الطغاة دائماً نواياهم الحقيقية في الاستعباد والسيطرة. يدركون أن لا أحد يرغب فيما يُفرض عليهم. ولا يُبالي الطغاة بحرية التعبير، ولا يتسامحون معها. بل يُكتمون أي معارضة بشكل منهجي. يعتمدون على قبضة حديدية لتنفيذ أجندتهم الخبيثة. الخصوصية مُستهدفة بالقضاء عليها. يريدون مراقبة سلوك الجميع واتصالاتهم. ويستخدمون الخوف لاكتساب السلطة والحفاظ عليها. يريدون السيطرة على كل جانب من جوانب حياة الناس. الخوف أداة تُستخدم لإبقاء الناس في حالة تأهب. يُسيء الطغاة استخدام سلطتهم لمعاقبة من يتحداهم. يُخصّون المعارضين ليجعلوا منهم عبرة لغيرهم. يُريدون أن يخاف الناس من التحدث أو التصرف بمعارضة. يُفرّق الطغاة الشعوب من أجل السيطرة. يُحرضون مختلف شرائح المجتمع على بعضها البعض بناءً على الوضع الاقتصادي، أو لون البشرة، أو الجنس، أو العمر، أو الدين، أو القيم، أو العرق. ويُدركون أن السيطرة على الناس أسهل عندما يتقاتلون فيما بينهم بدلاً من الاتحاد ضد الظلم. يُثري الطغاة أنفسهم وأنصارهم مالياً. يحافظون على أنماط حياة مترفة بإنفاق أموال الآخرين. مصادرة تعب الآخرين هي مصدر ثروتهم. ويأخذون أيضاً من بعض الفئات ويعطون للبعض الآخر. ومن الاستراتيجيات الشائعة الاستيلاء على الراغبين في العمل لإعطائهم غير الراغبين. وهذا يُولّد عداءً متزايداً بين مختلف شرائح المجتمع، ويُبني اعتماداً كلياً على الطاغية في تلبية الاحتياجات الأساسية. لا يعتقد الطغاة أنهم مُقيدون بالقوانين القائمة. بل يعتبرون أنفسهم فوق القانون، ويحق لهم التصرف بشكل منفرد دون الحاجة إلى طلب أي موافقة. وعندما تُترك أفعالهم الديكتاتورية دون أي اعتراض، يتشجعون على تجاوز حدود سلوكهم الخارج عن القانون. وفي النهاية، يغتصبون ما يكفي من السلطة لقمع أي معارضة بالقوة. ويحتاجون إلى اللامبالاة والرضا عن النفس للتقدم. ومن خلال الخداع الماكر، ينجحون في الواقع في حشد ضحاياهم لدعم جهودهم. ثم يُصدم ضحاياهم عندما يكتشفون أنهم هم أيضاً يعانون تحت وطأة قوة الطاغية الساحقة. لا يهتمون إلا بأنفسهم ويروجون لأجندتهم التدميرية. أي ادعاء بخلاف ذلك هو أكاذيب ماكرة. يدمر الطغاة عمداً كل ما هو جيد وقيم في طريقهم. ويتركون خلفهم أرضاً قاحلة ممزقة من المعاناة والبؤس الذي لا ينتهي. ويصرّون حتى يوقفهم الشعب قائلين: "كفى!". يقرر المجتمع، بفعله أو تقاعسه، ما إذا كان سيختار الحرية أم الاستبداد. المشهد العربي تمكنت الأنظمة العربية عبر العقود التي أمضتها جاثمة فوق تطلعات الشعوب العربية، من ترويض هذه الشعوب وتخليصها من العنفوان الذي كان يميزها، ثم تدجينها وتحويلها إلى مجموعات من القطعان والطوائف والملل والمذاهب والأعراق، أقوام ضعيفة وخاضعة وصاغرة، مذعنة ومستسلمة لمصيرها، وعاجزة غير قادرة لا على تغيير واقعها ولا حتى على تحريكه. سياسة التهجين التي اعتمدتها النظم العربية تواصلت عبر عقود متتالية، وأدت إلى محصلة مرعبة في الواقع العربي، حيث تجلت في المستويات المفزعة لمعدلات الفقر والأمية والتخلف الحضاري، وانتشار الجهل وشيوع القهر والاستبداد، وتفتت النسيج الاجتماعي، وظهور النزعات المذهبية والعرقية. من الإنجازات العظيمة للأنظمة العربية، نجاحها في تحديد آليات واضحة لدى المواطن العربي، للربط