
السوريون المسيحيون ومعضلة الحضور الغائب
في طوْرها الانتقالي الراهن، تتّخذ التجربة السورية ملامحَ مألوفةً في سياق ما بعد انهيار الدولة، إذ تبدو بعض ملامح الهُويَّة الجمعية آخذةً في التبلور ضمن قوالب أكثر انغلاقاً، وتُستبدل فكرة الانتماء الوطني بإطارات ضيّقة ترتكز في الانحدار العَقَدي أو الرمزي. غير أن الخطر الأكبر يمتدّ إلى استمرار فاعلية بعض القوى الجهادية المتطرّفة، التي وجدت في الفوضى الأمنية فرصةً لإعادة التموضع.
تهديد الجماعات الجهادية هو نتاج فراغٍ مزدوج ينطلق من غياب الدولة إطاراً إدماجياً، ومن ضمور الفضاء المدني مجالاً لإنتاج المعنى
يُقرأ تفجير كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق (22 يونيو/ حزيران الجاري) مؤشّراً على اختراقٍ محتملٍ لمساحات من الأمن الهشّ، وعلى قدرة الجماعات المتطرّفة على تنفيذ عمليات تُهدّد المكوّنات الأقلّ عدداً، وتُعيد استنساخ مشهد الترويع (والتفريغ) الذي عاشه مسيحيو العراق في العقدَين الماضيَين. كذلك لا يمكن النظر إلى تهديد الجماعات الجهادية باعتباره امتداداً أمنياً منفصلاً عن تحوّلات الاجتماع السياسي السوري، فيجب إدراكُه أيضاً نتاجَ فراغٍ مزدوج؛ ينطلق من غياب الدولة إطاراً إدماجياً، ومن ضمور الفضاء المدني مجالاً لإنتاج المعنى. ومع استمرار هشاشة البنية الأمنية في مناطق متفرّقة من البلاد، تجد التنظيمات المتطرّفة فرصةً لإعادة التموضع والظهور بأشكال هجينة، تُغذّيها تصدّعات الهُويَّة الوطنية وارتباك الخطاب الرسمي حيال التنوّع. هذا التهديد لا يستهدف جماعةً بعينها، فهو يُقوّض أسس التعايش، ويُعيد إنتاج منطق الفرز الرمزي الذي يجعل من الآخر المختلف هدفاً وجودياً. ومن دون استيعاب هذا الخطر بوصفه اختلالاً في التصوّر السياسي والتوازن الأمني، ستبقى الدولة الوليدة عرضة للاختراق من أطراف تملأ فراغ الشراكة بخطاب التكفير وسلوك التصفية.
تستمدّ التحوّلات الأمنية في سورية أهميتها من البنى التي تُعيد تعريف العلاقة بين السلطة والانتماء الوطني. لقد أظهر تفجير الكنيسة خللاً بنيوياً في منظومة الحماية الرمزية والسياسية، ويشير إلى انكشاف مواقعَ تاريخيةٍ في الجغرافيا السورية باتت محرومة ضمانات الاستقرار والانخراط المتكافئ. ورغم محدودية المعطيات الأمنية المتوافرة، فإن تجاهل بُعد الخطر الجهادي في التحليل قد يُفضي إلى قراءة منقوصة لما تعيشه المكوّنات الأصغر، خصوصاً حين يتقاطع الاستهداف الرمزي مع أفعال عنف فعلي قابلة للتكرار. ليست المقارنة مع التجربة العراقية نابعةً من استدعاءٍ للتاريخ، بقدر ما تنطلق من فهم آليات التآكل البنيوي حين تغيب منظومات الحماية المشتركة، وتَضمر مرجعيات التصوّر الوطني المشترك. فالمسألة تكمن في تشابه القواعد التي تُعيد إنتاج الإقصاء بصيغٍ جديدة من الانفلات الأمني إلى الفرز الرمزي، ومن انعدام التأثير والتمثيل إلى هندسة الإطار العمومي للمشاركة وفق مراتب غير مُعلَنة من الامتياز والولاء.
في السياق السوري الراهن، تعيش بعض المكوّنات التاريخية، وفي مقدّمتها المسيحيون، حالةً مزدوجةً من الحضور العددي والغياب الفعلي. رغم استمرار الوجود الديمغرافي، يغيب التأثير الفعلي من مراكز القرار الثقافي والسياسي، ما يؤدّي غالباً إلى الاختزال في وظيفة رمزية تُستخدم لتزيين سردية الفسيفساء المجتمعية، من دون ضماناتٍ للمشاركة الفعلية. ويغدو البقاء، في هذا السياق، مجرّد استمرار جسدي يستند إلى حضور رمزي معزول، يُستخدم للزينة السياسية بدل أن يُمكَّن بوصفه شريكاً فعلياً ويستند إلى عقد وطني متكافئ. وقد أسهمت سنوات الصراع في تفكيك مفهوم المواطنة، عبر ترسيخ تصوّرات استبعادية تُعرّف الفرد من خلال انتمائه الأولي، وليس من خلال موقعه في مشروع وطني مشترك. وسط هذه البنى، تتعرّض الجماعات الأصغر (المسيحيون مثلاً) لإعادة تصنيف تُقصيهم من أدوار الفعل، وتحصرهم في مواقع الشهادة أو التزكية. بذلك قد يتحوّل الخليط الهُويَّاتي من قيمة بنيوية إلى عنصر ديكوري، وتُعامَل المواطنة مكانةً غير مستقرّة، تتحدّد وفق مقاييس الولاء، تبعاً لمعادلات الهُويَّة المُهيمنة.