الجدلي بين العقاب الصارم الذي لا يرحم أحداً ولا مهرب منه، وبين أية مظاهر تشير إلى الانحراف عن رؤية السلطة، أو أي سلوكيات تمرد أو رد فعل أو أقوال مخالفة من قبل البشر. ونجحت الأنظمة وأدواتها الأمنية في ترسيخ هذا المفهوم في عقول المواطنين، والذي يعني أن أي موقف مخالف سوف يعني الردع وإنزال العقاب، إذن لا بد من الخنوع والانقياد للإفلات من العقاب. جميع الشعوب العربية تدرك أن بعض الأنظمة العربية قد اتقنت بجدارة فنون الترهيب والتفزيع والوعيد، إذ أصبح الخوف والرهبة هما الصفتان المشتركتان -تقريباً- لجميع هذه الشعوب. الخوف والرعب من الاعتقال التعسفي، الخوف من التعذيب والأذية، الرعب من جدران السجن، الخشية من الفقر والحرمان، الخوف من تالي الأيام. خوف ورعب وصل إلى حدود الشلل والانكفاء، مما أحدث حالة من الاغتراب الداخلي لدى المواطن العربي، فهو لا يشعر بهويته وانتمائه، ولا يشعر بحريته على قول ما يريد، تراه يكن البغض للنظام السياسي لكنه لا يجرؤ على الإفصاح، فإن فزعه من العقاب تجعل من إنكاره لنفسه ومواقفه وأقواله تصل إلى الدرجة العليا. تستخدم الأنظمة العربية سياسات متعددة لإخضاع وترويض شعوبها، من ضمنها ما يعرف بسياسة العصا والجزرة. والجزرة هنا هي الانقياد والتحكم الناعم من خلال استغفال الشعوب بشعارات الحرية والديمقراطية، لكن أداة النظام للحكم تظل دون تغيير، ويظل الاستبداد جوهره. لذلك تعمد النظم العربية على إقامة انتخابات برلمانية ورئاسية وتفاخر بذلك لتغطية ما لا يغطّى من السياسات الأمنية التي تحكم الناس بواسطتها. حرص هذه الأنظمة على المظاهر الخادعة للديمقراطية شبيه بحرص السجّان على طلاء جدران السجن الخارجية بألوان زاهية. نظرية التعلم الشرطي قام العالم الفسيولوجي الروسي "إيفان بافلوف" صاحب أهم النظريات الترابطية، وهي نظرية "التعلم الشرطي" في إجراء تجربة على أحد الكلاب، ولاحظ أن لعاب الكلب يسيل عند تقديم الطعام له، ثم ربط تقديم الطعام بقرع الجرس، ومع التكرار أصبح لعاب الكلب يسيل حين قرع الجرس حتى من غير وجود الطعام. هذه التجربة أوصلته لصياغة نظريته الشهيرة في علم النفس وفلسفة السلوك، حيث أظهرت التجربة تكون ارتباط مثير شرطي واستجابة طبيعية، من خلال تكرار الاقتران بين المثير الشرطي والمثير الطبيعي –وهو هنا الطعام- الذي يحقق الاستجابة الطبيعية أصلاً، بحيث يصبح المثير الشرطي -وهو هنا صوت الجرس- قادراً على إثارة الاستجابة وحده. ويفسر بافلوف حدوث هذا النوع من الارتباط إلى أسس فيسيولوجية بحتة مرتبطة بوظائف الدماغ. على الصعيد البشري يتم توليد الكثير من المخاوف بذات الأسلوب الذي اعتمده بافلوف، خاصة لدى الأطفال والشباب، من خلال ربط المخاوف المشترط بمثير معين مع التكرار. فإن تم وضع سجين في غرفة مقفلة وتم تعذيبه بصدمات كهربائية على فترات متتالية مسبوقة بصوت ما، أياً كان هذا الصوت، فلنقل إنه صوت الحاكم أو الرئيس، فما يحصل أنه بعد عدد من المرات سوف يستجيب السجين لصوت الحاكم بنفس الطريقة من الخوف والفزع التي كان يستجيب بها للصدمة الكهربائية، حتى لو لم يتعرض لها بالفعل. بعبارة ثانية، إن السجين قد أشرط للاستجابة لمثير محايد. إن الكثير من المخاوف البشرية يتم توليدها بذات الطريقة السابقة، وهذا ما يفعله -بعض- الحكام والأنظمة العربية لتدجين الشعوب وإخضاعها، وربط سلوكها وموقفها من السلطة باشتراطات تجعل الشعوب ترتعد خوفاً كلما رأت صورة القائد أو سمعت صوته، وترسيخ ارتباط الزعيم بالوطن، ارتباط قيام الأنظمة بالتضييق على الحريات والمصلحة العليا للوطن والمجتمع، وهكذا دواليك يتم دفع المواطن العربي نحو دوّامة من الخوف، والهواجس، والقلق، والاضطراب. كل هذا يجري التخطيط له بعناية في غرف سوداء مغلقة، من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للحاكم، حيث يتم توظيف علم النفس السلوكي لترويض البشر من قبل متخصصين نفسانيين واجتماعيين وأمنيين. أساليب الترويض تقوم الأنظمة باعتماد سياسات لترويض الناس عير طرق وأساليب منها القيام بتنظيم الكثير من المهرجانات والفعاليات والنشاطات الرياضية والفنية، وإقامة دوريات كرة القدم وتغطيتها إعلامياً، وجعلها حدثاً مهماً في حياة الناس للخروج قليلاً من واقعهم المعيشي وضنك الحياة. ثم المبالغة في الاحتفال بالأعياد الوطنية وابتداع مناسبات وطنية في محاولة تعميق الشعور الوطني لدى المواطن، وترسيخ انتمائه وهويته. وعرض صور الحاكم أو الرئيس في المؤسسات الحكومية والخاصة، في الجامعات والمؤسسات التعليمية، في الفنادق والمنتجعات السياحية، في المصانع والمزارع، في البيوت والشوارع والأزقة. وأهمية عزف النشيد الوطني حيث يرفع العلم الوطني بموازاة رفع صورة الحاكم. ولا تنسى ربط أي إنجاز يتحقق -هذا لو وجدته- باسم الحاكم والرئيس، أي إنجاز وأي نجاح وأي فوز في مباراة رياضية ما كان له أن يتحقق لولا حكمة وبصيرة الحاكم. وبعد ذلك يصبح الوطن بما يتضمنه من شجر وحجر وبشر مختزل في شخص الحاكم، بل ملك للحاكم وعائلته. ومنذ انتشار وسائل الإعلام السمعية بداية عبر البث الإذاعي وأجهزة الراديو التي كانت منتشرة بكثرة في الأوساط العربية، ثم البصرية ودخول التلفاز إلى البيوت، أدركت الأنظمة أهمية هذا الجهاز الساحر، في التأثير على عقول المواطنين والتلاعب بها وترويضها، لأن ما يبث من خلالها من معلومات وبيانات ومواقف ورؤى وأية مضامين أخرى، يؤثر بشكل مباشر في وعي وإدراك الناس. لذلك تستخدم الأنظمة السياسية الوسائل الإعلامية لتلميع صورة الحاكم وتجميل نظامه، وتوجيه الرأي العام المحلي نحو تمجيد وتوقير هذا الرئيس ونظامه حرصاً على الوطن، ويصبح كل صوت معارض، وكل من يوجه انتقاد للزعيم أو لنظامه هو خائن للوطن. ثم يتم توظيف وسائل الإعلام لتمرير رؤية الحاكم وأفكار نظامه حول مختلف القضايا بدءًا من طريقة الحاكم في طهي الكوسا حتى فطنته في اكتشاف طبقة الأوزون. ناهيك عن الملصقات الكبيرة واللافتات الضوئية التي تنتشر في الطرقات والميادين والجسور، ملصقات لصور القائد والزعيم والرئيس والحاكم بأمر الله، صور بملابس مدنية وأوضاع مختلفة، وصور بالزي العسكري مدججة بالنياشين والأوسمة، حتى لو كان الرئيس لا يميز بين الرقيب والعريف. ولافتات تمجد الحاكم الحكيم، العالم العليم، الحصيف المتبصر، الرزين النجيب، الألمعي الرشيد. يتم وضع اللافتات وصور الرئيس في أماكن مرتفعة مختارة بعناية، لتظهر طبيعة العلاقة الفوقية-الدونية التي تربط المواطن بالحاكم، وتذكره دوماً أن هناك من يحكم ويتحكم بجميع حركاته وأفعاله وأقواله، فتترسخ لدى المواطن المسكين الصورة الفوقية للسلطة، بحيث يصبح خاضعاً بشكل لا إرادي لها. أما حين يرصد الحاكم ونظامه أية بوادر تذمر من المواطنين، أو حين يريد تمرير قانون لا يقبله الناس، فيلجأ إلى إغراق الشعب في قضايا هامشية جانبية، يقوم النظام في افتعالها لإشغال الناس عن مطالبهم الأساسية. إذ يتعمد النظام الحاكم افتعال خلافات بين مكونات المجتمع، وينشر العداوة والفرقة فيما بينهم، عبر إثارة المشاحنات والتناحر المذهبي والفقهي والطائفي والعرقي والطبقي والمناطقي. ويتعمد الحاكم ونظامه بخلق نوع من الفوضى ليثير ردود فعل معينة عن بعض الأطراف أو المذاهب في المجتمع من جهة، وحتى يتمكن من تبرير القمع والملاحقات الأمنية لاحقاً للمعارضين من جهة أخرى. الحاكم مبدع في إشعال الحرائق وافتعال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في المجتمع لإحكام سيطرته على البشر. حيث يقوم نظام الحاكم باختلاق أزمة معينة ويتولى إعلامه ضخ الشائعات المفبركة والمضللة حولها، ثم يتقدم الحاكم الحاذق الرصين حاملاً الحلول للمواطنين، يتم بموجبها تنازل الناس عن بعض حرياتهم وحقوقهم لتبديد غضب الجميع ولينتصر الوطن بانتصار الحاكم. كيف يتم التخطيط بداية يعمد النظام إلى استكشاف وتحديد مكامن القوة والضعف لدى الشعب، من خلال أجهزته الأمنية وعيونه المنتشرة في كل ركن. ويتم التعرف وحصر أسماء المثقفين والمفكرين والعلماء الذين يتبنون مشروعاً ديمقراطياً تنويريا، وتحديد القوى والشخصيات التي تسعى أو تفكر في التغيير، وكذلك تحديد أي شخص يحمل فكراً مخالفاً أو ناقداً. ثم يقوم النظام بالقضاء على مصادر قوة الشعب، أو إضعافها إن تعذر القضاء عليها لسبب أو لآخر. يعمل على شل فاعلية الأحزاب والحركات والأفراد، ويلاحق المعارضين، وفتح السجون بتهم أو بدون تهم، تشويه الخطاب النقدي لبعض المفكرين والعلماء، حتى تشويه سمعتهم الشخصية، يعمل على الإقصاء التام لكافة الأصوات المخالفة. يعمد على فرض رقابة صارمة على حركات الناس وأفعالها واقوالها، حتى وأنفاسها، يعمل ما يستطيع لفرض رقابته ووصايته على مصادر العلم والمعرفة والمعلومات، ويحجب مواقع في الشبكة العنكبوتية يعتبرها خطرة على نظامه. ثم يسعى الحاكم ونظامه إلى إغراق الشعب بكل ما يلهيه عن مطالبه الرئيسية، وكل ما يشتت تركيز الناس ويمنعهم من التفكير بواقعهم، ليصبح تأمين القوت اليومي الشاغل الأساسي للناس. فيتحول الوطن إلى مناسبات لا تنتهي، ومهرجانات فنية وأدبية، وأيام وطنية، وكرنفالات رياضية، ومسابقات يشارك بها البشر تنظمها وسائل الإعلام بجوائز مالية مغرية. ويقوم الحاكم بمنح الامتيازات للجهلة والسفهاء الذين يتصدرون المشهد الإعلامي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وعلى الأصعدة الأخرى المتعددة، بينما صوت المثقفين والعلماء يتم طمسه أو اعتقاله. تعمد الأنظمة إلى ضرب منظومة القيم والمثل لدى المواطن، من خلال جعل الحياة ضنكة وغير ميسرة، مما يجعل معها الإنسان لا يعود يهتم بالقيم، وتصاب روحه المعنوية بمقتل، إذ يصبح عاجزاً وانهزامياً وتبريرياً يؤمن أن مصابه هو مصاب الجميع، وهذا تماماً ما تبتغي الأنظمة تحقيقه. لا يكتفي الحاكم مما سبق، بل يعمل على تشكيل معارضة مفبركة، حتى يظهر الجانب الديمقراطي من نظامه الاستبدادي. يعتمد