في لحظات التحوّل والمراحل الانتقالية، تُقاس الجدّية السياسية بقدرة المشروع الانتقالي على صون الذاكرة المشتركة والاعتراف بتعدّديتها
في العراق، بدأ الانهيار حين رُفعت الحماية الطائفية إلى منزلة العقد البديل، وحين تشظّت الدولة إلى كانتونات تمثيلية تُعيد تعريف الطائفة فاعلاً سياسياً مستقلاً. وفي سورية، تُنذر المؤشّرات الراهنة بأن أيّ مرحلة انتقالية لا تؤسّس لصيغة دستورية جديدة، تتخطّى الانتماءات الضيقة نحو أفق وطني مشترك، ستفضي بالضرورة إلى تكرار آليات التفكّك ذاتها. فالحضور المسيحي، كي يكون فعّالاً، لا يُقاس بمجرّد الاستمرار العددي، بل بقدرته على المساهمة المتكافئة في صياغة المجال العمومي السيادي فاعلاً كاملاً في صياغة المعنى الوطني، وليس شاهداً رمزياً على تنوّع مُفرغ من مضمونه. يتجلّى الخطر في استمرار بنية التطييف السياسي، سواء عبر صمت غير مقصود أو من خلال غياب سياسات الإدماج الواضح، وتحويل التعدّديات من مكوّنات بنيوية في النسيج الوطني إلى "ملفّات" تُدار أحياناً بمنطق الحذر أو عبر مقاربات رمزية لا تستند إلى تمثيل فعلي. هذا النمط من الإدارة لا يقتصر أثره على المسيحيين، فهو يشكّل جزءاً من هندسة المجتمع وفق مرجعية أحادية تُعيد توزيع الشرعيات على أساس الانضباط الرمزي والانتماء المؤدلج. في هذا الإطار، يُختزل الوجود المسيحي، كما سواه من وجود الفاعلين غير المتماثلين، إلى حالة إشكالية يُراد احتواؤها أو تدبيرها، بدلاً من أن يُفهم بوصفه مكوّناً أصيلاً يُشارك في إنتاج المشروع الوطني.
يعيد التجاهل الرسمي لدلالات تفجير كنيسة مار إلياس، أو تحويله خطاباً استهلاكياً خالياً من مساءلة جذرية لمصادر العنف، إنتاج نمط مأزوم شهدناه في التجربة العراقية. ففي مثل هذه السياقات، لا يكون الاعتداء على الكنيسة موجّهاً إلى مكوّن ديني بعينه، بل إلى مرتكزات الدولة ذاتها، وإلى إمكانية قيام عقد وطني فعلي يضمّ الجميع، ضمن أفق مدني متكافئ.
غير أن هذا الغياب عن المعالجة لا يُردّ دائماً إلى تجاهل سياسي متعمّد فقط، فهو قد يُفهم أيضاً في ضوء محدودية البنية الاتصالية للسلطة الانتقالية، التي لا تزال تفتقر إلى منظومة إعلامية قادرة على إنتاج سرديات وطنية جامعة، وهو ما يؤدّي إلى هيمنة خطاب أحادي أو رمزي على لحظاتٍ تستدعي تواصلاً وطنياً شفّافاً، ويؤشّر في الآن ذاته على اختلال أعمق في تمثيل التعدّد السوري داخل مؤسّسات التعبير العمومي. وحين تغيب البنية القادرة على الاستجابة الرمزية المنصفة، يصبح الاعتداء على جماعةٍ ما، لا يُجابَه باعتباره مسّاً بجوهر العقد الوطني، بل يُفرغ من دلالته، ويُعاد تفسيره حدثاً معزولاً.
بعد الإبادة الجماعية في تسعينيّات القرن الماضي، اختارت رواندا أن تُعيد تأسيس مشروعها الوطني على قاعدة المساواة القانونية الصارمة، واحتكار الدولة الهُويَّة السياسية الجامعة. وُوجه موروث الكراهية من دون توازن تمثيلي بين الهُويَّات، وفُرِضت لغة وطنية موحّدة، وسياسات إقصاء للخطابات الإثنية من المجال العام. رغم جدليته، نجح هذا النموذج في بناء دولة احتفظت بحدٍّ من التماسك المؤسّسي. وفي السياق السوري، تُطرح تساؤلات عن إمكان الانتقال من تمثيل هُويَّاتي متشظٍّ إلى مواطنة قائمة على التساوي في الحقوق والفرص. كذلك يُستدعى النقاش حول مدى إمكانية الاستفادة من التجربة الرواندية، لاستلهام آليات التعاقد الاجتماعي الذي يتجاوز موازين الطوائف نحو تأسيس مشروع وطني جامع.
الاعتداء على كنيسة مار إلياس ليس موجّهاً إلى مكوّن ديني بعينه، بل إلى مرتكزات الدولة ذاته
وبالعودة إلى التجربة العراقية، لم يكن ما يثير القلق فيها لحظة صعود "داعش" (في ذلك الوقت)، وإنما المسار الذي مهّد لصعوده، إذ تحوّلت الدولة ساحةً تُدار بمعادلات الهُويَّة، وفقدت قدرتها على أداء وظائفها السيادية. في سورية، تبدو المرحلة الانتقالية محفوفةً بالخطر نفسه، ما لم تُبنَ على رؤية تتجاوز منطق المحاصصة، وتعيد تأسيس المجال الرمزي للمواطنة على قواعد دولة تحتكم إلى القانون، وتُنظِّم التنوّع بدل أن تُقنّنه. في الأنظمة التسلطية، غالباً ما يُعاد تشكيل موقع الأقلّيات ضمن منظومة تعامل تُغلّب منطق الرعاية المشروطة على مبدأ الشراكة المتكافئة. لا يعود الاحتضان السياسي الفعلي قائماً على استحقاق المواطنة، ويتحوّل مستنداً إلى خطاب يتعامل مع الجماعات التاريخية بوصفها كيانات تحتاج إلى طمأنة فقط من دون تمكين. ضمن هذا التصور، تُختزل الأهلية السياسية إلى امتثال هادئ، وتُقوّم الانخراطات السياسية أحياناً ضمن أطر تُغلّب الحذر على الشراكة. هذا النمط، الذي ساد في ظلّ نظام الأسد، يبدو أنه يجد امتداداته اليوم، فتُظهِر المرحلة الانتقالية ملامحَ أوليةً لفرز رمزي مقلق، قد يُفضي (إن لم يُعالج) إلى إعادة إنتاج علاقات هيمنة تحت مظهر شراكات شكلية.
في لحظات التحوّل والمراحل الانتقالية، تُقاس الجدّية السياسية بقدرة المشروع الانتقالي على صون الذاكرة المشتركة والاعتراف بتعدّديتها، بالتوازي مع بناء مؤسّسات تعبّر عن الجميع. وسورية اليوم تحتاج إلى مسار سياسي مختلف يُرسّخ حضور المواطن بوصفه فاعلاً في نسيج التفاعل الوطني، وفق معايير الانتماء المدني، وخارجاً عن أيّ تموضع في خرائط الهُويَّة المسبقة. وإذا لم تُفكّك العلاقة العضوية بين الدولة والانتماء ما دون الوطني، ويُستعاد الحقل الوطني بوصفه إطاراً مفتوحاً للمشاركة، فإن المقبل سيُصاغ بلغة الإقصاء التدريجي، ويتلاشى المجال المدني ليُعاد إنتاجه سلسلةً من الامتيازات الخاضعة لتوازنات النفوذ بعيداً من أيّ منطق تعدّدي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ يوم واحد
- العربي الجديد
المرحلة الانتقالية والسوريون المسيحيون
يتوزع المسيحيون في مختلف المدن السورية، ويشكّلون طوائف دينية متعدّدة، وتميل الأكثرية فيها إلى تحييد هويتها الدينية عن الشأن السياسي، وتتبنّى التيارات العابرة للأديان بالشأن السياسي، القومية، اليسارية، الوطنية، الليبرالية، وبما يعزّز مساواتها مع أبناء الأكثرية الدينية. شكّل الاستبداد الأسدي بداية العودة إلى الهوية الدينية عند المسيحيين بالمعنى السياسي، ولكن الهوية لم تتأسّس في أحزاب سياسية. شكلت مأساة السوريين منذ 2011 محنة لهم كافة، ولكن تحولها من ثورة شعبية وسلمية إلى مسلحة وفصائل متصارعة وطغيان الشكل الطائفي للحرب، كانت سبباً لصمت أغلبيتهم، وتحييد أنفسهم عن الحرب. أنتج التدخل الروسي بعض الظواهر العسكرية في الوسط المسيحي، فتشكلت بعض الفصائل ولكن ظلّت هامشية، وحتى الفصيل المسيحي التابع لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) هامشيٌّ كذلك. لم تُسجل انتهاكات واسعة بحق هذه الفصائل، وبالعموم، كان قادتها دون شعبية في الوسط المسيحي، ومن ثم، كان الميل السائد لدى المسيحيين الوقوف على الحياد، ولم تشكل مواقف غالبية رجال الدين المسيحي، كما من بقية الطوائف، إلى جانب بشّار الأسد سبباً في تغيير موقف الحيادة بعامة. يشبه موقفهم هذا موقف سنة المدن من الطبقات المتوسطة. شكّل توزّع المسيحيين، في كل المدن السورية وتعدديتهم المذهبية وقلة أعدادهم، مانعاً لعدم بروز تيارات بينهم معادية للسلطة أحدث وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في دمشق إشكالية كبيرة، فهي تنظيم سلفي جهادي، وغادر المسيحيون محافظة إدلب حين سيطرته عليها منذ 2015، ولكن زعيم الهيئة أحمد الشرع حاول إعادتهم، ولم يحرز تقدّماً بالأمر، وبالتالي، هناك كثير من القلق من هذا التنظيم. وشكّل وصول الهيئة إلى دمشق تغييراً هائلاً في علاقة الأديان والطوائف بعضها ببعض. أدّت سلفية الهيئة إلى غلبة السنة على بقية الطوائف، وإن لم تكن الهيئة معبّرة بالفعل عن السنة، والتي يغلب عليها التيار الأشعري، وبالتالي، هناك خلافات عميقة بين التيارين؛ حاولت السلطة إيجاد بعض التوافقات بينهما من خلال المؤسّسات الدينية الجديدة، كمجلس الإفتاء الأعلى ووزارة الأوقاف ومفتي الجمهورية وسواها، ولكن ذلك لم يجد تهدئة ضمن المساجد (ومجتمعياً)، التي تشهد خلافات مستمرّة بين التيارين، وأحياناً يتصاعد، ولكنه يعود إلى الهدوء، ولكن هذه الإشكالية قابلة للتفجر الفجائي. شكّل توزّع المسيحيين، في كل المدن السورية وتعدديتهم المذهبية وقلة أعدادهم، مانعاً لعدم بروز تيارات معادية للسلطة، وكذلك رغبتهم في تحييد أنفسهم عن صراعات سرعان ما اشتعلت ضد السوريين العلويين مثلاً، كما برزت السلفية مرجعية لعمليات القتل الطائفي بين 6 و9 آذار ضد العلويين. جاءت مجزرة كنيسة مار إلياس في دمشق لتشكل ما يشبه القطيعة مع السلطة، ولا سيما بعد كلمة بطرك الروم الأرثوذكس في أثناء تشييع ضحايا المجزرة، والتي كانت نقدية لطبيعة السلطة، واستئثاريتها، وطالبها بالانتقال إلى الديمقراطية والمواطنة والتعدّدية السياسية، وكانت كلمته هذه بتأثير الوسط المسيحي، المستاء أصلاً من سياسات السلطة السلفية في المجال الديني، وكذلك بسبب إخفاقها في حماية الكنائس من المجموعات الأكثر تطرفاً. يشعر السوريون المسيحيون بالقلق الشديد من جرّاء تعقيدات المرحلة