سياسة شراء الذمم بالأموال أو المناصب، لتتشكل بطانة للنظام تسبح بحمده، وتملأ الفراغ الذي أحدثه الغياب القسري للمثقفين والمفكرين الحقيقيين، فيلتف حول السلطان بعض رجال الدين المدعيين، والمثقفين السطحيين، والجهلة، والمنافقين. وعند رصد اية حركة لفعل شيء ما من قبل الشعب، يعمد النظام إلى قوة الردع القاسية، ثم يعقبها بإطلاق الوعود المعسولة والتطمينات المختلقة، الهدف منها حقن الشعب بالشعارات المخدرة. هكذا يقوم -بعض- الحكام العرب وأنظمتهم باستغفال الشعوب وتليين طبائعها لتطويعها ثم إخضاعها. مآلات مرعبة لقد وصل إخضاع -بعض- الأنظمة العربية لشعوبها مرحلة اعتادت عليها تلك الشعوب ولم تعد ترى فيها شيئاً شاذاً، بل أن بعض العرب يعتبر ذلك أمراً طبيعياً، بحيث تحولت كثير من الشعوب العربية إلى أن تمارس رقابة ذاتية صارمة على أفكارها وأقوالها وأفعالها، وأصبحت الناس توجه اللوم لبعضها البعض، بدلاً من توجيه اللوم والنقد للجاني، وتستعين بمبدأ أن على المواطن عدم توريط نفسه بالسياسة مادام يعلم مقدار القسوة التي سيبديها النظام. والمفزع أن هذا الوضع السلوكي لبعض الشعوب العربية يتم توريثه للأجيال اللاحقة، بحيث يتحول الشعب كله نسخة واحدة من الأصل. في مرحلة متطورة تتغول الأنظمة السياسية والحكام، ويصبح الترويض والردع يطال ليس فقط أقوال وافعال المواطنين، بل يطال النوايا. ومن ثم تتسع دائرة الحظر من الحاكم إلى البطانة إلى كافة رموز النظام والحاكم المستبد، فلم يعد العقاب مستحق على أي نقد للحاكم، بل يتم إنزال القصاص بكل من يجرؤ على المساس برموز النظام. من الفاجعة القول إن بعض من رجال الدين يكمل دور النظام في ترويض البشر وإخضاعهم، عبر الخطب في المساجد، أو من خلال الندوات والدروس الدينية التي تبث عبر شاشة التلفاز، حيث يتم تحذير الناس من الضلالة والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، وحرمة عدم إطاعة الحاكم والوالي، والخروج من الجماعة التي ترعب عامة الناس. والمؤلم حقاً في هذا السياق هو ما تقوم به السلطتين السياسية والدينية في تعميق الشعور بالذنب لدى المواطن العربي، فيصبح الإحساس بالخطيئة والإثم يرافقان الإنسان، بحيث لا يجرؤ على مجرد التفكير بما يفعله الحاكم، أو بالشك بنزاهة النظام، فيقوم المواطن على معاقبة نفسه، حتى على أشياء لم يفعلها، بل لمجرد الشك بها. اغتصاب الشعوب هذا ما يجيد فعله الحاكم بمعاونة حاشيته، مدفوعاً بالأطماع والمصالح التي تبتغي أن يظل الناس في قاع الجهل والتخدير العقلي وتغييب الوعي وفقدان الأمل بالأفضل والأرقى. هذا ما تفعله السلطة ماضياً وحاضراً، حين تنكس رأسها صوب الأرض، كي لا ترى ما يحصل من تقدم وتطور وتحضر وتنوير في هذا العالم. هكذا سيبقى الحاكم والسلطة ما دامت الشعوب تتصارع فيما بينها قبائلاً وطوائفاً ومذاهباً وأعراقاً، وتحتكم لقوانين الجاهلية، تائهة في بداوة بدائية، تقتات على شوك صحراوي في وقت يشكو فيه الأبناء والشباب من جوع حضاري لا ينفع معه سوى تغيير بنيوي شامل كامل لكافة مفاصل أطراف هذه الأمة. وما لم تنهض الشعوب العربية وتقوم بتحطيم نظرية الارتباط الشرطي لهدم جدار الفزع، والانطلاق تجاه بناء دولة القانون والمؤسسات، فإن الحكام سيظلون يقرعون الجرس لنا دون تقديم الطعام.