الانتقالية وقابليتها للانتكاس والفوضى، ويزيد الأمر تعقيداً ترهّل بنى الدولة منذ 2011، وغياب الفصل بين السلطات ما بعد 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ومحاولة هيئة تحرير الشام الهيمنة على المناصب الأساسية في الدولة. وجاءت مجازر الساحل وما تلاها في جرمانا وأشرفية صحنايا، ومجزرة كنيسة في دمشق وأخيراً السويداء لتزيد الابتعاد أكثر عن السلطة، وعاد التفكير في الهجرة كذلك. والأسوأ هنا أن أوساط السلطة والموالين يؤكدون أن من لا تعجبه البلاد فليغادرها، فقد هُجرنا من قبل، وليجرّب الآخرون. هناك ميل، وغير القلق، إلى الانعزال عن كل ما يجري في البلاد، ولا سيما أن البلاد صار الحكم فيها بيد فئة توصف بأنها متشدّدة طائفياً. عزّزت حالة الانعزال الممارسات الأكثر طائفية والدعوات إلى التشدّد، والاستهزاء ببقية الأديان أو المذاهب. وقد أعطى إيقاع المجازر بالعلويين أو الدروز رسالة في منتهى السلبية إلى الأقليات الدينية والقومية، وضمناً إلى المسيحيين، وبالتالي، الميل نحو الانعزال سمة أساسية للأغلبية المسيحية ما بعد 8 ديسمبر. ليس وجود شخصيات سياسية من المسيحيين ظاهرة معبّرة عن انخراط المسيحيين في الشأن العام، سواء كانوا معارضين للسلطة أم مؤيدين لها، وعاملين معها. الحديث أن المسيحيين، بخلاف العلويين والدروز وسواهم، منخرطون في السياسة أو مؤيدون للسلطة يتناقض مع الواقع، بل شكلت كلمة البطريرك في تشييع ضحايا تفجير الكنيسة دلالة كاملة الوضوح على التذمر من سياسات السلطة، السلفية. طبيعة السلطة الدينية والسياسية هي التي تضع العقبات أمام دخول كل السوريين في الشأن العام، والأمر لا يخصّ المسيحيين فقط، بل حتى أغلبية السنة. تخطئ السلطة بسياساتها الاستئثارية، فهي تدير مرحلة انتقالية، وتتطلب إجماعاً وطنياً، ولا سيما بعد مآسي سورية من 2011. تتطلب طبيعة المرحلة الانتقالية إشراكاً عاماً لكل النخب، والانفتاح على الشعب، والبحث عن أشكالٍ لتمثيله في مؤسسات الدولة. هناك إشكالية كبرى؛ ففي وقتٍ تتكرّس فيه الشخصيات الأساسية في السلطة، وتضع كل السلطات بين أيديها، تتهمش مؤسسات الدولة ذاتها؛ فلم يشهد السوريون تغيّراً يُذكر فيها، وتميل السلطة الجديدة إلى التزاوج مع الخبرات القديمة الفاسدة، وتستبعد الخبرات الوطنية من وضع الخطط الاستراتيجية لتغيير التوجّه العام لمؤسسات الدولة، وهناك رأي يؤكد أن السلطة الجديدة تستهدف حل كثير من تلك المؤسسات وأن تُعطى للقطاع الخاص الدور المركزي. أين الخطأ. إنه في وجود ملايين العاطلين عن العمل، وملايين المهجّرين، ويحتاجون إلى السكن والعمل والحريات العامة، وينعكس هذا الواقع سلباً على المسيحيين وعامة السوريين. سيميل المسيحيون السوريون إلى الابتعاد عن السلطة طالما لم تغيّر سياساتها، والتغيير هذا مطلب عام، لسوريين كثيرين تعلق طبيعة السلطة، السلفية من ناحية الأيديولوجيا، والاستئثار من ناحية السياسة، إمكانية التعاون معها، وفي كل الأحوال حلَّ الرئيس أحمد الشرع القوى السياسية بحجة البدء بالنهوض بالدولة. سيعزّز الاستمرار بالسياسات ذاتها من عزلة كل السوريين. سيميل المسيحيون إلى الابتعاد عن السلطة طالما لم تغيّر سياساتها، والتغيير هذا مطلب عام، لسوريين كثيرين. سيعطي حدوث التغيير مؤشرات "ليبرالية" نحو الانفتاح المجتمعي، وكذلك إن أرسيت أسس دستورية وقانونية للتعدّدية السياسية والحرّيات العامة والشخصية، وضمن ذلك إنهاء ظواهر الدعوة الدينية في الشوارع أو أية أشكال من الضغوط، والتي تمارسها فئاتٌ من السلطة، والتخفيف من غلبة التطييف السني بعامة على بقية الطوائف والأديان. يتحدّد منظور السلطة إلى المجتمع على أرضية الطوائف أو القوميات، ومن الادّعاء أنّها تمثل السنة، وانطلاقاً من ذلك تهيمن على الدولة باسم الأكثرية الدينية، وبذلك تستخدمها سياسياً من أجل هيمنة تيارها السلفي في السلطة والدولة الناشئة. وسيدفع سيادة نمط كهذا من السياسات الطوائف والمذاهب نحو مزيد من العزلة وربما التمرّد، وأكثر ما تتضح هذه السياسات في إطار الجيش والأمن أو الاستخبارات. تمارس السلطة سياساتها وكأنّها منتخبة ودستورية، وليست انتقالية، وهذا يتعارض مع مصالح كل السوريين، ومن كل الطوائف والقوميات.


العربي الجديد
منذ 2 أيام
- العربي الجديد
المحكمة العليا في بريطانيا تسمح لـ"بالستاين أكشن" بالطعن ضدّ حظرها
قضت المحكمة العليا في لندن بأن المؤسسة المشاركة لمنظمة "بالستاين أكشن" هدى العموري يمكنها الطعن قانونياً في قرار وزيرة الداخلية إيفيت كوبر بحظر الحركة بموجب قوانين مكافحة الإرهاب. وجادل محامو هدى عموري في جلسة استماع عُقدت في لندن الأسبوع الماضي بأن حظر منظمة "فلسطين أكشن"، ووضعها على قدم المساواة مع جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وبوكو حرام، أمر "مُقزز" و"إساءة استخدام سافرة للسلطة". وحذر المحامون من أن الحظر يُؤثر بالفعل سلباً على حرية التعبير والاحتجاج، مُسلطين الضوء على عشرات الاعتقالات، فيما جادل السير جيمس إيدي، ممثل وزارة الداخلية، بأن المراجعة القضائية ليست السبيل الأمثل للطعن في الحظر، نظراً إلى أن البرلمان قد عيّن لجنة استئناف المنظمات المحظورة خصيصاً لهذا الغرض. وقضت المحكمة العليا اليوم الأربعاء بتأييد العديد من الحجج التي قدمتها المنظمة للمحكمة لتبرير عدم معقولية تصرفات الحكومة. هذا القرار يعني فتح مسار قضائي أمام الحركة للطعن بقرار وزيرة الداخلية بحظر الحركة، وهو ما سيأخذ أشهراً عديدة مستقبلاً حتى تقر المحكمة لاحقاً قرارها حول إلغاء القانون أم الإبقاء عليه. وجعل التعديل القانوني للحكومة العضوية في منظمة بالستاين أكشن، أو دعمها، جريمة جنائية يعاقب عليها بالسجن لمدة تصل إلى 14 عاماً. حتى ارتداء قميص أو شارة تحمل اسم المجموعة يُعرّض صاحبها لعقوبة بالسجن تصل إلى ستة أشهر. وفي وقت سابق من هذا الشهر، طلب محامو الناشطة البريطانية الفلسطينية عموري من القاضي السماح لها بتقديم طعن أمام المحكمة العليا على الحظر، واصفين إياه بأنه "تدخل غير قانوني" في حرية التعبير. يأتي هذا الطلب للطعن الكامل أمام المحكمة العليا بعد فشل عموري في محاولة سابقة لمنع سريان الحظر مؤقتاً، ورفضت محكمة الاستئناف طعناً على هذا القرار قبل أقل من ساعتين من دخول الحظر حيز التنفيذ في 5 يوليو/تموز. وحظرت الحكومة البريطانية بموجب قانون الإرهاب الحركة المعروفة باستهدافها مصانع السلاح وشركاته في المملكة المتحدة المرتبطة مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بعد استهداف ناشطين من الحركة طائرتين من طراز فوييجر في قاعدة بريز نورتون الجوية الملكية في 20 يونيو/ حزيران، ورشهما بالطلاء الأحمر؛ الأمر الذي "تسبب في أضرار تُقدر بنحو 7 ملايين جنيه إسترليني" بحسب وزيرة الداخلية. وجاء القرار وسط تصاعد حراك تحدي حظر الحركة الأسابيع الماضية، من خلال رفع لافتات من قبل ناشطين ومواطنين بريطانيين كُتب عليها "لا للإبادة الجماعية، أنا أدعم بالستاين أكشن"، الأمر الذي دفع الشرطة البريطانية إلى اعتقال أكثر من 200 شخص حتى الآن. وصرّح رضا حسين، ممثل هدى عموري، للمحكمة في جلسة الاستماع المنعقدة في 21 يوليو/ تموز بأن الحظر جعل المملكة المتحدة "دولة شاذة" و"مثيرة للاشمئزاز". وأضاف حسين: "إن قرار حظر منظمة فلسطين أكشن يحمل سمات الاستبداد وإساءة استخدام السلطة بشكل صارخ". الآلاف يتظاهرون في #لندن رفضًا لتصنيف "بالستاين أكشن" منظمةً إرهابية — العربي الجديد (@alaraby_ar) July 4, 2025 وقال المفوّض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك إنّ حظر الحكومة البريطانية لمنظمة "بالستاين أكشن" يحدُّ من حقوق وحريات الأفراد في المملكة المتحدة، ويتعارض مع القانون الدولي، فيما تدافع وزارة الداخلية البريطانية عن هذا الإجراء القانوني. ووصف تورك، يوم الجمعة الماضي، قرار الوزراء بتصنيف "بالستاين أكشن" منظمة إرهابية بأنه "غير متناسب وغير ضروري"، ودعاهم إلى إلغائه. وذكر أن الحظر يرقى إلى "تقييد غير مقبول" لحقوق الأفراد في حرية التعبير والتجمع، ويتعارض مع التزامات المملكة المتحدة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنساني. ونشر موقع "ديكلاسفايد" البريطاني تقريراً استقصائياً، الأسبوع الماضي، بناءً على وثائق عديدة، كشف فيه تفاصيل حصرية حول كيفية تصنيف الحركة بموجب قانون الإرهاب. ففي الوقت الذي يرى نشطاء "بالستاين أكشن" أن أفعالهم هي احتجاجات مباشرة وغير عنيفة تستهدف الشركات المتورطة في إمداد إسرائيل بالأسلحة المستخدمة ضد الفلسطينيين، فإن الشرطة البريطانية، بتوجيه من الحكومة، بدأت في تصنيفها "منظمة إجرامية رئيسية". هذا التصنيف، الذي يُطبق عادة على عصابات الجريمة المنظمة مثل تجار المخدرات، سمح