سيدر نيوز
منذ 3 أيام
- سيدر نيوز
لم يظهر فيها المُذيع، كيف كانت أول نشرة أخبار تلفزيونية لبي بي سي؟
من الصعب تخيّل العالم اليوم بدون تغطية إخبارية تلفزيونية على مدار الساعة، في وقت يبدو فيه العديد من المذيعين البارزين مرهقين بعد ليلة كاملة من التغطية المتواصلة لحرب أو انتخابات في مكان ما على سبيل المثال. وعلى الرغم من أن خدمة التلفزيون كانت تعمل منذ فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أن بي بي سي كانت مترددة في السماح للتلفزيون بمنافسة الإذاعة كمصدر لنقل الأخبار. وبعد نقاش طويل، تقرر تقديم نشرة إخبارية تلفزيونية مسائية، لكن دون أن يظهر مذيعو الأخبار أمام الكاميرات. 'بوش هاوس' و'بي بي سي' : غرام طويل وفراق قريب بدأت نشرة بي بي سي الإخبارية التلفزيونية في 5 يوليو/ تموز من عام 1954، من خلال برنامج 'الأخبار والنشرة المصورة'، وقد بدأت النشرة بملخص للأخبار، مرفق بخرائط وصور ثابتة. وجاءت هذه الخطوة بعد سنوات من الاعتماد على الإذاعة المسموعة كوسيلة رئيسية لنقل الأخبار، وتزامنت مع تطورات تقنية ومجتمعية فرضت نفسها على صناعة الإعلام البريطاني والعالمي. ولم تكن تلك الخطوة معزولة عن السياق العام الذي عاشته بريطانيا بعد الحرب، فقد كانت البلاد تشهد تحولات اقتصادية وسياسية عميقة، وبدأ التلفزيون يأخذ مكاناً متزايداً في الحياة اليومية للناس، خاصة بعد أن قررت الحكومة دعم التوسع في البث التلفزيوني ليصل إلى مختلف الأقاليم. وقد أدركت بي بي سي أن عليها أن تتماشى مع هذه التحولات، لكنها في الوقت نفسه كانت حريصة على الحفاظ على طابعها الرسمي الرصين، الذي عُرفت به منذ نشأتها في عشرينيات القرن الماضي. وفي أول نشرة تلفزيونية، قدّم قارئا الأخبار، ريتشارد بيكر وجون سناغ، النشرة دون أن يظهرا على الشاشة، حيث كان يُعتقد أن ظهورهما قد يشكل مصدر تشتيت للمشاهد، كما كان المسؤولون في بي بي سي يخشون من أن يؤدي ظهور المذيعين إلى تشخيص الأخبار وربطها بشخصيات محددة، مما قد يضعف الحيادية التي لطالما حرصت عليها بي بي سي. وقال المذيع في بي بي سي حينها ريتشارد بيكر: 'كل ما فعلته في ذلك البرنامج الأول، في الساعة 7:30 مساءً يوم 5 يوليو/تموز 1954، هو أنني قلت: ها هو موجزمصور للأخبار، سيتبعه أحدث فيلم عن الأحداث في الداخل والخارج. لم يكن من المفترض أن نُرى ونحن نقرأ الأخبار لأنهم كانوا يخشون أن نلوث تيار الحقيقة النقي بتعابير وجه غير مناسبة'. وأضاف: 'تراجعت الإدارة عن هذا القرار في عام 1955 وسمحت لمذيعي الأخبار التلفزيونية بالظهور على الشاشة، وتمت تجربتي أنا وكينيث كيندال في موجز منتصف الليل، حيث كان يُأمل ألا يشاهدها الكثير من الناس'. وفي الواقع، ارتبط تغير موقف بي بي سي من ظهور مذيعي نشرة الأخبار على الشاشة مع انطلاق قناة 'آي تي في' التجارية في عام 1955، التي كسرت احتكار بي بي سي للبث التلفزيوني، وبدأت في تقديم نشرات إخبارية تتضمن مذيعين يظهرون على الشاشة ويتحدثون مباشرة إلى الجمهور، مما زاد من الضغوط على بي بي سي لتحديث نهجها. وكانت القصة الرئيسية في أول نشرة أخبار في تلفزيون بي بي سي تدور حول محادثات هدنة تُعقد في هانوي في فيتنام، بعد انتهاء حرب الهند الصينية الأولى، التي استمرت لعقد كامل بين عامي 1946 و1956. أما ثاني أبرز أخبار النشرة، فكان حول تحركات القوات الفرنسية في تونس قبيل موافقة رئيس الوزراء الفرنسي بيير منديس فرانس على منح البلاد الاستقلال. أما الفقرة الأخيرة من برنامج 'الأخبار والنشرة المصورة'، فقد خُصصت لأفلام النشرة المصورة، في حين اختُتمت النشرة القصيرة بتقرير عن نهاية نظام تقنين المواد التموينية بعد الحرب العالمية الثانية. مشكلات وصعوبات وفي بدايته، تعرض البرنامج الذي استغرق 20 دقيقة لانتقادات شديدة. وفي ذلك الوقت، لم يكن إنتاج نشرة أخبار تلفزيونية مهمة سهلة، فقد كانت التقنية المستخدمة بدائية نسبياً، والمونتاج يتم يدوياً باستخدام شرائط الأفلام السينمائية، مما كان يستغرق وقتاً طويلاً، كما أن نقل المواد من مراسلي الهيئة في الخارج كان يتطلب إرسال الأشرطة بالبريد الجوي، مما تسبب في تأخير نقل الأخبار الدولية، ومع ذلك، كانت النشرة الأولى