بتطبيق صلاحيات استثنائية لملاحقة النشطاء وتجميد أصولهم. يُظهر التحقيق أن وزير الداخلية السابق، روبرت جينريك، لعب دوراً حاسماً في الضغط على الشرطة لتشديد الخناق على الحركة، وكشف عن نفوذ كبير للوبي المؤيد لإسرائيل، بما في ذلك منظمة أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين. وتطرّق التحقيق إلى التغطية الإعلامية السلبية والمنحازة التي ساهمت في تشويه صورة الحركة، ووصمها بالعنف والتطرف، منها ما اتّهم الحركة بتلقيها تمويلاً من إيران. وأشار أيضاً إلى دور جماعات الضغط في التأثير على وزيرة الداخلية. وقال الكاتب جورج مونبيوت في مقال له نُشر اليوم في صحيفة ذا غارديان أن الحكومة البريطانية تُطبق قوانين جديدة "متشددة" بشكل متزايد لتكميم أفواه الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، مستهدفًة بشكل خاص حركة بالستاين أكشن. وقال صاحب كتاب "العقيدة الخفية: التاريخ السري للنيوليبرالية" إن هذه الإجراءات ليست فقط بهدف إيقاف التخريب الذي تقوم به الحركة بنشاطها السلمي، بل ردع التظاهرات واسعة النطاق وتقويض حرية التعبير بشأن القضية الفلسطينية، الأمر الذي يُمثّل على حد قوله "تهديداً خطيراً للديمقراطية وحق الاحتجاج في المملكة المتحدة". تقارير عربية التحديثات الحية مفوض أممي: حظر بريطانيا لـ"بالستاين أكشن" يتعارض مع القانون الدولي وفي سياق الجدل الداخلي الواسع حول القانون والانقسام في الآراء، خالف مجلس في أيرلندا الشمالية توصيته القانونية، وصوّت لصالح إسقاط التهم عن الأشخاص الذين اعتُقلوا لدعمهم "بالستاين أكشن" المحظورة. ويُعتقد أن مجلس مدينة ديري ومنطقة سترابان من أوائل السلطات المحلية في المملكة المتحدة التي أيدت مثل هذا الاقتراح، الأربعاء الماضي. وصرّح رويري ماكهيو، عمدة حزب شين فين، بأنه سيوافق على الاقتراح برمته (إسقاط التهم)، وقد تم إقراره بدعم من حزبه، والحزب الديمقراطي الاشتراكي العمالي، ومنظمة "الشعب قبل الربح"، وبعض المستقلين، فيما صوّت حزب أولستر الوحدوي والحزب الديمقراطي الوحدوي ضد الاقتراح. ودعا الاقتراح أيضاً إلى رفع الحظر، ولكن بما أنّ برلمان وستمنستر قد سنّه، فيجب إلغاؤه من قبله. وقال شون هاركين، عضو مجلس منظمة "الشعب قبل الربح"، ومقدّم الاقتراح، إن عشرات الآلاف من الناس "قُتلوا وذُبحوا" في غزة، وإن الأطفال الفلسطينيين "يُجوّعون حتى الموت"، مضيفاً أن الحكومة "متواطئة في هذا" وستجني "العواقب الوخيمة". ومن اللافت أن عدداً كبيراً من المعتقلين على يد الشرطة الذين تضامنوا مع الحركة بعد حظرها، كانوا مواطنين متقدمين في العمر ومسنين، من بينهم قسيسة وقاضٍ سابق يبلغ من العمر 81 عاماً.


العربي الجديد
منذ 3 أيام
- العربي الجديد
السوريون المسيحيون ومعضلة الحضور الغائب
حين تنكسر الدولة وتتآكل سرديّتها الجامعة، تُصبح الجماعات الأكثر عراقة في النسيج الاجتماعي أول من يدفع الثمن. وهذا ما تكشّف بأقسى صوره في العراق بعد 2003، حين بدأت الهُويَّة الوطنية بالتفسّخ تحت وطأة المحاصصة الطائفية والتوظيف السياسي للمقدّس، وانتهت المأساة بخروجٍ جماعيٍّ لمكوّن أصيل في البنية التاريخية للعراق، هم المسيحيون. ولم يكن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) سوى التعبير الأقصى عن مسارٍ طويلٍ من التآكل المؤسّسي، بدأ حين أُعيد تشكيل الدولة على قاعدة التمثيل الفئوي، وعندما جرى تأطير النفوذ الطائفي أداةً للتحكّم في المجال العام، ما فتح المجال أمام استثمار الهُويَّات الضيّقة بديلاً من العقد الوطني، وهيّأ لبروز العنف بوصفه لغة تمثيل. في هذا السياق، ومع انسحاب الدولة من دورها التمثيلي، باتت الهُويَّة تُعيد توزيع مواقع الشرعية والنفوذ داخل بنى مسبقة، ما يُفرّغ الفضاء الوطني من إمكان التنوّع الحقيقي. وهي السيرورة ذاتها التي نشهد ملامحها اليوم في المشهد السوري الانتقالي، إذ يُعاد تعريف الحضور العام على أسس ما دون وطنية. في طوْرها الانتقالي الراهن، تتّخذ التجربة السورية ملامحَ مألوفةً في سياق ما بعد انهيار الدولة، إذ تبدو بعض ملامح الهُويَّة الجمعية آخذةً في التبلور ضمن قوالب أكثر انغلاقاً، وتُستبدل فكرة الانتماء الوطني بإطارات ضيّقة ترتكز في الانحدار العَقَدي أو الرمزي. غير أن الخطر الأكبر يمتدّ إلى استمرار فاعلية بعض القوى الجهادية المتطرّفة، التي وجدت في الفوضى الأمنية فرصةً لإعادة التموضع. تهديد الجماعات الجهادية هو نتاج فراغٍ مزدوج ينطلق من غياب الدولة إطاراً إدماجياً، ومن ضمور الفضاء المدني مجالاً لإنتاج المعنى يُقرأ تفجير كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق (22 يونيو/ حزيران الجاري) مؤشّراً على اختراقٍ محتملٍ لمساحات من الأمن الهشّ، وعلى قدرة الجماعات المتطرّفة على تنفيذ عمليات تُهدّد المكوّنات الأقلّ عدداً، وتُعيد استنساخ مشهد الترويع (والتفريغ) الذي عاشه مسيحيو العراق في العقدَين الماضيَين. كذلك لا يمكن النظر إلى تهديد الجماعات الجهادية باعتباره امتداداً أمنياً منفصلاً عن تحوّلات الاجتماع السياسي السوري، فيجب إدراكُه أيضاً نتاجَ فراغٍ مزدوج؛ ينطلق من غياب الدولة إطاراً إدماجياً، ومن ضمور الفضاء المدني مجالاً لإنتاج المعنى. ومع استمرار هشاشة البنية الأمنية في مناطق متفرّقة من البلاد، تجد التنظيمات المتطرّفة فرصةً لإعادة التموضع والظهور بأشكال هجينة، تُغذّيها تصدّعات الهُويَّة الوطنية وارتباك الخطاب الرسمي حيال التنوّع. هذا التهديد لا يستهدف جماعةً بعينها، فهو يُقوّض أسس التعايش، ويُعيد إنتاج منطق الفرز الرمزي الذي يجعل من الآخر المختلف هدفاً وجودياً. ومن دون استيعاب هذا الخطر بوصفه اختلالاً في التصوّر السياسي والتوازن الأمني، ستبقى الدولة الوليدة عرضة للاختراق من أطراف تملأ فراغ الشراكة بخطاب التكفير وسلوك التصفية. تستمدّ التحوّلات الأمنية في سورية أهميتها من البنى التي تُعيد تعريف العلاقة بين السلطة والانتماء الوطني. لقد أظهر تفجير الكنيسة خللاً بنيوياً في منظومة الحماية الرمزية والسياسية، ويشير إلى انكشاف مواقعَ تاريخيةٍ في الجغرافيا السورية باتت محرومة ضمانات الاستقرار والانخراط المتكافئ. ورغم محدودية المعطيات الأمنية المتوافرة، فإن تجاهل بُعد الخطر الجهادي في التحليل قد يُفضي إلى قراءة منقوصة لما تعيشه المكوّنات الأصغر، خصوصاً حين يتقاطع الاستهداف الرمزي مع أفعال عنف فعلي قابلة للتكرار. ليست المقارنة مع التجربة العراقية نابعةً من استدعاءٍ للتاريخ، بقدر ما تنطلق من فهم آليات التآكل البنيوي حين تغيب منظومات الحماية المشتركة، وتَضمر مرجعيات التصوّر الوطني المشترك. فالمسألة تكمن في تشابه القواعد التي تُعيد إنتاج الإقصاء بصيغٍ جديدة من الانفلات الأمني إلى الفرز الرمزي، ومن انعدام التأثير والتمثيل إلى هندسة الإطار العمومي للمشاركة وفق مراتب غير مُعلَنة من الامتياز والولاء. في السياق السوري الراهن، تعيش بعض المكوّنات التاريخية، وفي مقدّمتها المسيحيون، حالةً مزدوجةً من الحضور العددي والغياب الفعلي. رغم استمرار الوجود الديمغرافي، يغيب التأثير الفعلي من مراكز القرار الثقافي والسياسي، ما يؤدّي غالباً إلى الاختزال في وظيفة رمزية تُستخدم لتزيين سردية الفسيفساء المجتمعية، من دون ضماناتٍ للمشاركة الفعلية. ويغدو البقاء، في هذا السياق، مجرّد استمرار جسدي يستند إلى حضور رمزي معزول، يُستخدم للزينة السياسية بدل أن يُمكَّن بوصفه شريكاً فعلياً ويستند إلى عقد وطني متكافئ. وقد أسهمت سنوات الصراع في تفكيك مفهوم المواطنة، عبر ترسيخ تصوّرات استبعادية تُعرّف الفرد من خلال انتمائه الأولي، وليس من خلال موقعه في مشروع وطني مشترك. وسط هذه البنى، تتعرّض الجماعات الأصغر (المسيحيون مثلاً) لإعادة تصنيف تُقصيهم من أدوار الفعل، وتحصرهم في مواقع الشهادة أو التزكية. بذلك قد يتحوّل الخليط الهُويَّاتي من قيمة بنيوية إلى عنصر ديكوري، وتُعامَل المواطنة مكانةً غير مستقرّة، تتحدّد وفق مقاييس الولاء، تبعاً لمعادلات الهُويَّة المُهيمنة. في لحظات التحوّل والمراحل الانتقالية، تُقاس الجدّية السياسية بقدرة المشروع الانتقالي على صون الذاكرة المشتركة والاعتراف بتعدّديتها في العراق، بدأ الانهيار حين رُفعت الحماية الطائفية إلى منزلة العقد البديل، وحين تشظّت الدولة إلى كانتونات تمثيلية تُعيد تعريف الطائفة فاعلاً سياسياً مستقلاً. وفي سورية، تُنذر المؤشّرات الراهنة بأن أيّ مرحلة انتقالية لا تؤسّس لصيغة دستورية جديدة، تتخطّى الانتماءات الضيقة نحو أفق وطني مشترك، ستفضي بالضرورة إلى تكرار آليات التفكّك ذاتها. فالحضور المسيحي، كي يكون فعّالاً، لا يُقاس بمجرّد الاستمرار العددي، بل بقدرته على المساهمة المتكافئة في صياغة المجال العمومي السيادي فاعلاً كاملاً في صياغة المعنى الوطني، وليس شاهداً رمزياً على تنوّع مُفرغ من مضمونه. يتجلّى الخطر في استمرار بنية التطييف السياسي، سواء عبر صمت غير مقصود أو من خلال غياب سياسات الإدماج الواضح، وتحويل التعدّديات من مكوّنات بنيوية في النسيج الوطني إلى "ملفّات" تُدار أحياناً بمنطق الحذر أو عبر مقاربات رمزية لا تستند إلى تمثيل فعلي. هذا النمط من الإدارة لا يقتصر أثره على المسيحيين، فهو يشكّل جزءاً من هندسة المجتمع وفق مرجعية أحادية تُعيد توزيع الشرعيات على أساس الانضباط الرمزي والانتماء المؤدلج. في هذا الإطار، يُختزل الوجود المسيحي، كما سواه من وجود الفاعلين غير المتماثلين، إلى حالة إشكالية يُراد احتواؤها أو تدبيرها، بدلاً من أن يُفهم بوصفه مكوّناً أصيلاً يُشارك في إنتاج المشروع الوطني. يعيد التجاهل الرسمي لدلالات تفجير كنيسة مار إلياس، أو تحويله خطاباً استهلاكياً خالياً من مساءلة جذرية لمصادر العنف، إنتاج نمط مأزوم شهدناه في التجربة العراقية. ففي مثل هذه السياقات، لا يكون الاعتداء على الكنيسة موجّهاً إلى مكوّن ديني بعينه، بل إلى مرتكزات الدولة ذاتها، وإلى إمكانية قيام عقد وطني فعلي يضمّ الجميع، ضمن أفق مدني متكافئ. غير أن هذا الغياب عن المعالجة لا يُردّ دائماً إلى تجاهل سياسي متعمّد فقط، فهو قد يُفهم أيضاً في ضوء محدودية البنية الاتصالية للسلطة الانتقالية، التي لا تزال تفتقر إلى منظومة إعلامية قادرة على إنتاج سرديات وطنية جامعة، وهو ما يؤدّي إلى هيمنة خطاب أحادي أو رمزي على لحظاتٍ تستدعي تواصلاً وطنياً شفّافاً، ويؤشّر في الآن ذاته على اختلال أعمق في تمثيل التعدّد السوري داخل مؤسّسات التعبير العمومي. وحين تغيب البنية القادرة على الاستجابة الرمزية المنصفة، يصبح الاعتداء على جماعةٍ ما، لا يُجابَه باعتباره مسّاً بجوهر العقد الوطني، بل يُفرغ من دلالته، ويُعاد تفسيره حدثاً معزولاً. بعد الإبادة الجماعية في تسعينيّات القرن الماضي، اختارت رواندا أن تُعيد تأسيس مشروعها الوطني على قاعدة المساواة القانونية الصارمة، واحتكار الدولة الهُويَّة السياسية الجامعة. وُوجه موروث الكراهية من دون توازن تمثيلي بين الهُويَّات، وفُرِضت لغة وطنية موحّدة، وسياسات إقصاء للخطابات الإثنية من المجال العام. رغم جدليته، نجح هذا النموذج في بناء دولة احتفظت بحدٍّ من التماسك المؤسّسي. وفي السياق السوري، تُطرح تساؤلات عن إمكان الانتقال من تمثيل هُويَّاتي متشظٍّ إلى مواطنة قائمة على التساوي في الحقوق والفرص. كذلك يُستدعى النقاش حول مدى إمكانية الاستفادة من التجربة الرواندية، لاستلهام آليات التعاقد الاجتماعي الذي يتجاوز موازين الطوائف نحو تأسيس مشروع وطني جامع. الاعتداء على كنيسة مار إلياس ليس موجّهاً إلى مكوّن ديني بعينه، بل إلى مرتكزات الدولة ذاته وبالعودة إلى التجربة العراقية، لم يكن ما يثير القلق فيها لحظة صعود "داعش" (في ذلك الوقت)، وإنما المسار الذي مهّد لصعوده، إذ تحوّلت الدولة ساحةً تُدار بمعادلات الهُويَّة، وفقدت قدرتها على أداء وظائفها السيادية. في سورية، تبدو المرحلة الانتقالية محفوفةً بالخطر نفسه، ما لم تُبنَ على رؤية تتجاوز منطق المحاصصة، وتعيد تأسيس المجال الرمزي للمواطنة على قواعد دولة تحتكم إلى القانون، وتُنظِّم التنوّع بدل أن تُقنّنه. في الأنظمة التسلطية، غالباً ما يُعاد تشكيل موقع الأقلّيات ضمن منظومة تعامل تُغلّب منطق الرعاية المشروطة على مبدأ الشراكة المتكافئة. لا يعود الاحتضان السياسي الفعلي قائماً على استحقاق المواطنة، ويتحوّل مستنداً إلى خطاب يتعامل مع الجماعات التاريخية بوصفها كيانات تحتاج إلى طمأنة فقط من دون تمكين. ضمن هذا التصور، تُختزل الأهلية السياسية إلى امتثال هادئ، وتُقوّم الانخراطات السياسية أحياناً ضمن أطر تُغلّب الحذر على الشراكة. هذا النمط، الذي ساد في ظلّ نظام الأسد، يبدو أنه يجد امتداداته اليوم، فتُظهِر المرحلة الانتقالية ملامحَ أوليةً لفرز رمزي مقلق، قد يُفضي (إن لم يُعالج) إلى إعادة إنتاج علاقات هيمنة تحت مظهر شراكات شكلية. في لحظات التحوّل والمراحل الانتقالية، تُقاس الجدّية السياسية بقدرة المشروع الانتقالي على صون الذاكرة المشتركة والاعتراف بتعدّديتها، بالتوازي مع بناء مؤسّسات تعبّر عن الجميع. وسورية اليوم تحتاج إلى مسار سياسي مختلف يُرسّخ حضور المواطن بوصفه فاعلاً في نسيج التفاعل الوطني، وفق معايير الانتماء المدني، وخارجاً عن أيّ تموضع في خرائط الهُويَّة المسبقة. وإذا لم تُفكّك العلاقة العضوية بين الدولة والانتماء ما دون الوطني، ويُستعاد الحقل الوطني بوصفه إطاراً مفتوحاً للمشاركة، فإن المقبل سيُصاغ بلغة الإقصاء التدريجي، ويتلاشى المجال المدني ليُعاد إنتاجه سلسلةً من الامتيازات الخاضعة لتوازنات النفوذ بعيداً من أيّ منطق تعدّدي.