علامة فارقة، إذ مثّلت أول محاولة منظمة لتقديم الأخبار بصورة مرئية منتظمة للجمهور البريطاني. وقد اعترف المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي في ذلك الوقت، السير إيان جاكوب، بأن هناك مشكلات مبدئية صاحبت إطلاق برنامج 'الأخبار والنشرة المصورة'. وقال جاكوب إن 'تقديم الأخبار على التلفزيون ليس أمراً سهلاً على الإطلاق، فالكثير من الأخبار الرئيسية يصعب تقديمها بصرياً، ولذلك نواجه تحدياً في تقديم الأخبار بنفس المعايير التي أرستها الهيئة في بثها الإذاعي'. بي بي سي عربي تطفئ شمعتها الثمانين ومع ذلك، راهن جاكوب على أن 'هذه بداية لشيء نعتبره بالغ الأهمية للمستقبل'. وقد كتب مدير الأخبار، تاهو هول، في مجلة راديو تايمز عن الصعوبات المتعلقة بالحصول على أفلام إخبارية، حيث كانت تعتمد غالباً على الطائرات وتخضع لقيود الجمارك، وأعرب عن أمله في أن يأتي يوم تتوفر فيه المواد المصورة بشكل شبه فوري. ورغم البداية المتعثرة، شهدت الأخبار التلفزيونية نمواً ملحوظاً وانتشاراً كبيراً، فبحلول عام 1955، تضاعف وقت بثها، وأدى إدخال ظهور المذيعين على الشاشة إلى زيادة شعبيتها تدريجياً. وقد أثبتت الأخبار التلفزيونية قيمتها الحقيقية عام 1956، حين أدخلت مشاهد لأزمتَي السويس والمجر إلى منازل الناس. وهكذا، وعلى الرغم من التذمر الأولي من البرنامج، بدأ عدد متزايد من الناس في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين يُقبلون على مشاهدة التلفزيون، مما دفع الهيئة إلى زيادة محتواها الإخباري، ولم تتراجع منذ ذلك الحين. ومع استقرار التلفزيون وبدء جذب جمهور واسع، توسعت التغطية الإخبارية لتصبح جزءًا لا يتجزأ من الجدول اليومي، وأصبح بيكر وزملاؤه وجوهاً مألوفة على الشاشة. وبالإضافة إلى تقديمهم للأخبار الوطنية، تناوبوا على استضافة برنامج الشؤون الإقليمية في لندن 'تاون آند أراوند' بينما كان بيكر يقدم نشرة خاصة مساء الأحد موجهة للصم وضعاف السمع. وفي ستينيات القرن الماضي مع أزمة الصواريخ الكوبية وحرب فيتنام، أصبحت نشرة بي بي سي أكثر نضجاً من حيث الشكل والمضمون حيث بدأت بي بي سي في استخدام اللقطات المصورة بشكل أكثر فاعلية، وأدخلت الخرائط التوضيحية ، كما بدأت في اعتماد ترتيب أكثر وضوحاً للأخبار من حيث الأهمية. وفي عام 1964، أُطلق أول برنامج إخباري متكامل بعنوان 'نيوز روم'، وكان يقدم الأخبار من استوديو مخصص مع مذيعين محترفين، وأصبح بمثابة النموذج الذي تبنته بي بي سي على مدى العقود اللاحقة. وفي عام 1981، قررت بي بي سي إعادة التفكير في نهجها تجاه نشرات الأخبار التلفزيونية. فحتى ذلك الحين، كان العديد من مذيعي الأخبار، مثل بيكر، يُختارون من صفوف الممثلين الطموحين. وكانت الفكرة الجديدة هي منح الدور للصحفيين ذوي الشهرة الكبيرة، الذين سيكونون أكثر انخراطاً وتفاعلاً من خلال إجراء بعض المقابلات بأنفسهم. وتولى جون همفريس وجون سيمبسون تقديم النشرة الرئيسية في الساعة التاسعة مساءً، بينما قدّم بيكر فقرة قصيرة في الساعة السادسة مساءً، وبعد بضعة أشهر، قرر التخلي عن هذا الدور تماماً. وحول رؤيته للصفات المطلوبة في مذيع الأخبار التلفزيوني، وصف ريتشارد بيكر نهجه الشخصي في مذكراته الصادرة عام 1966 بعنوان 'ها هي الأخبار'، وقال: 'أحاول أن أتخيل شخصين أو ثلاثة جالسين حول المدفأة في المنزل، ما سيصل إليهم هو نقل هادئ للحقائق، مع إظهار ثقة هادئة، ثقة دون غرور، تحفظ دون جمود، وودّ دون مبالغة في الألفة، وهناك، في مكان ما، يكمن ذلك التوازن المراوغ'. وأضاف:'نحن ننتمي إلى ذلك النوع الغريب من رجال التلفزيون الذين يُدفع لهم فقط ليتحدثوا إلى الآخرين، من المفترض أن الأمر ليس صعباً، لكن كلما مارسته، أدركت كم هو صعب فعلًا، إنها حرفة مليئة بالتناقضات'. واليوم، أصبحت النشرات الرئيسية على قناة بي بي سي 1 مدعومة بقناة الأخبار المستمرة، التي تقدم تغطية حية وآنية على مدار الساعة، إلى جانب خدمات إخبارية متاحة عبر الإنترنت والهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية. وتحتل أخبار بي بي سي مكانة خاصة في قلوب المشاهدين، لا سيما بسبب بعض الهفوات الطريفة التي تُعرض أحياناً على الهواء.


النهار
منذ 3 أيام
- النهار
المؤرّخ العالمي روي كاساغراندا لـ "النهار" : الإمارات المعاصرة تشبه جمهورية البندقية التاريخية
"هدفي الدائم يتمثل في إزالة النسيان عن القصص والشعوب التي تجاهلها التاريخ، لذا أسعى إلى سرد حكايات أولئك الذين جرى تهميشهم وإقصاؤهم من السرد التاريخي الرسمي". بهذه الجمل يختصر المؤرّخ والمحاضر في علوم السياسة الدكتور روي كاساغراندا، شغفه بتاريخ الشرق الأوسط في حديث إلى "النهار". كاساغراندا الذي يزور دبي بهدف إلقاء محاضرة عن تاريخ محمد الفاتح في متحف المستقبل، يقول إن أهميتها تأتي من قوة هذا السلطان العثماني الشاب وتغييره ملامح التاريخ بفتح القسطنطينية "الفكرة المحورية ليست إعادة سرد الماضي فقط، بل استخلاص العِبر التي يمكن أن تنير طريق المستقبل، فالتاريخ هو الأساس الذي نقف عليه لفهم واقعنا، وهو بمثابة تحذير: لا تكرّر الأخطاء ذاتها". لماذا اختار إمارة دبي لزيارته الطويلة بهدف الإعداد لأبحاثه وسرد محاضراته؟ يجيب بالقول: "ما تفعله الإمارات هو أنها ترسم لنفسها موقعاً كدولة شابة، بتعداد سكاني محدود، ولكنها تحتضن مجتمعاً دولياً، وتسعى لأن تكون من أبرز قادة التطوّر التكنولوجي، عالمياً". يخلق كاساغراندا مقارنة بين مدينة دبي والبندقية في إيطاليا: "تشبه مكانة الإمارات المعاصرة جمهورية البندقية الهادئة - المركز التجاري والثقافي الأهم في أوروبا في العصور الوسطى، فالإمارات تشبهها في الحجم الجغرافي، لكنها ضخمة من حيث التأثير، إذ تؤدّي دوراً استراتيجياً، وتبني مشروعاً حضارياً يرتكز على الابتكار والتاريخ معاً". عن شغفه بالبحث عن تاريخ الشرق الأوسط السياسي يشرح: "عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، لفتني أمر غريب. كنت مولعاً بالتاريخ منذ الصغر، وكنت أقضي وقتاً طويلاً مع مجموعة من الأصدقاء في دراسة التاريخ الروماني وتاريخ الحرب العالمية الثانية. لكنني أدركت فجأة أنني لا أعرف شيئاً تقريباً عن الفترة الممتدة من عام 476 ميلادي حتى 1492. وكأن هناك فجوة تاريخية تمتد لألف عام". توجّه حينها إلى المكتبة حيث عثر على كتاب للمؤرخ البريطاني السير جون باغوت غلوب عن التاريخ العربي "استعرت الكتاب وقرأته، فدُهشت من روعة القصص التي يرويها. شعرت بأن هذه الحكايات تستحق أن تُروى وتُعرف"، يقول. ويشير كاساغراندا إلى أنه لم يكن يتوقع أن يصبح شخصية معروفة أو أن يكون له جمهور، قائلاً: "الدافع كان شغفي الشخصي. أردت على الأقل أن أتعلم هذه القصص بنفسي. ثم أصبحت أستاذاً جامعياً، فقلت: على الأقل أستطيع أن أعلّم هذه القصص لطلابي". ويؤكد أن الثقافة العربية بطبيعتها ثقافة سردية، شارحاً: "أعتقد أن الخطوة الأولى هي استعادة هذا الجانب الأصيل من ثقافتنا، والعودة إلى رواية القصص من جديد، الثقافة العربية أيضاً هي ثقافة فلسفية بامتياز. إذا نظرنا إلى العصر الذهبي الإسلامي، نجد فلاسفة كُثراً، كل واحد منهم بنى على من سبقه، وارتقى بالفكر الإنساني إلى مستويات جديدة".